من طرف حكماء الخميس 3 سبتمبر 2015 - 7:39
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
من فتاوى دار الإفتاء لمدة مائة عام
الباب: احكام فى مسائل متفرقة
رقم الفتوى: ( 1269 )
الموضوع:
قيمة الدية فى الشريعة الإسلامية.
المفتى:
فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق. 6 ربيع الأول 1401 هجرية
المبادئ :
1 - الدية فى القتل الخطأ وردت مطلقة فى القرآن، والسنة بينتها وهى واجبة بالاجماع ولم ينكرها أحد، والحكمة فى شرعيتها مع تقديرها شرعا رفع النزاع وهى غير التعويض، وتكون على العاقلة ويدخل الجانى معها على خلاف فى ذلك، وتثبت بالإقرار بالقتل أو بالدليل عليه.
2 - الفتاوى مبينة للحكم الشرعى غير ملزمة فلا تنفذ قهرا إلا بحكم قضائى إلا فى بعض الأحوال.
3 - الصلح فى الدية مشروع وملزم إن تم.
4 - قرار لجنة المصالحات غير ملزم إلا برضى الطرفين بشرط ألا يكون على محرم شرعا.
سُئل :
بالطلب المقيد برقم 172 سنة 1980 المقدم من المواطنة / وقد جاء به وأن السيد / ف ع ا قتل خطأ بسيارته المرحوم / م ع وأن لجنة المصالحات حكمت على صاحب السيارة بدية القتيل يؤديها إلى ولده ع ع ع وقد تحددت الدية بألف دينار من الذهب تقدر قيمتها عند الدفع بقيمة الذهب حسب تقدير أهل هذه الصناعة. وقد أفتى بهذا شيوخ من الأزهر. ثم انتهت الطالبة إلى طلب بيان أصل هذه الفتوى فى الشريعة الإسلامية وهل للفتوى الشرعية الحجية على الكافة شرعا وواجبة النفاذ. أم لا وبيان ما إذا كان قرار لجنة المصالحات يعتبر مشارطة ومن التحكيم الإسلامى أم لا.
أجاب :
قال الله سبحانه وتعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما. ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد لله عذابا عظيما } النساء 92 ، 93 ، وتشير نصوص فقه مذهب ( بدائع الصنائع للكاسانى ج - 7 ص 234 وتكملة فتح القدير على الهدايه ج - 8 ص 252 ) الإمام أبى حنيفة إلى أن القتل الخطأ هو الفعل الصادر من الجانى الخالى من قصد القتل عند مباشرة المقصود لترك التثبت والاحتياط. وفى فقه الإمام مالك ( حدود ابن عرفة ج - 1 ص 477 ) هو ما مسببه غير مقصود لفاعله. باعتبار أن صنفه غير منهى عنه، فيدخل فيه القتل الخطأ بالتسبب. وفى فقه الإمام الشافعى والإمام أحمد ( مغنى المحتاج ج - 4 ص 4 والمغنى لابن قدامة مع الشرح الكبير على متن المقنع ج - 9 ص 320 و 321 ) بن حنبل أن القتل الخطأ هو ما صدر من الإنسان بفعل لم يقصده أصلا، أو قصد دون قصد الشخص المقتول، ويوافق جمهرة فقهاء مذهب الإمام أحمد فقهاء المذهب الشافعى فى هذا التحديد. ولقد شرع الله سبحانه فى الآية المرقومة الدية فى القتل الخطأ دون بيان قدرها، وجاءت السنة الشريفة مبينة لها من هذا ما روى أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه (أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن فى النفس الدية مائة من الإبل إلى أن قال وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار). ( رواه النسائى ، نيل الأوطار للشوكانى ج 7 ص 57 وسبل السلام للصنعانى ج 3 ص 322، وما بعدها ) وقد أجمعت الأمة ( الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ج 6 ص 188 ) من لدن النبى صلى الله عليه وسلم على وجوب الدية، ولم يعرف عن أحد أنه أنكرها. والحكمة من شرعية الدية وتقديرها، هى رفع النزاع فى تقدير القيمة إذا وكل إلى أولياء القتيل. وحتى لا يغالب هؤلاء أهل القاتل. وحتى يدخل الناس فى تقديرها عناصر أخرى غير الآدمية، إذ مهما اختلفت منازل الناس وأجناسهم، فهم جميعا أمام تقدير الدماء سواء فلا تفاوت بينهم، لذلك لم يترك الشارع أمر تقديرها للحاكم، بل تولى تقديرها بنفسه. والدية المقررة فى شريعة الإسلام، لا تدخل فى نطاق التعويض أو الغرامة التى تتردد فى قانون العقوبات الوضعى. ذلك لأن الدية وإن أشبهت الغرامة لما فيها من معنى الزجر للجانى بحرمانه من جزء من ماله، إلا أنها تخالفها فى أن الجانى لا يتحمل عبء الدية وحده فى أغلب الأحوال، كما أنها لا تؤول إلى الخزانة العامة كالغرامة. كما أن الدية تختلف عن التعويض إذا يدخل فى عناصر تقدير التعويض مقومات متعددة، مادية وجسدية وأدبية، بينما الدية جاءت مقدرة شرعا، غير داخل فى تقديرها احتساب كل ما نتج عن الجريمة من الأذى والخسارة، وإنما كمقابل للنفس التى هلكت بالقتل فقط أو الأعضاء التى أتلفها الجانى، أما قدر الدية فقد اتفق الفقهاء ( بداية المجتهد ج - 2 ص 401 ) على أن مقدارها فى قتل الحر المسلم مائة من الإبل كما جاء فى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن. ثم اختلفوا فى هل الأصل فى الدية هو الإبل، وأن ما عداها من الأصناف هو تقدير لها أم لا فقال الإمامان أبو حنيفة ومالك وهو أحد قولين فى مذهب الإمام الشافعى إن الدية إنما تكون فى واحد من أصناف ثلاثة هى الإبل والذهب والفضة، وأن كل واحد أصل بنفسه. وذهب الإمام أحمد وصاحبا الإمام أبى حنيفة إلى أن الدية تكون من هذه الأصناف ومن البقر والغنم وانفرد هذان الصاحبان إلى أنها أيضا تكون من الحلل. وقد قالوا إن هذه الأصناف أصول فى الدية. وذهب الإمام الشافعى فى الجديد ورواية عن الإمام أحمد إلى أن الأصل فى الدية الإبل، أما غيرها فهو بديل عنها وقيمة لها. ولكل وجهته وأدلته المبسوطة فى موضعها من كتب الفقه. ومن ثم كان لزاما على فقهاء كل عصر أن يراعوا الميسور المتداول من هذه الأصول. ولما كان الأخذ بالمعيار النقدى أضبط وأيسر وأنسب وكان الذهب من أصول لأثمان، ولا خلاف فى تقدير الدية به فى الشريعة ، فقد وردت نصوص السنة بأنها ألف دينار من الذهب. والدينار اسم للقطعة من الذهب المضروبة المقدرة بالمثقال فهى متحدة من حيث الوزن ولا تفاوت بينها فتكون منضبطة. من يحمل الدية فى القتل الخطأ يحملها فى هذا عاقلة الجانى باتفاق الفقهاء، ويرى الإمامان أبو حنيفة ومالك أنه يحمل معها، بينما يرى فقه الإمامين الشافعى وأحمد أن الجانى لا يحمل مع العاقلة شيئا. وأميل فى هذا الأخذ بقول فقه مذهبى الإمامين أبى حنيفة ومالك، حتى يتحقق الزجر والرجع للجانى، بانتقاض ماله بسبب تقصيره ووقوع جريمته. وإذا ثبت القتل الخطأ بإقرار الجانى أو بدليل شرعى آخر، كانت دية القتيل ألف دينار من الذهب. ولما كان الدينار يزن الآن 4. 25 جراما، تكون جملة الدية 4250 جراما من الذهب تدفع عينا لولى القتيل، أو قيمتها بالنقد السائد حسب سعر الذهب يوم ثبوت هذا الحق، رضاء أو قضاء. وبهذا تكون الفتوى الصادرة من بعض العلماء فى هذا الموضوع صحيحة فى جملتها ذات سند شرعى. هل الفتوى فى مثل هذا الموضع حجة وملزمة شرعا قال الفقهاء إن المفتى مخبر عن الحكم، أما القاضى فملزم بالحكم وله حق الحبس والتعزيز عند عدم الامتثال، كما أن له إقامة الحدود والقصاص. لما كان ذلك تكون الفتوى من حيث هى مبينة للحكم الشرعى، ولكنها غير ملزمة، بمعنى أنها لا تنفذ إلا إذا صدر بمقتضاها حكم قضائى. ومع ذلك تصير الفتوى ملزمة فى الأحوال التالية
(أ) إذا التزم المستفتى العمل بها.
(ب) شروعه فى تنفيذ الحكم الذى كشفته الفتوى.
(ج -) إذا اطمأن قلبه إلى صحة الفتوى والوثوق بها لزمته شرعا.
هل قرار لجنة المصالحات - فى هذا الموضوع - يعتبر مشارطة ، ومن التحكيم الإسلامى أم لا. إن التصالح فى أمر الدية مشروع بنص القرآن الكريم ( الآية 92 من سورة النساء ) بل إن هذا النص فوض لأهل القتيل النزول عن هذه الدية، ومن يملك النزول عن الكل، يملك التصالح فى شأنها. وإذا تم الصلح بين الجانى وولى القتيل فى نطاق ما تقضى به الشريعة، كان صلحا ملزما شرعا.
أما قرار لجنة المصالحات، فليس له فى ذاته قوة الإلزام، إلا إذا ارتضاه طرفا الصلح والتزما به وبشرط ألا يكون صلحا على محرم شرعا. للحديث الشريف الذى رواه أبو داود ( نيل الاوطار للشوكانى ج - 5 ص 254 ) وابن ماجه والترمذى عن عمرو بن عوف أن النبى صلى الله عليه وسلم قال (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما. وزاد الترمذى المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) قال الترمذى هذا حديث حسن صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم.