بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة العلمية المناظر لابن الهيثم المقالة الأولى كيفية الإبصار بالجملة ● [ الفصل الثالث ] ● البحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء
نجد كل جسم مضيء من ذاته فإن ضوءه شرق على كل جسم مقابل له إذا لم يكن بينهما جسم كثيف غير مشف يستر أحدهما عن الأخر. وذلك أن الشمس إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الأرضية، ولم يستره عنها ساتر، فإن ضوءها يشرق على ذلك الجسم ويظهر للبصر، ويشرق ضوءها في الوقت الواحد على كل موضع يقابلها في ذلك الوقت من جميع نواحي الأرض. وكذلك القمر. وكذلك النار إذا كانت مقابلة لجسم من الأجسام الكثيفة ولم يكن بينهما ساتر كثيف ولم يكن البعد الذي بينهما متفاوتاً، فإن ضوء النار يشرق على ذلك الجسم وتظهر صورته للبصر ويوجد ضوء الجذوة من النار في الوقت الواحد يشرق على جميع الأجسام التي حول تلك النار من جميع جهاتها وعلى جميع ما يكون فوقها وتحتها من الأجسام الكثيفة إذا لم يسترها عنها ساتر ولم تكن أبعادها متفاوتة، صغرت الجذوة من النار أو عظمت، إذا كان ضوؤها يظهر للحس على ما يقابلها من الأجسام الكثيفة. ونجد إشراق جميع الأضواء إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة، ولا يشرق الضوء من جسم من الجسام المضيئة إلا على السموت المستقيمة فقط إذا كان الهواء أو الجسم المشف الذي بين الجسم المضيء وبين الجسم الذي يظهر عليه الضوء متصلاً متشابه الشفيف. وإذا اعتبرت هذه الحال أبداً وجدت مطردة لا تختلف ولا تتغير، وذلك يظهر للحس ظهوراً بيناً إذا تفقدت الأضواء التي تدخل من الثقب والخروق والأبواب إلى البيوت المغدرة. أما ضوء الشمس فإنه إذا دخل من ثقب إلى بيت مظلم، وكان الهواء الذي في البيت كدراً بغبار أو دخان، فإن الضوء يظهر ممتداً على استقامة من الثقب الذي يدخل منه الضوء إلى الموضع الذي ينتهي إليه ذلك الضوء من أرض البيت أو جدرانه. فإن كان الهواء الذي في البيت صافياً نقياً ولم يظهر فيه امتداد الضوء، وأراد معتبر أن يعتبر المسافة التي يمتد فيها الضوء، فإنه إذا اخذ جسماً كثيفاً وتحرى المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي فيه الضوء من ارض البيت أو جدرانه فقطعها بالجسم الكثيف، وجد الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه من أرض البيت أو جدرانه. فإذا تعمد أي موضع شاء من المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء فقطعها بالجسم الكثيف، فإن الضوء يظهر على ذلك الجسم الكثيف ويبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه. واستقامة هذه المسافة يمكن أن تعتبر بعود مستقيم . فتدل هذه الحال على أن الضوء الذي دخل من الثقب ممتد على سمت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الموضع الذي انتهى إليه الضوء. وإذا اعتبر المعتبر أي مسافة شاء من المسافات المنعرجة والمنحنية والمقوسة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء فقطعها بالجسم لم يظهر فيها شيء من ذلك الضوء. وكذلك الثقوب الدقاق التي تكون في الأجسام الكثيفة إذا أشرق عليها ضوء الشمس، فإن الضوء ينفذ من تلك الثقوب الدقاق ويمتد على سموت مستقيمة. وإذا اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الثقب الدقيق وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء النافذ من ذلك الثقب وجد الضوء ممتداً في تلك المسافة المستقيمة وإن كان الثقب في غاية الدقة. وإن اعتمد معتمد جسماً كثيفاً فثقب فيه ثقباً دقيقاً وقابل به جرم الشمس وجد الضوء ينفذ فيه ويمتد على سمت مستقيم . وإن اعتبر المسافة التي يمتد عليها الضوء الذي بهذه الصفة وقاسها بمسطرة وجدها في غاية الاستقامة. فيتبين من جميع ذلك أن ضوء الشمس ليس يمتد إلا على المسافات المستقيمة. وكذلك ضوء القمر إذا اعتبر وجد على هذه الصفة. وكذلك ضوء الكواكب: فإن الكواكب الكبار كالزهرة، والمشتري إذا كان في قربه الأقرب، والمريخ أيضاً إذا كان في قربه الأقرب، وكالشعرى، فإن الكوكب من هذه الكواكب إذا كان مقابلاً لثقب يفضي إلى بيت مظلم في ليل غير مقمر فإن ضوءه يظهر في ذلك البيت ويوجد مقابلاً للثقب. وإذا جعل الناظر بصره عند ذلك الضوء ونظر إلى الثقب رأى الكوكب في تلك الحال مقابلاً له. فإذا راعى الكوكب زماناً مقتدراً حتى يتحرك الكوكب مسافة محسوسة وجد ضوءه الذي في البيت قد انتقل عن موضعه وصار في مقابلة الكوكب على السمت المستقيم. وكلما تحرك الكوكب تحرك ذلك الضوء، ويوجد أبداً الضوء والثقب والكوكب على سمت الاستقامة. ثم إذا اعتبر المعتبر ضوء الكوكب الذي يظهر في الموضع المقابل للثقب على الوجه الذي قدمناه بجسم كثيف، فقطع المسافة المستقيمة التي بين الموضع الذي يظهر فيه الضوء وبين الثقب الذي يدخل منه الضوء في أي المواضع شاء منها، ظهر الضوء على الجسم الكثيف وبطل من الموضع الذي كان يظهر فيه. وكذلك النار إذا كانت مقابلة لبيت يفضي إلى بيت مظلم ظهر ضوء النار في البيت مقابلاً للثقب، وإن اعتبرت المسافة المستقيمة التي بين الضوء وبين الثقب على الوجه الذي ذكرناه وجد ضوء النار يمر بكل موضع منها. وقد يمكن أن يقاس ضوء النار بعود مستقيم أيضاً إذا كانت المسافة التي ين النار وبين الثقب قريبة وكانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر فيه الضوء أيضاً قريبة. فإنه إذا دوخل عمود مستقيم في الثقب الذي دخل منه ضوء النار، وجعل طرفه عند الضوء الظاهر، وجد الطرف الآخر عند النار أو مسامتاً لها على استقامة، وتوجد النار والثقب والضوء الظاهر في البيت الداخل من الثقب أبداً على خط مستقيم. وقد يظهر هذا المعنى أيضاً في جميع الأضواء من الظلال. فإن الأشخاص المنتصبة الكثيفة إذا أشرق عليها الضوء وظهرت أظلالها على الأرض وعلى ما يقابلها من الأجسام الكثيفة توجد الأظلال أبداً ممتدة على استقامة وتوجد المواضع التي استظلت هي المواضع التي قطعت الأشخاص المظلة المسافات المستقيمة التي بينها وبين الجرم المضيء الذي انقطع ضوئه عن تلك المواضع. فيظهر مما ذكرناه أن إشراق الأضواء من الأجسام المضيئة من ذواتها إنما يكون على سموت خطوط مستقيمة فقط. وأيضاً فإننا نجد كل جسم مضيء من ذاته فإن الضوء يشرق من كل جزء منه، ونجد الضوء الذي يشرق من جميع الجسم المضيء أقوى من الضوء الذي يشرق من بعضه، ونجد الضوء الذي يشرق من جزء أعظم يكون أقوى وأبين من الضوء الذي يشرق من جزء أصغر. أما الشمس فإنها أول طلوعها من الأفق إما يطلع منها أولاً جزء يسير من محيطها ، ومع ذلك فإن ضوء ذلك الجزء يشرق على كل ما يقابله من الجدران والأشخاص ووجه الأرض، ومركز الشمس في تلك الحال مستتر تحت الأفق وغير ظاهر لما على وجه الأرض. ثم كلما زاد الجزء الظاهر زاد الضوء وقوي إلى أن يرتفع مركز الشمس، ولا يزال الضوء يتزايد إلى أن يظهر جميع جرم الشمس. وكذلك إذا غربت الشمس : فإنه ما دام جزء منها ظاهراً فوق الأفق فإن ضوء ذلك الجزء من الشمس يكون مشرفاً على وجه الأرض مع خفاء مركز الشمس وأكثر جرم الشمس عن المواضع التي يشرق عليها ضوء ذلك الجزء من الشمس. وفي هذه الحال أعني إشراق الضوء من محيط جرم الشمس، وهي في جميع الآفاق . ومع ذلك فإن الجزء الذي هو أقل جزء يطلع من الشمس في أفق ممن الآفاق هو غير الجزء الذي هو أول جزء يطلع من الشمس في أفق غير ذلك الأفق من أجل حركة الشمس التي تخصها. فالآفاق المختلفة تكون الأجزاء من الشمس التي تطلع فيها في أول طلوع الشمس مختلفة، وخاصة في الأيام المختلفة. وكذلك الأجزاء التي هي آخر ما يغرب من الشمس. وبالجملة فإن كل موضع من الأرض يظهر فيه جزء الشمس من محيطها ومن غير المحيط فإن الضوء يشرق من ذلك الجزء على ذلك الموضع. فمن هذا الاعتبار يتبين أن كل جزء من جرم الشمس يشرق منه ضوء على كل جسم يقابل ذلك الجزء مع استتار مركز الشمس وبقية جرم الشمس عن ذلك الجسم. وأيضاً فإن الشمس إذا انكسفت ولم يستغرق الكسوف جميعها وبقي منها جزء ظاهر فإن الضوء يشرق من الجزء الظاهر الباقي على كل موضع يقابله في وقت الكسوف من الأرض. فإن روعيت الشمس في وقت كسوف يستغرق معظمها ويتجاوز مركزها فإنه يوجد الجزء المنكسف يعظم والجزء الباقي يتصاغر.ومع ذلك فأي مقدار بقي منها فإن الضوء يشرق منه على وجه الأرض، ويظهر الضوء على كل موضع مقابل لذلك الجزء وعلى كل موضع مقابل لبعض ذلك الجزء أيضاً . وإن اعتبر ضوء الشمس في وقت الكسوف وجد إشراقه أبداً على سموت مستقيمة كمثل إشراق ضوئها قبل الكسوف، ويوجد ضوء الشمس الذي يظهر على الأرض في وقت الكسوف أضعف من ضوئها قبل الكسوف، وكلما عظم الجزء المنكسف وصغر الجزء الباقي ضعف الضوء الذي يظهر على الأرض. والجزء الذي يبقى من الشمس في وقت الكسوف إذا استغرق الكسوف معظمها إنما هو جزء من محيطها. وجميع محيط الشمس متشابه الحال. فيتبين من هذا الاعتبار أن ضوء الشمس يخرج من جميع جرم الشمس ومن كل موضع من الشمس لا من موضع مخصوص. ويتبين أيضاً من هذا الاعتبار أن السموت المستقيمة التي عليها يمتد ضوء الشمس ليس جميعها ممتداً من مركز الشمس، بل كل جزء من جرم الشمس يخرج الضوء منه على كل سمت مستقيم يصح أن يتوهم ممتداً من ذلك الجزء. وذلك أن الكسوف إذا استغرق معظم الشمس بالقياس إلى موضع من الأرض فإن مركز الشمس في ذلك الوقت مستتر عن ذلك الموضع فتنقطع الخطوط المستقيمة التي بين مركز الشمس وبين ذلك الموضع. ومع هذه الحال فإن الضوء يشرق من بقية الشمس على ذلك الموضع. فلو كان ضوء الشمس ليس يخرج إلا على السموت المستقيمة الممتدة على المركز لما كان يظهر الضوء في وقت الكسوف على المواضع من الأرض التي يستتر عنها المركز. وأيضاً فإن المواضع من الأرض التي تكون الشمس في وقت الكسوف مائلة عن سمت الرؤوس أهلها إلى جهة الجزء الباقي الظاهر فإن الضوء الذي يشرق على هذه المواضع في هذه الحال من الجزء الباقي من الشمس إنما يكون إشراقه إلى الجهة التي فيها مركز الشمس وعلى الخطوط المستقيمة التي لا يصح أن تمر بمركز الشمس،ويشرق الضوء مع ذلك في هذا الوقت على كل موضع يظهر فيه جزء من جرم الشمس ولا يستغرق الكسوف بالقياس إليه جميع جرم الشمس. فليس إشراق ضوء الشمس على السموت المستقيمة الممتدة من مركز الشمس فقط بل على جميع السموت التي يصح أن تمتد من كل جزء منها على الاستقامة. وأيضاً فإن ضوء الشمس الذي ينفذ من الثقوب يوجد أبداً منخرطاً ، وكلما بعد الضوء عن الثقب اتسع . ويظهر ذلك ظهوراً بيناً في الثقوب الدقاق. فإن الثقب الدقيق إذا نفذ فيه ضوء الشمس، وظهر الضوء على موضع متباعد عن الثقب، فإن الضوء الذي بهذه الصفة يوجد منخرطاً ويكون الموضع الذي يظهر فيه الضوء أوسع من الثقب أضعافاً متضاعفة. وكلما كانت المسافة التي بين الثقب وبين الموضع الذي يظهر عليه الضوء أبعد كان الضوء أوسع. وإن قطعت المسافة المستقيمة التي بين الثقب وبين الضوء الظاهر بجسم كثيف وجد الضوء على ذلك الجسم الكثيف، ويوجد الضوء الذي يظهر على الجسم الكثيف أضيق من الضوء الذي ظهر في الموضع الأول. وكلما قرب هذا الجسم من الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أضيق. وكلما بوعد هذا الجسم عن الثقب وجد الضوء الذي يظهر عليه أوسع. فيتبين من انخراط الضوء الذي يخرج من الثقوب الدقاق أن ضوء الشمس يمتد من كل جزء منها لا من جزء مخصوص. ويتبين منه أيضاً أن الضوء يمتد على خطوط مستقيمة فقط. وذلك أنه لو كان الضوء يمتد من مركز الشمس أو من نقطة مخصوصة منها لكان الضوء الذي يمتد من تلك النقطة وعلى الخطوط التي تخرج من تلك النقطة إلى الثقب الضيق إذا نفذ من الثقب انخرط انخراطاً غير محسوس، لأن انخراطه كان يكون بحسب ما يقتضيه قطر الثقب وبحسب بعد الشمس عن الثقب وبعدها عن الموضع الذي يظهر عليه الضوء. ولا فرق بين هذين البعدين في الحس بالإضافة إلى بعد الشمس بالقياس إلى الحس. فكان يكون الضوء الذي يخرج من الثقب الدقيق إذا ظهر على وجه الأرض أو على موضع من المواضع مساوياً لمقدار الثقب، وخاصة إذا كان الثقب أسطوانياً، ولكان الثقب الأسطواني الضيق إذا نفذ منه ضوء الشمس ثم غير تغييراً يسيراً حتى يصير الخط المستقيم الممتد في طوله إلى جرم الشمس لا يلقي تلك النقطة من الشمس كان يبطل الضوء الذي ينفذ من الثقب، ولا ينفذ في الثقب شيء من الضوء. ولو كان الضوء يمتد على غير السموت المستقيمة لكان إذا نفذ من الثقوب الدقاق امتد على غير السموت المستقيمة. فانخراط الضوء النافذ من الثقوب الدقاق دليل ظاهر على الضوء يخرج من جميع جرم الشمس إلى الثقب، وأن خروجه على خطوط مستقيمة، فلذلك إذا نفذ م الثقب انخرط واتسع وكان انخراطه على خطوط مستقيمة لأن الضوء إذا خرج من جميع جرم الشمس إلى الثقب الضيق كان منخرطاً، فإذا نفذ في الثقب وامتد حدث منه مخروط آخر مقابل للمخروط الأول، لأن الضوء يخرج على خطوط مستقيمة. فيتبين من جميع ما شرحناه أن ضوء الشمس يشرق من كل جزء من جرم الشمس في كل جهة تقابل ذلك الجزء على استقامة. فأما القمر فإن حاله أظهر. وذلك أن الهلال في الليلة الثانية من الشهر وما يليها قد يظهر ضوؤه على وجه الأرض، وخاصة إذا كان مقابلاً لموضع مظلم فإن ضوؤه يظهر في الموضع المظلم ويوجد مع ذلك ناقصاً ضعيفاً، ثم يزيد ضوؤه في كل ليلة مع زيادة مقداره إلى أن يمتلئ ويوجد ضوؤه عند امتلائه أقوى من جميع أضوائه في ليالي نقصانه. وأيضاً فإن القمر يوجد حاله في الطلوع والغروب في أوقات امتلائه كمثل حال الشمس، وكذلك حاله في الكسوف إذا تجاوز الكسوف مركزه ولم يستغرق جميعه. وإذا اعتبر ضوء القمر النافذ من الثقوب الدقاق أيضاً في أوقات امتلائه جد منخرطاً، وكلما بعد عن الثقب اتسع. فيتبين من انخراط الضوء أن ضوء القمر يشرق من كل جزء من أجزاء القمر لا من جزء منه مخصوص، وان امتداد ضوء القمر إنما هو على السموت المستقيمة فقط. وكذلك النار أيضاً يوجد فيها هذا المعنى بعينه. وذلك أن النار إذا بعضت بأن يبعض موضوعها الحامل لها فإن كل جزء منها يشرق منه ضوء، ويوجد ضوء كل جزء منها اضعف من ضوء جملتها ، ويوجد ضوء ما صغر من أجزائها أضعف من ضوء ما عظم من أجزائها. وقد يمكن أن تعتبر أجزاء النار من غير أن تبعض أيضاً. فإذا أراد المعتبر أن يعتبر ذلك فليتخذ صفيحة من نحاس، وليكن فيها سعة، وليثقب فيها ثقباً مقتداً مستديراً، ثم يداخل في هذا الثقب أنبوباً أسطوانياً صحيح الاستقامة معتدل الاستدارة ذا طول مقتدر، ولتكن سعة الثقب بمقدار سعة الأنبوب، وليكن ثقب الأنبوب ليس بأغلظ من غلظ الميل. ويداخل الأنبوب في ثقب الصفيحة حتى يستوي طرفه مع سطح الصفيحة، ولتثبت هذه الصفيحة على جسم مرتفع عن الأرض ولتكن قائمة على حرفها، ثم يقدم إلى هذه الصفيحة في ظلمة الليل نار، وليكن سراجاً ذا فتيلة غليظة نيرة، فيقابل بها الثقب وتقرب النار من الثقب إلى أن تصير في غاية القرب منه ولا يبقى بينها وبين الثقب مسافة لها قدر، فستظل الجهة التي فيها الأنبوب بظل الصفيحة ولا يترك في الموضع ضوء سوى النار التي تعتبر، وليكن ذلك في موضع لا تخترقه الريح، ثم يقابل طرف الأنبوب بجسم كثيف: فإن ضوء النار يظهر على ذلك الجسم. وليس هناك ضوء إلا الضوء الذي ينفذ في الأنبوب، وليس ينفذ في الأنبوب ضوء إلا ضوء الجزء من النار المقابل لثقب الأنبوب المساوي مساحته لمساحة ثقب الأنبوب فقط إذا كان الضوء ليس يخرج إلا على خطوط مستقيمة، وليس بين الضوء الذي يظهر على الجسم المقابل لطرف الأنبوب وبين شيء من أجزاء النار خطوط مستقيمة لا يقطعها جسم كثيف إلا الجزء المقابل لطرف الأنبوب فقط، لأن الخطوط المستقيمة التي بينه وبين الضوء الظاهر تمتد في داخل الأنبوب ولا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة. فأما الأجزاء الباقية من جرم النار فإن الضوء يخرج منها إلى الطرف الذي يليها فقط من ثقب الأنبوب. فإن دخل منها شيء في طرف الأنبوب فإنه ينقطع بحائط الأنبوب فيبطل ولا ينفذ في طول ثقب الأنبوب، وليس ينفذ في ثقب الأنبوب في تلك الحال إلا ضوء الجزء المقابل لطرفه فقط. ثم يحرك المعتبر النار رفيقاً حتى يقابل الثقب جزءاً من النار غير ذلك الجزء، ويتأمل الجسم المقابل لطرف الأنبوب الذي كان يظهر عليه الضوء. فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على ذلك الجسم. ثم إذا حرك جرم النار في جميع الجهات ورفعه وحطه حتى يقابل الثقب جزءاً من النار غير ذلك الجزء، ويتأمل الجسم المقابل لطرف الأنبوب الذي كان يظهر عليه الضوء: فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على ذلك الجسم. ثم إذا حرك جرم النار في جميع الجهات ورفعه وحطه حتى يقابل الثقب كل جزء من النار جزءاً بعد جزء وجد الضوء في جميع الأحوال يظهر على الجسم المقابل للأنبوب، ويجد هذا الضوء أضعف من ضوء جملة النار الذي يظهر على الأجسام المنكشفة لجميع جرم النار التي بعدها عن النار كبعد الموضع الذي يظهر فيه الضوء النافذ من الأنبوب عن النار . وإن ضيق المعتبر الثقب بأن يداخل في الأنبوب جسماً دقيقاً مستقيماً يسد بعضه والصقه بسطح داخل الأنبوب واعتبر الضوء الذي يخرج من بقية الأنبوب فإنه يجد الضوء أيضاً يظهر على الجسم المقابل للأنبوب ما لم يكن الجزء الذي يبقى من الأنبوب في غاية الضيق، ويجد الضوء الذي يظهر عند تضيق الأنبوب أصغر ومع ذلك أخفى وأضعف من الضوء الأول . فيظهر من هذا الاعتبار أن كل جزء من النار يشرق منه ضوء ، وأن ضوء جميع الجذوة من النار أقوى من ضوء الجزء منها. وأن ضوء الجزء الأعظم أقوى من ضوء الجزء الأصغر. وأيضاً فإن أثبت المعتبر النار عند ثقب الصفيحة حتى لا ينتقل ولا يتغير الجزء منها المقابل للثقب، ثم ميل الأنبوب حتى يصير وضعه مائلاً على سطح الصفيحة وطرفه مع ذلك عند الثقب، وسد خللاً إن انكشف من طرف الأنبوب ومن ثقب الصفيحة مما يلي باطن الصفيحة، وقابل الأنبوب بالجسم الكثيف، فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف. وإن غير وضع الأنبوب وميله إلى غير تلك الجهة وقابله بالجسم الكثيف الذي يظهر عليه الضوء وجد الضوء يظهر عليه أيضاً. وإن ميل الأنبوب إلى جميع الجهات وجد الضوء يمتد من ذلك الجزء من النار إلى جميع الجهات التي تقابله على الاستقامة. ثم عن حرك النار حتى يقابل الثقب جزءاً منها غير ذلك الجزء، واعتبر هذا الجزء أيضاً بالوضاع المائلة كما اعتبر الجزء الأول، وجد الضوء يمتد منه أيضاً في جميع الجهات التي تقابله. وكذلك إن اعتبر كل جزء من النار وجده على هذه الصفة. فيظهر من هذا الاعتبار أن الضوء يشرق من كل جزء من النار في كل جهة تقابل ذلك الجزء على سمت الاستقامة. ويتبين من جميع ما ذكرناه أن كل جسم مضيء من ذاته فإن الضوء يشرق من كل جزء منه على كل سمت مستقيم يمتد من ذلك الجزء. وإذا كانت هذه الحال تظهر في الأجزاء من الأجسام المضيئة من ذواتها فإن الأجزاء الصغار أيضاً منها، وإن كانت في غاية الصغر ما دامت حافظة لصورتها، فإنها أيضاً مضيئة، والضوء يشرق منها على الصفة التي تشرق من الأجزاء الكبار وإن خفيت أحوال الأجزاء الصغار عن الحس، إذ هذه الحال في الأجسام المضيئة من ذواتها طبيعية وخاصة لازمة لذواتها، وطبيعة صغار الأجزاء وكبارها طبيعة واحدة ما دامت حافظة لصورتها ، فالخاصة التي تخص طبيعتها تكون في كل جزء منها صغر أم كبر ما دام على طبيعته وحافظاً لصورته. وأيضاً فإن الشمس والقمر والأجرام السماوية ليست أجزاء مجتمعة، بل كل واحد منها جسم واحد متصل وطبيعته واحدة وليس فيها اختلاف وليس موضع منها مخالف الطبيعة لموضع آخر. وكذلك النار ليست أجزاء مجتمعة بل جسم متصل وكل موضع منها شبيه الطبيعة بالمواضع الباقية وطبيعة ما صغر من أجزائها شبيه بطبيعة كبار الأجزاء ما دام الجزء الصغير حافظاً لصورة النار. فقد تبين من جميع ما استقريناه وشرحناه وبينا طرق اعتباره أن إشراق الضوء من كل جسم مضيء من ذاته إنما هو على سموت خطوط مستقيمة، وان الضوء يشرق من كل جسم مضيء من ذاته في جميع الجهات التي بينه وبينها خطوط مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة، وان كل جزء من أجزاء الجسم المضيء من ذاته يشرق الضوء منه على هذه الصفة، وان الضوء الذي يشرق على موضع من المواضع من جميع الجرم المضيء يكون أقوى من الضوء الذي يشرق على ذلك الموضع من ذلك البعد من بعض ذلك الجرم، وان الضوء الذي يشرق من جزء اعظم يكون أقوى من الضوء الذي يشرق من جزء أصغر، وان الأجزاء الصغار من الجرم المضيء يلزم فيها أيضاً هذه الحال. وإن تعذر اعتبارها على انفرادها وخفي ضوؤها منفرداً عن الحس فإن ذلك إنما هو لقصور الحس عن إدراك ما هو في غاية الضعف. وإذا كان جميع ذلك كذلك فالضوء إذن الذي يشرق من الجرم المضيء من ذاته في الهواء المشف إنما يشرق من كل جزء مقابل لذلك الهواء من الجرم المضيء، ويكون الضوء في الهواء المضيء متصلاً ملتئماً، وتكون كل نقطة من الجرم المضيء يخرج الضوء منها على كل خط مستقيم يصح أن يتوهم ممتداً من تلك النقطة في ذلك الهواء. فعلى هذه الصفة يكون إشراق الأضواء من الأجسام المضيئة من ذواتها في الهواء المشف المتشابه الشفيف. فلنسم الأضواء التي تشرق من الأجسام المضيئة من ذواتها الأضواء الأول . وأيضاً فإنا نجد الأرض مضيئة في أول النهار وآخره قبل طلوع الشمس وبعد غروبها، وليس شيء من المواضيع المضيئة في هذين الوقتين مقابلاً لجرم الشمس ولا لشيء منها، وليس لضوء النهار علة غير الشمس إذ ليس يزيد في النهار ضوء لم يكن في الليل إلا ضوء الشمس فقط. وأيضاً فإن الشمس إذا طلعت وصارت فوق الأرض فإنا نجد المساكن وأفنية الدار التي هي مستترة عن الشمس بالحيطان والسقوف مضيئة مع ذلك وليست مقابلة للشمس ولا لشيء منها. وكذلك أظلال الجبال والأجسام الكثيفة وجميع الأظلال توجد مضيئة بالنهار مع استتارها عن جرم الشمس بالأجسام الكثيفة التي هي أظلال لها. ونجد أيضاً كثيراً من المساكن المستترة عن السماء مضيئة قبل طلوع الشمس وبعد غروبها مع استتار الشمس ومع استتار هذه المواضع عن السماء. فلنبحث الآن عن كيفية هذه الأضواء بالاستقراء والاعتبار من أحوالها وخواصها. فنقول: إننا نجد ضوء المصباح يبتدئ من أجزاء الليل وقد بقي قطعة من الليل فيمتد من أفق المشرق ذاهباً نحو وسط السماء كالعمود المستقيم، ويوجد ضعيفاً خفياً، ويوجد مع ذلك وجه الأرض مظلماً بظلمة الليل. ثم يقوى هذا الضوء ويزيد مقداره في العرض والطول ويقوى نوره، والأرض مع ذلك مظلمة. ثم لا يزال يتزايد مقداره ويقوى نوره، فيضيء حينئذ وجه الأرض المقابل لذلك الضوء المنكشف له بضوء ضعيف دوم الضوء الذي يظهر في الجو في ذلك الوقت. ثم لا يزال الضوء الذي في الجو يقوى وينبسط إلى أن يملئ أفق المشرق ويبلغ إلى وسط السماء ويمتلئ الجو ضوءاً وحينئذ يقوى الضوء الذي على وجه الأرض ويصير نهاراً واضحاً والشمس مع ذلك تحت الأفق وغير ظاهرة. ثم تطلع الشمس بعد هذه الحال فيزداد النهار وضوحاً. وكذلك نجد الضوء في آخر النهار وبعد أن تغرب الشمس وتخفى تحت الأفق : يكون وجه الأرض مضيئاَ بضوء واضح والجو مع ذلك مضيء بضوء قوي. ثم لا يزال ضوء الجو يضعف ووجه الأرض يتناقص ضوؤه إلى أن يجن الليل. ثم إنا نجد أيضاً ضوء الشمس إذا أشرق على بعض الجدران، وكان مقابلاً ذلك الجدار وبالقرب منه مكان مظلم، فإن ذلك المكان يضيء بعد أن كان مظلماً. وإذا كان لذلك المكان المظلم باب، وكان مقابل الباب في داخل ذلك المكان جدار، فإن الجدار المقابل للباب ولضوء الشمس المشرق على الجدار الخارج وما واجه الباب وضوء الشمس من أرض البيت إنما يكون أشد إضاءة من بقية البيت. ثم إذا زالت الشمس وزال ضوؤها المشرق على ذلك الجدار عاد الموضع مظلماً. وكذلك نجد النهار وضوء القمر وضوء النار إذا أشرق على الجدار، وكان مقابل ذلك الجدار موقع مظلم، فإنه يضيء بذلك الضوء، وإذا بطل ذلك الضوء عاد الموضع مظلماً. وكذلك نجد كل موضع مضيء بضوء قوي، أي ضوء كان، إذا كان مقابلاً له مكان مظلم وكان قريباً منه وكان بينهما منفذ فإن الموضع يضيء بالضوء المقابل له. وقد يمكن أن تعتبر هذه الحال في جميع الأوقات. فإذا شاء المعتبر أن يعتبر بيتاً مظلماً، وليكن مقابل باب البيت وقريباً منه حائط يشرق عليه ضوء الشمس، ولا يكون باب البيت منكشفاً للسماء وذلك بأن يكون الحائط المقابل للباب يصل إليه الضوء من ثقب أو من باب في حائط البيت المظلم من أعلاه إذا كان حائط البيت أرفع من سقف البيت، ويكون الفضاء الذي بين الحائطين أعني الحائط الذي فيه باب البيت والحائط المقابل له مسقفاً من فوق الثقب أو مظللاً بجسم كثيف، ويكون البيت مما يلي لمشرق. ويراعي المعتبر الموضع إلى أن يشرق ضوء الصباح على ذلك الحائط من الثقب المقابل له، وليكن الثقب مقتدر السعة: فإنه يد البيت المظلم قد أضاء بذلك الضوء ويجد الضوء الذي في البيت أضعف من الضوء الذي على ذلك الحائط. ثم كلما قوي الضوء الذي على الحائط قوي الضوء الذي في البيت. ثم إذا أشرق ضوء الشمس على ذلك الحائط اشتد الضوء الذي في البيت وقوي. ويجد الموضع من البيت المقابل للباب وللحائط المضيء أشد إضاءة من بقية البيت. ثم إذا زالت الشمس عن ذلك الحائط ضعف الضوء الذي في البيت. وإذا كان في البيت بيت آخر مظلم، وكان بابه منكشفاً للجدار المقابل لباب الأول، فإن الضوء إذا أشرق على الحائط الخارج فظهر على الجدار الذي في داخل البيت المقابل للباب، وكان باب البيت الثاني مفتوحاً منكشفاً لهذا الجدار، فإنه يجد البيت الثاني أيضاً مضيئاً بضوء ذلك الجدار، وخاصة إذا كان الحائط الخارج الذي يشرق عليه الضوء أبيض نقي البياض، ويجد ما كان من البيت الثاني مواجهاً لذلك الجدار وقريباً منه أشد إضاءة من بقية البيت. وإن كان الجدار الذي في داخل البيت الأول الذي يشرق عليه الضوء أبيض فإن الضوء الذي يظهر في البيت الثاني يكون أبين. وكذلك إن اعتبر ضوء القمر وضوء النهار على هذه الصفة يوجد الموضع المظلم يضيء بضوء كل واحد منهما إذا كان مقابلاً له. فيتبين من هذا الاعتبار أن كل جسم يشرق عليه ضوء فإن الضوء الذي يحصل عليه يشرق منه ضوء على كل جهة تقابله. وإذا كان ذلك كذلك فالضوء الذي يظهر على وجه الأرض في أول النهار قبل طلوع الشمس وفي آخره بعد غروبها إنما هو ضوء يرد إليها من الضوء الذي يظهر في الجو المقابل لها. فيكون الجو قبل طلوع الشمس لأنه مقابل لها وهي غير مستترة عنه في ذلك الوقت، وإنما هي مستترة في تلك الحال عن وجه الأرض فقط. فيكون الضوء ممتداً من جرم الشمس في الجو المضيء على سموت مستقيمة، ثم هذا الجو المضيء بضوء الشمس يشرق منه أيضاً ضوء على المواضع المقابلة له من سطح الأرض على سموت مستقيمة أيضاً، وما دام يسير ضعيفاً فضوؤه الذي يشرق منه على الأرض يكون خفياً، فإذا قوي واشتد قوي الضوء الذي يشرق على وجه الأرض وظهر. وكذلك ضوء العشاء يكون الجزء المقابل للشمس بعد غروبها مضيئاً بضوئها، وضوؤها يمتد على السموت المستقيمة، ويكون الضوء الذي يشرق من الجو المضيء على المواضع المقابلة له من وجه الأرض، وما دام ضوء الجو قوياً فالأرض مضيئة والضوء فيها بين، فإذا ضعف الضوء الذي في الجو ضعف الضوء الذي على وجه الأرض إلى أن يخفى ويظلم وجه الأرض. وكذلك أضواء المساكن وأفنية الجدران المستترة عن الشمس وجميع الأظلال التي توجد مضيئة بالنهار قبل طلوع الشمس وبعد طلوعها وبعد غروبها وفي سائر النهار إما هي أضواء ترد إليها من الجو المضيء المقابل لها ومن الجدران المضيئة أيضاً ومن سطح الأرض المقابل لها المضيء بضوء النهار. فعلى هذه الصفة يكون النهار وأضواء المواضع المستظلة عن الشمس، وكذلك المواضع المضيئة بضوء القمر التي هي مستترة عن القمر، وكذلك ضوء النار. وقد يمكن أن يعتبر هذا المعنى، إشراق الأضواء عن الأضواء العرضية على السموت المستقيمة، اعتباراً محرراً يقع معه اليقين. أما ضوء الصباح فيعتبر كما أصف: يعتمد المعتبر بيتاً في داخله بيت، ويكون وضعهما بين المشرق والمغرب، ولا يكون للضوء إليهما سبيل إلا من الباب، ويكون الحائط الشرقي من البيت منكشفاً . ويثقب في أعلى هذا الحائط ثقب كأحد الثقوب التي تكون في جدران البيوت لدخول الضوء، وليكن مستديراً قطره ليس بأقل من قدم في مثله، ويكون مخروطاً داخله أوسع من خارجه، فيكون هذا الثقب مواجهاً للجهة الشرقية من السماء. وليثقب في الحائط المقابل للثقب المشترك للبيتين ثقبين مستديرين مقابلين للثقب الأول فيفضي هذان الثقبان إلى البيت الغربي، وليكن هذان الثقبان أقرب إلى الأرض من الثقب الأول وبحيث إذا نظر الناظر في كل واحد منهما رأى السماء من الثقب الأول الأعلى، وليكن كل واحد من هذين الثقبين مساوياً للثقب الأول وشبيهاً به. وليتحر في هذين الثقبين أن يكون امتداد كل واحد منهما في سمك الحائط على استقامة الخطوط المستقيمة التي تتوهم ممتدة من النهاية الخارجة من الثقب الأول إلى النهاية المقابلة لها من الثقب الثاني. وملاك الأمر أن يكون هذا الحائط جسيماً ليكون للثقبين امتداد مقتدر في جسم الحائط حتى لا ينخرط الضوء الخارج من هذين الثقبين انخراطاً مسرفاً. وينبغي أن يكون امتداد كل واحد من هذين الثقبين في جسم الحائط امتداداً متشابهاً لا منخرطاً. ثم يمد خيط من الثقب الأول الأعلى إلى أحد الثقبين وليتحر أن يمر الخيط بنقطة من النهاية الخارجة من الثقب الأعلى والنقطة النظيرة لها من النهاية الخارجة من الثقب المقابل له. ويداخل الخيط في الثقب وليكن طرف الخيط الذي يلي الثقب الأعلى مشدوداً بمسمار من خارج الثقب. ويدخل المعتبر إلى داخل البيت الغربي ويمد الخيط إلى أن ينتهي طرفه إلى موضع من البيت إما أرضه أو بعض جدرانه، ثم يمد الخيط مداً شديداً حتى يصح استقامته ووضعه. فإذا صح وضعه وامتداده واستقامته يعلم على موضع طرفه من البيت علامة، فيكون هذا الموضع على استقامة المسافة المستقيمة الممتدة من الثقب الأول الأعلى إلى الثقب الأخفض المقابل له. ثم يخرج الخيط من هذا الثقب ويداخل في الثقب الآخر ويفعل به مثل ما فعل بالثقب الذي قبله؛ ويمده حتى ينتهي إلى موضع آخر من البيت أيضاً ويتعلم على موضع نهايته، فيكون هذا الموضع الثاني على استقامة المسافة المستقيمة الممتدة من الثقب الأعلى أيضاً إلى الثقب الأعلى أيضاً إلى الثقب الأخر. فإذا تعين هذان الموضعان من البيت تحرى المعتبر ليلة من الليالي السود وتكون مع ذلك مصحية. فإذا أظلم الليل دخل المعتبر إلى داخل البيت واغلق الباب ولم يترك في البيتين شيئاً من الضوء فإن الثقبين في هذه الحال يكونان مظلمين. ثم يدخل إلى البيت الغربي وينتظر من أحد الثقبين إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى، ويتحرى ألا يكون مقابلاً للثقب شيء من الكواكب الكبار توقف إلى أن يزول الكوكب عن مقابلة الثقب. وكذلك ينظر في الثقب الآخر إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى ولا يكون مقابلاً له من الآخر إلى أن يرى السماء من الثقب الأعلى ولا يكون مقابلاً له شيء من الكواكب الكبار: فإنه يرى الجو من الموضعين اللذين عينهما، فيجدهما مظلمين ليس فيهما ضوء ظاهر، ويجد جميع البيت مظلماً ليس فيه شيء من الضوء إلا ما لا يعتد به من ضوء السماء الذي هو في غاية الضعف. ثم ينتظر الصباح فإذا انفجر الصبح ونظر من الثقبين المتقابلين إلى أن يرى الجو مضيئاً تحرك من الموضع الذي هو فيه حتى يزول عن مقابلة الثقب ونظر إلى كل واحد من الموضعين المقابلين للثقبين اللذين كان عينهما: فإنه يجدهما مضيئين بضوء يسير بحسب قوة الضوء الذي في الجو. فإن لم يظهر في البيت ضوء توقف يسيراً من الزمان إلى أن يقوى ضوء الصباح، فإذا قوي ضوء الصباح تأمل الموضعين: فإنه يجدهما مضيئين، ويجد الضوء في كل واحد من الموضعين مستديراً، ويجده أوسع من الثقب بحسب ما يقتضيه انخراط الضوء، ولا يجد في هذه الحال في بقية البيت شيئاً من الضوء، وإن وجد فيه ضوءاً فضعيف خفي بحسب ما يصح أن يصدر عن الضوء الذي يظهر في الموضعين المقابلين للثقبين. ثم إن ستر أحد الثقبين بطل الضوء من الموضع المقابل له وبقي الأخر، وإن رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه. ثم يعتمد المعتبر المسافة المستقيمة التي بين أحد الثقبين وبين الموضع الذي يصير إليه الضوء من ذلك الثقب فيقطعها بجسم كثيف: فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الكثيف ويبطل من الموضع المقابل لذلك الثقب. ثم يحرك هذا الجسم على سمت المسافة المستقيمة: فإنه يجد الضوء أبداً عليه. وقد يمكن أن تحد هذه المسافة بعود مستقيم ومسطرة طويلة وتلصق المسطرة بمحيط الثقب فتتحرر بها المسافة المستقيمة. ثم إذا رفع الجسم الكثيف الساتر عاد الضوء إلى الموضع الذي كان فيه، وكذلك إذا قطع المسافة المستقيمة التي بين الثقب الأول الأعلى وبين أحد الثقبين من البيت الأول فإنه يجد الضوء يظهر على الجسم الذي يقطع تلك المسافة ويبطل من البيت الثاني، وإذا رفع الساتر عاد الضوء إلى موضعه. وكذلك إذا اعتبر الضوء الذي في الثقب الآخر في البيتين جميعاً وجده على هذه الصفة. وإن ثقب في الحائط الثاني عدة ثقوب، وتحرى في كل واحد منها أن يكون مقابلاً للثقب الأول على استقامة وعلى مثل ما وصفناه في الثقبين المتقدمين، وجد في البيت الثاني أضواء متفرقة بعدد تلك الثقوب. ومقابلة لها كل واحد منها للثقب الأول الأعلى على استقامة. فيتبين من هذا اعتبار بياناً واضحاً بياناً أن الهواء المضيء بضوء الصباح يخرج منه ضوء إلى المواضع المقابلة، وان خروجه على سموت مستقيمة، وأن ضوء النهار المشرق على الأرض قبل طلوع الشمس وبعد غروبها إنما هو ضوء يشرق عليها من الجو المضيء بضوء الشمس المقابل لوجه الأرض. وإن اعتبر المعتبر الجو المضيء في سائر النهار أيضاً بهذا الوجه من الاعتبار وجد الضوء يشرق منه على سموت مستقيمة. وإذا كان الهواء المضيء يصدر منه ضوء إلى المواضع المقابلة له فإن كل جزء من أجزاء الهواء المضيء بأي ضوء كان فإنه يصدر منه ضوء إلى كل جهة مقابلة له، ويكون الضوء الذي يصدر عنه أضعف من الضوء الذي فيه، وتكون قوة الضوء الذي يصدر عنه بحسب قوة الضوء الذي فيه وبحسب مقدار مساحة ذلك الجزء المضيء من الهواء. وأيضاً فإن الهواء الذي في داخل البيت الثاني والهواء الذي في البيت الأول متصلان من الثقب الأول بالهواء المضيء الخارج منه ورد الضوء إلى داخل البيت الثاني. ويصح أن يوجد في هذا الهواء مسافات كثيرة منحنية ومتعرجة بين الجو المضيء وبين البت الثاني تمر بالثقوب ولا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة. وكذلك إذا سد أحد الثقبين وبطل الضوء المقابل للثقب المسدود فإن بين ذلك الموضع الذي بطل منه الضوء وبين الثقب الأول والهواء الخارج هواءً متصلاً من الثقب الآخر الذي لم يسد ومسافات كثيرة غير مستقيمة. فلو كان الضوء يخرج على غير السموت المستقيمة، وكان الهواء المضيء ينبسط الضوء منه في جميع ما يتصل به ن الهواء من غير السموت المستقيمة، لقد كان البيت القاصي يضيء جميعه ضوءاً متشابهاً عند إضاءة الجو بضوء الصباح لاتصال الهواء فيه بالجو المضيء في الوقت الذي يدخل الضوء من الثقوب إلى البيت وفي الوقت الذي يسد أحد الثقبين أيضاً. وليس يوجد في وقت الاعتبار في داخل البيت القاصي ضوء سوى الأضواء المقابلة للثقوب التي كل واحد منها هو والثقبان المتقابلان المقابلان له اللذان في حائطي البيتين والجو الخارج المضيء على سمت مستقيم أو في المسافة الممتدة بين الثقب وبين الموضع المضيء على استقامة الثقبين المتقابلين أو ما يشرق من هذا الضوء في بقية البيت. والذي به يظهر أن الضوء اليسير الذي يشرق في بقية البيت إنما هو ضوء يصدر عن الضوء الذي في داخل البيت المقابل للثقب لا من غيره هو أنه إذا سد أحد الثقبين وقطعت المسافة المستقيمة التي بين الثقب الباقي وبين الضوء الذي نفذ منه بجسم كثيف، وقرب الجسم الكثيف من الثقب، وبطل الضوء من الموضع الذي كان يظهر فيه، خفي ما كان يظهر في بقية البيت من الضوء اليسير الذي كان يشرق من هذا الضوء . وليس ينقطع بهذا الفعل اتصال الهواء الذي في داخل جميع البيت بالهواء الخارج المضيء إذا لم يكن الجسم الكثيف الذي قطعت به المسافة المستقيمة ملتصقاً بالثقب. فتبين من هذا الاعتبار أن الضوء ليس يخرج من الهواء المضيء إلا على سمت مستقيم فقط، وأن الضوء يشرق من كل جزء من الهواء المضيء في كل جهة تقابله على السمت الاستقامة، إذ الأضواء المتفرقة التي تظهر في داخل البيت القاصي تقابل من الهواء المضيء الخارج أجزاء مختلفة، ولأن أجزاء الهواء أيضاً المتشابهة الضوء متشابهة الحال. فعلى هذه الصفة يمكن أن يعتبر ضوء النهار ويظهر أنه من ضوء الجو المضيء وأنه يرد من الجو على سموت مستقيمة. وقد يمكن أن يعترض على هذا المعنى فيقال: إن جميع الهواء مقابل لجرم الشمس أبداً وفي طول الليل، وإنما المحتجب عن جرم الشمس هو ظل الأرض فقط، وهذا الظل هو مخروط مستدق وهو جزء يسير من جملة الهواء، والذي يظهر من الجو وهو مقابل لوجه الأرض في سائر الأوقات هو نصف جميع الهواء، والذي يقابل الأرض في طول الليل من الجو هو نصفه، والجزء المحتجب عن الشمس في الليل هو جزء يسير من هذا النصف، ومعظم الهواء الذي يظهر في طول الليل الذي هو مقابل لوجه الأرض هو مضيء بضوء الشمس، فلو كان الضوء الذي يظهر في الجو عند الصباح وعند العشاء ويشرق على وجه الأرض هو المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس لكان الضوء الذي يظهر في الجو ويشرق على وجه الأرض في طول الليل، لأن الهواء المقابل لوجه الأرض في طول الليل معظمه مضيء. وليس يظهر في طول الليل شيء من الضوء في الجو أو على وجه الأرض. فليس الضوء الذي يظهر في الجو وعلى وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء هو ضوء الهواء المقابل للشمس المضيء بضوء الشمس. فنقول في جواب هذا الاعتراض إن جميع الهواء مضيء بضوء الشمس في سائر الأوقات، وليس شيء من الهواء مظلماً ومحتجباً عن الشمس إلا مخروط الظل الذي هو ظل الأرض فقط، إلا أن الضوء الذي يصدر عن الهواء المضيء يكون ضعيفاً، وكلما بعد في امتداده ازداد ضعفاً لأن ذلك هو خاصة الضوء، فالهواء المضيء بضوء الشمس يشرق منه أبداً ضوء يمتد في جميع الجهات وينفذ في الهواء المستظل بظل الأرض، إلا أنه كلما بعد هذا الضوء عن الهواء المضيء بضوء الشمس الذي منه يمتد ضعف. وإذا كان ذلك كذلك فالجزء من ظل الأرض المماس للهواء المضيء والقريب من هذا المماس الذي هو حواشي الظل يكون الضوء الذي شرق عليه من الهواء المضيء المجاور له فيه بعض القوة، فإذا بعد هذا الضوء عن حواشي الظل وانتهى إلى وسط الظل وقريباً من الوسط ضعف ضعفاً شديداً. والشمس في سائر الليل بعيدة عن محيط الأفق، والموضع الذي يجن عليه الليل من وجه الأرض هو في أكثر الليل في وسط ظل الأرض وقريب من الوسط، فإذا قربت الشمس من الأفق مال مخروط الظل وقرب محيط قاعدة الظل المحيطة بالأرض من الموضع الذي قربت الشمس من محيط أفقه، فيصير الموضع الذي قد قربت الشمس من محيط أفقه في محيط الظل وقريباً من حاشية الظل، ويصير الضوء الخارج من الشمس الممتد في طول الظل المماس لطول الظل قريباً من وجه الأرض، ويكون الضوء الذي يصل من هذا الهواء إلى وجه الأرض فيه بعض القوة، فلذلك يدرك البصر الضوء في الهواء عند قرب الصباح ويصل الضوء إلى إلى الأرض عند الصباح. ثم كلما قربت الشمس من الأفق قربت حاشية الظل من وجه الأرض وقرب الهواء المضيء من البصر وقوي الضوء الذي يصل إلى وجه الأرض. فلذلك كلما قربت الشمس من الأفق ازداد الضوء الذي يظهر على وجه الأرض قوة ووضوحاً إلى أن ينتهي محيط جرم الشمس إلى محيط الأفق، فيصير حاشية الظل ونهايته والهواء المضيء بضوء النهار في هذا الوقت مماساً لوجه الأرض. والهواء المماس لوجه الأرض والقريب منه المضيء بضوء النهار قرب الشمس من الأفق وقبل طلوعها هو من جملة مخروط ظل الأرض، وإضاءته إنما هي لقرب هذا الهواء من الهواء المضيء المقابل للشمس لأن كل موضع تكون الشمس تحت أفقه وغير مقابلة له فهو في داخل مخروط الظل، إلا أن هذا الهواء المضيء هو حواشي الظل ومحيطه المجاور للهواء المضيء المقابل للشمس. فالعلة التي من أجلها ليس يظهر الضوء في الهواء في سائر الليل هو بعد الهواء المضيء المقابل للشمس عن وجه الأرض وضعف الضوء الذي يصدر عن الضوء الذي في هذا الهواء المضيء وقصور قوته عن الوصول إلى وسط الأرض. والعلة التي من أجلها يظهر الضوء في الهواء عند الفجر وفي أول الليل ويشرق على وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء هو قرب الهواء المضي المقابل للشمس من البصر وقرب حاشية الظل في هذه الأوقات من وجه الأرض. ولهذه العلة ، اعني القرب، صار أول ما يظهر من الفجر يظهر مستدقاً مستطيلاً، لأن أقرب حواشي الظل من البصر في هذا الوقت هو خط واحد مستقيم، وهو الخط المستقيم الممتد في سطح مخروط الظل الذي يمر بأقرب النقط من محيط قاعدة الظل إلى البصر في ذلك الوقت، إذ البصر في هذه الحال هو في وسط مخروط الظل التي تلي جهة الشمس، فالنقطة التي هي طرف قطر قاعدة الظل الذي يمر بموضع البصر في هذه الحال التي تلي جهة الشمس هي اقرب إلى البصر من جميع النقط التي على محيط قاعدة الظل. وأريد بقاعدة الظل ها هنا السطح الذي يمر بموضع البصر ويقطع مخروط الظل. والخط الذي يخرج من هذه النقطة ويمتد في سطح مخروط الظل هو أقرب الخطوط التي في سطح المخروط في هذه الحال من البصر. فقد تبينت العلة التي من اجلها يظهر الضوء في الجو وعلى وجه الأرض عند الصباح وعند العشاء ولا يظهر في سائر الليل.
● [ لهذا الفصل بقية ] ●
كتاب : المناظر ● تأليف : ابن الهيثم منتدى نافذة ثقافية . البوابة