بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ تابع الضرب ألأول من مسَائلُ التصريفِ ] ●
واعلم : أَنّ قولَهم ( يُهَرِيقُ ) الهاءُ مفتوحةٌ في مكانِ الهمزةِ وكانَ الأَصلُ : يُؤَرِيقُ لأَنَّ أَصلَهُ ( أَفْعَلَ ) مثلُ ( أَكْرَمَ ) فأَكرَم مثلُ ( دحرجَ ) ملحقٌ بهِ وكانَ القياسُ أَن يقولَ في مضارعِ أَكرمَ يُؤكرمُ مثلُ ( يُدحرجُ ) فاستثقلوا ذلكَ لأَنَّهُ كانَ يلزَمُ منهُ أَنْ يقولَ : أَنا أُكْرِمُ مثلُ أُدَحْرِجُ أُأَكرِمْ فحذفوا الهمزةَ استثقالاً لإجتماعِ الهمزتينِ ثُمَّ أتبعوا باقي حروفِ المضارعةِ الهمزةَ وكذلك يفعلونَ أَلاَ تَراهم حَذفوا الواوَ من ( يَعدُ ) استثقالاً لوقوعها بين يَاءٍ وكسرةٍ ثُمَّ أَسقطوها مَع التاءِ والألفِ والنونِ فقالوا : أَعِد ونَعِد وتَعِد فتبعتِ الياءُ أَخواتِها التي تَأتي للمضارعةِ فالذي أبدلَ الهاءَ مِنَ الهمزةِ فَعَلَ ذلكَ استثقالاً لئلا يلزمَهُ أَن يجمعَ بينَ همزتينِ في أَنا أَفعلُ وأَبدلَ فَلَم يحذف شيئاً فإنْ قَالَ قَائلٌ : فمَا تقديرهُ مِنَ الفعلِ قلتَ : يُهَفْعِلُ لأَنَّ الهاءَ زائدةٌ وحَقُّ كُلِّ زائدٍ أَنْ ننطقَ بهِ بعينهِ وكذلكَ لَو قالَ الشاعرُ : ( يؤكرم ) كمَا قالوا : يُؤَثْفِيَنْ لكانَ تقديرهُ ووزنهُ مِنَ الفعلِ ( يُؤفعلُ ) وتقولُ في قَولِ مَنْ قالَ ( يُهْرِيقُ ) فأسكنَ الهاءَ وجعلَها عوضاً مِنْ ذَهابِ الحركةِ إنْ قيلَ : ما تقديرهُ مِنَ الفعلِ لم يجزْ أَنْ تنطقَ بهِ عَلى الأَصلِ لأَنَّكَ إذَا قيلَ لكَ : ما وَزنُ : يُريقُ قلتَ : يُفْعِلُ وكذا عادةُ النحويينَ والفاءُ ساكنةٌ والهاءُ ساكنةٌ فلا يجوزُ أَن تنطقَ بهما إذَا كانَ تقديرُ ( يُريقُ ) يُفْعِلُ
وأَنا أَبينُ لكَ ذلكَ بياناً أكشفهُ بهِ فإنَّ الحاجةَ إلى ذلكَ في هذهِ الصناعةِ شديدةً فأَقولُ إني قَد بينتُ ما دَعا النحويينَ إلى أَن يزنوا بالفاءِ والعينِ واللامِ
وأنهم قَصدوا أَنْ يفصلوا بينَ الزائدِ والأصلِ فالقياسُ في كُلِّ لفظٍ مقدرٍ إذا كانَ فيهِ زائدٌ أَن تحكيَ الزائدَ بعينهِ فتقولُ في ( أَكرَم ) إنَهُ ( أَفعلُ ) وفي ( كَرامةٍ ) أَنها ( فَعَالَةٌ ) وفي كَريمٍ أَنَّهُ ( فَعيلٌ )
ومُكرَمٌ مُفْعَلٌ لأن ذلكَ كُلَّهُ مِنَ الكَرمِ فالأَصلُ الذي هُوَ الكافُ والراءُ والميمُ موجودٌ في جميعِها فالكافُ فاءٌ والراءُ عَيْنٌ والجيمُ لامٌ فَعَلى هَذا يجري جميعُ الكلامِ في كُلِّ أَصلي وزَائدٍ فإذا جئنا إلى الأصول التي تعتلُّ وتحذفُ فإنَّ النحويينَ يقولونَ إذا سئلوا : ما وزنُ ( قَامَ ) قَالوا : ( فَعَلَ ) فيذكرونَ الأَصلَ لأنه عندَهم مثلُ ( ضَرَبَ ) وإنَّما كانَ الأَصلُ ( قَوِمَ ) ثُمَّ قلبتِ الواوُ ألفاً ساكنةً وإذَا قيلَ لَهم : ما وزنُ يَقولُ : قالوا : ( يَفْعُلُ ) لأَنَّ الأَصلَ ( كانَ يَقْوُلُ ) فحولتِ الحركةُ التي كانت في الواوِ إلى القافِ وإذَا قيلَ لَهم : ما وزنُ مَقولٍ قالوا : مفولٍ لإِنَّ الأَصلَ : مقوولٌ فحولتِ الضمةُ إلى القافِ فاجتمعَ ساكنانِ فَحذفَ أَحدهُما فهذَا الذي قالوهُ صحيحٌ وإنِّما يريدونَ بذلكَ المحافظةَ على الأُصولِ لتُعلمَ وأَنَّ ما يغيرُ مِنَ اللفظِ فَلعلةٍ إلاّ أَنهُ يجبُ أَنْ تمثلَ الكلمةُ المعتلةُ بما هيَ عليهِ مِنَ اللفظِ كمَا يمثلُ الأصل فيقولُ : مِثَالها المسموعُ كَذا : والأَصلُ كَذا كمَا قالوا في ( رُسْلٍ ) فيمَن خففَ إنَّ الأَصلَ ( فُعُلٌ ) وإنَّ الذينَ خَففوا قَالوا : ( فُعْلٌ ) فيجبُ علَى مَنْ أَرادَ أَن يمثلَ الكلمةَ مِنَ الفعلِ بمَا هيَ عليِه ولم يقصد الأَصلَ إِذا قيلَ لَهُ : ما وزنُ ( قَالَ ) بَعدَ العلةِ قالَ ( فَعْلَ ) وإنْ قيلَ لَهُ : ما وزنُ قُلْتُ قالَ : فلتُ : فإنْ قيلَ : ما الأَصلُ قَالَ : فَعُلْتُ قيلَ لَهُ : ما وَزنُ قِيلَ قالَ : فِعْلَ فإنْ أَريدَ الأَصلَ قالَ : فُعِلَ فإنْ قيلَ لَهُ : ما وَزنُ مَقولٍ فإنْ كانَ ممن يقدرُ حذفَ واوِ مفعولٍ وذاكَ مذهبهُ قَالَ ( مَفُعْلٌ )
وإنْ كانَ ممن يذهبُ إلى أَنَّ العينَ الذاهبةَ قالَ : مَفولٌ فإنْ سُئلَ عَنِ الأصلِ قالَ : مَفعولٌ وكذلكَ إذا سُئلَ عَنْ ( يَدٍ ) قَالَ ( فَعٍ ) فإنْ سُئِلَ عَنِ الأصلِ قالَ ( فَعْلٌ ) كمَا بينا فيمَا تقدم وإنْ سُئلَ عَنْ ( مُذْ ) قالَ : ( فَلْ ) فإنْ سُئِلَ عَنِ الأصلِ قالَ : فُعْلٌ لأَنَّ أصلَ ( مُذْ ) : مُنْذُ فالعينُ هيَ الساقطةُ وكذلكَ : ( سَهْ ) إنْ قالَ : ما وزنُها في النطقِ ( قلت ) ( فَلْ ) فإنْ قالَ : ما الأَصلُ قلتَ ( فَعْلُ ) كمَا ذكرنَا ويلزمُ عندي مِنْ مثلِ قَالَ : يَفْعَلُ ومقولٌ : بِمَفْعُولٌ أَن يمثلَ يُكْرِمَ بيؤفعلُ فيذكرُ الأَصلَ فأمَّا ( أُمهاتٌ ) فوزنُها ( فُعْلَهاتٌ ) يدلُّكَ عَلَى ذلكَ أَنَّهم يقولونَ : أُمٌّ وأُمهاتُ فيجيئون في الجمعِ بمَا لم يكنْ في الواحدِ
وقد حكى الأخفشُ علَى جهةِ الشذوذِ أَنَّ مِنَ العربِ مَنْ يقولُ : ( أُمَّهَةٌ ) فإنْ كانَ هذَا صحيحاً فإنَّهُ جعلَها فُعَّلَةً وأَلحقَها بِجُخْدَبٍ ومَنْ لم يعترف بِجُخْدَبٍ ولَم يثبتْ عندَهُ أَنَّ في كلامِ العربِ ( فُعْلَلاً ) وَجَبَ عليهِ أَنْ يقولَ ( أُمَّهَةٌ ) فُعْلَهَةٌ كمَا قالَ : إنَّ جُنْدَباً فُنْعَلٌ ولَم يَقلْ : فُعْلُلٌ وإذَا قيلَ لكَ ما وَزنُ ( يَغْفُر ) فإن قالَ السائلُ ما أَصلهُ فقلْ : يَفْعَلُ ولكنْ أتبعُوا الضمَّ الضمَّ وإنْ كانَ سُئِلَ عَنِ اللفظِ فَقُلْ ( يُفْعُلُ ) وكذَلكَ ( مِنْتِنٌ ) إنْ قَالَ ما وزنهُ قَلتَ : الأَصلُ ( مُفْعِلٌ ) ولكنْ أتبعوا الكسرَ الكسرَ واللفظُ ( مِفُعِلٌ ) وتقولُ في ( عِصِي ) إنَّها ( فُعولٌ ) في الأَصلِ وفَعيلٌ في اللفظِ والتمثيلُ باللفظِ غيرُ مَأْلوفٍ فَلا تلتفتْ إلى مَنْ يستوحشُ منهُ ممن يطلبُ العربيةَ فإنَّ مَنْ عرفَ أَلفَ ومَنْ جَهلَ استوحشَ وهذَا مذهبُ أَبي الحسن الأخفش وتقولُ في ( قِسِيٍّ ) أَصلهُ : فُعُولٌ وكانَ حقهُ ( قُووُسٌ ) ولكنْ قدَموا اللامَ علَى العينِ وصيروهُ ( فُلُوعٌ ) وكانَ حقهُ أَنْ يكونَ ( قِسُوٌ ) فصنَعوا بهِ ما صنَعوا بعِصِيٍّ قلبوا الواوَ ياءً وكسروا القافَ كما كسروا عينَ ( عِصيٍّ ) فالمسموعُ مِنْ ( قِسيٍّ ) ( فِليعٌ ) وأَصلُ ( فِليعٌ ) فُلُوعٌ وفُلُوعٌ مقلوبٌ مِنْ فُعُولٍ
وقَالوا في ( أَيْنُقٍ ) إنَّ أَصلَها ( أَنْوَقٌ ) فاستثقلوا الضمةَ في الواوِ فحذفتِ الواوُ وعوضتِ الياء فيقولونَ إذا سئلوا عَنْ وزنِها أَنَّها ( أَفْعُلٌ ) واللفظ على هذا التأويلِ هو ( أَيْفُلٌ ) ولقائلٍ أَنْ يقولَ : إنَّهم قلَبوا فَصارَ ( أَونقاً ) ثُمَّ أَبدلوا مِنَ الواوِ ياءً والياءُ قَدْ تبدلُ مِنَ الواوِ لغيرِ علةٍ استخفافاً فَعَلى هَذا القول يكونُ وزنُ ( أَينُقٍ ) ( أَعفُل ) كما قالَ الخليلُ في أَشياءٍ : إنَّها ( لَفْعَاء ) لأَنَّ الواحدَ شَيءٌ فاللامُ همزةٌ فلمَّا وجدَها مقدمةً قالَ هيَ : لَفْعاء وقَد قالَ غيرهُ : إنَّها ( فَعْلاَءُ ) كانَ الأصلُ عندَهُ شَيئَاءُ فحذفتِ الهمزةُ
قَالَ المازني : قالَ الخليلُ : أَشياءُ ( فَعْلاَءُ ) مقلوبةٌ وكانَ أصلُها شَيئاءَ مثل : حمراءَ فقلبَ فجعلتِ الهمزةُ التي هي لامٌ أَولاً فَقَالَ : أَشياءُ كأَنَّها لَفْعَاءُ ثُمَّ جَمعَ فَقالَ : أَشاوى مثلَ : صَحَارى وأَبدلَ الياءَ واواً كمَا قالَ : جَبَيْتُ الخراجَ جِبَاوَةً وهَذا شَاذٌّ وإنَّما احتلنا لأَشاوى حيثُ جاءتْ هكذَا لتعلمَ أَنَّها مقلوبةٌ عن وجهِها
قالَ : وأخبرني الأصمعي : قَالَ : سمعتُ رَجلاً مِنْ أَفصحِ العربِ يقولُ لخلفٍ الأحمر : إنَّ عندكَ لأَشَاوِي قالَ : ولو جاءتِ الهمزةُ في ( أَشياءَ ) في موضِعها مؤخرَةً بعدَ الياءِ كنتَ تقولُ : شَيئاءُ قالَ : وكانَ أَبو الحسن الأَخفش يقولُ : أَشْيئَاءُ أَفْعِلاَءُ وجُمعَ شيَءٌ عليهِ كما جَمعوا شَاعراً على شعراءَ ولكنَّهم حذفوا الهمزةَ التي هيَ لام استخفافاً وكانَ الأصلُ : أُشْيئاءُ أُشْيِعَاعٌ فثقل ذلك فحذفوا فسألتهُ عَن تصغيرِها فقالَ : العربُ تقول أَشَيَّاءٌ فاعلَم فيدعونَها على لفظِها فقلتُ : لِمَ لاَ رُدتْ إلى واحدِها كما رُدتْ ( شعراءُ ) إلى واحِدها فَلَم يأتِ بمقنعٍ
وقالَ : قَالَ الخليلُ : أَشَياءُ مقلوبةٌ كما قلبَوا ( قِسيٌّ ) وكانَ أَصلُها ( قُوُوسٌ ) لأَنَّ ثانيَ ( قَوْسٍ ) واوٌ فَقُدّمَ السينُ في الجمعِ وهم مما يغيرونَ الأَكثرَ في كلامِهم قَالَ الشَاعرُ :
( مَروانُ مَروانُ أَخوُ اليومِ اليَمِي . ... . )
يريدُ ( اليومَ ) فأخَّر الواوَ وقدمَ الميمَ ثمَ قَلَب الواوَ حيثُ صارتْ طرفاً كما قالَ : ( أَدلٍ ) في جَمعِ ( دَلْوٍ ) ومما أُلزمَ حذفُ الهمزةِ لكثرةِ استعمالِهم ( مَلكٌ ) إنَّما هُوَ ( مَلأَكٌ ) فلمَّا جَمعوهُ وردوهُ إلى أَصلهِ قالوا : ملائكةٌ وملائكُ وقَد قالَ الشاعرُ فَ ظَردَّ الواحدَ إلى أصله حين احتاج :
( فلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لَمَلأَكِ ... تَنَزَّلُ مِنَ جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ )
قالَ : ومِنَ القلبِ : طأَمنَ واطمأنَ قال : وأَمَّا : جَذَبَ وجَبَذَ فلَيسَ واحدٌ منهما مقلوباً عَنْ صاحبهِ لأَنُّهما يتصرفانِ وأما ( طَأَمَن ) فليسَ أَحدٌ يقولُ فيهِ ( طمأَنَ ) ومما يُسأْلُ عنهُ ( أَوَّلُ ) إنْ قالَ قائلٌ : هذهِ همزةٌ أُبدلَ منها واوٌ واحتجَّ بأَنَّهُ لم يرَ الفاءَ والعينَ مِنَ جنسٍ واحدٍ قيلَ لَهُ : قَد قالوا : الدَّدَنُ وكَوْكَبٌ ويقالُ لِمَن اعترضَ بهذَا أَي : الواوين مِنْ أَوَّلِ تجعلَها بدلاً مِنَ الهمزةِ فإن قالَ : الأوَلى قيلَ لَهُ : لو كانتْ همزة لوجبَ أَنْ تبدلَ الفاءَ كمَا قالوا : آمِنٌ وإنْ قالَ : الثانيةُ قيلَ لَهُ : لو كانتِ الثانيةُ همزةً لوجبَ حذفُها في التخفيفِ وكنتَ تقولُ : أَوَّلُ فَعَّلُ كمَا تقولُ في تخفيفِ ( مَؤَلةٍ ) مَوَلَةٌّ فإنْ قالَ : وَلَم قالوا : أَوائلُ ولم يقولوا : أَواولُ قيلَ : هذَا كانَ الأصلُ ولكنَّهم تجنبوا اجتماع الواوينِ وبينَهما ألف الجمعِ ومِما يغيّرُ في الجمعِ الهمزتانِ إذَا اكتنفتا الأَلفَ نحو : ذُؤابة إذا جمعتها قلتَ : ذَوَائِبٌ وكان الأصل : ( ذأآئبٌ ) لأن الألف التي في ( ذُؤَابةٍ ) كالألفِ التي في ( رِسَالةٍ ) حقُّها أَنْ تبدلَ منها همزةً في الجمعِ ولكنَّهم استثقلوا أَنْ تقعَ ألَفُ الجمعِ بينَ همزتينِ كَما استثقلوا أَنْ تقعَ بينَ واوينِ فأَبدلوا الأُولى التي هيَ أَصلٌ وتنكبوا إِبدالَ الثانيةَ التي هيَ بَدلٌ مِنْ حرفٍ زائِدٍ الزوائدُ أصلُها السكونُ وإنَّما أبدلتْ لمّا أرادوا حركتها واضطرهم إلى ذلك الفرارُ مِنَ الجمع بين ساكنينِ وكان ملازمةُ الهمزةِ تدلُّ علَى أنَّ المبدلَ زائدٌ فأمَّا خَطَايا وأَدَاوَى فإنَّهم جعلوا موضعَ الهمزةِ ياءً وواواً وأزالوا البناءَ عَنْ وزنِ ( فَعَائلٍ ) إلى ( فَعَالٍ ) ثم نقلوها إلى ( فَعَائِلَ ) وعَاولَ فجاءوا ببناءٍ أخرَ وَلمْ ينطقوا بالهمزةِ معَ هذا البناءِ وإنَّما هو شيءٌ يقدرهُ النحويون أَلا تَرَى أَنَّ الشاعرَ إذَا اضطَرَّ فقالَ :
( سَماءُ الإِلهِ فوقَ سَبعِ سَمَائِيَا ... )
لمَّا رَدَّ البناءَ إلى ( فَعَائلَ ) وكسرَ رَدَّ الهمزةَ فحروفُ المَدِّ إذَا أبدلتْ للضرورةِ قَبُحَ أَنْ تبدلَ بدلاً بعدَ بدَلٍ فتشبهُ الأُصولَ أَلاَ ترى أَنَّ أَلفَ ( سَائرٍ ) لما أُبدلتْ في ( سُوَيرٍ ) واواً لم تُدغم فتقديرُ خَطيئةٍ : فَعَيلةٌ وتقديرُ إدَاوةٍ : فِعَالةٌ وخَطيئةٌ مثلُ : صَحيفةٍ كانَ القِياسُ عَلَى ذلك أَنْ يقالَ فيها : خَطائيٌ خَطَاعيٌ مثل صَحَائف فكانَ يجتمعُ همزتانِ فتنكبوا ( فَعَائِلَ ) إلى ( فَعَائَلَ ) كما قَالوا في مَدَارِي : مَدَارَى وكانَ مَدَارِي : مَفَاعِلُ فجعلوه ( مَفَاعَلَ )
والنحويونَ يقولونَ : إنَّهُ لما نقلَ وقعتِ الهمزةُ بينَ أَلفينِ فأُبدلتْ يَاءً : قالوا : وإنَّما ( فُعِلَ ) ذلكَ بها لأَنَّكَ جمعتَ بينَ ثلاثةِ أَلفاتٍ وهذَا المعنى إنَّما يقعُ إذَا كانتِ الهمزةُ عارضةً في الجمعِ وهَذا تقديرٌ قدروهُ لا أَنَّ هَذا الأَصلَ سُمعَ مِنَ العربِ كما قد تأتي بعضُ الأشياءِ على الأصولِ مثل : حَوكةٍ واستحوذَ فَخَطايا وبابُها لم يُسمع فيه إلاّ الياءُ وأَما ( إداوةٌ ) فهي ( فِعَالةٌ ) مثلُ ( رِسَالةٍ ) وكانَ القياسُ فيها ( أَدَائيء ) مثلُ ( رَسَائل ) تثبتُ الهمزةُ التي هيَ بَدلٌ مِنْ أَلفِ ( إداوةٍ ) كما تثبتُ الهمزةُ التي هيَ بَدلٌ مِنْ أَلفِ ( رِسَالةٍ ) فتنكبوا ( أَدَاي ) كما تنكبوا ( خَطاي ) فجعلوا فَعَائِلَ : فَعَائَلَ وأَبدلوا منها الواوَ ليدلوا علَى أَنَّهُ قد كانتْ في الواحدِ واوٌ ظاهرةٌ فقَالوا : أَدَاويٌ فهذهِ الواوُ بَدلٌ مِنَ الألفِ الزائدةِ في ( إدَاوةٍ ) والأَلفُ التي هي لامٌ بَدلٌ مِنَ الواوِ التي هيَ لامٌ في ( إدَاوةٍ )
ومِمَا يُسأَلُ عَنهُ ( سُرِيَّةٌ ) ما تقديرُها مِنَ الفعلِ وهَلْ هيَ ( فُعَليَّةٌ ) أَو ( فُعِيلَةٌ ) وممَّ هيَ مشتقةٌ والذي عندي فيها أَنَّها فُعْليَّةٌ مشتقةٌ مِنَ ( السرِّ ) لأَنَّ الإِنسان كثيراَ ما يُسِرُّها ويسترُ أَمْرَها عن حُرَّتِهِ
وكانَ الأخفشُ يقولُ : إنَّها ( فُعِيلَةٌ ) مشتقةُ مِنَ ( السرورِ ) لأَنَّها يُسَرُّ بها وإنَّما حكمنا بأَنَّها ( فَعْلِيَّةٌ ) ولم نَقلْ : إنَّها ( فُعِيلةٌ ) لضربينِ : لأَنَّ مثالَ ( فَعْليَّةٌ ) كثيّر نحو : قُمْريةٍ وفُعِيلةٌ قليلٌ نحو : مُرِيقَةٍ
والضربُ الآخرُ : الإشتقاقُ ومَا يدلُّ عليهِ المعنى لأَنَّ الذي يقولُ إنَّها ( فُعِيلةٌ ) يُقالُ لَهُ : مِمَّ اشتققتَ ذلكَ فإِنْ قالَ : أَردتُ : ركبتُ سراتَها وسراةُ كُلِّ شيءٍ أَعلاهُ فقدَ ردَّ هذَا أبو الحسن الأخفش فقالَ : ذَا لا يشبهُ لأَنَّ الموضعَ الذي تؤتى المرأةُ منهُ ليسَ هُوَ سراتُها وإنَّما سَرَاةُ الشيء ظهرهُ أَوْ مقدمهُ لأَنَّ أَولَ النهارِ سَرَاتُه وظهرُ الدابةِ : سَرَاتها فهذَا عندي بعيدٌ كمَا قالَ أبو الحسن فإنْ قيلَ : إنَّهُ من ( سَرَيْتُ ) فهوَ أَقربُ مِنْ أَن يكونَ من ( السَّرَاةِ ) والصوابُ عندي ما بدأتُ بهِ وأَمَّا ( عُلِيّةٌ ) فهيَ ( فُعِيّلةٌ ) ولو كانتْ ( فُعْليّةً ) لقلتَ ( عُلْويّةٌ ) وهيَ من ( عَلَوتُ ) لأنَّ هذِه الواوَ إذا سكنَ ما قبلَها صحتْ كما تنسبُ إلى ( دَلوٍ ) دَلَوِيٌّ ولكنَّها قلبتْ في ( عُلِيّةٍ ) لمَّا كانتْ ( فُعِيَّلَةٌ ) مثلُ ( مُرِيَّقةٍ ) وكانَ الأصلُ ( عُلْيُوَة ) فأبدلتِ الواوُ ياءً وأُدغمتِ الياءُ فِيَها وكذلكَ كُلٌّ ياءٍ ساكنةٍ بعدَها واوٌ تقلبُ لَها ياءٌ وتدغمُ فيها وقَد مضَى ذِكرُ هذَا في الكتابِ
ومِنَ ذلكَ قولهُم : لا أَدرِ ولَم يكُ ولَم أبلِ وجميعُ هذهِ إنّما حذفتْ لكثرةِ استعمالِهم إيّاها في كلامِهم وإنّما كثر استعمالُهم لهذهِ الأَحرفِ للحاجةِ إلى معانِيها كثيراً لأَنَّ : لا أَدري أَصلٌ في الجهالاتِ ويكونُ عبارةٌ عن الزمانِ ولَم أَبلِ مستعملةٌ فيما لا يكترثُ بهِ وهذهِ أَحوالٌ تكثُر فيجبُ أن تكثَر الألفاظ التي يعبرُ بهنَّ عنْها وليسَ كُلُّ ما كثر استعمالهُ حُذِفُ فأَصلُ لا أَدرِ : لا أَدري وكانَ حَقُّ هذهِ الياءِ أَنْ لا تُحذفَ إلاّ لجزمٍ فحذفتْ لكثرةِ الإستعمالِ وحَقُّ لم يكُ : لم يكنْ وكانَ أَصلُ الكلمةِ قبلَ الجزمِ ( يكونُ ) فلمَّا دخلتْ عليها ( لَم ) فجزمتَها سكنتِ النونُ فالتقى ساكنانِ لأَنَّ الواوَ ساكنةٌ فحذفتِ الواوِ لإلتقاءِ الساكنينِ فوجبَ أَنْ تقولُ : لم يكنْ فلمَّا كثرَ استعمالُها وكانتِ النونُ قد تكونُ زائدةً وإعراباً في بعض المواضع شبهت هذه بها وحذفت هنا كما تحذف في غير هذا الموضع وأَمَّا : لَم أَبل فحقهُ أَنْ تقولَ : لم أُبالِ كَما تقولُ لَم أِرامِ يَا هذَا فحُذفتِ الأَلفُ لغيرِ شيءٍ أَوجبَ ذلكَ إلاَّ ما يؤثرونَهُ مِنَ الحذفِ في بعضِ ما يكثُر استعمالُه وليسَ هذَا مما يُقاسُ عليهِ
وزَعَم الخليلُ : أَنَّ نَاساً مِنَ العربَ يقولونَ : لَم أُبَلِهِ لا يزيدونَ على حذفِ الألفِ كما حذفوا : عُلَّبِطٍ وكذلكَ يفعلونَ في المصدرِ فيقولونَ : بَالَةٌ : ( بَالِيةٌ ) كمَا قيلَ في عَافَى : عِافيةٌ
ولم يقولوا : لا أُبَلْ لأَنَّ هَذا موضعُ رفعِ كمَا لم يحذفوا حينَ قالوا : لم يكنِ الرجلُ لأَنَّ هذَا موضعٌ تُحَركُ فيهِ النونُ ومما يشكلُ قولُهم : مِتَّ تَموتُ وكانَ القياسُ أَن يقولَ مَنْ قَالَ : مِتَّ : تَماتُ مثلُ : خَفْتُ تَخافُ ومَنْ قالَ : تَمُوتُ وجبَ أَنْ يقولَ : مُتَّ كَما قلتَ : قُمتَ تَقُومُ فهذَا إنّما جاءَ شاذّاً كَمَا قالوا في الصحيح : فَضِلَ يَفْضُل
قالَ المازني : وأَخبرني الأَصمعي قالَ سمعتُ عيسى بن عمر يُنشدُ لأبي الأسود :
( ذكرتُ ابنَ عباسٍ ببابِ ابن عَامرٍ ... وما مَرَّ مِنْ عيشي ذكرتُ وَما فَضِلْ )
قالَ : ومثلُ ( مِتَّ تَموتَ ) : دِمْتَ تَدومُ وهَذا مِنَ الشاذِّ ومثلُه في الشذوذِ : كُدتُ أَكادُ
وزَعِم الأصمعي : أَنَّهُ سمعَ مِنَ العربِ مَنْ يقولُ : لا أَفعلُ ذاكَ ولاَ كَوْداً فجعلَها مِنَ الواوِ
وقالَ أصحابنا : إنَّ ( لَيْسَ ) أَصلُها لَيِسَ نحو : صَيِدَ البعيرُ ولَم يقلبوا الياءَ ألفاً لأَنَّهم لم يريدوا أَنْ يصرفوها فيستعملوا مِنْها ( يَفْعَلُ ) ولا فَاعِلُ ولا شيئاً مِنْ أَمثلةِ الفِعْل فأسكنوا الياءَ وتركوها على حالِها بمنزلةِ ( لَيْتَ ) ومِنْ ذلكَ ( هَمّرِشٌ )
قالَ الأخفش : الميمُ الأُولى عندَنا نونٌ لتكونَ من بناتِ الخمسةِ حتَّى تصيرَ في مثالِ ( جَحْمَرِشٍ ) لأَنَّهُ لم يجىء شيءٌ من بناتِ الأربعةِ علَى هذا النباءِ وأَمَّا ( هُمَّقِعٌ ) فَهما ميمانِ لأنَّا لم نجدْ هذَا البناءَ في بناتِ الخمسةِ وكذلكَ ( شُمّخرٌ ) ندعهُ على حالِه ونجعلهُ من بناتِ الأَربعةِ لأَنَّ الأربعةَ قد جاءتْ علَى هذَا البناءِ نحو ( دُبَّخْسٍ ) وكذلك ( غُطَمّشٌ ) مثلُ : عَدَبّسٍ وهوَ مِنْ بناتِ الأَربعةِ قالَ : ولو كانتْ منْ بناتِ الخمسةِ وكانتِ الأُولى نوناً لأظهرتَ النونَ لئلا تلتبسَ بمثلَ ( عَدَبَّسٍ )
وقال : إنْ صَغَّرْتَ ( هَمَّرِشٌ ) فالقياسُ أنْ تقولَ : هُنَيمِرٌ لأنّ الأولى كانت نوناً وإن شئت قلتَ : هُمَّيرِشٌ وقلتَ مثلَ هذَا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعهُ ( هَمَارشَ ) لأَنَّ النونَ والميمَ مِنَ الحروفِ الزوائدِ وإنْ لم تكنْ في هذا المكانِ زائدةً فإنّها تشبهُ ما هُوَ زائدٌ فَتُلقَى هَا هَنَا
قَالَ : فإنْ قلتَ : ما لكَ لم تبينْ النونَ في ( هَمَّرِشٍ ) فلأَنَّهُ لَيسَ لَها مثالٌ تلتبسُ بهِ فتَفصلُ بينَهما
وقالَ الأخفشُ : كلَمونُ مثلُ : زَرَجُونَ وَهوَ العنبُ تقولُ : هذهِ كلمونُكَ لأَنَّ هذهِ النونَ مِنَ الأصلِ وهذَا مِنْ بناتِ الأربعةِ مثلُ : ( قَرَبُوسٍ ) ولَمْ تزدْ فيهِ هذهِ الواوَ والنونُ كزيادةِ نونِ الجميعِ
وحكي عن الفَراءِ في قولِهم : ضَرَبَ علَيهم سَايةً أَنَّ معناهُ طريقٌ قالَ : وهيَ فَعْلَةٌ مِنْ ( سَوُّيتُ ) قلبوا الياءَ أَلفاً استثقالاً لسِيَّةٍ فقلبوا الياءَ لأَنَّ قبلَها فتحةً كمَا قالوا : دَويَّةٌ ودَاويةٌ وهذاَ الذي قالهُ الفراءُ يجوزُ أَنْ يكونَ كما قالَ والقياسُ أَنْ يكونَ وزنُ ( سايةٍ ) فَعْلَةً لأَنَّ الأَلفَ لا تُبدلُ إبدالاً مطرداً إلاّ مِنْ حرفٍ متحركٍ وقدَ مضَى ذِكرُ هذَا في الكتابِ
وقالَ محمد بن يزيد : قولُ سيبويه في ( ضَيْوَنٍ ) إذَا جمعهُ قالَ : ضَياونُ فيصححهُ في الجمعِ كما جاءَ في الواحدِ علَى أصلِه
وزعمَ أَنَّهُ لو جَمع ( أَلبَبَ ) في قولِه : قَدْ عَلِمتْ ذاكَ بناتُ أَلَببه لقالَ ( الأَلبَّب ) فَاعِلّةٌ قالَ : فيقالُ لَهُ : هَلا صححتُه في الجمعِ كما صَحَّ في الواحدِ أَو أعللتَ ( ضَيْوَنَ ) في الجمع كما أعللتهُ وقلت : صححتهُ في الواحدِ شذوذاً فأَردهُ في الجمع إلى القياسِ كما فَعَلْتَ ( بألببٍ ) ولِمَ فرقتَ بينَهما وقد استويَا في مجيءِ الواحدِ علَى الأَصلِ
وزعمَ أَنَّهُ إِذَا صغَرَّ أَلْبِب وحَيْوَةً وضَيْوَنَ أَعلَّهُنَ وسَوًى بينهَن في التصغيرِ فقالَ ( أُلَيّبٌ وضُييَنٌ وحُييَّةٌ )
فيقالُ لَهُ : لِمَ استوينَ في التصغيرِ وخالفتَ بينَ ( أَلبَب ) وبينَهما في الجمعِ ولِمَ خالفَ بينَ جمعِ ( حَيوةٍ ) وبينَ تصغيرِها فصححتَ ( ضَيْوَنَ ) في الجمعِ وأَعللتَها في التصغيرِ وزعَم أَنَّ الواوَ لا تصحُّ بعدَ ياءٍ ساكنةٍ وقد صحَتا في الواحِد في ( حَيوُةٍ وضَيْوَن ) على الأَصلِ شَاذتينِ فهَلاّ أتبعتهما التصغيرَ أَو رددتَ إلى القياسِ في الجمعِ كما فعلتَ في التصغيرِ كما سويتَ بينَ جمعَ ( أَلبَبٍ ) وتصغيرهِ في الردِ إلى القياسِ قالَ : والجوابُ عندي في ذلكَ أَنَّ البابَ مختلفٌ فأَمَّا ( ضَيْوَنٌ ) فَقَد جُعلَ في الواحدِ بمنزلةِ غيرِ المعتلِّ فالوجهُ أَن يجريَ علَى ذلكَ في الجمعِ فيصيرُ : ( ضَيَاونُ ) بمنزلةِ جَدَاولٍ وأَسَاودٍ وتقولُ في التصغيرِ : ضُيَيِّنٌ علَى ما قالَهُ سيبويه لأَنَّ ياءَ التصغيرِ قبلَ الواوِ فيصيرُ بمنزلةِ ( أُسَيّدٍ ) ولا يكونُ أَمثل منهُ حالاً مَع ما فيهِ قبلَ التصغيرِ ويكونُ جمعهُ بمنزلةِ ( أَسَاوِدٍ ) ومَنْ قالَ في التحقيرِ : ( أُسَيودٌ ) فلاَ أَرى بأساً بأَنْ يقولَ : ( ضُيَيْونٌ ) لأَنَها عينٌ مثلُها ولا يكونُ إِلاّ ذلكَ لصحتِها
وأَمَّا ( أَلبَبُ ) فيجبُ أَنْ يكونَ في الجمعِ والتحقيرِ مُبيّناً جارياً على الأَصلِ فتقولُ : ( أَلاَبِبُ وأُلَيَبَبٌ ) فتُجري جمعَهُ علَى واحدِه كما فعلتَ ( بضَيْوَنٍ ) لا فرقَ بينَهما وكذلكَ تصغيرهُ لأَنَّ ياءَ التصغيرِ ليسَ لها فيه عَملٌ كَما كانَ لَها في تصغيرِ ( ضَيْوَنٍ ) فكذلكَ خالفهُ وكانَ تصغيرهُ كجمعِه وأَمَّا ( حَيْوَةٌ ) فَمِنْ بنات الثلاثةِ والواوُ في موضعِ اللامِ فلا سبيلَ إلى تصحيحِها لأَنَّ أَقصى حالاتِها أَنْ تجعلَ ( كَغَزْوةٍ ) في التصغيرِ فتقولُ : ( حُيَيّةٌ ) وجمعُها كجمعِ ( فَرْوَةٍ ) حَياءٌ تقولُ : ( فِرَاءٌ )
وأَمَّا ( مَعِيشَةٌ ) فكانَ الخليلُ يقولُ : يصلحُ أَنْ تكونَ ( مَفْعَلةً ) ويصلحُ أَن يكونَ ( مَفْعِلةً )
وكانَ أبو الحسن الأَخفش يخالفهُ ويقولُ في ( مَفْعُلَةٍ ) مِنَ العيشِ ( مَعُوشةٌ ) وفي ( فُعْلٍ ) مِنَ البيعِ والعيشِ ( بُوعٌ وعُوشٌ ) ويقولُ في ( أَبيضَ وبِيضٍ ) : هُوَ ( فِعْلٌ ) ولكنَّهُ جَمعٌ والواحدُ ليسَ علَى مذهبِ الجمعِ
قالَ أبو عثمان المازني : قولُ الأخفش في ( مَعيشةٍ ) ( مَعُوشةٌ ) تَركٌ لقولِه في ( مَبيعٍ ومَكيلٍ ) وقياسهُ علَى ( مَكيلٍ ومَبيعٍ ) ( مَعِيشةٌ ) لأَنَّهُ زعمَ أَنَّهُ حينَ أَلقى حركةَ عِينِ ( مَفْعولٍ ) علَى الفاءِ انضمتِ الفاءُ ثُمَّ أُبدلتْ مكانَ الضمةِ كسرةٌ لأَنَّ بعدَها ياءً ساكنةً وكذلكَ يلزمهُ في ( مَعْيشةٍ ) وإِلاّ رجعَ إِلى قولِ الخليلِ في ( مَبيعٍ ) وذكرَ لي عَن الفراءِ أَنَّهُ كانَ يقولُ : ( مَؤونةٌ مِنَ الأَينِ ) وَهوَ التعبُ والشدة فكانَ المعنى : أَنَّهُ عظيمُ التعبِ في الإِنفاقِ علَى مَنْ يَعُولُ
قَال أَبو بكر : وهَذا على مذهبِ الخليلِ لا يجوزُ أَن يكونَ : ( مَوْؤنةً مِنَ الأينِ ) لأَنَّها ( مَفْعُلَةٌ ) ولو بنى ( مَفْعُلَة ) مِنِ الأينِ لقالَ : ( مَئِينُةٌ ) كَما قالَ : ( مَعِيشةٌ ) وعلَى مذهبِ الأخفشِ يجوزُ أَنْ تكونَ ( مؤونةٌ ) مِنَ الأينِ إِلاّ أَنَّ أبا عثمان قَد أَلزمهُ المناقضةَ في هَذا المذهبِ وَمَوْؤُنَةٌ عندي وَهْوَ القياسُ ( مَفْعُلَةٌ ) مأْخوذٌ مِنَ ( الأَونِ ) يقالُ ( للأتانِ ) إِذا أقربتْ وعظمَ بَطنُها : قد ( أَوَّنَتْ ) وإِذَا أَكلَ الإِنسانُ وشَربَ وامتلأَ بطنهُ وانتفختْ خاصرتاهُ يقالُ : قَد ( أَوَّنَ ) تأْويناً . قالَ رؤبةُ :
( سِرْاً وَقدْ أَوَّنْ تَأْوينَ العُقُقْ ... )
وقالَ أَيضاً : ( الأَوْنَانِ ) جَانبا الخرجِ فينبغي أَنْ يكونَ ( مَوؤُنَةٌ ) مأخوذةً مِنَ ( الأونِ ) لأَنّها ثقلٌ علَى الإِنسانِ فتككونُ ( مَوؤُنةً ) مَفْعُلَةً فإنْ قَالَ قائلٌ : إنَّ مَوؤُنةً مَفْعُولةٌ قيلَ لَهُ : فَقُلْ في مَعِيَشةٍ إنَّها مَفْعُولةُ مثلُ : ( مَبِيَعةٍ ) ومَفعولٌ ومَفعولةٌ لا يكادُ يجيءُ إِلاّ علَى ما كانَ مبنياً علَى ( فَعْلٍ ) تقولُ : ( بِيعَ ) فهوَ مَبِيعٌ وبِعتُ فهِيَ مَبِيعَةٌ وقِيلَتْ فهيَ مَقُولةٌ وليسَ حَقُّ المصادر أَنْ تجيء على ( مَفْعُولةٍ ) وقَد اختلفَ أَصحابُنا في ( مَعقولٍ ) فقالَ بعضُهم : هَوَ مصدرٌ وقالَ بعضُهم : صفةٌ ولَو كانَ ( معقولٌ ) مصدراً لا خلافَ فيهِ ما وجَبَ أَن يردَّ إليهِ شيءٌ ولا يقاسُ عليهِ إِذَا وجدَ عنهُ مذهبٌ لقلتِه . ومِنْ هَذا البابِ ( أُسطُوانةٌ )
قالَ الأخفش : تَقولُ في ( أُسطُوانةٍ ) إِنَّهُ فُعْلُوانةٌ لأَنكَ تقولُ : أَسَاطينُ فأَساطينُ فَعَالين كانتْ ( أُفْعُلاَنةً ) لم يجزْ : أَسَاطينُ لأَنَّهُ لا يكونُ في الكلامِ ( أَفاعينُ )
وقَد قالَ بعضُ العربِ في ترخيمِ ( أُسطُوانةٍ ) : سُطَينةٌ فَهَذا قولُ مَنْ لغتهُ حَذْفُ بعضِ الهمزِ كَما قالوا : ويلمهِ يريدونَ : وَيْلٌ لأمُهِ
وقَد قالَ قومٌ علَى قولِ مَنْ قاَلَ : سُطَينةٌ أَنها ( أُفْعُلاَنةٌ ) وَغُيِّرَ الجَمعُ فَجُعِلَ النونُ كأَنَّها مِنَ الأصلِ كما قالوا : مَسيلٌ وَمُسْلان وهَذا مذهبٌ وَهوَ قليلٌ والقياسُ في نحو هذا أَنْ تكونَ الهمزةُ هيَ الزيادةَ
وقَد قَالَ بعضُ العربِ ( مُتَسَطٍّ ) فهذَا يدل على أَنَّ ( أُسطُوانَة ) أُفْعُوالةٌ وأَشباهها نحو : ( أُرجُواَنةٍ وأُقحُوانةٍ ) الهمزةُ فيها زائدةٌ لأَنَّ الألفَ والنونَ كأَنَّهما زيدا علَى ( أَفْعَلٍ ) ولا يجيء في الكلامِ ( فُعْلُوٌ ) ومَع ذَا إِنَّ الواوَ لو جعلَها زائدةً لكانتْ إِلى جنبِ زائدتينِ وهَذا لا يكادُ يكونُ
قالَ : وأَمّا مُوسَى فالميمُ هيَ الزائدةُ لأَنَّ ( مُفْعَل ) أَكثر مِنْ ( فُعْلَى ) مُفْعَلٌ يُبنى مِنْ كُلٍّ ( أَفْعَلتُ ) ويدلُّكَ علَى أَنَّهُ ( مُفْعَلٌ ) أَنَّهُ يصرفُ في النكرةِ . و ( فُعْلَى ) لا تنصرفُ علَى حالٍ
[ الضربُ الثاني من مسَائلُ التصريفِ ]
ما قِيسَ على كلامِ العربِ وليسَ من كلامِهم
ما قِيسَ على كلامِ العربِ وليسَ من كلامِهم