بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
سفر نامة
تأليف : ناصر خسرو
نهاية الرحلة وختام كتاب سفر نامة
● [ إلى الحسا عن طريق الطائف ] ●
ومطار والثريا وجزع وسربا وفلج واليمامة
بعد إتمام الحج استأجرت جملاً من أعرابي لأذهب إلى الحسا وقيل إنهم يبلغونها من مكة في ثلاثة عشر يوماً وقد ودعت بيت الله يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة مايو الموافق أول خرداد القديم مايو يونيو وقد وجدنا مرجاً بعد سبعة فراسخ من مكة عنده جبل ولما بلغناه وجدنا سهلاً وقرى وبئراً اسمها بئر الحسين بن سلامة كان الجو بارداً وقد سرنا ناحية المشرق .
بلغنا الطائف يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة ومن مكة إلى هناك إثنا عشر فرسخاً والطائف ناحية على رأس جبل كان الجو باردا في شهر خرداد مايو -يونيو حتى لزم الجلوس في الشمس بينما يكثر البطيخ بمكة في هذا الوقت وقصبة الطائف هذه مدينة صغيرة بها حصن محكم وسوق وجامع صغيران وبها ماء جار وأشجار رمان وتين كثيرة وبجوارها قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد بنى خلفاء بغداد هناك مسجداً كبيراً يقع القبر في زاويته على يمين المحراب والمنبر وبنى الناس هناك بيوتا يسكنونها.
سرنا من الطائف واجتزنا جبالاً وأراضي صخرية وكنا نجد حيثما سرنا قلاعاً محصنة وقرى وقد أروني وسط الصخور قلعة خربة قيل إنها كانت بيت ليلى وقصتهم في هذا عجيبة ومن هناك بلغنا قلعة تسمى مطار وبينها وبين الطائف إثنا عشر فرسخاً ثم بلغنا ناحية تسمى الثريا بها نخيل كثير وتزرع أرضها بمياه الآبار والسواقي قالوا وليس لهذه الناحية حاكم أو سلطان فإن على كل جهة رئيساً أو سيداً مستقلاً ويعيش الناس على السرقة والقتل وهم في حرب دائم بعضهم مع بعض ومن الطائف إلى هناك خمسة وعشرون فرسخاً وبعد ذلك مررنا بقلعة تسمى جزع وعلى مساحة نصف فرسخ منها أربع قلاع نزلنا عند أكبرها وتسمى حصن بني نسير وهناك قليل من النخيل وبيت العربي الذي استأجرنا حمله في الجزع هذه ولبثنا هناك خمسة عشر يوماً إذ لم يكن معنا خفير يهدينا الطريق ولكل قوم من عرب هذا المكان أرض محددة ترعى بها ماشيتهم ولا يستطيع أجنبي إن يدخلها فهم يمسكون كل من يدخل بغير خفير ويجردونه مما معه فيلزم استصحاب خفير من كل جماعة حتى يتيسر المرور من أرضهم فهو وقاية للمسافر ويسمونه أيضاً مرشد الطريق قلاوز وقد اتفق إن جاء إلى الجزع رئيس الأعراب الذين كانوا في طريقنا وهم بنو سواد واسمه أبو غانم عبس بن البعير فاتخذناه خفيراً وذهبنا معه وقابلنا قومه فظنوا أنهم لقوا صيداً إذ إن كل أجنبي يرونه يسمى صيدا فلما رأوا رئيسهم معنا أسقط في أيديهم ولولا ذلك لأهلكونا وفي الجملة لبثنا معهم زمنا إذ لم يكن معنا خفير يصحبنا ثم أخذنا من هناك خفيرين أجر كل منهما عشرة دنانير ليسيرا بنا بين قوم آخرين وقد كان من هؤلاء العرب شيوخ في السبعين من عمرهم قالوا لي إنهم لم يذوقوا شيئاً غير لبن الإبل طوال حياتهم إذ ليس في هذه الصحراء غير علف فاسد تأكله الجمال وكانوا يظنون إن العالم هكذا وظللت أتحول من قوم إلى قوم وأجد في كل مكان خطراً وخوفا إلا إن الله تبارك و تعالى سلمنا منها.
وبلغنا مكاناً في وسط أرض ملؤها الصخور يسمى سربا رأيت به جبالاً كل منها كالقبة لم أر مثلها في أي ولاية وهي من الارتفاع بحيث لا يصل إليها السهم وملساء وصلبة بحيث لا يظهر عليها شق أو التواء وقد سرنا من هناك فكان زملاؤنا في الطريق كلما رأوا ضبا قتلوه وأكلوه وكانوا يحلبون لبن الجمال حيث وجد الأعراب ولم أكن أستطيع أكل الضب أو شرب لبن الجمال وفي كل جهة في الطريق بها شجر به ثمر في حجم حبة السلة كنت أقنع بأكل حبات منها وبعد معاناة مشاق ومتاعب كثيرة بلغنا فلج في الثالث والعشرين من صفر.
فلج
ومن مكة إليها ثمانون ومائة فرسخ وتقع فلج هذه وسط الصحراء وهي ناحية كبيرة ولكنها خربت بالتعصب كان العمران حين زرناها قاصراً على نصف فرسخ في ميل عرضاً وفي هذه المسافة أربع عشرة قلعة للصوص والمفسدين والجهلة وهي مقسمة بين فريقين بينهما خصومة وعداوة دائمة وقد قالوا نحن من أصحاب الرسيم الذين ذكروا في القرآن الكريم وهناك أربع قنوات يسقى منها النخيل أما زرعهم ففي أرض عالية يرفع إليها معظم الماء من الآبار وهم يستخدمون في زراعتهم الجمال لا الثيران ولم أرها هناك وزراعتهم قليلة وأجر الرجل في اليوم عشرة سيرات من غلة يخبزها أرغفة ولا يأكلون إلا قليلاً من صلاة المغرب حتى صلاة المغرب التالية كما في رمضان ويأكلون التمر أثناء النهار وقد رأيت هناك تمراً طيباً جداً أحسن مما في البصرة وغيرها والسكان هناك فقراء جداً وبؤساء ومع فقرهم فإنهم كل يوم في حرب وعداء وسفك دماء وهناك تمر يسمونه ميدون تزن الواحدة منه عشرة دراهم ولا يزيدون وزن النوى به عن دانق ونصف ويقال إنه لا يفسد ولو بقي عشرين سنة ومعاملتهم بالذهب النيشابوري وقد لبثت بفلج هذه أربعة أشهر في حالة ليس أصعب منها لم يكن معي من شؤون الدنيا سوى سلتين من الكتب والناس جياع وعراة وجهلاء ويلتزمون حمل الترس والسيف إذا ذهبوا للصلاة ولا يشترون الكتب كان هناك مسجدا نزلنا فيه كان معي قليل من اللونين القرمزي واللازورد فكتبت على حائط المسجد بيت شعر ووضعت في وسطه ورق الشجر فرأوه وتعجبوا وتجمع أهل القلعة كلها ليتفرجوا عليه وقالوا لي إذا تنقش محراب هذا المسجد نعطيك مائة من تمراً ومائة من تمراً عندهم شيء كثير فقد أتى وأنا هناك جيش من العرب وطلب منهم خمسمائة من تمرا فلم يقبلوا وحاربوا وقتل من أهل القلعة عشرة رجال وقلعت ألف نخلة ولم يعطوهم عشرة أمنان تمراً وقد نقشت المحراب كما اتفقوا معي كان لنا في المائة من من التمر عون كبير إذ لم يكن ميسوراً أن نجد غذاء ولم يكن لدينا أمل في الحياة ولم نكن نستطيع إن نتصور خروجنا من هذه البادية إذ كان ينبغي للخروج منها عن أي طريق اجتياز مائتي فرسخ من الصحراء كلها مخاوف ومهالك ولم أر في الأشهر الأربعة التي أقمتها بفلج خمسة أمنان من القمح في أي مكان وأخيراً أتت قافلة من اليمامة لأخذ الأديم وحمله إلى الحسا فإنه يحصر من اليمن إلى فلج حيث يباع للتجار قال لي أعرابي أنا أحملك إلى البصرة ولم يكن معي شيء قط لأعطيه أجراً والمسافة مائتا فرسخ وأجرة الجمل دينار ويباع الجمل العظيم هناك بدينارين أو ثلاثة ولكني رحلت نسيئة إذ لم يكن معي نقود فقال الأعرابي أحملك إلى البصرة على إن تأجرني ثلاثين دينارا فقبلت مضطراً ولم أكن قد رأيت البصرة قط فوضع هؤلاء الأعراب كتبي على جمل أركبوا عليه أخي وسرت أنا راجلاً وتوجهنا في اتجاه مطلع بنات النعش الدب الأكبر كان الطريق مستوياً لا جبال فيه ولا مرتفعات كان ماء المطر متجمعا حيثما كانت الأرض أشد صلابة ومضت ليال وأيام ولم يبد في أي جهة أثر الطريق إلا أنهم كانوا يسيرون بالغريزة بالسمع ومن العجيب أنهم كانوا يبلغون فجاة بئر ماء مع عدم وجود أي علامة.
اليمامة
وبالاختصار بلغنا اليمامة بعد مسيرة أربعة أيام بلياليها وباليمامة حصن كبير قديم والمدينة والسوق حيث صناع من كل نوع يقعان خارج الحصن وبها مسجد جميل وأمراؤها علويون منذ القديم ولم ينتزع أحد هذه الولاية منهم إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر وهؤلاء العلويون ذوو شوكة فلديهم ثلاثمائة أو أربعمائة فارس ومذهبهم الزيدية وهم يقولون في الإقامة محمد وعلي خير البشر وحي على خير العمل وقيل إن سكان هذه المدينة شريفية خاضعون للأشراف وبالنامة مياه جارية في القنوات وفيها نخيل وقيل إنه حين يكثر التمر يباع الألف من منه بدينار ومن اليمامة إلى الحسا أربعون فرسخاً ولا يتيسر الذهاب إليها إلا في فصل الشتاء حين تتجمع مياه المطر فيشرب الناس منها ولا يكون ذلك في الصيف.
وصف الأحساء
والحسا مدينة في الصحراء ولبلوغها عن أي طريق ينبغي اجتياز صحراء واسعة والبصرة أقرب البلاد الإسلامية التي بها سلطنة إلى الحسا وبينهما خمسون ومائة فرسخ ولم يقصد سلطان من البصرة الحسا أبداً.
والحسا مدينة وسواد أيضاً وبها قلعة ويحيط بها أربعة أسوار قوية متعاقبة من اللبن المحكم البناء بين كل اثنين منها ما يقرب من فرسخ وفي المدينة عيون ماء عظيمة تكفي كل منها لإدارة خمس سواق ويستهلك كل هذا الماء بها فلا يخرج منها ووسط القلعة مدينة جميلة بها كل وسائل الحياة التي في المدن الكبيرة وفيها أكثر من عشرين ألف محارب وقيل إن سلطانهم كان شريفاً وقد ردهم عن الإسلام وقال إني أعفيتكم من الصلاة والصوم ودعاهم إلى إن مرجعهم لا يكون إلا إليه وأسمه أبو سعيد وحين يسألون عن مذهبهم يقولون إنا أبو سعيديون وهم لا يصلون ولا يصومون ولكنهم يقرون بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وبرسالته وقد قال لهم أبو سعيد إني أرجع إليكم يعني بعد الوفاة وقبره داخل المدينة وقد بنوا عنده قبراً جميلاً وقد أوصى أبناءه قائلاً يرعى الملك ويحافظ عليه ستة من أبنائي يحكمون الناس بالعدل وللقسطاس ولا يختلفون فيما بينهم حتى أعود ولهؤلاء الحكام الآن قصر منيف هو دار ملكهم وبه تخت يجلسون هم الستة عليه ويصدرون أوامرهم بالاتفاق وكذلك يحكمون ولهم ستة وزراء على تخت آخر ويتداولون في كل أمر كان لهم في ذلك الوقت ثلاثون ألف عبد زنجي حبشي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين وهم لا يأخذون عشوراً من الرعية وإذا افتقر إنسان أو استدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله وإذا كان لأحدهم دين على آخر لا يطالبه بأكثر من رأس المال الذي له وكل غريب ينزل في هذه المدينة وله صناعة يعطى ما يكفيه من المال حتى يشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات ويرد إلى الحكام ما أخذ حين يشاء وإذا تخرب بيت أو طاحون أحد الملاك ولم تكن لديه القدرة على الإصلاح أمروا جماعة من عبيدهم بان يذهبوا إليه ويصلحوا المنزل أو الطاحون ولا يطلبون من المالك شيئاً وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجانا ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين وهؤلاء السلاطين الستة يسمون السادات ويسمى وزراؤهم الشائرة وليس في مدينة الحسا مسجد جمعة ولا تقام بها صلاة أو خطبة إلا إن رجلاً فارسياً اسمه علي بن أحمد بنى مسجداً وهو مسلم حاج غني كان يتعهد الحجاج الذين يبلغون الحسا والبيع والشراء والعطاء والأخذ يتم هناك بواسطة رصاص في زنابيل يزن كل منها ست آلاف درهم فيدفع الثمن عددا من الزنابيل وهذه العملة لا تسري في الخارج وينسجون هناك فوطاً جميلة ويصدرونها للبصرة وغيرها وإذا صلى أحد فإنه لا يمنع ولكنهم أنفسهم لا يصلون ويجيب السلاطين من يحدثهم من الرعية برقة وتواضع ولا يشربون مطلقاً وعلى باب قبر أبي سعيد حصان مهيأ بعناية عليه طوق ولجام يقف بالنوبة ليلاً ونهاراً يعنون بذلك إن أبا سعيد يركبه حين يرجع إلى الدنيا ويقال إنه قال لأبنائه حين أعود ولا تعرفونني إضربوا رقبتي بسيفي فإذا كنت أنا حييت في الحال وقد وضعت هذه الدلالة حتى لا يدعي أحد أنه أبو سعيد.
وقد ذهب أحد هؤلاء السلاطين بجيش إلى مكة أيام خلفاء بغداد فاستولى عليها وقتل من كان يطوف بالكعبة وانتزع الحجر الأسود من مكانه ونقله إلى الحسا وقد زعموا إن هذا الحجر مغناطيس يجذب الناس إليه من أطراف العالم ولم يفقهوا إن شرف محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وجلاله هما اللذان يجذبان الناس فقد لبث الحجر الأسود في الحسا سنين عديدة ولم يذهب إليها أحد وأخيراً اشتري منهم الحجر الأسود وأعيد إلى مكانه.
وفي الحسا تباع لحوم الحيوانات كلها من قطط وكلاب وحمير وبقر وخراف وغيرها وتوضع رأس الحيوان وجلده بقرب لحمه ليعرف المشتري ماذا يشتري وهم يسمنون الكلاب هناك كما تعلف الخراف حتى لا تستطيع الحركة من سمنها ثم يذبحونها ويبيعون لحمها.
والبحر على مسيرة سبعة فراسخ من الحسا إلى ناحية الشرق فإذا اجتازه المسافر وجد البحرين وهي جزيرة طولها خمسة عشر فرسخاً والبحرين مدينة كبيرة أيضاً بها نخل كثير ويستخرجون من هذا البحر اللؤلؤ ولسلاطين الحسا نصف ما يستخرجه الغواصون منه وإذا سار المسافر جنوب الحسا يبلغ عمان وهي في بلاد العرب وثلاثة جوانب منها صحراء لا يمكن اجتيازها وولاية عمان ثمانون فرسخاً في مثلها وهي حارة الجو ويكثر بها الجوز الهندي المسمى نارجيل وإذا أبحر المسافر من عمان نحو الشرق يبلغ شاطئ كيش ومكران وإذا سار جنوباً يبلغ عدن فإذا سار في الجانب الآخر يبلغ فارس.
وفي الحسا تمر كثير حتى أنهم يسمنون به المواشي ويأتي وقت يباع فيه أكثر من ألف من بدينار واحد وحين يسير المسافر من الحسا إلى الشمال سبعة فراسخ يبلغ جهة القطيف وهي مدينة كبيرة بها نحل كثير وقد ذهب أمير عربي إلى أبواب الحسا ورابط هناك سنة واستولى على سور من أسوارها الأربعة وشن عليها غارات كثيرة ولكنه لم ينل من أهلها شيئاً وقد سألني حين رآني عما تنبئ به النجوم قال أريد إن أستولي على الحسا فهل أستطيع أم لا فإن أهلها قوم لا دين لهم فأجبته بما فيه الخير له.
وعندي إن كل البدو يشبهون أهل الحسا فلا دين لهم ومنهم أناس لم يمس الماء أيديهم مدة سنة أقول هذا عن بصيرة لا شيء فيه من الأراجيف فقد عشت في وسطهم تسعة شهور دفعة واحدة لا فرقة بينها ولم أكن أستطيع إن أشرب اللبن الذي كانوا يقدمونه إلي كلما طلبت ماء لأشرب فحين أرفضه وأطلب الماء يقولون أطلبه حيثما تراه ولكن عند من تراه وهم لم يروا الحمامات أو الماء الجاري في حياتهم.
وصف فارس البصرة
والآن أعود إلى حكايتي :
حينما غادرنا الحسا إلى البصرة كنا نجد الماء في بعض الجهات ولا نجده في أخرى حتى بلغنا البصرة في العشرين من شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة 28 ديسمبر للبصرة سور عظيم يحيط بها ما عدا الجزع المطل على النهر وهذا النهر هو شط العرب ويلتقي دجلة والفرات عند حدود مدينة البصرة ويلتقي بهما أيضاً قناة المويزة فيسمى النهر حينئذ شط العرب ويتفرع من شط العرب هذا قناتان كبيرتان بين منبعهما مسافة فرسخ وقد شقا صوب القبلة مسافة أربعة فراسخ ثم يلتقيان ويكونان قناة واحدة تسير مسافة فرسخ واحد ناحية الجنوب ومن هاتين القناتين شقت ترع كثيرة مدت في كل الأطراف وغرست أشجار النخيل والحدائق على شواطئها والقناة العليا وهي الشمالية الشرقية تسمى نهر معقل والثانية وهي الغربية الجنوبية تسمى نهر الأبله ومنهما تتكون جزيرة كبيرة مستطيلة والبصرة على أقصر ضلع من هذا المستطيل والجنوب الغربي للبصرة صحراء ليس بها عمران ولا ماء ولا شجر مطلقاً كان معظم البصرة خراباً ونحن هناك والجهات العامرة متباعدة جداً من واحدة لأخرى نصف فرسخ من الخراب ولكن بابها وسورها محكمإن وقويان وبها خلق كثير ودخل سلطانها كبير كان أميرها في ذلك الوقت ابن أبي كاليجار الديلمي الذي كان ملك فارس كان وزيره رجلاً فارسياً اسمه أبو منصور شاه مردان.
وينصب السوق في البصرة في ثلاث جهات كل يوم ففي الصباح يجري التبادل في سوق خزاعة وفي الظهر في سوق عثمإن وفي المغرب في سوق القداحين والعمل في السوق هكذا كل من معه مال يعطيه للصراف ويأخذ منه صكا ثم يشتري كل ما يلزمه ويحول الثمن على الصراف فلا يستخدم المشتري شيئاً غير صك الصراف طالما يقيم بالمدينة حين بلغنا البصرة كنا من العري والفاقة كانا مجانين وكنا قد لبثنا ثلاثة شهور لم نحلق شعر رأسنا فأردت إن أذهب إلى الحمام التمس الدفء فقد كان الجو باردا ولم يكن علينا ملابس كنت أنا وأخي كلانا نلبس فوطة بالية وعلى ظهرينا خرقة من الصوف متدلية من الرأس حتى قلت لنفسي من الذي يسمح لنا الآن بدخول الحمام فبعت السلتين اللتين كانت بهما كتبي ووضعت بعض دراهم من ثمنها في ورقة لأعطيها للحمامي عسى إن يسمح لنا بوقت أطول في الحمام لنزيل ما علينا من كدر فلما قدمت إليه هذه الدريهمات نظر إلينا شذراً وظن أننا مجانين وانتهرنا قائلاً اذهبوا فالآن يخرج الناس من الحمام ولم يأذن لنا بالدخول فخرجنا في خجل ومشينا مسرعين كان بباب الحمام أطفال يلعبون فحسبونا مجانين فجروا في أثرنا ورشقونا بالحجارة وصاحوا بنا فلجأنا إلى زاوية وقد تملكنا العجب من أمر الدنيا كان الأعرابي يطلب منا الثلاثين ديناراً مغربياً ولم نكن نعرف وسيلة للسداد كان بالبصرة وزير ملك الأهواز واسمه أبو الفتح علي بن أحمد وهو رجل أخلاق وفضل يجيد معرفة الشعر والأدب كان كريماً وقد جاء البصرة مع أبنائه وحاشيته وأقام بها ولم يكن لديه ما يشغله وكنت عرفت رجلاً فارسياً فاضلاً من أصدقاء الوزير والمترددين عليه كل وقت كان هذا الفارسي فقيراً لا وسعة عنده لإعانتنا فقص على الوزير قصتنا فلما سمعها أرسل إلي رجلاً ومعه حصان إن أركب وأحضر عندي كما أنت فخجلت من سوء حالي وعريي ولم أر الذهاب مناسباً فكتبت رقعة معتذراً وقلت فيها إني سأكون في خدمته بعد وصول ورقتي إليه كان قصدي من الكتابة شيئين إن يعرف فقري وعلمي حين يطلع على كتابتي وإن يقدر أهليتي وذلك حتى لا أخجل من زيارته وقد أرسل إلي في الحال ثلاثين دينارا لشراء كسوة فاشتريت حلتين جميلتين وفي اليوم الثالث ذهبت لمجلس الوزير فرأيته رجلاً كاملاً أديباً فاضلاً جميل الخلقة متواضعاً ديناً حلو الحديث وله أربعة أبناء أكبر هم شاب فصيح أديب عاقل اسمه الرئيس أبو عبد الله أحمد بن علي بن أحمد كان شاعراًوكاتباً فيه فتوة الشباب ورجاحة العقل ومظاهر التقوى وقد أضافنا الوزير عنده من أول شعبان إلى نصف رمضان ثم أمر بإعطاء الأعرابي الذي استأجرنا جمله الثلاثين ديناراً التي له علي فكفاني مؤونة هذا الدين اللهم تباركت وتعاليت فرج ضيق المدينين من عبيدك من هم القرض بحق الحق وأهله ولما أردنا السفر رحلنا عن طريق البحر بعد إن أفاض علينا بنعمه وأفضاله فبلغنا فارس في كرامة وهدوء ببركة هذا الرجل الحر رضي الله عز وجل عن الرجال الأحرار.
وفي البصرة ثلاثة عشر مشهداً باسم أمير المؤمنين على بن أبي طالب صلوات الله عليه يقال لأحدها مشهد بني مازن وذلك إن أمير المؤمنين عليا صلى الله عليه وسلم جاء إلى البصرة في ربيع الأول سنة خمس وثلاثين سبتمبر655 من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام وكانت عائشة رضي الله عنها قد أتت محاربة وقد تزوج أمير المؤمنين عليه السلام ليلى بنت مسعود النهشلي كان هذا المشهد بيتها وقد أقام أمير المؤمنين اثنين وسبعين يوماً ثم رجع إلى الكوفة وبجانب المسجد الجامع مشهد آخر يسمى مشهد باب الطيب ورأيت في مسجد البصرة عموداً من الخشب طوله ثلاثون ذراعاً وسمكه خمسة أشبار وأربعة أصابع كان أحد طرفيه أسمك من الطرف الآخر قيل إنه من أخشاب بلاد الهند استولى عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام وأحضره للبصرة والأحد عشر مشهدا الأخرى كل منها بموضع وقد زرتها كلها.
بعد إن أيسرنا ارتدينا ملابسنا وذهبنا يوماً إلى ذلك الحمام الذي لم يسمح لنا بدخوله من قبل فوقف الحمامي عند دخولنا من الباب وكذلك وقف كل من الحاضرين حتى دخلنا ثم جاء المدلك والقيم وقاما بخدمتنا فلما فرغنا ودخلنا غرفة الملابس وقف كل من بها ولم يجلسوا حتى لبسنا ثيابنا وخرجنا وفي أثناء ذلك كان الحمامي يقول لصاحب له هذان هما الرجلان اللذان لم ندخلهما الحمام يوم كذا كان يظن أنني لا أعرف لغته فقلت له بالعربية حقا ما تقول فنحن اللذان كنا نلبس خرقة من الصوف على ظهرنا فخجل الرجل واعتذر كان بين هذين الحالين عشرون يوماً وقد ذكرت هذا الفصل حتى يعرف الناس أنه لا ينبغي التذمر من أزمات الزمان واليأس من رحمة الخالق جل جلاله وعم نواله فإنه تعالى رحيم.
وصف المد والجزر بالبصرة ووصف أنهارها
يحدث المد ببحر عمان عادة مرتين كل أربع وعشرين ساعة فيرتفع الماء بمقدار عشر أذرع وحين يبلغ الارتفاع أقصى مداه يبدأ الجزر بالتدريج فينخفض الماء عشراً أو اثنتي عشرة ذراعاً ويعرف بلوغ ارتفاع الماء مقدار الأذرع العشر بظهوره على عمود أقيم هناك أو على حائط ولو كانت الأرض مستوية وغير عالية لعظم امتداد البحر إليها ويسير النهران دجلة والفرات بغاية البطء حتى يتعذر في بعض الجهات معرفة اتجاه التيار فيهما وحين يبدأ المد بدفع البحر ماءهما مسافة أربعين فرسخاً حتى يظن إنهما يرتدان إلى منبعيهما أما في الأماكن الأخرى التي تقع على شاطئ البحر فإن امتداد المد إليها يتوقف على ارتفاعها وانخفاضها فحيثما استوت الأرض ازداد المد وحيثما ارتفعت قل ويقال إن المد والجزر متعلقان بالقمر فيبلغ المد أقصى مداه حين يكون القمر على الأفقين يعني أفقي المشرق والمغرب ومن ناحية أخرى حين يكون القمر في اجتماع الشمس واستقبالها يزداد الماء أي إن المد يزيد في هذه الأوقات ويعظم ارتفاعه وحين يكون القمر في التربيعات تأخذ المياه في النقصان يعني لا يكون علوها كثيراً وقت المد ولا ترتفع ارتفاعها وقت الاجتماع والاستقبال وكذلك يكون جزرها في هذه الحالة أقل هبوطا منه في وقت الاجتماع والاستقبال وبهذه الدلائل يقولون إن المد والجزر متعلقان بالقمر والله تعالى أعلم .
والأبلة التي تقع على النهر المسمى بها مدينة عامرة وقد رأيت قصورها وأسواقها ومساجدها وأربطتها وهي من الجمال بحيث لا يمكن حدها أو وصفها والمدينة الأصلية تقع الجانب الشمالي للنهر وعلى جانبه الجنوبي يوجد من الشوارع والمساجد والأربطة والأسواق والأبنية الكبيرة ما لا يوجد أحسن منه في العالم وهذا الجانب الجنوبي يسمى شق عثمان والشط الكبير الذي هو دجلة والفرات مجتمعين والمسمى شط العرب يقع شرقي الأبلة والمدينة في الجنوب ويلتقي نهرا الأبلة ومعقل عند البصرة وقد ذكرت ذلك من قبل.
وصف أحياء البصرة
والبصرة عشرون ناحية في كل منها كثير من القرى والمزارع وهي حشان شربه بلاس عقر ميسان المقيم نهر حرب شط العرب سعد سام الجعفرية المشان الصمد الجونة الجزيرة العظمى مروت الشرير جزيرة العرش الحميدة الحويزة المنفردات .
ويقال إنه كان من المتعذر في وقت ما إن تمر سفينة من فم نهر الأبلة لعظم عمق مائه فأمرت امرأة من أثرياء البصرة بتجهيز أربعمائة مركب وملأتها كلها بنوى التمر وأغرقتها هناك بعد أحكام سدادها فارتفع القاع وتيسر عبور السفن وفي الجملة فقد غادرنا البصرة في منتصف شوال سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة 20فبراير فركبنا الزورق وسرنا في نهر الأبلة ورأينا طوال أربعة فراسخ في اجتيازه حدائق وجواسق ومناظر لا تنقطع على شاطئيه ويتفرع من هذا النهر ترع كل منها في سعة نهر فلما بلغنا شق عثمإن وهي أمام الأبلة نزلنا وأقمنا بها وفي السابع عشر من شوال فبراير ركبنا سفينة تسمى بوصي كان الناس الكثيرون الواقفون على الجانبين يصيحون قائلين سلمك الله يا بوصي وقد بلغنا عبادان فنزل الركاب من السفينة.
وتقع عبادان على شاطئ البحر وهي كالجزيرة إذ إن الشط ينقسم هناك إلى قسمين مما يجعل بلوغها متعذراً من أي ناحية بغير عبور الماء ويقع المحيط جنوب عبادان ولذا فإن الماء يبلغ سورها وقت المد كما أنه يبتعد عنها أقل من فرسخين أثناء الجزر ويشتري بعض المسافرين الحصير من عبادان ويشتري البعض الآخر المأكولات منها وفي صباح اليوم التالي أجريت السفينة في البحر وسارت بنا شمالا كان المد حلوا مستساغاً لغاية عشرة فراسخ ذلك لأن الشط يسير كاللسان في وسط البحر ولما ارتفعت الشمس ظهر في البحر شيء يشبه العصفور الدري كان يكبر كلما اقتربنا منه فلما واجهناه من اليسار على مسافة فرسخ خالفت الرياح فرموا المرساة ولفوا الشراع فسألت ما هذا قالوا إنه الخشاب.
وصف الخشاب المنار
يتكون من أربعة أعمدة كبيرة من خشب الساج على هيئة المنجانيق وهو مربع قاعدته متسعة وقمته ضيقة ويرتفع عن سطح البحر أربعين ذراعاً وعلى قمته حجارة وقرميد مقامة على عمد من خشب كأنها سقف ومن فوقها أربعة عقود يقف بها الحراس ويقول البعض إن الذي بنى الخشاب هذا تاجر كبير ويقول آخرون بل بناه أحد الملوك كان الغرض منه شيئين أحدهما أنه بني في جهة ضحلة يضيق البحر عندها فإذا بلغتها سفينة كبيرة ارتطمت بالأرض ففي الليل يشعلون سراجاً في زجاجة بحيث لا تطفئه الرياح وذلك حتى يراه الملاحون من بعيد فيحتاطون وينجون والثاني ليعرف الملاحون الاتجاه وليروا القرصان إن وجدوا فيتقونهم بتحويل اتجاه السفينة.
ولما اجتزنا الخشاب بحيث أصبح لا يرى رأينا آخر مثله ولكن ليس على سطحه قبة لأنهم لم يستطيعوا إكماله.
ومن هناك بلغنا مدينة مهروبان وهي مدينة كبيرة على شاطئ البحر الشرقي بها سوق كبير وجامع جميل ولكن ماءها من المطر وليس بها آبار أو قنوات من الماء العذب وقد اتخذ أهلها أحواضا ومصانع ليكون الماء متوفرا دائماً وقد بني بها ثلاثة أربطة كل منها كأنه حصن محكم ومرتفع وقد رأيت على منبر مسجدها الجامع اسم يعقوب بن الليث فسألت واحدا كيف كان ذلك فقال إن يعقوب بن الليث الصفار استولى على البلاد لغاية هذه المدينة ولم يكن لأمير آخر من أمراء خراسان هذه القوة وفي الوقت الذي كنت بها كانت مهروبان ملكا لأبناء أبي كاليجار الذي كان ملك فارس ومأكولات هذه المدينة تحمل إليها من المدن والولايات الأخرى إذ ليس بها شيء سوى السمك وفيها تحصل المكوس فهي ميناء وحين يسير المسافر منها جنوبا على شاطئ البحر يبلغ توه وكازرون وقد لبثت بمهروبان زمنا لأنه قيل إن الطرق ليست آمنة لما بين أبناء أبي كاليجار من الحروب فقد كان كل منهم على رأس جيش كان الملك مضطربا وسمعت إن بأرجإن رجلا عظيما فاضلا هو الشيخ السديد محمد بن عبد الملك وكنت قد سئمت من كثرة ما أقمت بمروبان فكتبت له خطابا وأعلمته بحالي والتمست منه إن يرحلني من هذه المدينة إلى بلد أمين فلما أرسلت الكتاب جاءني في اليوم الثالث ثلاثون راجلاً مدججون بالسلاح وقالوا قد أرسلنا الشيخ لنكون في خدمتك إلى أرجان وقد اصطحبونا آمنين إليها.
أرجان مدينة كبيرة بها عشرون ألف رجل وفي الجانب الشرقي منها نهر ينحدر من الجبل الذي شقت عند جانبه الشمالي أربع ترع عظيمة تتخلل المدينة وقد أنفق في إنشائها مال كثير وتسير هذه الترع إلى ما وراء أرجان وقد زرعت على شواطئها الحدائق والبساتين وبها كثير من النحل وأشجار النارنج والترنج والزيتون وبنيت أرجان بحيث يكون ما تحت الأرض من بيوتها مساوياً لما فوقها ويتخلل الماء هذه المساكن الأرضية والسراديب في جميع جهات المدينة حيث يستريح الناس في فصل الصيف والناس هناك على مذاهب شتى وإمام المعتزلة اسمه أبو سعيد البصري وهو رجل فصيح يدعي العلم بالهندسة والحساب وقد تباحثت معه وسأل كل منا الآخر وأجابه كما سمعت منه في علمي الكلام والحساب وغيرهما.
غادرت أرجان في أول المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة 2مايو وقد اتجهنا ناحية أصفهان عن طريق كوهستان فبلغنا في الطريق جبلاً به شق ضيق يقول العامة إن بهرام جور شقه بسيفه ويسمونه شمشير بريد ورأينا في هذا المكان ماء متدفقا يتفجر من عين على يميننا وينزل من مكان عال ويقول العامة إن هذا الماء يجوم تفجره في الصف أما في الشتاء فيقف ويتجمد.
ثم بلغنا لوردغان وبينها وبين أرجان أربعون فرسخاً ولوردغان هذه هي حدود فارس ومن هناك بلغنا خإن لنجان ورأيت اسم السلطان طغرل بيك مكتوباً على بابها ومنها إلى أصفهان سبعة فراسخ ويعيش أهل خان لنجان آمنين هادئين كل منهم مشتغل بعمله وشؤون بيته وفي الثامن من صفر سنة أربع وأربعين وأربعمائة يونيو قمنا من هناك فبلغنا مدينة أصفهان ومن البصرة إليها ثمانون ومائة فرسخ وهي مشيدة على أرض مستوية ماؤها عذب وهواؤها عليل وحيثما حفرت الأرض عشر أذرع خرج ماء عذب بارد وللمدينة سور مرتفع حصين به بوابات ومقاتلات وعلى السور شرفات وفيها أنهار جارية وأبنية جميلة مرتفعة وفي وسطها مسجد جمعة جميل جداً ويقال إن طول سورها ثلاثة فراسخ ونصف وكلها عامرة من الداخل فلم أر بها خراباً قط وفيها أسواق كثيرة ورأيت فيها سوقاً من أسواق الصرافين كان بها مائتا صراف ولكل سوق سور وبوابة محكمة وكذلك للأحياء والشوارع وأربطتها نظيفة وفي شارع اسمه كوطراز شارع الطرازين خمسون رباطاً جميلاً في كل منها تجار ومستأجرون كثيرون والقافلة التي صحبناها في الطريق كانت تحمل ثلاثمائة وألف خروار من البضائع ولما دخلنا أصفهان لم يتحر عن دخولنا أحد إذ لا تضيق أماكن السكنى أو تتعذر الإقامة أو المؤن بها ولما استولى السلطان طغرل بيك أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق رحمة الله عليه على هذه المدينة ولى عليها شابا نيسابوريا كان كاتباً مجيدا حسن الخط هادئا حسن اللقاء ولقبه الخواجه العميد كان صاحب فضل حلو الحديث كريماً كان السلطان قد أمر بأن لا يطالب الناس بشيء مدة ثلاث سنين فسار على ذلك وأعاد المهاجرين إلى أوطانهم كان هذا الرجل من كتاب الشورى كان بأصفهإن قبل مجيئنا قحط عظيم ولكن حين بلوغنا إياها كان الشعير قد جمع كان المن والنصف من خبز القمح يساوي درهما عدلا وكذلك كانت ثلاثة الأمنان من الشعير وقال الناس هناك إن أحداً منهم لم يرى إنه بيع بها بدرهم أقل من ثمانية أمنان من الخبز ولم أر قي كل البلاد التي تتكلم الفارسية مدينة أجمل ولا أكثر سكانا وعمرانا من أصفهان وقيل إنه إذا خزن بها القمح أو الشعير أو غيرهما من الحبوب مدة عشرين سنة لألم يفسد وقال البعض إن هواءها كان أحسن قبل إنشاء السور وإنه تغير بعد إنشائه بحيث تفسد بعض الأشياء أما الريف فقد ظل هواؤه كما كان وقد قمت بأصفهان عشرين يوما بسبب تأخر قيام القافلة وفي الثامن والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وأربعمائة 30 يونيو1052 بلغنا قرية تسمى هيم آباد ومن هناك بلغنا قصبة نايين عن طريق الصحراء وجبل مسكيان ومن أصفهان إلى هناك ثلاثون فرسخاً وقد سرنا من نايين مسافة ثلاثة وأربعين فرسخاً حتى بلغنا قرية كرمة من ناحية بيابان التي بها عشر أو اثنتا عشرة وهي جهة جوها حار وبها نخيل وكانت تابعة قديماً للقفص وحين بلغناها كان الأمير كليكى قد استولى عليها منهم ونصب عليها نائباً من قبله وجعل مقامه في قرية ذات قلعة تسمى بيادة وقد ضبط هذا الحاكم الولاية وجعل طرقها آمنة وإذا قطع القفص الطريق يرسل إليهم الأمير كليكى جنده فيقبضون عليهم ويستردون منهم المال ويقتلونهم وقد أصبح الطريق آمنا واستراح الناس بفضل هذا الأمير العظيم اللهم تباركت وتعاليت احفظ وانصر وأعن السلاطين العادلين وارحم المتوفين منهم وقد بنيت في هذا الطريق الصحراوي بين كل فرسخين في المواضع غير الملحة قباب صغيرة وخزانات يتجمع فيها ماء المطر وقد شيدت القباب حتى لا يضل المسافرون الطريق ولكي يأووا إليها ساعات في الحر والبرد وقد رأينا في الطريق الرمل المتحرك وكل من يتحول عن العلامات التي وضعت في الطريق للإرشاد فإنه لا يستطيع الخروج من وسط هذا الرمل ويهلك وبدا لنا طوال ستة فراسخ أرض ملحة متحركة يختفي فيها من ينحرف إليها عن الطريق المحدود ومن هناك ذهبنا عن طريق رباط زبيدة المسمى رباط المرامي وهو يحتوي على خمس آبار ولولا هذا الرباط والماء الذي به لما استطاع أحد اجتياز هذه الصحراء ثم دخلنا ناحية طبس في قرية تسمى رستاباد وفي التاسع من ربيع الأول سنة أربع وأربعين وأربعمائة يوليو بلغنا طبس ويقال إن بينها وبين أصفهان عشرة ومائة فرسخ وطبس مدينة مزدحمة ولو أنها تشبه القرية ماؤها قليل وزراعتها أقل وبها النخل والبساتين وتقع نيسابور على مسيرة أربعين فرسخاً منها شمالا وخبيص على مسيرة أربعين فرسخاً جنوبا في طريق الصحراء وناحية المشرق جبل صعب المرتقى كان أميرها في ذلك الوقت كيلكى بن محمد الذي استولى عليها بالسيف والناس هناك في سلام وأمن عظيمين حتى انهم لا يغلقون بيوتهم ليلا ويتركون البهائم في الطريق مع إن المدينة غير مسورة ولا تجرؤ امرأة على الكلام مع شخص أجنبي عنها فإذا فعلت قتل الاثنان وكذلك لا سرقة ولا قتل بفضل حزم الأمير وعدله.
وقد رأيت الأمن والعدل فيما رأيت من بلاد العرب والعجم في أربعة مواضع الأول بالدشت أيام لشكر خان والثاني في الديلم أيام أمير الأمراء جستان بن إبراهيم والثالث بمصر أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين والرابع بطبس أيام الأمير أبي الحسن كيلكى بن محمد فلم أسمع على كثرة ما سافرت بمثل ما في هذه الجهات من الأمن ولم أره.
وقد استبقانا الأمير رضي الله عنه سبعة عشر يوما بطبس و أضافنا وأمر لنا بصلات وقت الرحيل معتذرا عن ضآلتها وأرسل معنا أحد فرسانه حتى زوزن التي تقع على مسيرة اثنين وسبعين فرسخاً.
وبعد إثني عشر فرسخاً من قيامنا من طبس بلغنا قصبة تسمى الرقة بها مياه جارية وزرع وبساتين وأشجار وحصن ومسجد جمعة وقرى ومزارع كبيرة وفي التاسع من ربيع الآخر 8 أغسطس غادرنا الرقة وفي الثاني عشر من هذا الشهر بلغنا تون وبينهما عشرون فرسخاً وتون مدينة كبيرة ولكن معظمها كان خراباً حين رأيتها وهي على حافة واد به الماء الجاري والقنوات وفي جانبها الشرقي بساتين كثيرة ولها حصن محكم وقيل إنه كان بها أربعمائة مصنع للسجاد وفي المدينة كثير من شجر الفستق في بساتين المنازل ويعتقد سكان بلخ وطخارستان إن الفستق لا ينبت ولا ينمو إلا على الجبال.
ولما رحلنا من تون حكى لي الرجل الذي بعثه معنا الأمير كيلكي فقال كنا ذاهبين ذات مرة من تون إلى كنايد فخرج علينا اللصوص وتغلبوا علينا فألقى بعضنا من الخوف بنفسه في بئر تجري تحت الأرض كان لواحد من هؤلاء والد شفوق فجاء واستأجر رجلا لينزل إلى البئر ويخرج ولده منها واستعان الجماعة بكل ما لديهم من الحبال وأتى رجال كثيرون ونزل الرجل مسافة سبعمائة ذراع حتى بلغ القاع وربط الولد بالحبل وجروه ميتاً وقد قال الرجل حين طلع من البئر إن بها ماء عظيما يتدفق جاريا تحت الأرض مسافة أربع فراسخ ويقال إن كيخسرو هو الذي أمر بحفرها وفي الثالث والعشرين من شوال أغسطس بلغنا مدينة قاين وبينها وبين تون ثمانية عشر فرسخاً تجتازها القافلة في أربعة أيام وهي مسافة شاقة وقاين مدينة كبيرة حصينة حولها خندق وبها مسجد جمعة به مقصورة عليها عقد عظيم لم أر أكبر منه في خراسان وهو غير متناسب مع حجم المسجد وعلى جميع بيوت المدينة قباب وزوزن على مسيرة ثمانية عشر فرسخاً من الجانب الشرقي الشمالي لقاين ومنها جنوبا إلى هراة ثلاثون فرسخاً ورأيت بقاين رجلاً اسمه أبو منصور محمد بن دوست ملم بكل علم من طب وفلك ومنطق فسألني أي شيء خارج هذه الأفلاك والأنجم قلت يسمى شيئاً ما يكون داخل الأفلاك أما ما وراءها فلا يجوز إن يسمى شيئاً فقال ما وراء السموات معنوي أم مادي قلت لا جدال إن العلم محدود وحده فلك الأفلاك والحد ما يقصل فلكا عما عداه فإذا علم هذا وجب إن يكون ما وراء الأفلاك مخالفا لما في داخلها قال هذا المعنى الذي يثبته العقل هل له نهاية من هذه الناحية إن كانت له نهاية فأين وإن كان لا نهاية له فكيف يقبل الللامتناهي الفناء وتكلمنا زمنا على هذا النحو فقال أنا كثير الحيرة من هذا فقلت ومن لا يحار فيه وعلى كل حال فقد لبثنا بقاين شهراً بسبب ثورة كانت في زوزون أثارها عبيد النيسابوري ولتمرد رئيس زوزن وقد أرجعت من هناك الفارس الذي بعثه معنا الأمير كيلكي وخرجنا من قاين قاصدين سرخس فبلغناها في الثاني من جمادى الآخرة أول أكتوبر وقدرت من البصرة إلى سرخس تسعين وثلاثمائة فرسخ وقد غادرنا سرخس عن طريق الرباط الجعفري والرباط العمري والرباط النعمتي وهي ثلاثة أربطة متقاربة على الطريق .
وفي الثاني عشر من جمادى الآخر بلغنا مدينة مرو الرود وخرجنا منها بعد يومين وتبعنا طريق آب كرم وفي التاسع عشر بلغنا فارياب بعد إن سرنا ستة وثلاثين فرسخاً كان أمير خراسان جعفري بيك أبو سليمان داود ابن ميكائيل بن سلجوق في شبورغان كان يقصد الذهاب إلى دار ملكه مرو وقد اتبعنا طريق سنكلان بسبب الثورات ثم اتجهنا ناحية بلخ عن طريق سه دره فلما بلغنا رباطها سمعنا إن أخي أبا الفتح عبد الجليل كان في حاشية وزير أمير خراسان المسمى أبا نصر .
وقد مضى على خروجنا من خراسان سبعة أعوام فلما بلغنا دستكرد رأينا أمتعة تنقل إلى شبورغان فسأل أخي الذي كان معي لمن هذه فقيل له إنها لهذا الوزير فسألهم هل تعرفون أبا الفتح عبد الجليل فقالوا إنه كان معنا ثم اقترب منا خادم وسألنا من أين أتيتم فقلنا من الحج قال إن لسيدي أبي الفتح عبد الجليل أخوين ذهبا للحج منذ سنوات وهو دائم الشوق إليهما وكلما سأل عنهما أحد لا يدله قال أخي إنا نحمل من ناصر كتابا فحين يصل سيدك نسلمه إياه وبعد قليل سارت القافلة وسرنا معها فقال هذا الخادم إن سيدي يصل الآن فإذا لم يجدكما يضيق صدره فإذا أعطيتماني الكتاب لأسلمه له يسر به، فقال له أخي أتريد خطاب ناصر أم ناصراً نفسه هذا هو ناصر ففرح الخادم ولم يعرف ماذا يفعل وسرنا نحن إلى بلخ عن طريق ميإن روستا.
وقد جاء أخي الخواجه أبو الفتح عبد الجليل إلى دسنكرد عن طريق الصحراء كان ذاهبا مع الوزير إلى أمير خراسان فلما سمع بأمرنا عاد من دستكرد وانتظرنا على رأس قنطرة جموكيإن إلى إن وصلنا كان هذا في يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الآخر سنة أربع وأربعين وأربعمائة أكتوبر وقد التقينا وفرحنا باللقاء وشكرنا الله سبحانه و تعالى وذلك بعد إن فقدنا الأمل في اللقاء وبعد إن تعرضنا للتهلكة مرات حتى يئسنا من الحياة وفي هذا التاريخ نفسه بلغنا بلخ فقلت هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام:
فإن يكن تعب الدنيا وعناءها طويلين . فشرها وخيرها لا محالة منتهيان
إن الفلك يتحرك من أجلنا ليل نهار . وكلما راح منا واحد تلاه آخـر
إنا نروح ونغدو في الحياة . إلى إن تحين الروحة التي لا عودة منها
وتبلغ المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومن مصر إلى مكة ومنها إلى فارس عن طريق البصرة ثم إلى بلخ عدا الأطراف التي زرناها في الطريق ألفين ومائتين وعشرين فرسخاً.
وقد وصفت بأمانة ما رأيت في رحلتي وأما ما سمعته كان عليه اعتراض فلا ينسبه القراء إلي ولا يؤاخذوني أو يلوموني عليه وإن وفقني الله سبحانه و تعالى وسافرت إلى المشرق فسأضم وصف ما أشاهده هناك إلى هذه الرحلة إن شاء الله تعالى وحده العزيز والحمد لله رب العالمين والصلوة على محمد وآله وصحبه أجمعين.
● [ بحمد الله تم كتاب سفر نامة ] ●
تأليف : ناصر خسرو
تأليف : ناصر خسرو