من طرف توتة الملتوتة الإثنين 3 أغسطس 2015 - 12:54
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
دائرة المعارف
هدية ألأم لإبنها فى يوم عيدها
كتاب : بر الوالدين . لإبن الجوزي
● [ المقدمة ] ●
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
يقول الفقير إلى رحمة الله تعالى، الشيخ الإمام العلامة، جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، نفعنا الله به، آمين: الحمد لله الذي أمر بالبر، ونهى عن العقوق، وصلاته وسلامه سيدنا محمد الصادق، المصدوق، وعلى آله وأتباعه يوم إستيفاء الحقوق.
أما بعد: فإني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين، ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات، وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات، ويقطعون الأرحام التي أمر الله سبحانه بوصلها في الذكر، ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر، وربما قابلوها بالهجر والجهر، وقد أعرضوا عن مواساة الفقراء مما يرزقون، وكأنهم لا يصدقون بثواب ما يتصدقون، قد التفتوا بالكلية عن فعل المعروف، كأنه في الشرع، والعقل ليس بمعروف. وكل هذه الأشياء تحث عليها المعقولات، وتبالغ في ذكر ثوابها وعقابها المنقولات.
فرأيت أن أجمع كتاباً في هذه الفنون من اللوازم، ليتنبه الغافل، ويتذكر الحازم، وقد رتبته فصولاً وأبواباً، والله الموفق لما يكون صواباً.
● [ ذكر المعقول في بر الوالدين وصلة الرحم ] ●
غير خاف على عاقل حق المنعم، ولا منعم بعد الحق تعالى على العبد كالوالدين، فقد تحملت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال.
وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه.
والعاقل يعرف حق المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخس صفاته، لا سيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء المنقلب.
وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يف بشكرهما.
عن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا.
قال: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفي عليها؟ قال: (إنها كانت تصنع ذلك بك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تتمنى فراقها).
ورأى عمر - رضي الله عنه - رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية على ظهره، يطوف بها حول البيت وهو يقول:
أَحمِلُ أُمي وَهِيَ الحَمالَة ... تُرضِعُني الدِرَةَ وَالعَلالَة
فقال عمر: ( لآن أكون أدركت أمي، فوليت منها مثل ما وليت، أحب إلي من حمر النعم ).
وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها ؟ قال: ( لا، ولا بطلقة من طلقاتها ).
ويقاس على قرب الوالدين من الولد قرب ذوي الرجل والقرابة. فينبغي ألا يقصر الإنسان في رعاية حقه.
● [ ذكر ما أمر الله به من بر الوالدين وصلة الرحم ] ●
قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً).
قال أبو بكر بن الأنباري: (هذا القضاء ليس من باب الحكم، إنما هو من باب الأمر والفرض. وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان.
وقوله: (وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً) هو: البر والإكرام قال ابن عباس: (لا تنفض ثوبك أمامهما فيصيبها الغبار).
(فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) في معنى أف خمسة أقوال:
أحدهما: وسخ الظفر، قاله الخليل.
والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي.
والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب.
والرابع: الاحتقار والاستصغار، من الأفي، والأفي عند العرب: القلة، ذكره ابن الأنباري.
والخامس: ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن معنى الأف: النتن، وأصله نفخك الشيء يسقط عليك من تراب وغيره، فقيل لكل ما يستقل.
وقوله: (وَلا تَنهَرهُما) أي: لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجههما.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما.
(وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً) أي: لطيفاً، أحسن ما تجد. وقال سعيد بن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.
(وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ)، من رحمتك إياهما.
ومن بيان حق الوالدين قوله تعالى: (أَنِ اشَكُر لي وَلِوَالِدَيكَ).
فقرن شكره بشكرهما.
● [ ذكر ما أمرت به السنة من بر الوالدين ] ●
عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تعق والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك).
قال أحمد: حدثني يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث، عن ضمرة، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (كانت تحتي امرأة كان عمر يكرهها، فقال: طلقها، فأبيت. فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أطع أباك).
وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعص والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج منها).
وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم).
وقال زيد بن علي بن الحسين لابنه يحيى: (أن الله تبارك وتعالى لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصيني بك).
تقديم بر الوالدين على الجهاد والهجرة
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم. قال: (ففيهما فجاهد).
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي يبايعه، فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، قال: (فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما).
وعن أبي سعيد الخدري، قال: هاجر رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل باليمن أبواك). قال: نعم. قال: (أأذنا لك)؟ قال: لا. قال: (ارجع إلى أبويك فأستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما).
وعن ابن عباس، قال: جاءت امرأة ومعها ابن لها، وهو يريد الجهاد، وهي تمنعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقم عندهما، فإن لك من الأجر مثل الذي يريد).
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: (هل من والديك أحد حي؟ قال: أمي قال: انطلق فبرهما). فانطلق يحل الركاب. فقال: (أن رضى الرب عز وجل في رضى الوالدين).
هكذا نقل الحديث.
أحب الأعمال إلى الله بر الوالدين
عن أبي عمرو الشيباني، قال: حدثنا صاحب هذه الدار وأشار إلى دار عبد الله بن مسعود - قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة لوقتها). قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله).
البر يزيد في العمر
عن سهل بن معاذ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بر والديه طوبى له وزاد الله في عمره).
وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا بن آدم، بر والديك، وصل رحمك، ييسر لك أمرك، ويمد لك في عمرك، وأطع ربك تسمى عاقلاً، ولا تعصمه تسمى جاهلاً).
وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزيد في العمر إلا البر).
وعن ثوبان نحوه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمد الله في عمره، ويزيد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه).
[ كيفية بر الوالدين ]
برهما يكو بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة، والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما، والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما، فلا يرفع الولد صوته، ولا يحدق إليهما، ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما، ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما.
سمعت طلق بن علي، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أدركت والدي أو أحدهما وقد افتتحت الصلاة، فقرأت فاتحد الكتاب؛ فقال: يا محمد، لقلت: لبيك).
وعن أبي غسان الضبي أنه خرج يمشي بظهر الحرة وأبوه يمشي خلفه، فلحقه أبو هريرة، فقال: من هذا الذي يمشي خلفك؟ قلت: أبي قال:
(أخطأت الحق ولم توافق السنة، لا تمش بين يدي أبيك، ولكن أمشي خلفه أو عن يمينه، ولا تدع أحداً يقطع بينك وبينه، ولا تأخذ عرقاً (أي: لحماً مختلطاً بعظم) نظر إليه أبوك، فلعله قد اشتهاه، ولا تحد النظر إلى أبيك، ولا تقعد حتى يقعد، ولا تنم حتى ينام).
وعن أبي هريرة، أنه أبصر رجلين، فقال لأحدهما: هذا منك؟ قال: أبي قال: (لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله).
وعن طيلة، قال: قلت لابن عمر: عندي أمي، قال: (والله لو ألفت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله تعالى: (وَاَخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ). قال: لا تمتنع من شيء أحباه.
وعن الحسن أنه سئل عن بر الوالدين فقال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما ما لم يكن معصية).
وعن عمر رضي الله عنه، قال: (إبكاء الوالدين من العقوق).
وعن سلام بن مسكين، قال: سألت الحسن، قلت: الرجل يأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؟ قال: (إن قبلا، وإن كرها فدعهما).
وعن العوام، قال: قلت لمجاهد: ينادي المنادي بالصلاة، ويناديني رسول أبي. قال: (أحب أباك) وعن ابن المنكدر، قال: (إذا دعاك أبوك وأنت تصلي فأجب).
وعن عبد الصمد، قال: سمعت وهب يقول: (في الإنجيل: رأس البر للوالدين أن توفر عليهما أموالهما. وأن تطعمهما من مالك).
وعن عبد الله بن عون، قال: (انظر إلى الوالدين عبادة).
تقديم الأم في البر
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أمك). قال: ثم من؟ قال: (أبوك).
وعن المقدام بن معد يكربن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بأمهاتكم، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب).
وعن خداش بن سلامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأمه، أوصي الرجل بأبيه، وأوصيه بمولاه الذي يليه).
وعن الأوزاعي، عن مكحول، قال: (إذا دعتك والدتك وأنت في الصلاة فأجبها، وإن دعاك أبوك فلا تجبه حتى تفرغ).
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجنة تحت أقدام الأمهات).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: جاء رجل أبا الدرداء، فقال: أن امرأتي بنت عمر وأنا أحبها، وأن أمي تأمرني بطلاقها. فقال: (لا آمرك أن تطلقها ولا آمرك أن تعصي أمك، ولكن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الوالدة أوسط أبواب الجنة). فإن شئت فأمسك وإن شئت فدع.
وعن جاهمة السلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن في الجهاد، فقال: (ألك والدة؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن عند رجليها الجنة).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قبل عيني أمه كان له ستراً من النار).
وعن أنس، قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. فقال: (هل بقي من والديك أحد؟). قال: أمي. قال: (إن الله عز وجل عذراً في برها، فإنك إذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد إذا رضيت عنك أمك، فاتق الله وبرها).
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل ينظر إلى أمه نظر رحمة لها إلا كانت له حجة مقبولة مبرورة، قيل: يا رسول الله وإن نظر إليها في اليوم مائة مرة؟ قال: وإن نظر إليها في اليوم مائة ألف مرة، فإن الله عز وجل أكثر وأطيب).
وعنه أنه أتاه رجل، فقال: أني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: (أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله وتقرب إليه ما استطعت.
فقال رجل لابن عباس: لم سألته عن حياة أمه؟ قال: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة).
وعن أبي نوفل، قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال: أني قتلت نفساً، فقال: (ويحك، خطأ أم عمد؟) قال: خطأ. قال: هل من والديك أحد؟). قال: نعم، قال: (أمك). قال: أنه أبي. قال: (انطلق فبره وأحسن إليه). فلما انطلق، قال عمر:
(والذي نفسي بيده لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها، رجوت ألا تطعمه النار أبداً).
وعن ابن عباس، قال: بينهما استسقى في حوضه، إذا راكب قد جاء ظمآن، فقال: رد وأورد. قال: فنزل قريباً وعقل ناقته، فلما رأت الماء دنت إلى الحوض حتى فجرته، فقام الرجل فأخذ سيفاً فضربه حتى قتله، ثم خرج يسأل فلقي رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم، فكلهم يوئسه، حتى أتى رجلاً منهم كان يعني نفسه فقال: هل تستطيع أن تصدره كما أوردته؟ قال: لا. قال: تستطيع أن تبغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء؟ قال: لا. قال تستطيع أن تحيا ولا تموت؟ فقام الرجل فمشى غير بعيد، فقال: هل لك والدين؟ قال: أمي حية. قال: (فاحملها وبرها، فإن دخل الآخر النار فأبعد الله من أبعد).
وعن الحسن، قال: (للوالدة الثلثان من البر، وللوالد الثلث).
وعن يعقوب العجلي، قال: قلت لعطاء: تحبسني أمي في الليلة المطيرة عن الصلاة في الجماعة، فقال: (أطعها).
وعن عطاء أن رجلاً أقسمت عليه أمه ألا يصلي إلا الفريضة، ولا يصوم إلا شهر رمضان. قال: (يطيعها).
وسئل الحسن في رجل حلف عليه أبوه بكذا، وحلفت عليه أمه بكذا - بخلافه؟ قال: (يطيع أمه).
وعن رفاعة بن إياس، قال: رأيت الحارس العكلي في جنازة أمه يبكي، فقيل له: تبكي؟ قال: (ولم لا أبكي وقد أغلق عن باب من أبواب الجنة)؟ وعن رفاعة بن أياس، قال: لما ماتت أم أياس بن معاوية بكى، فقيل: ما بيكيك؟ قال: (يا رب أوصني. قال: أوصيتك بأمك، فإنها حملتك وهناً على وهن. قال: ثم بمن؟ قال: بأمك ثم بمن؟ قال: بأمك ثم بأبيك).
وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرأن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: (تعش العشاء مع أمك تقر به عينها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً).
وعن الحسن بن عمرو، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: (الولد بالقرب من أمه حيث تسمع أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله عز وجل، والنظر إليها أفضل من كل شيء).
وعن أبي حازم، قال: قال عمارة: سمعت أبي يقول: (ويحك، أما شعرت أن نظرك إلى والدتك عبادة، فكيف البر بها).
ما يجزي به الولد والديه
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يجزي ولد والديه إلا أن يجدهما مملوكين فيشتريهما فيعتقهما).
قال الشيخ: ثبت أن الولد إذا اشترى أباه عتق عليه بنفس الشراء، إلا أنه يتلفظ بعتقه هذا مذهب العلماء ما خلا داود.
فللحديث معنيان: أحدهما: أنه أضاف العتق إليه لأنه ثبت بالشراء. والثاني أدق معنى، وهو: أن يكون المراد أن مجازاة الوالد لا تتصور، لأن عتق الإبن له لا يتصور، لأنه بنفس شرائه للأب يعتق، فصار هذا لقوله تعالى: (وَلا يَدخُلونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاطِ).
ثواب بر الوالدينوعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما ثلاثة رهط يتماشون فأخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فبينما هم كذلك إذا انحطت عليهم صخرة، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعضه: أنظروا إلى افضل أعمال عملتموها، فاسألوه بها لعله يفرج عنكم.
فقال أحدهم: اللهم أنه كان لي والدان كبيران، وكانت لي امرأة وأولاد صغار، وكنت أرعى عليهم فإذا أرحت غنمي بدأت بأبوي فسقيتهما فلم آت حتى نام أبوي، فطيبت الإناء ثم حلبت، ثم قمت بحلابي عند رأس أبوي، والصبية يتضاغون - يبكون - عند رجلي أكره أن أبدأ بهم قبل أبوي، وكره أن أوقظهما من نومهما، فلم أزل كذلك قائماً حتى أضاء الفجر.
اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة فرأوا منها السماء، وذكر باقي الحديث.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نمت فرأيتني في الجنة، فسمعت قارئاً يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذلك البر، فكان أبر الناس بأمه).
وعن مكحول، قال: قدم وفد الأشعرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
(افيكم وجرة؟ قالوا: نعم. قال: فإن الله تعالى أدخلها الجنة ببر والدتها وهي مشركة - يعني الأم - أغير على حيها، فاحتملت أمها تشتد بها في الرمضاء، فإذا احترقت قدماها جلست وأجلست أمها في حجرها، وأظلتها من الشمس، فإذا استراحت حملتها).
وعن عبد الرحمن بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة، فقال: (رأيت رجلاً من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه فرده عنه).
وعن أبي الدرداء، قال: قال عمر رضي الله عنهما: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبل، فأشرفنا على واد، فرأيت شاباً أعجبني شبابه، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي شاب لو كان شبابه في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر فلعله في سبيل الله وأنت لا تشعر) ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا شاب، هل لك من تعول؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: أمي. فقال: إلزمها فإن عند رجليها الجنة).
وعن مورق العجلي، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (هل تعلمون نفقة أفضل من نفقة في سبيل الله تعالى)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: (نفقة الولد على الوالدين أفضل).
من كان يبالغ في بر الوالدين
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر من كانا في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان رضي الله عنهما.
فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت.
وأما حارثة فأنه كان يفلي رأس أمه ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ما أرادت أمي؟.
وعن أبي هريرة أنه كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: (السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته. فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً).
وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
وعن أبي أمامة أن أبا هريرة رضي الله عنه كانيلي حمل أمه إلى المرفق وينزلها عنه، وكانت مكفوفة.
وعن ابن سيرين، قال: (بلغت النخلة ألف درهم، فنقرت نخلة من جمارها. فقيل لي: عقرت نخلة تبلغ كذا، وجماره بدرهمين؟ قلت: (قد سألتني أمي، ولو سألتني أكثر من ذلك لفعلت).
وعن سفيان الثوري، قال: (كان ابن الحنفية يغسل رأس أمه بالخطمى ويمشطها ويخضبها).
وعن الزهري، قال: كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه، وكان أبر الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: (أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها).
وفي رواية: (أخاف أن تسبق يدي يدها).
وعن إسماعيل بن عون، قال: دخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال: ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وعن هشام، قال: كانت حفصة تترحم على هذيل، وتقول: كان يعمد إلى القصب فيقشره ويجففه في الصيف، لئلا يكون له دخان، فإذا كان الشتاء جاء حتى قعد خلفي وأنا أصلي، فيوقد وقوداً رفيقاً ينالني حره ولا يؤذيني دخانه، وكنت أقول له: يا بني، الليلة اذهب إلى أهلك، فيقول: يا أماه أنا أعلم ما يريدون، فأدعه فربما كان ذلك حتى يصبح.
وكان يبعث إلي بحلبة الغداة، فأقول، يا بني تعلم أني لا أشرب نهاراً فيقول: أطيب اللبن ما بات في الضرع، فلا أحب أن أؤثر عليك، فابعثي به إلى من أحببت.
فمات هذيل، فوجدت عليه وجداً شديداً، وكنت أجد مع ذلك حرارة في صدري لا تكاد تسكن. قالت: فقمت ليلة أصلي، فاستفتحت النحل، فأتيت إلى قوله تعالى: (ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَهِ باقٍ وَلنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلُون).
فذهب عن ما كنت أجد.
وعن أنس بن النضر الأشجعي: استقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة، فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
وعن ظبيان بن علي الثوري - وكان من أبر الناس بأمه - قال: (لقد نامت لليلة وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه يكره أن يوقظها، ويكره، أن يقعد، حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه، فما زال معتمداً عليهما حتى استيقظت).
وكان يسافر بها إلى مكة، فإذا كان يوم حار حفر بئراً، ثم جاء بنطع فصب فيه الماء، ثم يقول لها: (أدخلي تبردي في هذا الماء).
وعن محمد بن عمر، قال: كان محمد بن عبد الرحمن بن أبي الزناد باراً بأمه، وكان أبوه، يقول: يا محمد. فلا يجيبه حتى يشب فيقوم على رأسه فيلبيه، فيأمره بحاجته، فلا يستفهمه هيبة له حتى يسأل من فهم ذلك عنه.
وعن عون بن عبد الله، أنه نادته أمه فأجابها، فعلا صوته، فأعتق رقبتين.
وعن بكر بن عباس، قال: ربما كنت مع منصور في مجلسه جالساً فتصيح به أمه، وكان فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره، ما يرفع طرفه إليها.
وقال سيفان بن عيينة: قدم رجل من سفر، فصادف أمه قائمة تصلي، فكره أن يقعد وأمه قائمة، فعلمت ما أراد، فطولت ليؤجر.
وبلغنا عن عمر بن ذر أنه لما مات ابنه قيل له: كيف كان بره بك؟ قال: ما مشي معي نهاراً إلا كان خلفي، ولا ليلاً إلا كان أمامي، ولا رقد على سطح أنا تحته.
وعن المعلي بن أوب، قال: سمعت المأمون يقول: لم أر أبر من الفضل بن يحيى البرمكي بأبيه، بلغ من بره بأبيه أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بالماء الحار، وكانا في السجن معاً، فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم كان بالسجن، فملأه بالماء وأدناه من المصباح، فلم يزل قائماً وهو في يده حتى أصبح.
وحكى غير المأمون أن السجان فطن لارتفاقه بالمصباح في تسخين الماء، فمنعهم من الاستصباح في الليلة القابلة، فعمد الفضل إلى القمقم مملوءاً، فأخذه معه في فراشه وألصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء.
وعن كعب الأحبار، قال: اجتمع ثلاثة من بني إسرائيل، فقالوا: تعالوا يذكر كل منا أعظم ذنب عمله.
فقال أحدهم: (أما أنا فلا أذكر من ذنب أعظم من أني كنت إذا أصاب أحدنا بول من ثوبه قطعه، فأصابني بول فقطعته ولم أبالغ في قطعه، فهذا أعظم ذنب عملته).
وقال الآخر: (كنت مع صاحبي لي فعرضت لنا شجرة، فخرجت عليه ففزغ مني، فقال: الله بيني وبينك).
وقال الثالث: كانت لي والدة فدعتني من قبل شمال الريح، فأجبتها فلم تسمع، فجاءتني مغضبة فجعلت ترميني بالحجارة، فأخذت عصا وجئت لأقعد بين يديها لتضربني بها، ففزعت مني فأصابت وجهها شجرة فشجتها، فهذا أعظم ذنب عملته).
[ إثم عقوق الوالدين ]
عن أبي بكرة، عن أبيه، قال: ذكرت الكبائر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) وكان متكئاً فجلس، وقال: (ألا وشهادة الزور). وما زال يكررها حتى قلنا: ليته يسكت).
وعن أنس، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، فقال: (الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين...). الحديث.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس. واليمين الغموس).
وعنه صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا من يكذب بالقدر، واليمين الغموس).
وعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة حق على الله تعالى ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه).
وعن زيد بن أرقم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح ووالداه عنه راضيين أصبح وله بابان مفتوحان من الجنة، ومن أمسى ووالداه عنه راضيين أمسى له بابان مفتوحان من الجنة. ومن أصبح وهما ساخطان عليه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحد فواحد قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه).
وعن عمرو بن مرة الجهني، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أشهد ألا آله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - مالم يعق والديه).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: (آمين، آمين، آمين).
فلما نزل، قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدت المنبر، قلت: آمين ثلاث مرات، فقال: (إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين. ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار أبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار أبعده الله، قل: آمين. قلت: آمين).
وعن أبي الطفيل، قال: سئل علي رضي الله عنه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس؟ قال: ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس إلا ما في قراب سيفي، ثم أخرج صحيفة فإذا فيها: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من سرق منار الأرض، لعن الله من عق والديه).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، رغم أنفه). قيل: من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عنده الكبر أو أحدهما فدخل النار).
وعن ابن عباس - رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (ملعون من سب أباه، ملعون من سب أباه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لعن الله سبعة من خلقه فوق سبع سموات: ملعون من عق والديه). الحديث وعنه أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يتقبل الله صلاة الساخط عليه أبواه غير الظالمين له).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من أرضى والديه فقد أرضى الله، ومن أسخط والديه فقد أسخط الله).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله عز وجل: اعمل ما شئت فإني أغفر لك، ويقول للبار، اعمل ما شئت فأني سأغفر لك).
وعن أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كل الذنوب يؤخر منها ما شاء الله إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا).
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أن الله عز وجل أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام، يا موسى، أن كلمة العاق لوالديه عندي عظيمة. قالوا: يا موسى، وما الكلمة؟ قال: أن يقول لوالديه: لا لبيكما).
وعن بعض الحكماء: (لا تصادق عاقاً، فإنه لمن يبرك، وقد عق من هو أوجب منك حقاً).
شؤم العاق لوالديه
عن عبد الله بن أوفى، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، ههنا غلام قد أحتضر، يقال له. قل له. لا إله إلا الله فلا يستطيع أن يقولها. قال: (أليس كان يقولها في حياته)؟ قالوا: بلى. قال: (فما يمنعه منها عند موته)؟ فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه حتى أتى الغلام، فقال: (يا غلام، قل: لا إله إلا الله). قال لا أستطيع أن أقولها. قال (ولم)ظ قال: لعقوقي والدتي. قال: (أحية هي)؟ قال: نعم. قال: (ادعوها) فدعوها، فقال: (هذا ابنك)؟ قالت: نعم. قال: (أرأيت لو أن نار أججت، قيل لك: إن لم تشفعي له فدفناه في هذه النار). قالت: إذن كنت أشفع له. قال: (فاشهدي الله وأشهدينا أنك قد رضيت عنه). قالت: اللهم أني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن إبني قال: (يا غلام، قل: لا إله إلا الله). فقال: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
وعن مالك بن دينار، قال: بينما أنا أطوف بالبيت الحرام إذ أعجبني كثرة الحجاج والمعتمرين، فقلت: ليت شعري من المقبول منهم فأهنئه، ومن المردود منهم فأعزيه.
فلما كان الليل رأيت في منامي قائلاً، يقول: مالك بن دينار يسأل عن الحاج والمعتمرين؟ قد غفر الله لهم أجمعين، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الأسود والأحمر، إلا رجلاً واحداً فإن الله تعالى عليه غضبان، وقد رد الله حجه، وضرب به في وجهه.
قال مالك: فنمت بليلة لا يعملها إلا الله عز وجل وخشيت أن أكون ذلك الرجل، فلما كانت الليلة الثانية، رأيت في منامي مثل ذلك، غير أنه قيل لي: ولست أنت ذلك الرجل، بل هو من خراسان من مدينة بلخ، يقال له: محمد بن هارون البلخي.
فلما أصبحت أتيت قبائل خراسان، فقلت: أخيكم محمد بن هارون؟ قالوا: بخ بخ، تسأل عن رجل ليس بخراسان أعبد ولا أزهد منه ولا أقرأ منه.
فعجبت من جميل ثناء الناس عليه وما رأيت في منامي. فقلت: أرشدوني إليه. قالوا: أنه منذ أربعين سنة يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يأوي إلا الخراب، ونظنه في خرائب مكة.
فجعلت أجول في الخرابات، فإذا هو قائم خلف جدار، وإذا يده اليمنى معلقة في عنقه وقد شدها بقيدين عظيمين إلى قدميه، وهو راكع وساجد. فلما أحس بهمس قدمي، قال: من تكون؟ قلت: مالك بن دينار، قال: يا مالك ما جاء بك إليَّ؟ إن كنت رأيت رؤيا فاقصصها علي. قال: أستحي أن أقولها. قال: بل قل.
فقصصتها عليه، فبكى طويلاً، وقال: كنت رجل أكثر شرب المسكر، فشربت يوماً عند خدن لي حتى ثملت وزال عقلي، فأتيت منزلي فدخلت، فإذا بأمي توقد تنوراً لنا، فلما رأتني أتمايل بسكري، أقبلت تطعمني، وتقول: هذا آخر يوم من شعبان وأول ليلة من رمضان، يصبح الناس صواماً، وتصبح سكران!! أما تستحي من الله؟ فرفعت يدي فلكزتها. فقالت: تعست. فغضبت لقولها وحملتها بسكري ورميت بها في التنور فلما رأتني امرأتي، أدخلتني بيتاً وأغلقت علي.
فلما كان آخر الليل ذهب سكري، دعوت زوجتي لفتح الباب، فأجابتني بجواب فيه جفاء، فقلت: ويحك ما هذا الجفاء؟ قالت: تستأهل ألا أرحمك. قلت: لم؟ قالت: قتلت أمك، رميت بها في التنور فاحترقت.
فخرجت إلى التنور فإذا هي كالرغيف المحروق. فخرجت وتصدقت بمالي، وأعتقت عبيدي، وأنا مذ أربعين سنة أصوم النهار وأقوم الليل، وأحج كل سنة، ويرى لي كل سنة عابد مثلك هذه الرؤيا.
فنفضت يدي في وجهه، وقلت: يا مشؤوم، كدت تحرق الأرض وما عليها بنارك، وغبت عنه بحيث أسمع حسه ولا أرى شخصه فرفع يديه إلى السماء، وقال: يا فارج الهم وكاشف الغم، يجيب دعوة المضطرين، أعوذ برضاك من سخطك، وبما فاتك من عقوبتك، ولاتقطع رجائي، وتخيب دعائي.
فذهبت إلى منزلي ونمت، فرأيت في المنام قائلاً يقول: يا مالك لا تقنط الناس من رحمة الله. إن الله اطلع من الملأ الأعلى إلى محمد بن هارون فاستجاب دعوته، وأقال عثرته، أعذ إليه وقل له: أن الله يجمع الخلائق يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء، ويجمع بينك وبين والدتك، فيحكم لها عليك، ويذيقك النار، ثم يهبك لأمك.
كيفية العقوق
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال (إبكاء الوالدين من العقوق).
وعن عمر بن الزبير، قال: (ما بر أبويه من أحد النظر إليهما).
وعن محمد بن سيرين، قال: (من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي يميط الأذى عن طريقه. ومن دعا أباه باسمه فقد عقه، إلا أن يقول: يا أبت).
وعن مجاهد، قال: (لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه، ومن شد النظر إلى والديه لم يبرهما، ومن أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما).
وقال الحسن البصري: (منتهى القطيعة أن يجالس الرجل أباه عند السلطان).
وقال فرقد: قرأت في بعض الكتب: (ما بر ولد حر بصره إلى والديه، وأن النظر إليهما عبادة، ولا ينبغي للولد أن يمشي بين يدي والده ولا يتكلم إذا شهد، ولا يمشي عن يمينهما، ولا عن يسارهما، إلا أن يدعواه فيجيبهما، أو يأمراه فيطيعهما، ولكن يمشي خلفهما كالعبد الذليل).
وقال يزيد بن أبي حبيب: (إيجاب الحجة على الوالدين عقوق). يعني الانتصار عليهما في الكلام.
وسئل كعب الأحبار، عن العقوق، فقال: (إذا أمرك والدك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله).
إجابة دعوة الوالدين للولدعن عبد الله بن مسعود، قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الوالد والمظلوم والمسافر).
وكان الحسن يقول: (دعاء الوالدين ينبت المال والولد).
وسئل الحسن: ما دعاء الوالد للولد؟ قال: (نجاة).
وعن مجاهد: (ثلاثة لا تحدب دعوتهم عن الله عز وجل: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد لولده، وشهادة ألا إله إلا الله).
وعنه أيضاً: (دعوة الوالد لا تحجب عن الله عز وجل).
وعن عبد الرحمن بن أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى مخلد بن الحسين، فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويدة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار.
فأطرق الشيخ ملياً، ودعا بدعوات، فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، وأخذت تدعو له، وقالت: حديثك يحدثك الشاب. فقال الشاب: ِ(كنت في يد بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، فبينما نحن نجيء من العمل بعد المغرب انفتح القيد من رجلي، فوقع على الأرض).
ووصف للشيخ اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت فيه أمه للشيخ ودعاؤهما له.
(فنهض الذي كان يحفظني فصاح علي وقال: كسرت القيد فقلت: لا، إنه سقط). قال: (فتحير وأخبر صاحبه، فأحضر الحداد وقيدوني، فما مشيت إلا خطوات حتى سقط القيد، فتحيروا ودعوا رهبانهم، فقالوا لي: لك والدة؟ قلت: نعم. قالوا: قد وافق دعاؤها الإجابة، أطلقك أن فلا تقيدك، وزودوني واصطحبوني إلى ناحية المسلمين).
إجابة دعوة الوالدين على الولد
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما).
وعنه أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (كان جريج راهباً في صومعة، وكان راعي بقر يأوي إلى أسفل صومعته، وكانت امرأة من أهل القرية تختلف إلى الراعي، فأتت أم جريج يوماً، فقالت: يا جريج - وهو يصلي - فقال في نفسه: يا رب أمي وصلاتي فرأى أن يؤثر صلاته، ثم صرخت الثانية والثالثة فلم يجبها، فقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات، ثم انصرفت.
فولدت تلك المرأة، فقالوا: ممن؟ قالت: من جريج. فضربوا صومعته فهدموها وجعلوا قيده إلى عنقه، ثم مروا به على المومسات، فتبسم وهن ينظرن إليه.
فقال للملك: ما تزعم هذه؟ قال: تزعم أن ابنها هذا منك.
فأقبل على الصغير، وقال: من أبوك؟ قال: راعي البقر. فقال الملك: نجعل لك صومعة من ذهب؟ قال: لا، ردوها كما كانت قال: فما الذي تبسمت منه؟ قال: أدركتني دعوة أمي، ثم أخبره الخبر).
من تبرأ من والديه أو ولدهعن أنس الجهني عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم. قيل: من أولئك يا رسول الله؟ قال: متبرئ من والديه، راغب عنهما، ومتبرئ من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم، وتبرأ منهم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين).
إثم من دعي لغير أبيهعن إبراهيم التميمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فقال: من زعم أن عندنا شيء نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة - صحيفة فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات - فقد كذب قال: وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً).
وعن ابن عثمان الهندي، قال: سمعت سعداً يقول: سمعت أذناي، ووعى قلبي من محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام).
قال: فلقيت أبا بكر فحدثته، فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي زرعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر).
إثم من تسبب في شتم الأبوينعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه). قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: (يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه).
وعنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم، قال: (أن أكبر الكبائى أن يسب الرجل والديه. قيل: وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه).
جواز رجوع الوالد في هبته
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرجع في هبته، إلا الوالد.
وعن ابن عمر، وابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل لرجل أن يعطي العطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده).
صلة الوالدين بعد موتهماعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم:
(إذا مات ابن آدم انقطع عمله من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له).
عن السدي بن عبيد، عن أبيه، قال: قال رجل: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما، قال: (نعم، أربع خصال: الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وانقاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما).
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أني لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك).
وعن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قرأ القرآن وعمل به ألبس الله والداه تاجاً يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا. فما ظنكم بمن عمل بهذا).
وعن أبي كاهل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أنه من بر والديه حيين وميتين كان على الله عز وجل أن يرضيه يوم القيامة). قلنا: كيف يبر والديه ميتين؟ قال: (يستغفر لهما، ولا يسب والدي أحد فيسب والديه).
وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم، وأن الله ليدخل على أهل القبور من أهل الدور مثل الجبال).
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما على أحدكم إذا أراد أن يتصدق أن يجعلها لوالديه إن كانا مسلمين، فيكون لوالديه أجرهما من غير أن ينتقص من أجره شيء).
وعن ابن عباس، أن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، توفيت أمه وهوغائب عنها. فقال: يا رسول الله، أن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: (نعم). قال: فإني أشهدك أن حائطي صدقة عنها.
وعن أبي هريرة، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أن أمي ما ماتت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: (نعم).
وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من حج عن أبويه، أو قضى عنهما مغرماً، بعث يوم القيامة مع الأبرار).