بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم رحلة إبن فضلان تأليف : أحمد إبن فضلان فى بلاد الصقالبة ● [ الصقالبة ] ●
فلما كنا من ملك الصقالبة وهو الذي قصدنا له على مسيرة يوم وليلة وجه لاستقبالنا الملوك الأربعة الذين تحت يده وإخوته وأولاده فاستقبلونا ومعهم الخبز واللحم والجاوزس وساروا معنا فلما صرنا منه على فرسخين تلقانا هو بنفسه فلما رآنا نزل فخر ساجداً شكراً لله جل وعز وكان في كمه دراهم فنثرها علينا ونصب لنا قباباً فنزلناها. وكان وصولنا إليه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم سنة عشر وثلاثمئة فكانت المسافة من الجرجانية إلى بلده سبعين يوماً فأقمنا يوم الأحد ويوم الأثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء في القباب التي ضربت لنا حتى جمع الملوك والقواد وأهل بلده ليسمعوا قراءة الكتاب فلما كان يوم الخميس واجتمعوا نشرنا المطردين اللذين كانا معنا وأسرجنا الدابة بالسرج الموجه إليه وألبسناه السواد وعممناه وأخرجت كتاب الخليفة وقلت له: لا يجوز أ نجلس والكتاب يقرأ فقام على قدميه هو ومن حضر من وجوه أهل مملكته وهو رجل بدين بطين جداً وبدأت فقرأت صدر الكتاب فلما بلغت منه سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو قلت: رد على أمير المؤمنين السلام فرد وردوا جميعاً بأسرهم ولم يزل الترجمان يترجم لنا حرفاً حرفاً فلما استتممنا قراءته كبروا تكبيرة ارتجت لها الأرض. ثم قرأت كتاب الوزير حامد بن العباس وهو قائم ثم أمرته بالجلوس فجلس عند قراءة كتاب نذير الحرمي فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له ولامرأته فلم أزل أعرض عليه وعليها شيئاً شيئاً حتى فرغنا من ذلك ثم خلعت على امرأته بحضرة الناس وكانت جالسة إلى جنبه وهذه سنتهم وزيهم فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم وانصرفنا. فلما كان بعد ساعة وجه إلينا فدخلنا إليه وهو في قبته والملوك عن يمينه وأمرنا أن نجلس عن يساره وإذا أولاده جلوس بين يديه وهو وحده على سرير مغشى بالديباج الرومي فدعا بالمائدة فقدمت وعليه اللحم المشوي وحده فابتدأ هو فأخذ سكيناً وقطع لقمة وأكلها وثانية وثالثة ثم احتز قطعة دفعها إلى سوسن الرسول فلما تناولها جاءته مائدة صغيرة فجعلت بين يديه وكذلك الرسم لا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك لقمة فساعة يتناولها قد جاءته مائدة ثم ناولني فجاءتني مائدة ثم قطع قطعة وناولها الملك الذي عن يمينه فجاءته مائدة ثم ناول الملك الثاني فجاءته مائدة ثم ناول الملك الرابع فجاءته مائدة ثم ناول أولاده فجاءتهم الموائد وأكلنا كل واحد من مائدته لا يشركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئا فإذا فرغ من الطعام حمل كل واحد منهم ما بقي على مائدته إلى منزله فلما أكلنا دعا بشراب العسل وهم يسمونه السجو ليومه وليلته فشرب قدحاً ثم قام قائماً فقال: هذا سروري بمولاي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وقام الملوك الأربعة وأولاده لقيامه وقمنا نحن أيضاً حتى إذا فعل ذلك ثلاث مرات ثم انصرفنا من عنده. وقد كان يخطب له على منبره قبل قدومي: اللهم وأصلح الملك يلطوار ملك بلغار فقلت أنا له: إن الله هو الملك ولا يسمى على المنبر بهذا الاسم غيره جل وعز وهذا مولاك أمير المؤمنين قد رضي لنفسه أن يقال على منابره في الشرق والغرب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك جعفر الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين وكذا من كان قبله من آبائه الخلفاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسسلم:" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "فقال لي: فكيف يجوز أن يخطب لي قلت: باسمك واسم أبيك قال: إن أبي كان كافراً ولا أحب أن أذكر اسمه على المنبر وأنا أيضا فما أحب أن يذكر اسمي إذ كان الذي سماني به كافراً ولكن ما اسم مولاي أمير المؤمنين فقلت: جعفر قال: فيجوز أن أتسمى باسمه قلت: نعم قال: قد جعلت اسمي جعفرا واسم أبي عبد الله فتقدم إلى الخطيب بذلك ففعلت فكان يخطب له: اللهم وأصلح عبدك جعفر بن عبد الله أمير بلغار مولى أمير المؤمنين. ولما كان بعد قراءة الكتاب وإيصال الهدايا بثلاثة أيام بعث إلي وقد كان بلغه أمر الأربعة آلاف دينار وما كان من حيلة النصراني في تأخيرها وكان خبرها في الكتاب فلما دخلت إليه أمرني بالجلوس فجلست ورمى إلي كتاب أمير المؤمنين فقال: من جاء بهذا الكتاب قلت: أنا ثم رمى إلي كتاب الوزير فقال: وهذا أيضا قلت: أنا قال: فالمال الذي ذكر فيهما ما فعل به قلت: تعذر جمعه وضاق الوقت وخشينا فوت الدخول فتركناه ليلحق بنا فقال: إنما جئتم بأجمعكم وأنفق عليكم مولاي ما أنفق لحمل هذا المال إلي حتى أبني به حصناً يمنعني من اليهود الذين قد استعبدوني فأما الهدية فغلامي قد كان يحسن أن يجيء بها قلت: هو كذلك إلا أنا قد اجتهدنا فقال للترجمان: قل له أنا لا أعرف هؤلاء إنما أعرفك أنت وذلك أن هؤلاء قوم عجم ولو علم الأستاذ أيده الله أنهم يبلغون ما تبلغ ما بعث بك حتى تحفظ علي وتقرأ كتابي وتسمع جوابي ولست أطالب غيرك بدرهم فاخرج من المال فهو أصلح لك فانصرفت من بين يديه مذعوراً مغموماً وكان رجلاً له منظر وهيبة بدين عريض كأنما يتكلم من خابية فخرجت من عنده وجمعت أصحابي وعرفتهم ما جرى بيني وبينه وقلت: لهم من هذا حذرت. وكان مؤذنه يثني الإقامة إذا أذن فقلت له: إن مولاك أمير المؤمنين يفرد في داره الإقامة فقال للمؤذن: اقبل ما يقوله لك ولا تخالفه فأقام المؤذن على ذلك أياماً وهو يسألني عن المال ويناظرني فيه وأنا أويسه منه وأحتج فيه فلما يئس منه تقدم إلى المؤذن أن يثني الإقامة ففعل وأراد بذلك أن يجعله طريقا إلى مناظرتي فلما سمعت تثنيته للإقامة نهيته وصحت عليه فعرف الملك فأحضرني وأحضر أصحابي فلما اجتمعنا قال الترجمان: قل له يعنيني ما يقول في مؤذنين افرد أحدهما وثنى الآخر ثم صلى كل واحد منهما بقوم أتجوز الصلاة أم لا قلت: الصلاة جائزة فقال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع قال: قل له فما يقول في رجل دفع إلى قوم مالا لا قوام ضعفى محاصرين مستعبدين فخانوه فقلت: هذا لا يجوز وهؤلاء قوم سوء قال: باختلاف أم بإجماع قلت: بإجماع فقال للترجمان: قل له: تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشاً كان يقدر علي قلت: لا قال: فأمير خراسان قلت: لا قال: أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار قلت: بلى قال: قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإني لخائف من مولاي أمير المؤمنين وذلك أني أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو علي فأهلك بمكاني وهو في مملكته وبيني وبينه البلدان الشاسعة وأنتم تأكلون خبزه وتلبسون ثيابه وترونه في كل وقت خنتموه في مقدار رسالة بعثكم بها إلي إلى قوم ضعفى وخنتم المسلمين لا أقبل منكم أمر ديني حتى يجيئني من ينصح لي فيما يقول فإذا جاءني إنسان بهذه الصورة قبلت منه فألجمنا وما أحرنا جواباً وانصرفنا من عنده. قال: فكان بعد هذا القول يؤثرني ويقربني ويباعد أصحابي ويسميني أبا بكر الصديق. ورأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها كثرةً من ذلك: أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء وقد احمرت احمراراً شديداً وسمعت في الجو أصواتاً شديدة وهمهمة عالية فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه وإذا فيه أمثال الناس والدواب وإذا في أيدي الأشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواب وسلاحاً فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة ففزعنا من ذلك وأقبلنا على التضرع والدعاء وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا. قال: وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة فتختلطان جميعاً ساعة ثم تفترقان فما زال الأمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا فسألنا الملك عن ذلك فزعم أن أجداده كانوا يقولون: إن هؤلاء من مؤمني الجن وكفارهم وهم يقتتلون في كل عشية وأنهم ما عدموا هذا مذ كانوا في كل ليلة. قال: ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قد وقع إلى تلك الناحية قبتي لنتحدث فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع ونحن ننتظر أذان العتمة فإذا بالأذان فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر فقلت للمؤذن :أي شيء أذنت قال: أذان الفجر قلت: فالعشاء الآخرة قال: نصليها مع المغرب قلت: فالليل قال: كما ترى وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول وذكر أنه منذ شهر ما نام خوفا أن تفوته صلاة الغداة وذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج. قال: ورأيت النهار عندهم طويلاً جداً وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عدداً يسيراً ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكباً متفرقة وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتةً وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجل الرجل فيه من أكثر من غلوة سهم. قال: ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر وحدثني الملك أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوم يقال لهم ويسو الليل عندهم أقل من ساعة قال: ورأيت البلد عند طلوع الشمس يحمره كل شيء فيه من الأرض والجبال وكل شيء ينظر الإنسان إليه حين تطلع الشمس كأنها غمامة كبرى فلا تزال الحمرة كذلك حتى تتكبد السماء وعرفني أهل البلد أنه إذا كان الشتاء عاد الليل في طول النهار وعاد النهار في قصر الليل حتى إن الرجل منا ليخرج إلى موضع يقال له إتل بيننا وبينه أقل من مسيرة فرسخ وقت طلوع الفجر فلا يبلغه إلى العتمة إلى وقت طلوع الكواكب كلها حتى تطبق السماء فما برحنا من البلد حتى امتد الليل وقصر النهار. ورأيتهم يتبركون بعواء الكلاب جداً ويفرحون به ويقولون: سنة خصب وبركة وسلامة. ورأيت الحيات عندهم كثيرة حتى إن الغصن من الشجرة لتلتف عليه العشرة منها والأكثر ولا يقتلونها ولا تؤذيهم حتى لقد رأيت في بعض المواضع شجرة طويلة يكون طولها أكثر من مئة ذراع وقد سقطت وإذا بدنها عظيم جداً فوقفت أنظر إليه إذ تحرك فراعني ذلك وتأملته فإذا عليه حية قريبة منه في الغلظ والطول فلما رأتني سقطت عنه وغابت بين الشجر فجئت فزعاً فحدثت الملك ومن كان في مجلسه فلم يكترثوا لذلك وقال: لا تجزع فليس تؤذيك ونزلنا مع الملك منزلاً فدخلت أنا وأصحابي تكين وسوسن وبارس ومعنا رجل من أصحاب الملك بين الشجر فرأينا عوداً صغيراً أخضر كرقة المغزل وأطول فيه عرق أخضر على رأس العرق ورقة عريضة مبسوطة على الأرض مفروش عليها مثل النابت فيها حب ولا يشك من يأكله أنه رمان أمليسي فأكلنا منه فإذا به من اللذة أمر عظيم فما زلنا نتبعه ونأكله. ورأيت لهم تفاحاً أخضر شديد الخضرة وأشد حموضةً من خل الخمر وتأكله الجواري فيسمن عليه ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق لقد رأيت منه غياضاً تكون الغيضة أربعين فرسخاً في مثلها ورأيت لهم شجراً لا أدري ما هو مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ورؤوسه كرؤوس النخل له خوص دقاق إلا أنه مجتمع يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه فيثقبونه ويجعلون تحته إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل إن أكثر الإنسان منه أسكره كما يسكر الخمر. وأكثر أكلهم الجاورس ولحم الدابة على أن الحنطة والشعير كثير وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه ليس للملك فيه حق غير أنهم يؤدون إليه في كل سنة من كل بيت جلد سمور وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان فغنمت كان له معهم حصة ولا بد لكل من يعترس أو يدعو دعوة من زله للملك على قدر الوليمة وساخرخ من نبيذ العسل وحنطة ردية لأن أرضهم سوداء منتنة. وليس لهم مواضع يجمعون فيها طعامهم ولكنهم يحفرون في الأرض آباراً ويجعلون الطعام فيها فليس يمضي عليه إلا أيام يسيرة حتى يتغير ويريح فلا ينتفع به وليس لهم زيت ولا شيرج ولا دهن بتةً وإنما يقيمون مقام هذه الأدهان دهن السمك فكل شيء يستعملونه فيه يكون زفراً ويعملون من الشعير حساء يحسونه الجواري والغلمان وربما طبخوا الشعير باللحم فأكل الموالي اللحم وأطعموا الجواري الشعير إلا أن يكون رأس تيس فيطعم من اللحم. وكلهم يلبسون القلانس فإذا ركب الملك ركب وحده بغير غلام ولا أحد يكون معه فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا قام وأخذ قلنسوته عن رأسه فجعلها تحت إبطه فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم إلى رؤوسهم وكذلك كل من يدخل إلى الملك من صغير وكبير حتى أولاده وإخوته ساعة ينظرون إليه قد أخذوا قلانسهم فجعلوها تحت آباطهم ثم أوموا إليه برؤوسهم وجلسوا ثم قاموا حتى يأمرهم بالجلوس وكل من يجلس بين يديه فإنما يجلس باركا ولا يخرج قلنسوته ولا يظهرها حتى يخرج من بين يديه فيلبسها عند ذلك. وكلهم في قباب إلا أن قبة الملك كبيرة جداً تسع ألف نفس وأكثر مفروشة بالفرش الأرمني وله في وسطها سرير مغشى بالديباج الرومي. ومن رسومهم أنه إذا ولد لابن الرجل مولود أخذه جده دون أبيه وقال: أنا أحق به من أبيه في حضنه حتى يصير رجلاً وإذا مات منهم الرجل ورثه أخوه دون ولده فعرفت الملك أن هذا غير جائز وعرفته كيف المواريث حتى فهمها. وما رأيت أكثر من الصواعق في بلدهم وإذا وقعت الصاعقة على بيت لم يقربوه ويتركونه على حالته وجميع من فيه من رجل ومال وغير ذلك حتى يتلفه الزمان ويقولون: هذا بيت مغضوب عليهم. وإذا قتل الرجل منهم الرجل عمداً أقادوه به وإذا قتله خطأً صنعوا له صندوقاً من خشب الخدنك وجعلوه في جوفه وسمروه عليه وجعلوا معه ثلاثة أرغفة وكوز ماء ونصبوا له ثلاث خشبات مثل الشبائح وعلقوه بينها وقالوا: نجعله بين السماء والأرض يصيبه المطر والشمس لعل الله أن يرحمه فلا يزال معلقا حتى يبليه الزمان وتهب به الرياح. وإذا رأوا إنساناً له حركة ومعرفة بالأشياء قالوا: هذا حقه أن يخدم ربنا فأخذوه وجعلوا في عنقه حبلاً وعلقوه في شجرة حتى يتقع. ولقد حدثني ترجمان الملك أن سندياً سقط إلى ذلك البلد فأقام عند الملك برهة من الزمان يخدمه وكان خفيفاً فهماً فأراد جماعة منهم الخروج معهم فنهاه عن ذلك فاستأذن السندي الملك في الخروج معهم فنهاه عن ذلك وألح عليه حتى أذن له فخرج معهم في سفينة فرأوه حركاً كيساً فتآمروا بينهم وقالوا هذا يصلح لخدمة ربنا فنوجه به إليه واجتازوا في طريقهم بغيضة فأخرجوه إليها و جعلوا في عنقه حبلاً وشدوه في رأس شجرة عالية وتركوه ومضوا. وإذا كانوا يسيرون في طريق فأراد أحدهم البول فبال وعليه سلاحه انتهبوه وأخذوا سلاحه وثيابه وجميع ما معه وهذا رسم لهم ومن خط عنه سلاحه وجعله ناحية وبال لم يعرضوا له وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون جميعاً عراة لا يستتر بعضهم من بعض ولا يزنون بوجه ولا سبب ومن زنا منهم كائناً من كان ضربوا له أربع سكك وشدوا يديه ورجليه إليها وقطعوا بالفأس من رقبته إلى فخذيه وكذلك يفعلون بالمرأة أيضاً ثم يعلق كل قطعة منه ومنها على شجرة وما زلت اجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني وفي غياضهم عسل كثير في مساكن النحل يعرفونها فيخرجون لطلب ذلك فربما وقع عليهم قوما من أعدائهم فقتلوهم وفيهم تجار كثير يخرجون إلى أرض الترك فيجلبون الغنم وإلى بلد يقال له ويسو فيجلبون السمور والثعلب الأسود. ورأينا فيهم أهل بيت يكونون خمسة الآف نفس من امرأة ورجل قد أسلموا كلهم يعرفون بالبرنجار وقد بنوا لهم مسجداً من خشب يصلون فيه ولا يعرفون القراءة فعلمت جماعة ما يصلون به. ولقد اسلم على يدي رجل يقال له طالوت فأسميته عبد الله فقال: أريد أن تسميني باسمك محمداً ففعلت وأسلمت امرأته وأمه وأولاده فسموا كلهم محمداً وعلمته الحمد لله و قل هو الله أحد فكان فرحه بهاتين السورتين أكثر من فرحه إن صار ملك الصقالبة. وكنا لما وافينا الملك وجدناه نازلاً على ماء يقال له خلجة وهي ثلاث بحيرات منها اثنتان كبيرتان وواحدة صغيرة إلا أنه ليس في جميعها شيء يلحق غوره وبين هذا الموضع وبين نهر لهم عظيم يصب إلى بلاد الخزر يقال له نهر إتل نحو الفرسخ وعلى هذا النهر موضع سوق تقوم في كل مديدة ويباع فيها المتاع الكثير النفيس. وكان تكين حدثني أن في بلد الملك رجلاً عظيم الخلق جداً فلما صرت إلى البلد سألت الملك عنه فقال: نعم قد كان في بلدنا ومات ولم يكن من أهل البلد ولا من الناس أيضاً وكان من خبره أن قوماً من التجار خرجوا إلى نهر إتل وهو نهر بيننا وبينه يوم واحد كما يخرجون وهذا النهر قد مد وطغى ماؤه فلم أشعر يوماً إلا وقد وافاني جماعة من التجار فقالوا: أيها الملك قد قفا على الماء رجل إن كان من أمة تقرب منا فلا مقام لنا في هذه الديار وليس لنا غير التحويل. فركبت معهم حتى صرت إلى النهر فإذا أنا بالرجل وإذا هو بذراعي اثنا عشر ذراعاً وإذا له رأس كأكبر ما يكون من القدور وأنف أكثر من شبر وعينان عظيمتان وأصابع تكون أكثر من شبر شبر فراعني أمره وداخلني ما داخل القوم من الفزع وأقبلنا نكلمه ولا يكلمنا بل ينظر إلينا فحملته إلى مكاني وكتبت إلى أهل ويسو وهم منا على ثلاثة أشهر أسألهم عنه فكتبوا إلي يعرفونني أن هذا الرجل من يأجوج ومأجوج وهم منا على ثلاثة أشهر عراة يحول بيننا وبينهم البحر لأنهم على شطه وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً يخرج الله عز وجل لهم كل يوم سمكة من البحر فيجيء الواحد منهم ومعه المدية فيجز منها قدر ما يكفيه ويكفي عياله فإن أخذ فوق ما يقنعه اشتكى بطنه وكذلك عياله يشتكون بطونهم وربما مات وماتوا بأسرهم فإذا أخذوا منها حاجتهم انقلبت ووقعت في البحر فهم في كل يوم على ذلك. وبيننا وبينهم البحر من جانب والجبال محيطة بهم من جوانب أخر والسد أيضاً قد حال بينهم وبين الباب الذي كانوا يخرجون منه فإذا أراد الله عز وجل أن يخرجهم إلى العمارات سبب لهم فتح السد ونضب البحر وانقطع عنهم السمك. قال: فسألته عن الرجل فقال: أقام عندي مدة فلم يكن ينظر إليه صبي إلا مات ولا حامل إلا طرحت حملها وكان إن تمكن من إنسان عصره بيديه حتى يقتله فلما رأيت ذلك علقته في شجرة عالية حتى مات إن أردت أن تنظر إلى عظامه ورأسه مضيت معك حتى تنظر إليها فقلت: أنا والله أحب ذاك فركب معي إلى غيضة كبيرة فيها شجرُ عظام فتقدمني إلى شجرة سقطت عظامه ورأسه تحتها فرأيت رأسه مثل القفير الكبير وإذا أضلاعه أكبر من عراجين النخل وكذلك عظام ساقيه وذراعيه فتعجبت منه وأنصرفت. قال: وارتحل الملك من الماء الذي يسمى خلجة إلى نهر يقال له جاوشيز فأقام به شهرين ثم أراد الرحيل فبعث إلى قوم يقال لهم سواز يأمرهم بالرحيل معه فأبوا عليه وافترقوا فرقتين فرقة مع ختنه وكان قد تملك عليهم واسمه ويرغ فبعث إليهم الملك وقال: إن الله عز وجل قد من علي بالإسلام وبدولة أمير المؤمنين فأنا عبده وهذه الأمة قد قلدتني فمن خالفني لقيته بالسيف وكانت الفرقة الأخرى مع ملك من قبيلة يعرف بملك اسكل وكان في طاعته إلا أنه لم يكن داخلاً في الإسلام فلما وجه إليهم هذه الرسالة خافوا ناحيته فرحلوا بأجمعهم معه إلى نهر جاوشيز وهو نهر قليل العرض يكون عرضه خمسة أذرع وماؤه إلى السرة وفيه مواضع إلى الترقوة وأكثره قامة وحوله شجر كثير من الشجر الخدنك وغيره وبالقرب منه صحراء واسعة يذكرون أن بها حيواناً دون الجمل في الكبر وفوق الثور رأسه رأس جمل وذنبه ذنب ثور وبدنه بدن بغل وحوافره مثل أظلاف الثور له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير كلما أرتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح فمنه ما يكون طوله خمسة أذرع إلى ثلاثة أذرع إلى أكثر وأقل يرتعي ورق الشجر جيد الخضرة إذا رأى الفارس قصده فإن كان تحته جواد أمن منه بجهد وإن لحقه أخذه من ظهر دابته بقرنه ثم زج به في الهواء واستقبله بقرنه فلا يزال كذلك حتى يقتله. ولا يعرض للدابة بوجه ولا سبب وهم يطلبونه في الصحراء والغياض حتى يقتلوه وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي يكون بينها ويجتمع لذلك عدة من الرماة بالسهام المسمومة فإذا توسطهم رموه حتى يثخنوه ويقتلوه. ولقد رأيت عند الملك ثلاث طيفوريات كبار تشبه الجزع اليماني عرفني أنها معمولة من أصل قرن هذا الحيوان وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن. قال: وما رأيت منهم إنساناً يحمر بل أكثرهم معلول وربما يموت أكثرهم بالقولنج حتى إنه ليكون بالطفل الرضيع منهم وإذا مات المسلم عندهم أو زوج المرأة الخوارزميه غسلوه غسل المسلمين ثم حملوه على عجلة تجره وبين يديه مطرد حتى يصيروا به إلى المكان الذي يدفنونه فيه فإذا صار إليه أخذوه عن العجلة وجعلوه على الأرض ثم خطوا حوله خطاً ونحوه ثم حفروا داخل ذلك الخط قبره وجعلوا له لحداً ودفنوه وكذلك يفعلون بموتاهم. ولا تبكي النساء على الميت بل الرجال منهم يبكون عليه يجيئون في اليوم الذي مات فيقفون على باب قبته فيضجون بأقبح بكاء يكون وأوحشه. هؤلاء للأحرار فإذا انقضى بكاؤهم وافى العبيد ومعهم جلود مضفورة فلا يزالون يبكون ويضربون جنوبهم وما ظهر من أبدانهم بتلك السيور حتى تصير في أجسادهم مثل ضرب السوط ولا بد من أن ينصبوا بباب قبته مطرداً ويحضروا سلاحه فيجعلونها حول قبره ولا يقطعون البكاء سنتين. فإذا انقضت السنتان حطوا المطرد وأخذوا من شعورهم ودعا أقرباء الميت دعوة يعرف بها خروجهم من الحزن وإن كانت له زوجة تزوجت هذا إذا كان من الرؤساء فأما العامة فيفعلون بعض هذا بموتاهم. وعلى ملك الصقالبة ضريبة يؤديها إلى ملك الخزر من كل بيت في مملكته جلد سمور وإذا قدمت السفينة من بلد الخزر إلى بلد الصقالبة ركب الملك فأحصى ما فيها وأخذ من جميع العشر وإذا قدم الروس أو غيرهم من سائر الأجناس برقيق فللملك أن يختار من كل عشرة أرؤس رأساً. وابن ملك الصقالبة رهينة عند ملك الخزر وقد كان اتصل بملك الخزر عن ابنة ملك الصقالبة جمال فوجه يخطبها فاحتج عليه ورده فبعث وأخذها غصباً وهو يهودي وهي مسلمة فماتت عنده فوجه يطلب بنتاً له أخرى فساعة اتصل ذلك بملك الصقالبة بادر فزوجها لملك اسكل وهو من تحت يده خيفة أن يغتصبه إياها كما فعل بأختها وإنما دعا ملك الصقالبة أن يكاتب السلطان ويسأله أن يبني له حصناً خوفاً من ملك الخزر. قال: وسألته يوما فقلت له: مملكتك واسعة وأموالك جمة وخراجك كثير فلم سألت السلطان أن يبني حصناً بمال من عنده لا مقدار له فقال رأيت دولة الإسلام مقبلة وأموالهم يؤخذ من حلها فالتمست ذلك لهذه العلة ولو أني أردت أن أبني حصناً من أموالي من فضة أو ذهب لما تعذر ذلك علي وإنما تبركت بمال أمير المؤمنين فسألته ذلك.
رحلة إبن فضلان تأليف : أحمد إبن فضلان منتدى توتة وحدوتة - البوابة