● متابعة الهامش
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . وَالْمُعَاوِنُ عَلَى كَفِّ شَرِّهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ هِدَايَتُهُمْ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْقُيُودِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْإِسْلَامَ . فَالْمَقْصُودُ بِالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : هِدَايَةُ الْعِبَادِ لِمَصَالِحِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَهْتَدِ كَفَّ اللَّهُ ضَرَرَهُ عَنْ غَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِهَادَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ . وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ : هُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } " وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ } " وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ } " وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَاتَ مُجَاهِدًا وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَمِنَ الْفِتْنَةَ . وَالْجِهَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
● وفي فتاوى واستشارات الإسلام اليوم ●
(ج 3 / ص 238)
النصيريةالمجيب د.حمود بن غزاي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
العقائد والمذاهب الفكرية/الأديان والمذاهب الفكرية المعاصرة
التاريخ 27/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما هي طرق الشيعة الاثني عشرية والنصيرية والإسماعيلية في الذبح؟ وهل تباح ذبائحهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
تنسب طائفة النصيرية إلى: (محمد بن نصير البصري) من موالي بني نمير، وهو فارسي الأصل من خوزستان، وتعتبره هذه الفرقة، - التي ظهرت في القرن الثالث الهجري- إحدى الفرق الباطنية التي ترى أن فرائض الإسلام لها ظاهر وباطن يخالف ذلك الظاهر، ويفضّل النصيريون تسميتهم بـ (العلويين) نسبة إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- وهو مسمّى أطلقه عليهم المستعمر الفرنسي إبّان احتلال سوريا سنة 1920م تمويهاً على المسلمين في حقيقة هذه الطائفة التي حكم عليها علماء الإسلام بعد ظهورها بالكفر، والحكم على هذه الطائفة بالإسلام أو الكفر يقوم على أصلين اثنين:
الأول: معرفة معتقدات هذه الطائفة ومقالاتها من خلال تراثها الفكري.
الثاني: عرض هذه المعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- إذ هما الحكم الفصل لكل مسلم ومسلمة في كل كبيرة وصغيرة، "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".
أما الأول: فمع أن النصيريين يعدّون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة كما ورد في كتابهم: (الهفت الشريف): (يا مفضل: لقد أعطيت فضلاً كثيراً، وتعلمت علماً باطناً فعليك بكتمان سر الله ولا تطلع عليه إلا ولياً مخلصاً)، وقصة سليمان الأذني وهو من أبناء مشايخ النصيريين لما ألَّف كتابه "الباكورة السليمانية"، وكشف فيه الكثير من أسرار العقائد النصيرية فأحرقوه حياً، وقصته مشهورة، أقول ومع ذلك الحرص تسربت بعض العقائد النصيرية إلى الضوء، فاطلع عليها الدارسون والباحثون وقالوا كلمتهم في الطائفة ومعتقداتها.. فمن معتقدات النصيرية (الحلول والاتحاد)، فيرون أن الألوهية حلت في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-! بل الإله في المذهب النصيري حل في البشرية منذ بدء الخليقة، ففي كتاب: (تعاليم الديانة النصرانية)، وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم(6182) جاء فيه أن هناك سبعة أدوار للظهورات الإلهية اتخذت في كل دور وظهور رسولاً ناطقاً، فالظهور الأول كان في (شيث) وكان (آدم) هو الرسول الناطق، ثم انتقلت الألوهية إلى (سام)، والنبوة إلى (نوح) وبعدها انتقلت إلى (إسماعيل)، والنبوة إلى (إبراهيم)، ثم انتقلت الألوهية إلى (هارون) والنبوة إلى (موسى)، ثم انتقلت الألوهية إلى (شمعون الصفا) المعروف عند النصارى بـ (بطرس)، والنبوة إلى (عيسى)، وظهرت للمرة الأخيرة في (علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-) والنبوة في (محمد - صلى الله عليه وسلم-)، وقد ذكر هذه العقيدة الإسماعيلي مصطفى غالب في مقدمته لكتاب (الهفت) للجعفي.
وبناءً على ذلك يكون علي إلهًا في الباطن وإماماً في الظاهر، وهذا ما ورد في كتاب (المجموع) صراحة السورة(8-9-10)، (يا علي بن أبي طالب أنت إلهنا باطناً وإماماً ظاهراً)، و (أشهد بأن الصورة المرئية التي ظهرت في البشرية هي الغاية الكلية، وهي الظاهرة بالنورانية، وليس إله سواها، وهي علي بن أبي طالب).
ومن معتقدات النصيرية القول بالتناسخ كما في كتابهم (الهفت ص21-22 وص 121 وص 146 وص 162 وص 190)، وبناء على قراءة هذه النصوص من كتابهم الشهير أو كتاب (الباكورة السليمانية) لسليمان أفندي الأذني الذي كان من شيوخهم ثم تنصر، أقول بناء على ذلك يظهر أن القول بالتناسخ من الدعائم الرئيسية والأركان الهامة في المذهب النصيري، وهو عندهم بديل البعث والقيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب ليس في الجنة أو النار في الآخرة، وإنما هو في هذه الدنيا حسب التراكيب والتقمصات الناسوتية والمسخوية التي تصيب الروح.
وإذا تجاوزنا العقائد إلى العبادات، فالعبادات عندهم لها معنى آخر غير المعنى الظاهر الذي أراده الله -تعالى- منها: جاء في كتابهم (الهفت ص 64): (قلت: يا مولاي: أما كان أهله من أهل الصلاة؟ قال: ويحك أتدري ما معنى قوله تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة؟" قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم وهي الدرجة العالية والمعرفة، والإقرار والتوحيد، وأنه العلي الأعلى... أي الإمام علي، فأما معنى قوله تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة": فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، أما إقامة الصلاة: فهي معرفتنا وإقامتنا..) ا.هـ.
هذه بعض معتقدات النصيرية ومقالاتهم، وعندما نعرضها على الوحيين الشريفين، كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- نجدها تخالف ما جاء في الوحيين جملة وتفصيلاً يعرف ذلك من له إلمام بشريعة الإسلام؛ ولذا كفّر علماء الملة هذه الطائفة لكفرها بالله، وإشراكها بعبوديته وإبطالها لشريعته، واستحلالها لما حرمه الله تحريماً جلياً واضحاً، وتأويلها لأركان الإسلام العظام!. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هؤلاء القوم الموصوفون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب، ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا بملة من الملل السابقة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه بينهم على أمور يقرونها بينهم ويدعون بأنها علم الباطنية ... إلخ..) رحمه الله في الفتاوى[(35/149)].
وممن حكم بكفرهم ابن القيم في (إغاثة اللهفان، 2/247-249)، وابن حزم في(المحلى، 13/139)، والديلمي في (بيان مذهب الباطنية وبطلانه، ص71)، والغزالي في كتابه(فضائح الباطنية، ص37).
وإني لأنصح الأخ السائل بالاطلاع على الكتب التي تكلمت عن هذه الطائفة بالتفصيل مثل كتاب (الإسماعيلية) لإحسان إلهي ظهير، و(أصول الإسماعيلية) للدكتور سليمان السلومي، و(طائفة النصيرية) للدكتور سليمان الحلبي وغيرهم. والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
O متابعة المتن
وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّ الْبَارِعَ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَزُولُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ kوَتُبَاحُ لَهُ الْمَحْظُورَاتُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبَاتُ فَتَظْهَرُ أَضْغَانُهُمْ وَتَنْكَشِفُ أَسْرَارُهُمْ وَيَعْرِفُ عُمُومُ النَّاسِ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ الْبَاطِنِ حَتَّى سَمَّوْهُمْ بَاطِنِيَّةً ؛ لِإِبْطَانِهِمْ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ .
فَلَوْ كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - دِينُ الرُّسُلِ كَذَلِكَ لَكَانَ خَوَاصُّهُ قَدْ عَرَفُوهُ وَأَظْهَرُوا بَاطِنَهُ . وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ مِنْ جِنْسِ دِينِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِ الرَّسُولِ وَظَاهِرِهِ وَأَخْبَرَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ كَانُوا أَعْظَمَ الْأُمَّةِ لُزُومًا لِطَاعَةِ أَمْرِهِ - سِرًّا وَعَلَانِيَةً - وَمُحَافَظَةً عَلَى ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَبِهِ أَخَصُّ وَبِبَاطِنِهِ أَعْلَمُ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - كَانُوا أَعْظَمَهُمْ لُزُومًا لِلطَّاعَةِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَمُحَافَظَةً عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا .
وَقَدْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَلَاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَاجِبًا عَلَى السَّالِكِ حَتَّى يَصِيرَ عَارِفًا مُحَقِّقًا فِي زَعْمِهِمْ ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَتَأَوَّلُونَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1)(99) سورة الحجر، زَاعِمِينَ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينُ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) [المدثر/42-47] } (2)
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 339)
وقوله : { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن .
فإن قيل : فأي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟
قلنا : المراد منه : { واعبد رَبَّكَ } في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة ، والله أعلم .
وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2495)
والمراد بالأمر بالعبادة فى قوله تعالى { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } المداومة عليها وعدم التقصير فيها .
والمراد باليقين : الموت ، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق .
أى : ودم - أيها الرسول الكريم - على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا ، حتى يأتيك الموت الذى لا مفر من مجيئه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى -
ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله - تعالى - حكاية عن المجرمين : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين حتى أَتَانَا اليقين } أى : الموت .
ويدل على ذلك أيضًا ما رواه البخارى عن أم العلاء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت : قلت : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله قد أكرمه . . . أما هو فقد جاءه اليقين - أى الموت - وإنى لأرجو له الخير " " .
قال الإِمام ابن كثير : ويستدل بهذه الآية الكريمة ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها ، واجبة على الإِنسان ما دام عقله ثابتًا ، فيصلى بحسب حاله ، كما ثبت فى صحيح البخارى عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
ويستدل بها أيضًا على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة ، سقط عنه التكليف عندهم . وهذا كفر وضلال وجهل . . . .
(2) - درء التعارض - (ج 2 / ص 89)
فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر : 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية : اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به كما قال الله تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } المدثر : 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات عثمان بن مظعون قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك
وضلالهم من وجوه
منها : ظنهم أن الكمال في مجرد العلم
والثاني : ظنهم أن ما حصل لهم علم
والثالث : ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس
الوجه الأول
وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان : علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده
والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه : إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما
وهذا القول : وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع الوجه الثاني
وأما المقدمة الثانية : فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه : العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود وظنوا أن العالم أبدي ازلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه
وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه وأبو حامد وإن سلك أحيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه : إنه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم
فمن قال : إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال : إن كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق إن الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية : أنه العلم بالله واخذوا من كلام هؤلاء : أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا : إن الله هو الوجود المطلق الوجه الثالث
وأما المقدمة الثالثة : فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم
وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال : من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كمل من الرجال كثير ] فالكاملون من الرجال كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود
O متابعة المتن
. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (1).
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : أَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ }(2) .
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ أَوَّلًا وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ غَايَةَ الْعَارِفِ أَنْ يَشْهَدَ الْقَدَرَ وَيَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ ،وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَمَحْبُوبَاتِ اللَّهِ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ .
وَقَدْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : الْعَارِفُ شَهِدَ أَوَّلًا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ثُمَّ شَهِدَ طَاعَةً بِلَا مَعْصِيَةٍ - يُرِيدُ بِذَلِكَ طَاعَةَ الْقَدَرِ - كَقَوْلِ بَعْضِ شُيُوخِهِمْ : أَنَا كَافِرٌ بِرَبِّ يُعْصَى وَقِيلَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الظَّالِمِينَ : هَذَا مَالُهُ حَرَامٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ عَصَى الْأَمْرَ فَقَدْ أَطَاعَ الْإِرَادَةَ . ثُمَّ يَنْتَقِلُونَ " إلَى الْمَشْهَدِ الثَّالِثِ " لَا طَاعَةَ وَلَا مَعْصِيَةَ وَهُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ(3)
__________
(1) - مُعْجَمُ ابْنِ الْمُقْرِئِ برقم(720 ) والزهد لابن المبارك برقم(20 )
عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ : " يَا قَوْمُ الْمُدَاوَمَةَ ، الْمُدَاوَمَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وهو صحيح
(2) - وفي جامع معمر برقم(1035 ) عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : كَانَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةُ تَقُولُ : لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ ، اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَتِهِمْ ، قَالَتْ : فَصَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى ، فَمَرِضَ ، فَمَرَّضْنَاهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي أَنْ قَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ " ، فَقَالَتْ : لَا أَدْرِي وَاللَّهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا هُوَ فَقَدْ أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي ، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ " ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا أَبَدًا ، قَالَتْ : ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " ذَلِكَ عَمَلُهُ " * وهو صحيح
(3) - جامع الرسائل - (ج 1 / ص 231)
حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية
اعلم - هداك الله وأرشدك - أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضاً لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيراً في قولهم، وإنما يتخيلون شيئاً ويقولونه أو يتبعونه، ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون، ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفساداً، أو جامع بين الوصفين. وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم " فاستخف قومه فأطاعوه " وحال القرامطة مع رؤسائهم، وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا " إلى آخر الآية وقوله " وألعنهم لعناً كبيرا " وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً - إلى قوله - وما هم بخارجين من النار " .
فصل
اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول إلى باطن أمرهم، لأن من قال أن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لموجودين (أحدهما) وجود الحق الحال (والثاني) وجود المخلوق المحل وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة. ولا ريب أن هذا القول أقل كفراً من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة - كابن المبارك ويوسف ابن اسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره - خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم. ولا ريب إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.
وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان (أحدهما) لا يرضونه لأن الاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبداً (والطريق الثاني) صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم.
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول أن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت وأما على قول من لا يفرق فيقول أن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.
فصل
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به، وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات، أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره لعدم كمال شهود الحق وتصوره.
المقالة الأولى -مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه. فإن مقالته مبنية على أصلين.
الأصل الأول لمذهب ابن عربي -أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون أن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم، لأنه لولا ثبوتها لما تميز المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده، لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت، لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها وقد كفرهم بها طوائف مت متكلمة السنة - فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون أن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق الله أو هو الله، يقولون إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون الوجود صفة للموجود.
وهذا القول وإن كان فيه شيه بقول القائلين بقدم العالم أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فلس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوان والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات والاستحالات القائمة بالعناصر من حركات الكواكب والشمس والقمر والسحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون أن مواد جميع العالم قديمة دون صوره.
واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب. فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس. ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم (صم بكم عمي) وأنهم (لا يفقهون، ولا يعقلون) وأنهم (في قول مختلف يؤفك عنه من أفك) وأنهم (في ريبهم يترددون) وأنهم (يعمهون).
وإنما نشأ - والله أعلم - الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه - أو (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك. وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله عن أهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وأنهم (لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) وأنه (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وأنه (لو كان فيهما آلهة كما يقولون إذاً إلا ابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وأنهم (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) وأنه (لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً) ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته.
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين - ليس بمجرد تصورنا يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسانا من ذهب وفرساً من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلاً. وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخميس ألف سنة " .
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال، اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال ابن عباس " إن الله خلق الخلق وعلم ما هو عاملون، ثم قال لعلمه " كن كتاباً " فكان كتاباً؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض، إن ذلك في كتاب) " .
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية متى كتبت نبياً؟ - قال " وآدم بين الروح والجسد " هكذا لفظ الحديث الصحيح. وما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " " كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين " فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً ويبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والتراب، ولو قيل بين الماء والترب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها، وإنما قال " بين الروح والجسد " وقال " وإن آدم لمنجدل في طينته " لأن آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه كما قال تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الآية وقال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال) الآيتين. وقال تعالى (الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) الآيتين وقال تعالى (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآية. والأحاديث في خلق آدم ونفه الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً أي كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح - وقال - فوالذي نفسي بيده أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة " فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح، وآدم هو أبو البشر كان أيضاً من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدراً وأرفعهم ذكراً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبياً حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كوناً في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الآية. وقال (ألم يجدك يتيماً فآوى) الآية. وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية. ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب.
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم " الحديث. وفيه " كذلك أمهات النبيين يرين " وقوله " لمنجدل في طينته " أي ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد.
O متابعة المتن
وَهَذَا غَايَةُ إلْحَادِ الْمُبْتَدَعَةِ جهمية الصُّوفِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْقَرْمَطَةَ آخِرُ إلْحَادِ الشِّيعَةِ وَكِلَا الْإِلْحَادَيْنِ يَتَقَارَبَانِ . وَفِيهِمَا مِنْ الْكُفْرِ مَا لَيْسَ فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
● [ المصادر والمراجع العامة ] ●أضواء البيان
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
الوسيط لسيد طنطاوي
تفسير ابن كثير
تفسير الرازي
تفسير السعدي
في ظلال القرآن
آيات الأسماء والصفات
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة
الدرر السنية كاملة
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة
درء التعارض
شرروح الطحاوية
مختصر منهاج السنة النبوية
منهاج السنة النبوية
موسوعة اليهود واليهودية الصهيونية
أخبار مكة للأزرقي
السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي
المستدرك على الصحيحين للحاكم
سنن أبى داود
سنن ابن ماجه
سنن البيهقى
سنن الترمذى
سنن النسائى
صحيح البخارى
صحيح مسلم
مسند أحمد
مسند الحميدى
آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي
الزهد لأحمد بن حنبل
الزهد والرقائق لابن المبارك
المنتقى - شرح الموطأ
بيان مشكل الآثار ـ الطحاوى
تأويل مختلف الحديث
جامع العلوم والحكم
حاشية السندي على ابن ماجه
شرح ابن بطال
شرح الأربعين النووية
شرح النووي على مسلم
شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
شرح سنن ابن ماجه
فتح الباري لابن حجر
فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
الدرر السنية في الأجوبة النجدية - الرقمية
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
فتاوى الأزهر
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ
فتاوى يسألونك
مجموع فتاوى ابن باز
مجموع فتاوى ابن تيمية
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين
الفقه الإسلامي وأصوله
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة
سبل السلام
نيل الأوطار
آداب الأكل
إحياء علوم الدين
الأذكار للنووي
بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
ففروا إلى الله
موسوعة خطب المنبر
● [ بحمد الله تعالى تم كتاب ] ●
أسباب رفع العقوبة عن العبد لابن تيمية
حققه وعلق عليه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(ج 3 / ص 238)
النصيرية
أسباب رفع العقوبة عن العبد لابن تيمية
حققه وعلق عليه الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود