من طرف حكماء الإثنين 21 ديسمبر 2015 - 9:45
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من السفر الى البصرة الى الوصول الى كليل
● [ السفر الى البصرة ومشاهد الصحابة بها ] ●
سافر الركب إلى بغداد، وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة، وهم أهل تلك البلاد، ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد، ولا سبيل للسفر في تلك الأقطار الا في صحبتهم فاكتريت جملاً على يد أمير تلك القافلة شامر بن دراج الخفاجي وخرجنا من مشهد علي عليه السلام، فنزلنا الخورنق، موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في قضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات ثم رحلنا عنه فنزلنا موضعاً يعرف بقائم الواثق، وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه إلا صومعته، ثم رحلنا عنه آخذين مع جانب الفرات بالموضع المعروف بالعذار، وهو غابة قصب في وسط الماء يسكنها أعراب يعرفون بالمعادي، وهم قطاع الطريق رافضية المذهب، خرجوا على جماعة من الفقراء تأخروا عن رفقتنا، فسلبوهم حتى النعال والكشاكل. وهم يتحصنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممن يريدهم، والسباع بها كثيرة. ورحلنا مع هذا الغدار ثلاث مراحل، ثم وصلنا مدينة واسط.
مدينة واسط : وهي حسنة الأقطار كثيرة البساتين والاشجار، بها أعلام يهدى الخير شاهدهم، وتهدي الاعتبار مشاهدهم، وأهلها من خيار أهل العراق، بل هم خيرهم على الاطلاق. أكثرهم يحفظون القرآن الكريم ويجيدون تجويده بالقراءة الصحيحة، وإليهم يأتي أهل بلاد العراق برسم تعلم ذلك. وكان في القافلة التي وصلنا فيها جماعة من الناس أتوا برسم تجويد القرآن على من بها من الشيوخ، وبها مدرسة عظيمة حافلة وفيها نحو ثلاثمائة خلوة ينزلها الغرباء القادمون لتعلم القرآن. عمرها الشيخ تقي الدين عبد المحسن الواسطي، وهو من كبار أهلها وفقهائها. ويعطي لكل متعلم بها كسوة في السنة، ويجري له نفقته كل يوم، ويقعد هو وإخوانه وأصحابه لتعليم القرآن بالمدرسة، وقد لقيته وأضافني وزودني تمراً ودراهم. ولما نزلنا مدينة واسط أقامت القافلة ثلاثاً بخارجها للتجارة. فسنح لي زيارة قبر الولي أبي العباس أحمد الرفاعي، وهو بقرية تعرف بأم عبيدة، على مسيرة يوم من واسط. فطلبت من الشيخ تقي الدين أن يبعث معي من يوصلني إليها. فبعث معي ثلاثة من عرب بني أسد، وهم قطان تلك الجهة. وأركبني فرساً له، وخرجت ظهراً، فبت تلك الليلة بحوش بني أسد، ووصلنا في ظهر اليوم الثاني إلى الرواق، وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء. وصادفنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد ولي الله أبي العباس الرفاعي الذي قصدنا زيارته. وقد قدم من موضع سكناه من بلاد الروم برسم زيارته قبر جده، وإليه انتهت الشياخة بالرواق. ولما انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف، وأخذ الفقراء في الرقص، ثم صلوا المغرب وقدموا السماط، وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر، فأكل الناس، ثم صلوا العشاء الآخرة، وأخذوا في الذكر، والشيخ أحمد قاعد على سجادة جده المذكور، ثم أخذوا في السماع، وقد أعدوا أحمالاً من الحطب فأججوها ناراً، ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفأها جميعاً وهذا دأبهم. وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه. ثم نزلنا ماء يعرف بالهضيب، ثم رحلنا بوادي الكراع وليس به ماء، ثم رحلنا ونزلنا موضعاً يعرف بالمشيرب. ثم رحلنا منه ونزلنا بالقرب من البصرة، ثم رحلنا فدخلنا ضحوة النهار إلى مدينة البصرة.
● [ مدينة البصرة ] ●
فنزلنا بها رباط مالك بن دينار، وكنت رأيت عند قدومي عليها على نحو ميلين منها بناء عالياً مثل الحصن، فسألت عنه، فقيل لي: هو مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكانت البصرة من اتساع الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها. وبينه الآن وبينها ميلان ، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها نحو ذلك، فهو متوسط بينهما. ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب، وليس في الدنيا أكثر نخلاً منها، فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلاً عراقية بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة. ولقد بعث إلى قاضيها حجة الدين بقوصرة تمر، يحملها الرجل على تكلف، فأردت بيعها، فبيعت بتسعة دراهم، أخذ الحمال منها ثلثها عن أجرة حملها من المنزل إلى السوق. ويصنع بها من التمر عسل يسمى السيلان، وهو طيب كأنه الجلاب.
والبصرة ثلاثة محلات: احداها محلة هذيل، وكبيرها الشيخ الفاضل علاء الدين بن الأثير، من الكرماء الفضلاء، أضافني وبعث إلي بثياب ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام، كبيرها السيد الشريف مجد الدين موسى الحسنى، ذو مكارم وفواضل، أضافني وبعث إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم، كبيرها جمال الدين ابن اللوكي. وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب. وهم يصلون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي ذكرته، ثم يسد فلا يأتونه إلا في الجمعة. وهذا المسجد من أحسن المساجد، وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأثر تغييره الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى: ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ).
● [ ذكر مشاهد الصحابة بالبصرة ] ●
فمنها مشهد طلحة بن عبد الله أحد العشرة رضي الله عنهم، وهو بداخل المدينة وعليه قبة وجامع وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وأهل البصرة يعظمونه تعظيماً شديداً وحق له، فأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة، ، ومنها مشهد الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته رضي الله عنهما، وهو بخارج البصرة، ولا قبة عليه، وله مسجد وزاوية فيها الطعام لأبناء السبيل. ومنها قبر حليمة السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة رضي الله عنها، وإلى جانبها قبر ابنها رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ستة أميال منها بقرب وادي السباع قبر أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل لزيارته إلا في جمع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران، ومنها قبر الحسن ابن أبي الحسن البصري سيد التابعين رضي الله عنه، وقبر عتبة الغلام رضي الله عنه، وقبر مالك ابن دينار رضي الله عنه، وقبر حبيب العجمي رضي الله عنه، وقبر سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه. وعلى كل قبر منها قبة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته. وذلك كله داخل السور القديم. وهي اليوم بينها وبين البلد نحو ثلاثة أميال. وبها سوى ذلك قبور الجم الغفير من الصحابة والتابعين والمستشهدين يوم الجمل. وكان أمير البصرة حتى ورودي عليها يسمى بركن الدين العجمي التوريزي، أضافني فأحسن إلي. والبصرة على ساحل الفرات والدجلة، وبها المد والجزر، كمثل ما هو بوادي سلا، من بلاد المغرب، وسواه، والخليج المالح الخارج من بحر فارس على عشرة أميال منها. فإذا كان المد غلب الماء المالح على العذب، وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على الماء المالح، فيستسقي أهل البصرة ماءً غير جيد لدورهم. ولذلك يقال: إن ماءهم زعاق. قال ابن جزي، وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد، وألوان أهلها مصفرة كاسفة، حتى ضرب بهم المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترجة:
لله أتـرج غـدا بـينـنـا . معبراً عـن حال ذي عـبـره
لما كسى الله ثـياب الضنا . أهل الهوى وساكني البصره
● [ الوصول الى حضرة السلطان أتابك ] ●
ثم ركبت من ساحل البصرة في صنبوق، وهو القارب الصغير إلى الأبلة. وبينها وبين البصرة عشرة أميال، في بساتين متصلة ونخيل مظلة عن اليمين واليسار. والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك والتمر واللبن والفواكه. وفيما بين البصرة والأبلة متعبد سهل بن عبد الله التستري. فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون الماء مما يحاذيه من الوادي، ويدعون عند ذلك تبركاً بهذا الولي رضي الله عنه. والنواتية يحرفون في هذا البلاد، وهم قيام. وكانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت. وهي الآن قرية بها آثار قصور وغيرها، دالة على عظمها: ثم ركبنا في الخليج الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب، فصبحنا عبادان، وهي قرية كبيرة في سبخة، لا عمارة بها، وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات ورباطات للصالحين. وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال. قال ابن جزي: عبادان كانت بلداً فيما تقدم، وهي مجدبة لا زرع بها، وإنما يجلب إليها، والماء أيضاً بها قليل.
وعلى ساحل البحر منها رابطة، تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس عليهما السلام. وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية، ويتعيشون من فتوحات الناس وكل من يمر بهم يتصدق عليهم. وذكر لي أهل هذه الزاوية، أن بعبادان عابداً كبير القدر ولا أنيس له، يأتي هذا البحر مرة في الشهر، فيصطاد فيه ما يقوته شهراً، ثم لايرى إلا بعد تمام شهر. وهو على ذلك منذ أعوام. فلما وصلنا عبادان لم يكن لي شأن إلا طلبه، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات، وانطلقت طالباً له. فجئت مسجداً خرباً فوجدته يصلي فيه، فجلست في جانبه، فأوجز في صلاته. ولما سلم أخذ بيدي وقال لي: بلغك الله مرادك في الدنيا والآخرة، فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا، وهو السياحة في الارض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه، وبقيت الأخرى. والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ المراد من دخول الجنة.
ولما أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل وأعلمتهم بموضعه، فذهبوا إليه فلم يجدوه، ولا وقعوا له على خبر. فعجبوا من شأنه، وعدنا بالعشي إلى الزاوية فبتنا بها، ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة. ومن عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها، ثم يعود إلى زاويته. فلما وصل إلى عبادان وجد الرجل العابد فأعطاه سمكة طرية وقال له: أوصل هذه إلى الضيف الذي قدم اليوم. فقال لنا الفقير عند دخوله علينا: من رأى منكم الشيخ اليوم ، فقلت له: أنا رأيته. فقال: يقول لك هذه ضيافتك. فشكرت الله على ذلك، وطبخ لنا الفقير تلك السمكة، فأكلنا منها أجمعون، وما أكلت قط سمكاً أطيب منها. وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في خدمة ذلك الشيخ، ثم صرفتني النفس اللجوج عن ذلك، ثم ركبنا البحر عند الصبح بقصد بلدة ماجول. ومن عادتي في سفري أن لا أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك. وكنت أحب قصد بغداد العراق، فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور، ثم إلى عراق العجم، ثم إلى عراق العرب. فعملت بمقتضى إشارته،
ووصلنا بعد أربعة ايام إلى بلدة ماجول، على وزن فاعول وجيمها معقودة، وهي صغيرة على ساحل الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر فارس، وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات، ولها سوق عظيمة من أكبر الأسواق. وأقمت بها يوماً واحداً، ثم اكتريت دابة لركوبي من الذين يجلبون الحبوب من رامز إلى ماجول، وسرنا ثلاثاً في صحراء يسكنها الأكراد في بيوت الشعر. ويقال: إن اصلهم من العرب، ثم وصلنا إلى مدينة رامز، وأول حروفها " راء وآخرها زاي وميمها مكسورة "، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار نزلنا بها عند القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلاً من أهل العلم والدين والورع، هندي ألأصل، يدعى بهاء الدين، ويسمى إسماعيل، وهو من أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ توريز وغيرها. وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها ثلاثاً في بسيط فيه قرى يسكنها الاكراد. وفي كل مرحلة منها زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب العنب مخلوط بالدقيق والسمن.
وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء والعبيد يطبخون الطعام. ثم وصلت مدينة تستر، وهي آخر البسيط من بلاد أتابك، وأول الجبال مدينة كبيرة رائقة نضرة، وبها البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة والأسواق الجامعة، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد. ووالي هذه المدينة ينسب إلى سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر المعروف بالأزرق، وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في أيام الحر، ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان. ولها باب واحد للمسافرين يسمى دراوزة دسبول، والدراوزة عندهم الباب. ولها أبواب غير شارعة إلى النهر. وعلى جانبي النهر البساتين والدواليب. والنهر عميق، وعلى باب المسافرين منه جسر على القوارب كجسر بغداد واحلة. والفواكه بتستر كثيرة، والخيرات متيسرة، ولا مثل لأسواقها في الحسن وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة، وينذرون لها النذور. ولها زاوية بها جماعة من الفقراء. وهم يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان نزولي في مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح المتفنن شرف الدين موسى ابن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر الدين سليمان، وهو من ذرية سهل بن عبد الله. وهذا الشيخ ذو مكارم وفضائل، جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار، وله مدرسة وزاوية، وخدامها فتيان، له أربعة أولاد: سنبل وكافور وجوهر وسرور أحدهم موكل بأوقاف الزاوية، والثاني متصرف فيما يحتاج إليه من النفقات في كل يوم، والثالث خديم السماط بين أيدي الواردين ومرتب الطعام لهم، والرابع موكل بالطباخين والسقائين والفراشين. فأقمت عنده ستة عشر يوماً، فلم أر أعجب من ترتيبه، ولا أرغد من طعامه. يقدم بين يدي الرجل ما يكفي الأربعة من الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي والخبز واللحم والحلواء. وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع. ولما شاهدت مجالسه في الواعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله بالحجاز والشام ومصر، ولم ألق فيمن لقيته مثله.
حضرت يوماً عنده ببستان له على شاطئ النهر، وقد اجتمع فقهاء المدينة وكبراؤها، وأتى الفقهاء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيباً وواعظاً، بعد أن قرأ القراء أمامه بالتلاحين المبكية والنغامت المحركة المهيجة، وخطب خطبة بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من كل ناحية. ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع، ويرموا بها إلى الواعظ، فيجيب عنها. فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه. وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا. وكان مجلسه مجلس علم ووعظ وبركة وتبادر التائبون فأخذ عليهم العهد وجز نواصيهم، وكانوا خمسة عشر رجلاً من الطلبة قدموا من البصرة برسم ذلك، وعشرة رجال من عوام تستر.
حكاية
لما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد يحم داخلها في زمان الحر، كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد كثيرة المياه والفواكه. وأصابت الحمى أصحابي أيضاً. فمات منهم شيخ اسمه يحيى الخراساني، وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج إليه الميت، وصلى عليه. وتركت بها صاحباً يدعي بهاء الدين الخشني، فمات بعد سفري. وكنت حين مرضي لا أشتهي الأطعمة التي تصنع لي بمدرسته، فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها طعاماً فاشتهيته، ودفعت له دراهم وطبخ لي ذلك الطعام بالسوق وأتى به إلي فأكلت منه. وبلغ ذلك الشيخ فشق عليه، وأتى إلي وقال لي: كيف تفعل هذا وتطبخ الطعام في السوق ? وهلا أمرت الخدم أن يصنعوا لك ما تشتهيه. ثم أحضر جميعهم وقال لهم: جميع ما يطلب منكم من أنواع الطعام والسكر وغيره فأتوه به، واطبخوا له ما يشاء. وأكد عليهم في ذلك أشد التأكيد، جزاه الله خيراً.
ثم سافرنا من مدينة تستر ثلاثاً في جبال شامخة. وبكل منزل زاوية، كما تقدم ذكر ذلك. ووصلنا إلى مدينة إيذج " وضبط اسمها بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم "، وتسمى أيضاً مال الأمير، وهي حضرة السلطان أتابك. وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ شيوخ العالم الورع نور الدين الكرماني، وله النظر في كل الزوايا، وهي يسمونها المدرسة. والسلطان يعظمه وبقصد زيارته، وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة، يزورونه غدواً وعشياً، فأكرمني وأضافني وأنزلني زاوية تعرف باسم الدينوري، وأقمت بها أياماً، وكان وصولي في أيام القيظ، وكنا نصلي صلاة الليل، ثم ننام بأعلى سطحها، ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة. وكان في صحبتي اثنا عشر فقيراً، منهم إمام وقارئان مجيدان وخادم، ونحن على أحسن ترتيب.
● [ ذكر ملك إيذج وتستر ] ●
وملك إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتابك افراسياب بن السلطان أتابك أحمد وأتابك عندهم سمة لجميع من يلي تلك البلاد من ملك. وهي تسمى بلاد اللور. وولي هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف، وولي يوسف بعد أبيه أحمد، وكان احمد المذكور ملكاً صالحاً، سمعت من الثقات ببلاده أنه عمر أربعمائة وستين زاوية ببلاده، منها بحضرة إيذج أربع وأربعون، وقسم الخراج أثلاثاً: ثلث لنفقة الزوايا والمدارس، وثلث لمراتب العسكر، وثلث لنفقته ونفقة عياله وعبيده وخدامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة، وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من أثاره الصالحة ببلاده أن أكثرها في جبال شامخة، وقد نحتت الطرق في الصخور، وسويت ووسعت، بحيث تصعدها الدواب بأحمالها. وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر في عرض عشرة، وهي شاهقة متصل بعضها ببعض، تشقها الأنهار، وشجرها البلوط، وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من منازلها زاوية يسمونها المدرسة، فإذا وصل المسافر إلى مدرسة منها أتي بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته سواء طلب ذلك أو لم يطلبه فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيعد من نزل بها من الناس، ويعطي كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحماً وحلواء، وجميعم من أوقاف السلطان عليها. وكان السلطان أتابك أحمد زاهداً صالحاً كما ذكرناه، يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر.
حكاية
قدم السلطان أتابك أحمد مرة على ملك العراق أبي سعيد، فقال له بعض خواصه إن أتابك أحمد يدخل عليك وعليه الدرع، وظن ثوب الشعر الذي تحت ثيابه درعاً، فأمره بإختبار ذلك على جهه من الانبساط ليعرف حقيقته، فدخل عليه يوماً فقام إليه الأمير الجوبان عظيم الأمراء العراق، والأمير سويته أمير ديار بكر، والشيخ حسن الذي هو الآن سلطان العراق، وأمسوكوا بثيابه كأنهم يمازحونه، فوجدوا تحت ثيابه ثوب الشعر، ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جواره وقال له: سن أطا بالتركية، ومعناه أنت أبي، وعوضه عن هديته بأضعافها، وكتب له اليرليغ، وهو الظهير، أن لا يطالبه بهدية بعدها هو ولا أولاده وفي تلك السنة توفي وولي ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام، ثم ولي أخوه افراسياب. ولما دخلت مدينة إيذج أردت رؤية افراسياب المذكور فلم يتأت لي ذلك، بسبب أنه لا يخرج إلى يوم الجمعة لإدمانه على الخمر وكان له ابن هو ولي عهده، وليس له سواه فمرض في تلك الأيام، وفي إحدى الليالي أتاني أحد خدامه، وسألني عن حالي فعرفته، وذهب، ثم جاء بعد صلاة المغرب، ومعه طيفوران كبيران: أحدهما بالطعام والآخر بالفاكهة، وخريطة فيها دراهم، ومعهم أهل السماع بآلاتهم، وقال: اعملوا السماع حتى يهزج الفقراء، ويدعون لابن السلطان فقلت له: إن اصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص، ودعونا للسلطان ولولده وقسمت الدراهم على الفقراء. ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ، وقد مات المريض المذكور وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب في جملتهم فأبيت، فعزموا علي، فلم يكن لي بد من المسير، وسرت معهم، فوجدت مشوار دار السلطان ممتلئاً رجالاً وصبياناً من المماليك، وأبناء الملوك والوزراء والأجناد قد لبسوا التلابيس، وجلال الدواب، وجعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن، وبعضهم قد جز ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله وتزحف كل فرقة إلى الأخرى، وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلين خوند كارما، ومعنا مولاي أنا، فرأيت من ذلك أمراً هائلاً ومنظراً فظيعاً لم أعهد مثله.
حكاية
ومن غريب ما اتفق لي يومئذ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء والشرفاء، قد استندوا إلى حيطان المشور، وهو غاص بهم من جميع جهاته، وهم بين باكٍ ومتباكٍ ومطرق، وقد لبسوا فوق ثيابهم ثياباً خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة بطائنها إلى أعلى ووجوهها مما يلي أجسادهم، وعلى رأس كل واحد منهم خرقة أو مئزر أسود، وهكذا يكون فعلهم إلى تمام أربعين يوماً وهي نهاية الحزن عندهم، وبعدها يبعث السلطان لكل من فعل ذلك كسوة كاملة.
فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نظرت يميناً وشمالاً، أرتاد موضعاً لجلوسي فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة من الأرض بمقدار شبر، وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد، عليه ثوب صوف مثل اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي الأسفار، فتقدمت منه، وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه، وعجبوا مني وأنا لا علم لي بشيء من حاله فصعدت السقيفة وسلمت على الرجل، فرد علي السلام، وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام، وهم يسمون ذلك نصف القيام وقعدت في الركن المقابل له، ثم نظرت إلى الناس، وقد رموني بأبصارهم جميعاً فعجبت منهم، ورأيت الفقهاء والمشايخ وألأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة، وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه فلم أفعل، وحينئذ استشعرت أنه السلطان فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور الدين الكرماني الذي ذكرناه قبل، فصعد إلى السقيفة وسلم على الرجل فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه، فحيئذ علمت أنه السلطان.
ثم جيء بالجنازة، وهي بين أشجار الأترج والليمون وقد ملأوا أغصانها بثمارها، وهي بأيدي الرجال فأكان الجنازة تمشي في بستان، والمشاعل في رماح طوال بين يديها، والشمع كذلك، فصلى عليها، وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك، وهو بموضع يقال له: هلا فيجان، على اربعة أميال من المدينة، وهنالك مدرسة عظيمة يشقها نهر، وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام، ويحف بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر، ولم أستطع أن أذهب معهم إلى المدفن لبعد الموضع فعدت إلى المدرسة.
فلما كان بعد ايام بعث إلي السلطان رسوله الذي أتاني بالضيافة اولاً يدعوني إليه، فذهبت معه إلى باب يعرف بباب السر، وصعدنا في درج كثيرة إلى أن انتهينا إلى موضع لا فرش به، لأجل ما هم فيه من الحزن، والسلطان جالس فوق مخدة، وبين يديه آنيتان قد غطيتا، إحداهما من الذهب وألأخرى من الفضة، وكانت بالمجلس سجادة خضراء، ففرشت لي بالقرب منه، وقعدت عليها وليس بالمجلس إلا حاجبه الفقيه محمود، ونديم له لا أعرف اسمه فسألني عن حالي وبلادي، وسألني عن الملك الناصر، وبلاد الحجاز، فأجبته عن ذلك، ثم جاء فقيه كبير، وهو رئيس فقهاء تلك البلاد، فقال لي السلطان، هذا مولانا فضيل، والفقيه ببلاد الأعاجم كلها إنما يخاطب بمولانا وبذلك يدعوه السلطان وسواه، ثم أخذ في الثناء على الفقيه المذكور، وظهر لي أن السكر غالب عليه، وكنت قد عرفت إدمانه على الخمر، ثم قال لي باللسان العربي، وكان يحسنه تكلم فقلت له: إن كنت تسمع مني أقول لك: أنت من أولاد السلطان أتابك احمد المشهور بالزهد والصلاح، وليس فيك ما يقدح في سلطنتك غير هذا، وأشرت إلى الآنيتين فخجل من كلامي وسكت، وأردت الأنصراف، فأمرني بالجلوس، وقال لي: الاجتماع مع أمثالك رحمة، ثم رأيته يتمايل ويريد النوم، فانصرفت وكنت تركت نعلي بالباب فلم أجده، فنزل الفقيه محمود في طلبه، وصعد الفقيه فضل يطلبه في داخل المجلس، فوجده في طاق هنالك فأتى به فأخجلني بره واعتذرت إليه، فقبل نعلي ووضعه على رأسه وقال لي: بارك الله فيك هذا الذي قلته لسلطاننا لا يقدر أحد أن يقوله له غيرك، والله أني لأرجو أن يؤثر ذلك فيه.
● [ من مغادرة إيذج الى الوصول الى كليل ] ●
ثم كان رحيلي من حضرة إيذج بعد ايام، فنزلت بمدرسة السلاطين التي بها قبورهم، وأقمت بها أياماً، وبعث إلي السلطان بجملة دنانير، وبعث بمثلها لأصحابي وسافرنا في بلاد هذا السلطان عشرة ايام في جبال شامخة، وفي كل ليلة تنزل بمدرسة فيها الطعام، فمنها ما هو في العمارة، ومنها ما لا عمارة حوله ولكن يجلب إليها جميع ما تحتاج إليه. وفي اليوم العاشر نزلنا بمدرسة تعرف بمدرسة كريو الرخ، وهي آخر بلاد الملك وسافرنا منها في بسيط من الأرض كثير المياه من عمالة مدينة أصفهان.
ثم وصلنا إلى بلدة أشتركان " وضبط اسمها بضم الهمزة وإسكان الشين المعجم وضم التاء المعلوة وإسكان الراء وآخره نون " وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين، ولها مسجد بديع يشقه النهر. ثم رحلنا منها إلى مدينة فيروزان، واسمها: كأنه تثنية فيروز، وهي مدينة صغيرة ذات أنهار وأشجار وبساتين وصلناها بعد صلاة العصر فرأينا أهلها قد خرجوا لتشييع جنازة، وقد أوقدوا خلفها وأمامها المشاعل، وأتبعوها بالمزامير والمغنين بأنواع ألأغاني المطربة، فعجبنا من شأنهم، وبتنا بها ليلة.
ومررنا بالغد بقرية يقال لها نبلان، وهي كبيرة على نهر عظيم، وإلى جانبه مسجد على النهاية من الحسن، تصعد إليه في درج، وتحفه البساتين. وسرنا يومنا فيما بين البساتين والمياه والقرى الحسان وأبراج الحمام،
ووصلنا بعد العصر إلى مدينة أصفهان من عراق العجم " واسمها يقال بالفاء الخالصة ويقال بالفاء المعقودة المفخمة "، ومدينة أصفهان من كبار المدن وحسانها إلا أنها الآن قد خرب أكثرها بسبب الفتنة الي بين أهل السنة والروافض، وهي متصلة بينهم حتى الآن، فلا يزالون في قتال وبها الفواكه الكثيرة، ومنها المشمش الذي لا نظير له، يسمونه بقمر الدين، وهم ييبسونه ويدخرونه، ونواه ينكسر عن لوز حلو، ومنها السفرجل الذي لامثيل له في طيب المطعم وعظم الجرم، والأعناب الطيبة، والبطيخ العجيب الشأن الذي لا مثيل له في الدنيا إلا ما كان من بطيخ بخارى وخوارزم، وقشره أخضر، وداخله أحمر ويدخر كما تدخر الشريحة بالمغرب، وله حلاوة شديدة ومن لم يكن ألف أكله فإنه أول أمره يسهله وكذلك أتفق لي ما أكلته بأصفهان وأهل أصفهان حسان الصور وألوانهم بيض زاهرة، مشوبة بالحمرة والغالب عليهم الشجاعة والنجدة، وفيهم كرم وتنافس عظيم فيما بينهم في الأطعمة تؤثر عنهم فيه أخبار غريبة، وربما دعا أحدهم صاحبه فيقول له: اذهب معي لنأكل نان وماس، والنان بلسانهم الخبز والماس اللبن فإذا ذهب معه أطعمه أنواع الطعام العجيب مباهياً له بذلك وأهل كل صناعة يقدمون على أنفسهم كبيراً منهم يسمونه الكلو وكذلك كبار المدينة من غير أهل الصناعات وتكون الجماعة من الشبان الأعزاب، وتفاخر تلك الجماعات، ويضيف بعضهم بعضاً مظهرين لما قدروا عليه من الإمكان، محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم، ولقد ذكر لي أن طائفة منهم أضافت أخرى، فطبخوا طعامهم بنار الشمع ثم أضافتها الأخرى فطبخوا طعامهم بالحرير. وكان نزولي بأصفهان في زاوية تنسب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد، وهي معظمة بقصدها أهل تلك الآفاق، ويتبركون بزيارتها وفيها الطعام للوارد والصادر وبها حمام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني وهو موقوف في السبيل لا يلزم أحداً في دخوله شيء وشيخ هذه الزاوية الصالح العابد الورع قطب الدين حسين ابن الشيخ الصالح ولي الله شمس الدين محمد بن محمود ابن علي المعروف بالرجاء، وأخوه العالم المفتي شهاب الدين أحمد أقمت عند الشيخ قطب الدين بهذه الزاوية أربعة عشر يوماً، فرأيت من اجتهاده في العبادة وحبه في الفقراء والمساكين وتواضعه لهم ما قضيت منه العجب وبالغ في إكرامي وأحسن ضيافتي وكساني كسوة حسنة وساعة وصولي الزاوية بعث إلي بالطعام وبثلاث بطيخات من البطيخ الذي وصفناه آنفاً، ولم أكن رأيته قبل ولا أكلته.
كرامة لهذا الشيخ
دخل علي يوماً بموضع نزولي من الزاوية، وكان ذلك الموضع يشرف على بستان للشيخ، وكانت ثيابه قد غسلت في ذلك اليوم، ونشرت في البستان، ورأيت في جملتها جبة بيضاء مبطنة، تدعى عندهم هزرميخي، فأعجبتني، وقلت في نفسي: مثل هذه كنت أريد فلما دخل علي الشيخ نظر في ناحية البستان، وقال لبعض خدامه، ائتني بذلك الثوب الهزرميخي، فأتوا به فكساني إياه فأهويت إلى قدميه أقبلهما، وطلبت منه أن يلبسني طاقية من رأسه ويجيزني في ذلك بما أجازه والده عن شيوخه، فألبسني إياه في الرابع عشر لجمادى الأخيرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، بزاويته المذكورة، كما لبس من والده شمس الدين، ولبس والده من أبيه تاج الدين محمود، ولبس محمود من أبيه شهاب الدين علىالرجاء، ولبس علي من الإمام شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، ولبس عمر من الشيخ الكبير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي، ولبس أبو النجيب من عمه الإمام وحيد الدين عمر، ولبس عمر من والده محمد ابن عبد الله المعروف بعمويه، ولبس محمد من الشيخ أخي فرج الزنجاني، ولبس أخو فرج من الشيخ أحمد الدينوري، ولبس أحمد من الإمام ممشاد الدينوري، ولبس ممشاد من الشيخ المحقق علي بن سهل الصوفي، ولبس علي بن أبي القاسم الجنيد، ولبس الجنيد من سري السقطي، ولبس سري السقطي من داود الطائي، ولبس داود من الحسن ابن أبي الحسن البصري، ولبس الحسن ابن أبي الحسن البصري من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قال ابن جزي: هكذا أورد الشيخ أبو عبد الله هذا السند، والمعروف فيه أن سرياً السقطي صحب معروفاً الكرخي، وصحب معروف داود الطائي، وكذلك داود الطائي بينه وبين الحسن حبيب العجمي، وأخوه فرج الزنجاني إنما المعروف أنه صحب أبا العباس النهاوندي، وصحب النهاوندي أبا عبد الله بن خفيف، وصحب ابن خفيف أبا محمد وربما صحب روبم أبا القاسم الجنيد وأما محمد بن عبد الله عمويه فهو الذي صحب الشيخ أحمد الدينوري الأسود، وليس بينهما أحد والله أعلم والذي صحب أخا فرج الزنجاني هو عبد الله بن ابن محمد بن عبد الله والد أبي النجيب.
ثم سافرنا من أصفهان بقصد زيارة الشيخ مجد الدين بشيراز وبينهما مسيرة عشرة ايام فوصلنا إلى بلدة كليل، " وضبطها بفتح الكاف وكسر اللام وياء مد " وبينها وبين أصفهان مسيرة ثلاثة وهي بلدة صغيرة ذات أنهار وبساتين وفواكه، ورأيت التفاح يباع في سوقها خمسة عشر رطلاً عراقياً بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة ونزلنا منها بزاوية عمرها كبير هذه البلدة المعروف بخواجه كافي، وله مال عريض قد اعانه الله على إنفاقه في سبيل الخيرات من الصدقة وعمارة الزوايا وإطعام الطعام لأبناء السبيل.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
منتدى توتة وحدوتة - البوابة