منتدى حكماء رحماء الطبى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين

    avatar
    فريق العمل


    عدد المساهمات : 234
    تاريخ التسجيل : 31/12/2013

    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين Empty من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين

    مُساهمة من طرف فريق العمل الإثنين 28 سبتمبر 2015 - 7:13

    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين Batota10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    رحلات إبن بطوطة
    الجزء الأول
    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين
    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين 1410
    ● [ ذكر الإنصراف عن القسطنطينية ] ●

    ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه، طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم، فأذنت لهم، وأعطتهم عطاء جزيلاً، وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميراً يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس، وبحثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات، وهو أجود أنواعه، وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف، وفرسين، وذلك من عطاء أبيها، وأوصت بي ساروجة وودعتها وانصرفت. وكانت مدة مقامي عندهم شهراً وستة أيام. وسافرنا صحبة ساروجة، فكان يكرمني، حتى وصلنا إلى آخر بلادهم، حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا، فركبنا العربات ودخلنا البرية، ووصل ساروجة معنا إلى مدينة بابا سلطوق، وأقام بها ثلاثاً في الضيافة، وانصرف إلى بلاده، وذلك في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن، وفي رجلي خف من صوف، وفوقه خف مبطن بثوب كتان، وفوقه خف من البرغالي وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها. وإذا غسلت وجهي بالماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يركبني أصحابي.
    ثم وصلت إلى مدينة الحاج ترخان حيث فارقنا السلطان أوزبك، فوجدناه قد رحل واستقر بحضرة ملكه؛ فسافرنا على نهر أتل وما يليه من المياه ثلاثاً وهي جامدة. وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعاً من الجليد وجعلناه في القدرة حتى يصير ماء، فنشرب منه ونطبخ به. ووصلنا إلى مدينة السرا " وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحة والف "، وتعرف بسرا بركة، وهي حضرة السلطان أوزبك. ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا، وعن ملك الروم ومدينته، فأعلمناه. وأمر بإجراء النفقة علينا، وأنزلنا.
    ومدينة السرا، من أحسن المدن، متناهية الكبر، في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق، متسعة الشوارع.
    وركبنا يوماً مع بعض كبرائها، وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها، وكان منزلنا في طرف منها، فركبنا منه غدوة. فما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال، فصلينا الظهر، وأكلنا طعامنا. فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ومشينا يوماً في عرضها ذاهبين راجعين في نصف يوم، وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين. وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية، وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً. وفيها طوائف من الناس. منهم المغل، وهم أهل البلاد والسلاطين، وبعضهم مسلمون، ومنهم الآص، وهم مسلمون، ومنهم القفجق والجركس والروس والروم، وهم نصارى؛ وكل طائفة تسكن محلة على حدة فيها، أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقين ومصر والشام وغيرها، ساكنون بمحلة عليها سور، احتياطاً على أموال التجارة.
    وقصر السلطان بها يسمى ألطون طاش، وألطون " بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل وواو مد ونون " ومعناه الذهب وطاش " بفتح الطاء المهمل وشين معجم " ومعناه حجر وقاضي هذه الحضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة.
    وبها من مدرسي الشافعية الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي، أحد الفضلاء، وبها من المالكية شمس الدين المصري، وهو ممن يطعن في ديانته. وبها زاوية الصالح الحاج نظام الدين، أضافنا بها وأكرمنا، وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي، رأيته بها، وهو من فضلاء المشايخ، حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطوة على أهل الدنيا، يأتي إليه السلطان أوزبك زائراً في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه، ويقعد السلطان بين يديه ويكلمه ألطف كلام ويتواضع له، والشيخ بضد ذلك. وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان، فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم، وأكرمني جزاه الله خيراً، وبعث إلي بغلام تركي، وشاهدت له بركة.
    كرامة له
    كنت أردت السفر من السرا إلى خوارزم، فنهاني عن ذلك، وقال لي: أقم أياماً وحينئذ نسافر فنازعتني النفس، ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر. فيهم تجار أعرفهم، فاتفقت معهم على السفر في صحبتهم، وذكرت له ذلك فقال لي: لا بد لك من الإقامة. فعزمت على السفر فأبق لي الغلام، وأقمت بسببه. وهذه الكرامات الظاهرة.
    ولما كان بعد ثلاث وجد بعض أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاج ترخان، فجاء به إلي فحينئذ سافرت إلى خوارزم وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يوماً، لا تسافر فيها الخيل لقلة الكلأ، وإنما تجر العربات بها الجمال، فسرنا من السرا عشرة أيام فوصلنا إلى مدينة سراجوق وجوق " بضم الجيم المعقود وواو وقاف "، ومعنى جوق صغير. فكأنهم قالوا: سرا الصغيرة، وهي على شاطئ نهر كبير زخار، يقال له: ألوصو " بضم الهمز واللام وواو وضم الصاد المهمل وواو "، ومعناه الماء الكبير، وعليه جسر من قوارب كجسر بغداد. وإلى هذه المدينة انتهى سفرنا بالخيل التي تجر العربات، وبعناها بحساب أربعة دنانير دراهم للفرس وأقل من ذلك لأجل ضعفها ورخصها بهذه المدينة، واكترينا الجمال لجر العربات. وبهذه المدينة زاوية لرجل صالح معمر من الترك يقال له أطا " بفتح الهمز والطاء المهمل "، ومعناه الوالد، أضافنا بها ودعا لنا. وأضافنا أيضاً قاضيها، ولا أعرف اسمه. ثم سرنا منها ثلاثين يوماً سيراً جاداً لا ننزل إلا ساعتين: إحداهما عند الضحى، والآخرى عند المغرب. وتكون الإقامة قدر ما يطبخون الدوقي ويشربونه، وهو يطبخ من غلية واحدة، ويكون معهم الخليع من اللحم، يجعلونه عليه، ويصبون عليه اللبن. وكل إنسان إنما ينام أو يأكل في عربته حال السير. وكان لي في عربتي ثلاث من الجواري. ومن عادة المسافرين في هذه البرية الإسراع، لقلة أعشابها. والجمال التي تقطعها يهلك معظمها، وما يبقى منها لا ينتفع به إلا في سنة أخرى، بعد أن يسمن. والماء في هذه البرية في مناهل معلومة بعد اليومين والثلاثة، وهو ماء المطر والحسيان. ثم لما سلكنا هذه البرية وقطعناها كما ذكرناه، وصلنا إلى خوارزم، وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة. وهي ترتج بسكانها لكثرتهم، وتموج بهم موج البحر. ولقد ركبت بها يوماً ودخلت السوق، فلما توسطته وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشهور " بفتح الشين المعجم وإسكان الواو "، لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الازدحام، وأردت الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيراً، وبعد جهد شديد رجعت. وذكر لي بعض الناس ان تلك السوق يخف زحامها يوم الجمعة. وتوجهت إلى المسجد الجامع والمدرسة. وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك. وله فيها أمير كبير يدعى قطلودمور، وهو الذي عمر هذه المدرسة وما معها من المواضع المضافة. وأما الجامع فعمرته زوجته الخاتون الصالحة ترابك " بضم التاء المعلوة وفتح والف " وبك " بفتح الباء الموحدة والكاف "، وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يعرف بالصهيوني، نسبة إلى صهيون من بلاد الشام. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقاً من أهل خوارزم، ولا أكرم نفوساً، ولا أحب في الغرباء. ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أرها لغيرهم. وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده معلماً لهم بحضور الصلاة، فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضربه الإمام بمحضر الجماعة. وفي كل جامع درة معلقة برسم ذلك، ويغرم خمسة دنانير تنفق في مصالح الجامع، أو تطعم للفقراء والمساكين. ويذكرون أن هذه العادة عندهم مستمرة على قديم الزمان. وبخارج خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة التي من الجنة وهو يجمد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل. ويسلك الناس عليه، وتبقى مدة جموده خمسة أشهر. وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا. ويسافر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى ترمذ، ويجلبون منها القمح والشعير، وهي مسيرة عشر للمنحدر. وبخارج خوارزم زاوية مبنية على تربة الشيخ نجم الدين الكبري، وكان من كبار الصالحين. وفيها الطعام للوارد والصادر، وشيخهم المدرس سيف الدين بن عضبة، من كبار أهل خوارزم، وبها أيضاً زاوية شيخها الصالح المجاور جلاب الدين السمرقندي، من كبار الصالحين، أضافنا بها. وبخارجها قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وعليه قبة. وزمخشر قرية على مسافة أربعة أميال من خوارزم.
    ولما أتيت بهذه المدينة نزلت بخارجها، وتوجه بعض أصحابي إلى القاضي الصدر أبي حفص عمر البكري، فبعث إلي نائبه نور الإسلام فسلم علي، ثم عاد إليه. ثم أتى القاضي في جماعة من أصحابه فسلم علي، وهو فتي السن، كبير الفعال، وله نائبان: أحدهما نور الإسلام المذكور. والآخر نور الدين الكرماني من كبار الفقهاء، وهو الشديد في أحكامه، القوي في ذات الله تعالى.
    ولما حصل الاجتماع بالقاضي قال لي: إن هذه المدينة كثيرة الزحام، ودخولكم نهاراً لا يتأتى، وسيأتي إليكم نور الإسلام لتدخلوا معه في آخر الليل، ففعلنا ذلك. ونزلنا بمدرسة جديدة ليس بها أحد. ولما كان بعد صلاة الصبح أتى إلينا القاضي المذكور، ومعه من كبار المدينة جماعة منهم، مولانا همام الدين، ومولانا زين الدين المقدسي، ومولانا رضي الدين يحيى، ومولانا فضل الله الرضوي، ومولانا جلاب الدين العمادي، ومولانا شمس الدين السنجري إمام أميرها. وهم أهل مكارم وفضائل، والغالب على مذهبهم الاعتزال، لكنهم لا يظهرونه، لأن السلطان أوزبك وأميره على هذه المدينة قطلودمور من أهل السنة. وكنت أيام إقامتي بها أصلي الجمعة مع القاضي أبي حفص عمر المذكور بمسجده، فإذا فرغت الصلاة ذهبت معه إلى داره، وهي قريبة من المسجد، فأدخل معه إلى مجلسه، وهو من أبدع المجالس فيه الفرش الحافلة، وحيطانه مكسوة بالملف، وفيه طيقان كثيرة، وفي كل طاق منها أواني الفضة المموهة بالذهب، والأواني العراقية. وكذلك عادة أهل تلك البلاد أن يصنعوا في بيوتهم، ثم يأتي بالطعام الكثير، وهو من أهل الرفاهية والمال الكثير والرباع. وهو سلف الأمير قطلودمور، متزوج بأخت امرأته، واسمها جيجا أغا. وبهذه المدينة جماعة من الوعاظ والمذكرين، أكبرهم مولانا زين الدين المقدسي، والخطيب مولانا حسام الدين المشاطي الخطيب المصقع أحد الخطباء الاربعة الذين لم اسمع في الدنيا أحسن منهم.
    ● [ أمير خوارزم ] ●

    هو الأمير الكبير قطلودمور، وقطلو " بضم القاف وسكون الطاء المهمل وضم الام "، ودمور " بضم الدال المهمل والميم وواو مد وراء "، ومعنى اسمه الحديد المبارك. لأن قطلو هو المبارك ودمور هو الحديد. وهذا الأمير ابن خالة السلطان المعظم محمد أوزبك، وأكبر أمرائه، وهو واليه على خراسان. وولده هارون بك متزوج بابنة السلطان المذكور التي أمها الملكة طيطغلي المتقدم ذكرها، وامرأته الخاتون ترابك صاحبة المكارم الشهيرة.
    ولما أتاني القاضي مسلماً علي كما ذكرته، قال لي: إن الأمير قد علم بقدومك، وبه بقية مرض يمنعه من الإتيان إليك. فركبت مع القاضي إلى زيارته وأتينا داره، فدخلنا مشوراً كبيراً أكثر بيوته خشب، ثم دخلنا مشوراً صغيراً فيه قبة خشب مزخرفة، قد كسيت حيطانها بالملف الملون، وسقفها بالحرير المذهب، والأمير على فرش له من الحرير، وقد غطى رجليه لما بهما من النقرس، وهي علة فاشية في الترك، فسلمت عليه، وأجلسني إلى جانبه، وقعد القاضي والفقهاء. وسألني عن سلطانه الملك محمد أوزبك، وعن الخاتون بيلون، وعن أبيها، وعن مدينة القسطنطينية، فأعلمته بذلك كله. ثم أتي بالموائد فيها الطعام من الدجاج المشوي والكراكي وأفراخ الحمام وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا والكعك والحلوى، ثم أتي بموائد أخرى فيها الفواكه من الرمان المحبب في أواني الذهب والفضة، ومعه ملاعق الذهب. وبعضه في أواني الزجاج العراقي ومعه ملاعق الخشب، ومن العنب والبطيخ العجيب. ومن عوائد هذا الأمير أن يأتي القاضي في كل يوم إلى مشوره، فيجلس بمجلس معد له ومعه الفقهاء وكتابه، ويجلس في مقابلة أحد الأمراء الكبار، ومعه ثمانية من كبراء أمراء الترك وشيوخهم، يسمون الأرغجية " بارغوجي "، ويتحاكم الناس إليهم. فما كان من القضايا الشرعية حكم فيها القاضي، وما كان من سواها حكم فيها أولئك الأمراء. وأحكامهم مضبوطة عادلة. لأنهم لا يتهمون بميل ولا يقبلون رشوة، ولما عدنا إلى المدرسة بعد الجلوس مع الأمير بعث إلينا الأرز وزالدقيق والسمن والأبزار وأحمال الحطب. وتلك البلاد كلها لا يعرف بها الفحم، وكذلك الهند وخراسان وبلاد العجم. وأما الصين فيوقدون فيها حجارة تشتعل فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رماداً عجنوه بالماء وجففوه بالشمس وطبخوا بها ثانية كذلك حتى يتلاشى.
    ● [ حكاية ومكرمة لهذا القاضي والأمير ] ●

    صليت في بعض أيام الجمع على عادتي بمسجد أبي حفص، فقال لي: إن الامير أمر لك بخمسمائة درهم، وأمر أن يصنع لك دعوة ينفق فيها خمسمائة درهم أخرى. يحضرها المشايخ والفقهاء والوجوه. فلما أمر بذلك قلت له: أيها الأمير تصنع دعوة يأكل من حضرها لقمة أو لقمتين، لو جعلت له جميع المال كان أحسن له للنفع. فقال: أفعل ذلك. وقد أمر لك بالألف كاملة، ثم بعثها الأمير صحبة إمامه شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه، وصرفها من الذهب المغربي ثلاثمائة دينار. زوكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرساً أدهم اللون بخمسة وثلاثين ديناراً دراهم، وركبته في ذهابي الى المسجد، فما اعطيت ثمنه إلا من تلك الألف. وتكاثرت عندي الخيل بعد ذلك، حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به، ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند. وكانت عندي خيل كثيرة،، لكني كنت أفضل هذا الفرس وأوثره وأربطه امام الخيل. وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين. ولما هلك تغيرت حالي، وبعثت إلي الخاتون جيجا أغا امرأة القاضي مائة دينار دراهم. وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها، وفيها الطعام للوارد والصادر، وبعثت إلي بفروة سمور وفرس جيد، وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيراً.
    حكاية أخرى
    ولما انفصلت من الدعوة التي صنعت لي هذه الخاتون وخرجت عن الزاوية، تعرضت لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة، وعلى رأسها مقنعة، ومعها نسوة لا أذكر عددهن. فسلمت علي، فرددت عليها السلام، ولم أقف معها ولا التفت إليها. فلما خرجت أدركني بعض الناس وقال لي: إن المرأة التي سلمت عليك هي الخاتون. فخجلت عند ذلك، وأردت الرجوع إليها فوجدتها قد انصرفت. فأبلغت إليها السلام مع بعض خدامها واعتذرت عما كان مني لعدم معرفتي بها.
    ● [ ذكر بطيخ خوارزم ] ●

    وبطيخ خوارزم لا نظير له في بلاد الدنيا شرقاً ولا غرباً، إلا ما كان من بطيخ بخارى، ويليه بطيخ أصفهان، وقشره أخضر، وباطنه أحمر. وهو صادق الحلاوة، وفيه صلابة. ومن العجائب أنه يقدد وييبس في الشمس. ويجعل في القواصر، كما يصنع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي. ويحمل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين. وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه. وكنت أيام إقامتي بدهلي من بلاد الهند متى قدم المسافرون بعثت من يشتري لي منهم قديد البطيخ. وكان ملك الهند إذا أتي اليه بشيء منه بعث إلي به لما يعلم من محبتي فيه. ومن عادته أن يطرف الغرباء بفواكه بلادهم،: ويتفقدهم بذلك.
    حكاية ثالثة
    كان قد صحبني من مدينة السرا إلى خوارزم شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور، وكان من التجار، فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها، فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير. ويقول: اشتريته بثمانية، ويحاسبني بالثمانية، ويدفع الدينارين من ماله، وأنا لا علم لي بفعله، إلى أن تعرفت ذلك على ألسنة الناس، وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير. فلما وصل إلي إحسان أمير خوارزم رددت اليه ما أسلفنيه، وأردت أن أحسن بعده إليه مكأفاة لأفعاله الحسنة فأبى ذلك، وحلف أن لا أفعل. وأردت أن أحسن إلى فتى كان له اسمه كافور، فحلف أن لا أفعل، وكان أكرم من لقيته من العراقيين. وعزم على السفر معي إلى بلاد الهند. ثم إن جماعة من أهل بلده وصلوا إلى خوارزم برسم السفر إلى الصين، فأخذ في السفر معهم. فقلت له في ذلك. فقال: هؤلاء أهل بلدي، يعودون إلى أهلي وأقاربي، ويذكرون أني سافرت إلى الهند برسم الكدية، فيكون سبة علي، لا أفعل ذلك، وسافر معهم إلى الصين فبلغني بعد، وأنا بأرض الهند أنه لما بلغ إلى مدينة المالق، وهي آخر البلاد التي من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين، أقام بها، وبعث فتى له بما كان عنده من المتاع، فأبطأ الفتى عليه. وفي أثناء ذلك وصل من بلده بعض التجار، ونزل معه في فندق واحد. فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئاً بخلال ما يصل فتاه، فلم يفعل، ثم أكد قبح ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق، فبلغ ذلك الشريف، فاغتم منه، ودخل إلى بيته، فذبح نفسه، فأدرك وبه رمق، واتهموا غلاماً كان له بقتله. فقال: لا تظلموه، فإني أنا فعلت ذلك. ومات من يومه غفر الله له.
    وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أخذ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم قراضاً ، فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام، فطلبه بالمال، وكان قد باع ما اشترى به من المتاع بالدين، فاستحيا من صاحب المال، ودخل إلى بيته، وربط عمامته بسقف البيت، وأراد أن يخنق نفسه. وكان في أجله تأخير، فتذكر صاحباً له من الصيارفة فقصده، وذكر له القضية، فسلفه مالاً دفعه للتاجر. ولما أردت السفر من خوارزم اكتريت جمالاً واشتريت محارة، وكان عديلي بها عفيف الدين التوزري، وركب الخدام بعض الخيل، وجللنا باقيها لأجل البرد، ودخلنا البرية التي بين خوارزم وبخارى، وهي مسيرة ثمانية عشر يوماً في رمال لا عمارة بها إلا بلدة واحدة. فودعت الأمير قطلودمور، وخلع علي خلعة، وخلع على القاضي أخرى، وخرج مع الفقهاء لوداعي. وسرنا أربعة أيام ووصلنا إلى مدينة ألكات، وليس بهذه الطريق عمارة سواها، " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الكاف وآخره تاء مثناة "، وهي صغيرة حسنة. نزلنا خارجها على بركة ماء قد جمدت من البرد. فكان الصبيان يلعبون فوقها، ويزلقون عليها. وسمع بقدومي قاضي ألكات، ويسمى صدر الشريعة، وكنت قد لقيته بدار قاضي خوارزم. فجاء إلي مسلماً مع الطلبة وشيخ المدينة الصالح العابد محمود الخيوفي. ثم عرض على القاضي الوصول إلى أمير تلك المدينة. فقال له الشيخ محمود: القادم ينبغي له أن يزار، وإن كانت لنا همة نذهب إلى أمير المدينة ونأتي به، ففعلوا ذلك. وأتى الأمير بعد ساعة في أصحابه، وخدامه فسلمنا عليه. وكان غرضنا تعجيل السفر، فطلب منا الإقامة وصنع دعوة، جمع لها الفقهاء ووجوه العساكر وسواهم، ووقف الشعراء يمدحونه. وأعطاني كسوة وفرساً جيداً، وسرنا على الطريق المعروفة بسيباية. وفي تلك الصحراء مسيرة ست دون ماء.
    ووصلنا بعد ذلك إلى بلدة وبكنة " وضبط اسمها بفتح الواو وإسكان الباء الموحدة وكاف ونون "، وهي على مسيرة يوم واحد من بخارى بلدة حسنة ذات أنهار وبساتين. وهم يدخرون العنب من سنة إلى سنة، وعندهم فاكهة يسمونها العلو " الآلو " بالعين المهملة وتشديد اللام فييبسونه، ويجلبه الناس إلى الهند والصين، ويجعل عليه الماء، ويشرب ماؤه. وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة، ولحميته كثيرة. ولم أر مثله بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام.
    ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يوماً كاملاً، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد، وخربها اللعين تنكيز التتري، جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل، وأهلها أذلاء، وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها، لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئاً من العلم ولا من له عناية به.
    ● [ ذكر أولية التتر وتخريبهم بخارى وسواها ] ●

    كان تنكيز خان حداداً بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم. ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره، فغلب على ملك الخطا، ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه، وتغلب على بلاد الختن وكاشغر والمالق، وكان جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وما وراء النهر، له قوة عظيمة وشوكة، فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجاراً بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار " بضم الهمزة "، وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها، معلماً بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ موالهم ويمثل بهم ويقطع أعضائهم ويردهم إلى بلادهم، لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأياً فائلاً وتدبيراً سيئاً مشئوماً. فلما فعل ذلك، تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره، فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل، فلم يجد من يطعمه. ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زاداً، ولا أطعمه شيئاً. فلما أمسى أخرج مطراناً يابسة عنده، فبلها بالماء، وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار، فكانت طعامه. فعاد إلى أطرار، فأخبر عاملها بأمرهم، وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم. فاستمد مليكه جلال الدين، فأمده بستين ألفاً زيادة على من كان عنده من العساكر. فلما وقع القتال هزمهم تنكيز، ودخل مدينة أطرار بالسيف، فقتل الرجال وسبى الذراري، وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته، فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الاسلام مثلها. وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر، وخرب بخارى وسمرقند وترمذ، وعبر النهر، وهو نهر جيحون، إلى مدينة بلخ فتملكها، ثم إلى الياميان " الباميان " فتملكها، وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم. فثار عليه المسلمون في بلخ، وفي ما وراء النهر. فكر عليهم، ودخل بلخ بالسيف، وتركها خاوية على عروشها.
    ثم فعل مثل ذلك في ترمذ، فخربت، ولم تعمر بعد، لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ. وقتل أهل الياميان " الباميان " وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند، ثم عاد بعد ذلك إلى العراق. وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الاسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف، وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله.
    قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه.
    قال: ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي، وكان من كبار الأولياء. وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة، لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، وشيخها من ذريته، وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي. وأضافني هذا الشيخ بداره، وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان، ووعظ الواعظ، وغنوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة. ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدرالشريعة، وكان قد قدم من هراة، وهو من الصلحاء الفضلاء. وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح، شيخ المسلمين رضي الله عنه، وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري، وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وأيضاً على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكنت قيدت من ذلك كثيراً، وضاع مني في جملة ما ضاع لي، لما سلبني كفار الهند في البحر.
    ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين، وسنذكره. فمررنا على نخشب، البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشبي. وهي صغيرة، تحف بها البساتين والمياه. فنزلنا بخارجها، بدار لأميرها، وعندي جارية قد قاربت الولادة، وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها. فاتفق أنها كانت في المحمل، فوضع المحمل على الجمل، وسافر أصحابنا من الليل، وهي معهم والزاد وغيره من أسبابي. وأقمت أنا حتى أرتحل نهاراً مع بعض من معي. فسلكوا طريقاً، وسلكت طريقاً سواها. فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور، وقد جعنا، فنزلنا على بعد من السوق، واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعتنا. وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة. ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب، فوجدوهم عشياً، وجاءوا بهم. وكان السلطان غائباً عن المحلة في الصيد، فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا، فأنزلني بقرب مسجده، وأعطاني خرقة " خركاه " وهي شبه الخباء، وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم، فجعلت الجارية في تلك الخرقة، فولدت تلك الليلة مولوداً، وأخبروني أنه ولد ذكر. ولم يكن كذلك، فلما كان بعد العقيقة، أخبرني بعض الأصحاب أن المولد بنت. فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبروني بذلك. وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد، فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت. وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين، وسيذكر ذلك. واجتمعت بهذه المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي " بالياء آخر الحروف والغين المعجمة "، ومعناه بالتركية الثائر. وهو من أهل أطرار، وبالشيخ صهر السلطان.
    ● [ ذكر سلطان ما وراء النهر ] ●

    وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين " وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الراء وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون "، وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم، وبلاده متوسطه بين أربعة من ملوك الدنيا الكبار، وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق والملك أوزبك. وكلهم يهابونه، ويعظمونه ويكرمونه. وولي الملك بعد أخيه الجكطي " وضبط اسمه بفتح الجيم المعقودة له الكاف والطاء المهمل وسكون الياء ". وكان الجكطي هذا كافراً، وولي بعد أخيه الأكبر كبك، وكان كبك هذا كافر أيضاً، لكنه كان عادل الحكم منصفاً للمظلومين، يكرم المسلمين ويعظمهم.
    حكاية
    يذكر أن هذا الملك كبك كان تكلم يوماً مع الفقيه الواعظ المذكر بدر الدين الميداني فقال له: أنت تقول: إن الله ذكر كل شيء في كتابه العزيز. قال: نعم. فقال: أين اسمي فيه ، فقال هو في قوله تعالى ( في أي صورةٍ ما شاء ركبك ) فأعجبه ذلك. وقال: يخشي ، ومعناه بالتركية جيد. فأكرمه إكراماً كثيراً، وزاد في تعظيم المسلمين.
    ومن أحكام كبك ما ذكر أن امرأة شكت له بأحد الأمراء، وذكرت أنها فقيرة ذات أولاد وكان لها لبن تقوتهم بثمنه، فاغتصبه ذلك الأمير وشربه. فقال لها: أنا أوسطه. فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله، وإلا وسطتك بعده. فقالت المرأة: قد حللته ولا أطلبه بشيء. فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه.
    ● [ ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين ] ●

    ولما أقمت بالمحلة، وهم يسمونها الأردوا أياماً، ذهبت يوماً لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي، فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد. فلما قام عن الصلاة تقدمت للسلام عليه، وقام الشيخ حسن، والفقيه حسام الدين الياغي، وأعلمه بحالي وقدومي منذ أيام. فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشي ميسن قطلو يوسن، ومعنى خش ميسن في عافية أنت، ومعنى يخشي ميسن جيد أنت، ومعنى قطلو يوسن مبارك قدومك. وكان عليه في ذلك الحين قباء قدسي أخضر، وعلى رأسه شاشية مثله. ثم انصرف إلى مجلسه راجلاً، والناس يتعرضون له بالشكايات، فيقف لكل مشتكٍ منهم صغيراً أو كبيراً ذكراً او انثى. ثم بحث عني فوصلت إليه وهو في خرقة، والناس خارجها ميمنة وميسرة، والأمراء منهم على الكراسي، وأصحابهم وقوف على رؤوسهم، وبين أيديهم، وسائر الجند قد جلسوا صفوفاً، وأمام كل واحد منهم سلاحه. وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر، ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل. وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها. ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة، وجدته جالساً على كرسي شبه المنبر، مكسوٍ بالحرير المزركش بالذهب، وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب، والتاج المرصع بالجوهر واليواقيت معلق فوق رأس السلطان، بينه وبين رأسه قدر ذراع. والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره، وأولاد الملوك بأيديهم المذاب بين يديه، وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة. وهم يسمون آل طمغى وآل " بفتح الهمزة " معناه الأحمر ، وطمغى " بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح " ومعناه العلامة. وقام إلي أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي، فسلمت عليه وسألني، وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه، عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله، وعن مدينة الخليل عليه السلام، وعن دمشق ومصر والملك الناصر، وعن العراقين وملكهما، وبلاد الأعاجم. ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا. وكنا نحضر معه الصلوات، وذلك أيام البرد الشديد المهلك. فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة، ويقعد للذكر بالتركية بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده. وكذلك يفعلون في صلاة العصر. وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر، والتمر عزيز عندهم، وهم يتبركون به، يعطي منها بيده لكل من في المسجد.
    حكاية
    ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يوماً، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي: إن مولانا يريد أن تنتظره بالصلاة قليلاً ريثما يتوضأ. فقام الإمام المذكور وقال: نماز، ومعناها الصلاة، براي حد او براي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة. وقد جاء السلطان، وقد صلي منها ركعتين، فصلى الركعتين الأخريين حيث انتهى به القيام، وذلك في الموضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد، وقضى ما فاته، وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب، والشيخ الإمام إلى جانبه، وأنا إلى جانب الإمام. فقال لي: إذا مشيت إلى بلادك، فحدث أن فقيراً من فقراء الاعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة، ويأمر السلطان بالمعروف، وينهاه عن المنكر وعن الظلم، ويغلظ عليه القول، والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئاً، ولم يأكل قط من طعامه، ولا لبس من ثيابه. وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين. وكنت كثيراً ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشواً به، وقد بلي وتمزق، وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطاً، ولا عمامة عليه. فقلت له في بعض الأيام: يا سيدي، ما هذا القباء الذي أنت لابسه ، إنه ليس بجيد. فقال لي: يا ولدي ليس هذا القباء لي، وإنما هو لابنتي، فرغبت منه أن ياخذ بعض ثيابي، فقال لي: عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئاً، ولو كنت اقبل من أحد لقبلت منك.
    ● [ متابعة الحديث ] ●

    ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوماً، أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم، وفروة سمور تساوي مائة دينار، طلبتها منه لأجل البرد. ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقبلها بيده تواضعاً منه وفضلاً وحسن خلق، وأعطاني فرسين وجملين. ولما اردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده. وكان اليوم شديد البرد جداً. فو الله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد، ففهم ذلك وضحك، وأعطاني يده وانصرفت. وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين، وهنالك معظم عساكره، وبايعوا ابن عم له اسمه بوزن أغلي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أغلي " بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام " وبوزن " بضم الباء الموحدة وضم الزاي "، وكان مسلماً إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة. وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وقد تقدم ذكره. وكان تنكيز ألف كتاباً في أحكامه يسمى عندهم اليساق " بفتح الياء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف "، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب. ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوماً في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد، ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئاً من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا، وقد وجب خلعك. ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك، ويقعدون غيره من أبناء تنكيز، وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنباً في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم، ومحا رسمه، فأنكروه عليه أشد الإنكار، وأنكروا عليه أيضاً كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده، ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في كل سنة، فيختبر أحوالها وحال الجند بها، لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك هي مدينة المالق
    فلما بايعوا بوزن أتى في عسكر عظيم، وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه، ولم يأمنهم، فركب في خمسة عشر فارساً، يريد بلاد غزنة، وهي من عمالته، وواليها كبير أمرائه، وصاحب سره برنطيه؛ وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين، قد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية، فيها الطعام للوارد والصادر. وتحت يده العساكر العظيمة، ولم أر قط فيمن رأيته من الآدميين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقه منه. فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ، رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك. وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور، وبقي ابنه ينقي ببلخ. فلما أعلمه التركي بخبره قال: ما فر إلا لأمر حدث عليه. فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه. ووصل بوزن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس، وجاءه ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف، بخارج سمرقند، قتل هنالك ودفن بها، وخدم تربته الشيخ شمس الدين كردن بريدا. وقيل: إنه لم يقتل، كما سنذكره. وكردن " بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون " ومعناه العنق، وبريدا " بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل " معناه المقطوع. ويسمى بذلك لضربة كانت في عنقه، وقد رأيته بأرض الهند، ويقع ذكره فيما بعد. ولما ملك بوزن هرب ابن السلطان طرمشيرين، وهو بشاي أغل " أغلي "، وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند، فعظمهم وأنزلهم منزلة عليه بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة، وكان يخاطبه بالأخ. ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند، وادعى أنه هو طرمشيرين، واختلف الناس فيه. فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند، ووالي بلاد السند، ويسمى ملك عرض. وهو الذي تعرض بين يديه عساكر الهند، وإليه أمرها، ومقره بملتان قاعدة السند. فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به، فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقاً. فأمر له بالسراجة، وهي أفراج. فضرب خارج المدينة، ورتب له ما يرتب لمثله، وخرج لاستقباله، وترجل له وسلم عليه، وأتى في خدمته إلى السراجة، فدخلها راكباً كعادة الملوك. ولم يشك أحد أنه هو. وبعث إلى ملك الهند يخبره، فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات. وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم، وهو كبير الحكماء بالهند. فقال للملك: أنا أتوجه إليه، وأعرف حقيقة أمره، فإني كنت عالجت له دملاً تحت ركبته وبقي أثره، وبه أعرفه.
    فأتى إليه ذلك الحكيم، واستقبله مع الأمراء، ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده، وأخذ يغمز رجليه، وكشف عن الأثر فشتمه. وقال له: تريد أن تنظر إلى الدمل الذي عالجته ، ها هو ذا وأراه أثره. فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك. ثم إن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند، وقالا له: يا خوند عالم، هذا السلطان طرمشيرين قد وصل. وصح أنه هو. وها هنا من قومه نحو أربعين ألفاً وولده وصهره. أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل ? فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم. وأمر أن يؤتى بطرمشيرين معجلاً. فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين، ولم يعظم. وقال له السلطان: بامادر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول: إنك طرمشيرين ، وطرمشيرين قد قتل. وهذا خادم تربته عندنا. والله لولا المعرة لقتلتك. ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار. واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرين، وقولوا لهم: إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم. فدخل عليهم فعرفوه. وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد. وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه.
    ونفي عن بلاد الهند والسند. فسلك طريق كبج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه، ووصل إلى شيراز، فأكرمه سلطانها أبو إسحاق، وأجرى له كفايته. ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز. ذكر لي أنه باق بها. وأردت لقاءه، ولم أفعل، لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق. فخفت مما يتوقع بسبب ذلك، ثم ندمت على عدم لقائه.

    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين Fasel10

    رحلات إبن بطوطة
    الجزء الأول
    منتدى توتة وحدوتة - البوابة
    من مغادرة القسطنطينية الى السلطان طرمشيرين E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 2:00