بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ مكة المكرمة
منارات المسجد الحرام والمنابر والمقامات
ذكر منارات المسجد الحرام
للمسجد الحرام خمس منائر منها أربعة في أركانه، وواحدة في زيادة دار الندوة. وقال ابن جبير: إنه كان للمسجد الحرام سبع منائر عد منها هذه الخمس، ثم قال: وأخرى على باب الصفا وهي أصغرها وهي علم لباب الصفا وليس يصعد إليها لضيقها، قال: وعلى باب إبراهيم صومعة. انتهى.
وهذه الصومعة باقية إلى الآن لكن أعلاها منهدم، وعمّر أبو جعفر المنصور من منائر المسجد الحرام منارة باب العمرة، وعمّر ابنه المهدي المنارة التي على باب بني شيبة والتي على باب عليّ والتي على باب الحزورة، وعمّر الوزير الجواد منارة باب العمرة في سنةإحدى وخمسين وخمسمائة، ويذكر أنه عمر منائر المسجد الحرام، وعمرت منارة الحزورة في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر بعد سقوطها في سنة إحدى وسبعين، وفرغ من عمارتها في المحرم سنة اثنين وسبعين وسبعمائة. وعمرت منارة باب بني شيبة في دولة الملك الناصر فرج صاحب مصر بعد سقوطها في سنة تسع وثمانمائة وعمرت في سنة عشر وفي التي بعدها، وجاءت عمارتها حسنة البناء. وذكر الفاكهي منائر المسجد الحرام الأربع التي بأركانه الأربع وبدأ في ذكرها بمنارة باب بني سهم، قال: وفيها يؤذن صاحب الوقت بمكة، وثنى بمنارة باب الحزورة قال: وفيها يسحر المؤذن في شهر رمضان، وثلث بمنارة باب عليّ، وختم بمنارة بني شيبة. انتهى.
وهي الآن منارة صاحب الوقت خلافاً لما ذكره الفاكهي، وفي جميع منائر المسجد الحرام الخمس يسحر المؤذنون في شهر رمضان الآن، وكلام الفاكهي كما قدمناه يقتضي أن المؤذن كان يسحر في منارة باب الحزورة فقط، وذكر أيضاً أنه كان يؤذن على منارة كبيرة عمرت في رؤوس جبال مكة وظاهرها، منها في أبي قبيس أربع منارات، ومنها في الجبل الأحمر المقابل له منارتان، ومنها في العلق منارة. وقد ذكر الفاكهي بأوضح من هذا. وفي أبي قبيس وغيره من الجبال التي ذكرناها يسحر بعض الناس في شهر رمضان ويؤذن، ومما وضع في المسجد الحرام وبني فيه لمصلحته قبة كبيرة بين زمزم وسقاية العباس رضي الله عنه وعمرت في زمن الناصر العباسي وكانت موجودة من قبل كما ذكره ابن عبد ربه في العقد.
● ومن ذلك المنابر التي يخطب عليها: وأول من خطب على منبر بمكة معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، وهو منبر صغير على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياماً في وجه الكعبة وفي الحجر، وكان ذلك المنبر الذي جاء به معاوية ربما خرب فيعمر ولا يزاد فيه، ولم يزل يخطب عليه حتى حج هارون الرشيد في خلافته، وموسى بن عيسى عامل له على مصر فأهذى له منبراً عظيماً في تسع درجات منقوشاً فكان منبر مكة، ثم أخذ منبر مكة القديم فجعل بعرفة حتى أراد الواثق بالله الحجج فكتب، فعمل له ثلاثة منابر: منبر بمكة، ومنبر بمنى، ومنبر بعرفة. هذا ما ذكره الأزرقي من خبر المنابر.
وذكر الفاكهي ذلك وزاد: أن المنتصر بن المتوكل العباسي لما حج في خلافة أبيه جعل له منبر عظيم، فخطب عليه بمكة، ثم خرج وخلفه بها. انتهى. ثم جعل بعد ذلك عدة منابر للمسجد الحرام؛ منها: منبر عمله وزير المقتدر العباسي وكان منبراً عظيماً استقام بألف دينار ولما وصل إلى مكة أحرق؛ لأنه كان بعث به ليخطب عليه للخليفة المقتدى فمنع من ذلك المصريون، وخطبوا للمنتصر العبيدي صاحب مصر وأحرقوا المنبر المذكور، ومنها: منبر عمل في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر في سنة ست وسبعمائة، ومنها منبر بعث به الملك الظاهر برقوق صاحب مصر في سنة سبع وتسعين وسبعمائة وهو باق يخطب عليه الخطباء إلى الآن، وأصلح بعد وصوله إلى مكة غير مرة.
● ومن ذلك المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام،
● أما صفتها فإنها غير مقام الحنفي إسطوانتان من حجارة، عليها عقد يشرف من أعلاه، وفيه خشبة معترضة فيها خطاطيف للقناديل، وما بين الاسطوانتين من مقام الشافعي لا بناء فيه، وما بينهما من مقام المالكي والحنبلي مبنى بحجارة مبيضة بالنورة، وفي وسط هذا البناء محراب، وكان عمل هذه المقامات على هذه الصفة في سنة سبع وثمانمائة لتبقى زماناً طويلاً. وأما صفة مقام الحنفي الآن: فأربع أساطين من حجارة منحوتة عليها سقف مدهون مزخرف بالذهب واللازورد، وأعلى السقف مما يلي السماء مدكوك بالآجر مطلي بالنورة، وبين الاسطوانتين المتقدمتين بناء فيه محراب مرخم، وكان ابتداء عمله على هذه الصفة في شوال أو في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانمائة، وفرغ منه في أوائل سنة اثنين وثمانمائة. وكان بعض الناس أنكر عمله على هذه الصفة، وأفتى بهدمه جماعة ممن عاصرناه من علماء مصر، وأفتى بعض علماء الحنفية بجواز بنائه وإبقائه على حاله وعدم تغييره؛ لأن ذلك من باب التمكين لإقامة الصلاة وفيه مصلحة عظيمة لأهل المسجد، يؤيد ذلك ما ذكره قاضي خان في الديات في فضل ما يحدث في المسجد أن كل مسلم مندوب إلى عمارة المسجد، وإلى ما كان من باب التمكين لإقامة الصلاة. انتهى.
قال الشيخ عز الدين بن فهد في حاشيته على تاريخ الفاسي: رأيت بخط والدي ما صورته: أفتى جماعة من الحنفية من أهل العلم بجواز بنائه؛ لما فيه من النفع لعامة المسلمين من الاستظلال من الشمس والاستكفاف من البرد ودفع المطر، وأن حكمه كالأروقة والأساطين الكائنة بالمسجد الحرام، وقد أخرب سقف مقام الحنفية الأمير سودون المحمدي في سنة ست وثلاثين وثمانمائة وعمره أتقن مما كان ووضع عليه من أعلاه قبة من خشب زوج مبيضة بالجص ليس لها أثر من داخل سقف المقام، وزاده فرشاً بحجارة حمر رخوة تعرف بحجارة الماء، ولم يكن هذا الفرش فيه ولا في غيره من المقامات فيما تقدم، وهذا الفرش مستعل عن الأرض وله إزار مرتخ عليه من الحجارة الصلبة السود المنحوتة، تدور على المقام من الجوانب الثلاثة فإن الجانب القبلي فيه جدر المحراب، ثم في سنة ثمان وخمسين وثمانمائة كشط ناظر المسجد الحرام الأمير طوعان دهان سقف المقام المذكور وزخرفه أحسن من زخرفته الأولى. انتهى.
قال الشيخ المذكور: والذي أفتى بجواز بنائه على هذه الصفة قاضي مكة الشهاب ابن الضياء هكذا أخبرني والدي رحمه الله.
● وأما مواضعها من المسجد الحرام: فإن مقام الشافعي خلف مقام إبراهيم عليه السلام والحنفي بين الركن الشامي والغربي مما يلي الحطيم، والمالكي بين الركن الغربي واليماني، والحنبلي تجاه الحجر الأسود.
● وأما كيفية الصلاة بهذه المقامات: فإنهم يصلون مرتين الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي. وكلام ابن جبير يقتضي أن المالكي كان يصلي قبل الحنفي، ثم تقدم عليه الحنفي من بعد سنة تسعين وسبعمائة، واضطرب كلام ابن جبير في الحنفي والحنبلي؛ لأنه ذكر ما يقتضي أن كلاً منهما يصلي قبل الآخر. وهذا كله في غير صلاة المغرب. أما فيها فإنهم يصلونها جميعاً في وقت واحد ثم بطل ذلك في موسم سنة إحدى عشرة وثمانمائة بأمر الملك الناصر، وصار الشافعي يصلي بالناس المغرب وحده، واستمر ذلك إلى أن ورد أمر الملك المؤيد أبي النصر شيخ صاحب مصر بأن يصلي الأئمة الثلاثة المغرب، كما كانوا يصلون قبل ذلك ففعلوا ذلك، وأول وقت فعل فيه ذلك ليلة السادس من ذي الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، وكذلك تجتمع الأئمة الثلاثة غير الشافعي على صلاة العشاء في شهر رمضان في وقت واحد، ويجتمع أيضاً الأئمة الأربعة المذكورون وغيرهم من الأئمة الصغار والكبار بالمسجد الحرام في صلاة التراويح في حاشية المطاف وغيرها من المسجد، وتعلو أصوات الأئمة والمكبرين خلفهم فيتشوش بذلك الطائفون والمصلون، فيحصل للمصلين خلفهم لبس كبير بسبب التباس أصوات المبلغين واختلاف حركات المصلين، ومع ذلك يكثر اللغط واللغو وأحاديث الدنيا من المستمعين غير المصلين، ويجتمعون بذلك أمام كل إمام حلقاً حلقاً وأفواجاً مستدبرين القبلة متوجهين إلى الإمام، ويختلط الرجال بالنساء متزينات متعطرات فيزداد التشويش على الطائفين، وقل من يحصل له حضور في طواف أو غيره مع اجتماع مثل ذلك الجمع العظيم، ويعظم ذلك في العشر الآخر من رمضان ليالي الختم فيجتمع فيها الجمع العظيم من الرجال والنساء والصبيان، ويهرع إليها الأعراب وأهل البوادي والأودية من قرى شتى خصوصاً ليلة الخامس والعشرين والسابع والعشرين من رمضان، وبعد الفراغ من الختم يصعد صغير على منبر والجم الغفير تحته، ويخطب ويعظهم بصوت عال، بحيث يبلغ الطائفين ويشوش عليهم ويجلس في الخطبة جلسات، ويقرأ القراء الجالسون تحته عقيب كل جلسة عشراً من القرآن بأصوات عالية وألحان متنوعة، ويحصل في تلك الليالي الفتن بين الرجال والنساء، وكل هذه بدع شنيعة ومنكرات قبيحة وفق الله ولي الأمر لإزالتها، وأثاب المتسبب في إطفاء رسومها. وفي صلاة التراويح خلف الصبيان اختلاف، قال مشائخ العراق وبعض مشائخ بلخ: لا تجوز. وقال غيرهم: تجوز. وعن نصر بن يحيى أنه سئل عنها قال: تجوز إذا كان ابن عشر سنين. وقال السرخسي: الصحيح أنها لا تجوز؛ لأنه غير مخاطب وصلاته ليست بصحيحة على الحقيقة، فلا تجوز إمامته كإمامة المجنون، أما إذا أمّ الصبي الصبيان فإنه يجوز؛ لأن صلاة الإمام مثل صلاة المقتدي. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( في بيوت أذن الله أن ترفع ). قال العلماء: يستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد. انتهى.
● وأما حكم صلاة الأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي في المكتوبات على الصفة التي ذكرناها: فاجتمع أصحابنا على أن المسجد إذا صلى فيه جماعة بعد جماعة بغير أذان ثان فإنه يباح كذا ذكره شارح الجمع؛ لأنه قال: قال أصحابنا: المسجد إذا كان له إمام معلوم وجماعة معلومون في محلة خاصة، فصلى فيه أهله جماعة لا يباح تكرار الجماعة فيه بأذان ثان وإقامة ثانية. وقال الشافعي: مباح ذلك. قال: والتقييد بالمسجد المختص بالمحلة احتراز من الشارع، والأذان الثاني احتراز عما إذا صلى في مسجد المحلة جماعة بغير أذان ثان حيث يباح إجماعاً. انتهى.
وعن أبي سعيد أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يتصدق على هذا فيصلي معه "، فقام رجل من القوم فصلى معه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين، وقالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه جماعة وبه يقول أحمد وإسحاق. وأما وقت حدوثهم فلم يعرف تحقيقه وقد ذكر أن الحنفي والمالكي كانا موجودين في عام سبعة وتسعين وأربعمائة، وأما الحنبلي فلم يكن موجوداً فيها، وقد ذكر أن الحنبلي كان موجوداً في عشر الأربعين وخمسمائة. ولما حج مرجان خادم المقتفي العباسي قلع الحطيم الذي للحنابلة بمكة وأبطل إمامتهم بها على ما ذكر سبط ابن الجوزي في المرآة وذكر أنه كان يقول: قصدي أن أقلع مذهب الحنابلة.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
للمسجد الحرام خمس منائر منها أربعة في أركانه، وواحدة في زيادة دار الندوة. وقال ابن جبير: إنه كان للمسجد الحرام سبع منائر عد منها هذه الخمس، ثم قال: وأخرى على باب الصفا وهي أصغرها وهي علم لباب الصفا وليس يصعد إليها لضيقها، قال: وعلى باب إبراهيم صومعة. انتهى.
وهذه الصومعة باقية إلى الآن لكن أعلاها منهدم، وعمّر أبو جعفر المنصور من منائر المسجد الحرام منارة باب العمرة، وعمّر ابنه المهدي المنارة التي على باب بني شيبة والتي على باب عليّ والتي على باب الحزورة، وعمّر الوزير الجواد منارة باب العمرة في سنةإحدى وخمسين وخمسمائة، ويذكر أنه عمر منائر المسجد الحرام، وعمرت منارة الحزورة في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر بعد سقوطها في سنة إحدى وسبعين، وفرغ من عمارتها في المحرم سنة اثنين وسبعين وسبعمائة. وعمرت منارة باب بني شيبة في دولة الملك الناصر فرج صاحب مصر بعد سقوطها في سنة تسع وثمانمائة وعمرت في سنة عشر وفي التي بعدها، وجاءت عمارتها حسنة البناء. وذكر الفاكهي منائر المسجد الحرام الأربع التي بأركانه الأربع وبدأ في ذكرها بمنارة باب بني سهم، قال: وفيها يؤذن صاحب الوقت بمكة، وثنى بمنارة باب الحزورة قال: وفيها يسحر المؤذن في شهر رمضان، وثلث بمنارة باب عليّ، وختم بمنارة بني شيبة. انتهى.
وهي الآن منارة صاحب الوقت خلافاً لما ذكره الفاكهي، وفي جميع منائر المسجد الحرام الخمس يسحر المؤذنون في شهر رمضان الآن، وكلام الفاكهي كما قدمناه يقتضي أن المؤذن كان يسحر في منارة باب الحزورة فقط، وذكر أيضاً أنه كان يؤذن على منارة كبيرة عمرت في رؤوس جبال مكة وظاهرها، منها في أبي قبيس أربع منارات، ومنها في الجبل الأحمر المقابل له منارتان، ومنها في العلق منارة. وقد ذكر الفاكهي بأوضح من هذا. وفي أبي قبيس وغيره من الجبال التي ذكرناها يسحر بعض الناس في شهر رمضان ويؤذن، ومما وضع في المسجد الحرام وبني فيه لمصلحته قبة كبيرة بين زمزم وسقاية العباس رضي الله عنه وعمرت في زمن الناصر العباسي وكانت موجودة من قبل كما ذكره ابن عبد ربه في العقد.
● ومن ذلك المنابر التي يخطب عليها: وأول من خطب على منبر بمكة معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، قدم به من الشام سنة حج في خلافته، وهو منبر صغير على ثلاث درجات، وكانت الخلفاء والولاة قبل ذلك يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياماً في وجه الكعبة وفي الحجر، وكان ذلك المنبر الذي جاء به معاوية ربما خرب فيعمر ولا يزاد فيه، ولم يزل يخطب عليه حتى حج هارون الرشيد في خلافته، وموسى بن عيسى عامل له على مصر فأهذى له منبراً عظيماً في تسع درجات منقوشاً فكان منبر مكة، ثم أخذ منبر مكة القديم فجعل بعرفة حتى أراد الواثق بالله الحجج فكتب، فعمل له ثلاثة منابر: منبر بمكة، ومنبر بمنى، ومنبر بعرفة. هذا ما ذكره الأزرقي من خبر المنابر.
وذكر الفاكهي ذلك وزاد: أن المنتصر بن المتوكل العباسي لما حج في خلافة أبيه جعل له منبر عظيم، فخطب عليه بمكة، ثم خرج وخلفه بها. انتهى. ثم جعل بعد ذلك عدة منابر للمسجد الحرام؛ منها: منبر عمله وزير المقتدر العباسي وكان منبراً عظيماً استقام بألف دينار ولما وصل إلى مكة أحرق؛ لأنه كان بعث به ليخطب عليه للخليفة المقتدى فمنع من ذلك المصريون، وخطبوا للمنتصر العبيدي صاحب مصر وأحرقوا المنبر المذكور، ومنها: منبر عمل في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر في سنة ست وسبعمائة، ومنها منبر بعث به الملك الظاهر برقوق صاحب مصر في سنة سبع وتسعين وسبعمائة وهو باق يخطب عليه الخطباء إلى الآن، وأصلح بعد وصوله إلى مكة غير مرة.
● ومن ذلك المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام،
● أما صفتها فإنها غير مقام الحنفي إسطوانتان من حجارة، عليها عقد يشرف من أعلاه، وفيه خشبة معترضة فيها خطاطيف للقناديل، وما بين الاسطوانتين من مقام الشافعي لا بناء فيه، وما بينهما من مقام المالكي والحنبلي مبنى بحجارة مبيضة بالنورة، وفي وسط هذا البناء محراب، وكان عمل هذه المقامات على هذه الصفة في سنة سبع وثمانمائة لتبقى زماناً طويلاً. وأما صفة مقام الحنفي الآن: فأربع أساطين من حجارة منحوتة عليها سقف مدهون مزخرف بالذهب واللازورد، وأعلى السقف مما يلي السماء مدكوك بالآجر مطلي بالنورة، وبين الاسطوانتين المتقدمتين بناء فيه محراب مرخم، وكان ابتداء عمله على هذه الصفة في شوال أو في ذي القعدة من سنة إحدى وثمانمائة، وفرغ منه في أوائل سنة اثنين وثمانمائة. وكان بعض الناس أنكر عمله على هذه الصفة، وأفتى بهدمه جماعة ممن عاصرناه من علماء مصر، وأفتى بعض علماء الحنفية بجواز بنائه وإبقائه على حاله وعدم تغييره؛ لأن ذلك من باب التمكين لإقامة الصلاة وفيه مصلحة عظيمة لأهل المسجد، يؤيد ذلك ما ذكره قاضي خان في الديات في فضل ما يحدث في المسجد أن كل مسلم مندوب إلى عمارة المسجد، وإلى ما كان من باب التمكين لإقامة الصلاة. انتهى.
قال الشيخ عز الدين بن فهد في حاشيته على تاريخ الفاسي: رأيت بخط والدي ما صورته: أفتى جماعة من الحنفية من أهل العلم بجواز بنائه؛ لما فيه من النفع لعامة المسلمين من الاستظلال من الشمس والاستكفاف من البرد ودفع المطر، وأن حكمه كالأروقة والأساطين الكائنة بالمسجد الحرام، وقد أخرب سقف مقام الحنفية الأمير سودون المحمدي في سنة ست وثلاثين وثمانمائة وعمره أتقن مما كان ووضع عليه من أعلاه قبة من خشب زوج مبيضة بالجص ليس لها أثر من داخل سقف المقام، وزاده فرشاً بحجارة حمر رخوة تعرف بحجارة الماء، ولم يكن هذا الفرش فيه ولا في غيره من المقامات فيما تقدم، وهذا الفرش مستعل عن الأرض وله إزار مرتخ عليه من الحجارة الصلبة السود المنحوتة، تدور على المقام من الجوانب الثلاثة فإن الجانب القبلي فيه جدر المحراب، ثم في سنة ثمان وخمسين وثمانمائة كشط ناظر المسجد الحرام الأمير طوعان دهان سقف المقام المذكور وزخرفه أحسن من زخرفته الأولى. انتهى.
قال الشيخ المذكور: والذي أفتى بجواز بنائه على هذه الصفة قاضي مكة الشهاب ابن الضياء هكذا أخبرني والدي رحمه الله.
● وأما مواضعها من المسجد الحرام: فإن مقام الشافعي خلف مقام إبراهيم عليه السلام والحنفي بين الركن الشامي والغربي مما يلي الحطيم، والمالكي بين الركن الغربي واليماني، والحنبلي تجاه الحجر الأسود.
● وأما كيفية الصلاة بهذه المقامات: فإنهم يصلون مرتين الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي. وكلام ابن جبير يقتضي أن المالكي كان يصلي قبل الحنفي، ثم تقدم عليه الحنفي من بعد سنة تسعين وسبعمائة، واضطرب كلام ابن جبير في الحنفي والحنبلي؛ لأنه ذكر ما يقتضي أن كلاً منهما يصلي قبل الآخر. وهذا كله في غير صلاة المغرب. أما فيها فإنهم يصلونها جميعاً في وقت واحد ثم بطل ذلك في موسم سنة إحدى عشرة وثمانمائة بأمر الملك الناصر، وصار الشافعي يصلي بالناس المغرب وحده، واستمر ذلك إلى أن ورد أمر الملك المؤيد أبي النصر شيخ صاحب مصر بأن يصلي الأئمة الثلاثة المغرب، كما كانوا يصلون قبل ذلك ففعلوا ذلك، وأول وقت فعل فيه ذلك ليلة السادس من ذي الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، وكذلك تجتمع الأئمة الثلاثة غير الشافعي على صلاة العشاء في شهر رمضان في وقت واحد، ويجتمع أيضاً الأئمة الأربعة المذكورون وغيرهم من الأئمة الصغار والكبار بالمسجد الحرام في صلاة التراويح في حاشية المطاف وغيرها من المسجد، وتعلو أصوات الأئمة والمكبرين خلفهم فيتشوش بذلك الطائفون والمصلون، فيحصل للمصلين خلفهم لبس كبير بسبب التباس أصوات المبلغين واختلاف حركات المصلين، ومع ذلك يكثر اللغط واللغو وأحاديث الدنيا من المستمعين غير المصلين، ويجتمعون بذلك أمام كل إمام حلقاً حلقاً وأفواجاً مستدبرين القبلة متوجهين إلى الإمام، ويختلط الرجال بالنساء متزينات متعطرات فيزداد التشويش على الطائفين، وقل من يحصل له حضور في طواف أو غيره مع اجتماع مثل ذلك الجمع العظيم، ويعظم ذلك في العشر الآخر من رمضان ليالي الختم فيجتمع فيها الجمع العظيم من الرجال والنساء والصبيان، ويهرع إليها الأعراب وأهل البوادي والأودية من قرى شتى خصوصاً ليلة الخامس والعشرين والسابع والعشرين من رمضان، وبعد الفراغ من الختم يصعد صغير على منبر والجم الغفير تحته، ويخطب ويعظهم بصوت عال، بحيث يبلغ الطائفين ويشوش عليهم ويجلس في الخطبة جلسات، ويقرأ القراء الجالسون تحته عقيب كل جلسة عشراً من القرآن بأصوات عالية وألحان متنوعة، ويحصل في تلك الليالي الفتن بين الرجال والنساء، وكل هذه بدع شنيعة ومنكرات قبيحة وفق الله ولي الأمر لإزالتها، وأثاب المتسبب في إطفاء رسومها. وفي صلاة التراويح خلف الصبيان اختلاف، قال مشائخ العراق وبعض مشائخ بلخ: لا تجوز. وقال غيرهم: تجوز. وعن نصر بن يحيى أنه سئل عنها قال: تجوز إذا كان ابن عشر سنين. وقال السرخسي: الصحيح أنها لا تجوز؛ لأنه غير مخاطب وصلاته ليست بصحيحة على الحقيقة، فلا تجوز إمامته كإمامة المجنون، أما إذا أمّ الصبي الصبيان فإنه يجوز؛ لأن صلاة الإمام مثل صلاة المقتدي. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( في بيوت أذن الله أن ترفع ). قال العلماء: يستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد. انتهى.
● وأما حكم صلاة الأئمة الثلاثة الحنفي والمالكي والحنبلي في المكتوبات على الصفة التي ذكرناها: فاجتمع أصحابنا على أن المسجد إذا صلى فيه جماعة بعد جماعة بغير أذان ثان فإنه يباح كذا ذكره شارح الجمع؛ لأنه قال: قال أصحابنا: المسجد إذا كان له إمام معلوم وجماعة معلومون في محلة خاصة، فصلى فيه أهله جماعة لا يباح تكرار الجماعة فيه بأذان ثان وإقامة ثانية. وقال الشافعي: مباح ذلك. قال: والتقييد بالمسجد المختص بالمحلة احتراز من الشارع، والأذان الثاني احتراز عما إذا صلى في مسجد المحلة جماعة بغير أذان ثان حيث يباح إجماعاً. انتهى.
وعن أبي سعيد أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يتصدق على هذا فيصلي معه "، فقام رجل من القوم فصلى معه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين، وقالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه جماعة وبه يقول أحمد وإسحاق. وأما وقت حدوثهم فلم يعرف تحقيقه وقد ذكر أن الحنفي والمالكي كانا موجودين في عام سبعة وتسعين وأربعمائة، وأما الحنبلي فلم يكن موجوداً فيها، وقد ذكر أن الحنبلي كان موجوداً في عشر الأربعين وخمسمائة. ولما حج مرجان خادم المقتفي العباسي قلع الحطيم الذي للحنابلة بمكة وأبطل إمامتهم بها على ما ذكر سبط ابن الجوزي في المرآة وذكر أنه كان يقول: قصدي أن أقلع مذهب الحنابلة.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء