ما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته. فإن من علت همته يختار المعالي.
وربما لا يساعد الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب.
وإني أعطيت من علو الهمة طرفاً فأنابه في عذاب، ولا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل.
ولقد رأيت أقواماً يصفون علو هممهم، فإذا بها في فن واحد. ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم، قال الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي
فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. وكان أبو مسلم الخراساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع.
قيل: فما الذي يبرد غليلك. قال: الظفر بالملك.
قيل: فاطلبه، قال: لا يطلب إلا بالأهوال.
قيل: فاركب الأهوال، قال. العقل مانع.
قيل: فما تصنع ؟ قال: سأجعل من عقلي جهلاً، وأحاول به خطراً لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم.
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات. فكم فتك وقتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا.
ثم لم يتنعم في ذلك غير ثمان سنين.
ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان المتنبي يقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما لهمدى ينتهي بي في مراد أحدّه
يرى جسمه يكسي شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب.
ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجباً. وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها.
وأريد استقصاء كل فن، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه.
فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه رأيته ناقصاً في غيره. فلا أعد همته تامة.
مثل المحدث فاته الفقه. والفقيه فاته علم الحديث. فلا أرى الرضى بنقصان من العلوم إلا حادثاً عن نقصه الهمة.
ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف، وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ومعاشرتهم بعيد.
ثم إني أروم الغني عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب. وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية.
ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف. وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد.
ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة.
وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد.
فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا.
وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب.
ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي.
فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف. وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم.
وواأسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم.
ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة.
غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل.
وربما كانت الحيرة في الطلب غليلاً إلى المقصود. وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همي مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله.
● [ فصل ] ●
الترويح عن النفوسلما سطرت هذا الفصل المتقدم، رأيت أذكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه.
وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف. فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن.
وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السباح في طلب الدر صعود.
ودوام السير يحسر الإبل، والمفازة صعبة ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.
فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
فأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
وقال البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجمّ وعللّه بشيء من الزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطي الطعام من الملح
وقال أبو علي بن الشبل:
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى ... وعداً، فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون يأسك جنة ... حتى تزول بهمّك الأوقات
واستر عن الجلساء بثك، إنما ... جلساؤك الحسّاد والشّمات
ودع التوقع للحوادث إنهللحي من قبل الممات ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما ... في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة
وقال أيضاً:
يحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها ... ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء ... وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا ... وبالتركيب منفعة الدواء
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس.
وما زالت النفوس ترى الظاهر. وإنما الفكر والعقل مع الغائب.
ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف.
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه، فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان الرخصة.
ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق.
● [ فصل ] ●
في تعليم التدبيرقوام الآدمي بشيئين الحرارة والرطوبة.
ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فالآدمي محتاج إلى تحصيل خلف للمتحلل.
فأبدان النشوء تغتذي بأكثر مما يتحلل منها.
والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها والأبدان التي قد أخذت في الهرم يتحلل منها أكثر مما تغتذي به. ولا تتشبع مما تغتذي به، وينبغي للناشيء البالغ أن يتحفظ في النكاح، لأنه بعفته يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر.
وأما المتوسط والواقف السن فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له مثل ما يخرج منه فأسرف، فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد.
وأما الشيخ فترك النكاح كاللازم له، خصوصاً إذا زاد علو السن، لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبداً.
ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله فيكتسب أكثر مما ينفق ليكون الفاضل مدخراً لوقت العجز: وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح.
ثم ينظر في الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا كانت مبذرة فعيب لا يحتمل، فإن انضمت صفة العقر فلا وجه للإمساك.
إلا أن تكون مستحسنة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف حسن الإمساك.
وإن كانت مما يحتاج أن تحفظ فتركها لازم.
فأما الخدم فليجتهد في تحصيل خادم لا تستعبده الشهوة، فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده.
ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام فليكرمه فإنه يربح محبته ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليداره وليعرض عن الذنوب.
فإن لم يمكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن وليجعل للمماليك زمن راحة.
والعجب ممن يعني بدابته وينسى مداراة جاريته، وأجود المماليك الصغار، وكذلك الزوجات، لأنهم متعودون خلق المشتري.
وليحفظ نفسه بالهيبة من الإنحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها سفيهة تطلب كثرة الإنفاق.
وأما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد مستقبلهم.
ومتى كان الصبي ذا أنفة - حيياً - رجى خيره.
وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته للجهال والسفهاء، فإن الطبع لص.
وليحذر الصبي من الكذب غالة التحذير، ومن المخالطة للصبيان المعوجين.
وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء.
فإذا بلغ فليزوج بصبية لم تعرف غيره فينتفعان.
هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا.
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث.
وليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات، لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة، فإذا بلغ تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشى أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنية.
وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقناً، فإنه يثبت ويختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن.
وليحذر من عادات أصحاب الحديث، فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر وما حصلوا فهم شيء.
فإذا بلغوا سناً طبوا جواز فتوى، أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى.
لأنهم يحفظون بعد كبر السن فلا يحصل مقصودهم، فالحفظ في الصبا للمهم من العلم أصل عظيم.
وقد رأينا كثيراً ممن تشاغل بالمسموعات وكتابة الأجزاء ورأى الحفظ صعباً فمال إلى الأسهل فمضى عمره في ذلك.
فلما احتاج إلى نفسه قعد يتحفظ على كبر فلم يحصل مقصوده.
فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.
● [ فصل ] ●
عقبى التفريطاشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس وسبعين، وكلما جاء الشعير زاد السعر.
وتدافع الناس على اشتراء الطعام فاغتبط من يستعبد كل سنة يزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول النيسان إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه.
وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان.
وبان ذل نفوس كانت عزيزة.
فقلت: يا نفس خذي من هذه الحال إشارة، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة.
وكل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته، فتنبهي.
فقد نبهت ناساً الدنيا على أمر الآخرة.
وبادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن.
فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد.
وما لك زرع، وحاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار.
● [ فصل ] ●
هاجس مقلقتأملت حالة أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي لا تحبه، وكذا يفعل مع صديقه والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان لا يؤثره؛ فيبقى متحيراً يقول: ما حيلتي.
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه وهو لا يريدني.
وربما يكون قد كتبني شقياً في الأزل.
ومن هذا خاف الحسن فقال: أخاف أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: لا غفرت لك.
فليس إلا القلق والخوف لعل سفينة الرجا تسلم - يوم دخلوها الشاطىء - من جرف.
● [ فصل ] ●
عدد الأحاديثجرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع مائة ألف حديث.
فقلت له: إنما يعني به الطرق، فقال: لا بل المتون، فقلت: هذا بعيد التصور.
ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم كلاماً ينصر ما قال ذلك الشخص، وهو أنه قال في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل: كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل وامرأة صحبوه نيفاً وعشرين سنة بمكة ثم بالمدينة حفظوا أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته وحركاته وغير ذلك سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة.
واحتج بقول أحمد: صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة ألف حديث وكسر، وأن إسحاق بن راهويه كان يملي سبعين ألف حديث حفظاً، وأن أبا العباس بن عقدة قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث.
قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث.
قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون. وقد عجبت كيف خفي هذا على الحاكم وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا مرتين حتى حصله وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة.
قال حنبل بن إسحاق: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفاً.
فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة.
أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبعمائة ألف أنه أراد الطرق. لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف أهملها ؟.
فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضعيفة. ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفاً.
وكيف ضاعت هذه الجملة ؟ ولم أهملت وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد فانتقى منها ورمى الباقي ؟.
وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب.
وكذلك قال أبو داود: جمعت كتاب السنن من ستمائة ألف حديث.
ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا ولم يحدثوا بها التابعين.
فإن الأمر قد وصل إلى أحمد فأحصى سبع مائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلاً.
ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ خمسين ألفاً.
فأين الباقي ؟.
ولا يجوز أن يقال تلك الأحاديث كلام التابعين؛ فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم ودونوها وأخذوا بها، ولا وجه لتركها، ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق، وأن ما توهمه الحاكم فاسد.
ولو عرض هذا الاعتراض عليه، وقيل له: فأين الباقي لم يكن له جواب.
لكن الفهم عزيز. والله المنعم بالتوفيق.
ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وأن ما أخرج كالأنموذج، وإلا فكان يطول.
وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسمعيلي، وحكي عن البخاري أنه قال: ما تركت من الصحيح أكثر.
وإنما يعني الطرق، يدل على ما قلته أن الدارقطني وهو سيد الحفاظ جمع ما يلزم البخاري ومسلم إخراجه فبلغ ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما قالوا لأخرج مجلدات، ثم قوله: ما يلزم البخاري دليل صريح على ما قلته، لأنه من أخرج الأنموذج لا يلزمه شيء.
وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتاباً جمع فيه ما يلزم البخاري إخراجه فذكر حديث الطائر فلم يلتفت الحفاظ إلى ما قال.
فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق الذي لا يلزم في صحة الحديث.
وإنما وقع لقلة الفقه والفهم.
إن البخاري ومسلم تركا أحاديث أقوام ثقات لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص الأكثرون من الحديث وزادوا هم.
ولم كان ثم فقه لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة.
وتركوا أحاديث أقوام لأنهم انفردوا بالرواية عن شخص. ومعلوم أن انفراد الثقة لا عيب فيه، وتركوا من ذلك الغرائب، وكل ذلك سوء فهم.
ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، فقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة ولا يقبل القدح حتى يبين سببه.
وكل من لم يخالط الفقهاء وجهد مع المحدثين تأذى وساء فهمه. فالحمد لله الذي أنعم علينا بالحالتين.
● [ فصل ] ●
فقه اللغةاعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل. فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها.
فإنه وضع في النفس أو المصنوع لا بد له من صانع، وأن المبني لا بد له من بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة.
ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل، وألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن، فهم يفرقون بين المرفوع والمنصوب بأمارات في جبلتهم، وإن عجزوا عن النطق بالعلة.
قال عثمان بن جني: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي فقلت له: كيف تقول ضربت أخوك ؟ فقال: أقول ضربت أخاك.
فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول أخوك أبداً.
قال: فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع، فقلت: أليس زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً، فقال إيش هذا، اختلفت جهتها في الكلام.
وهذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه، وإنه ليس استرسالاً ولا ترخيماً.
قال عثمان: واللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والنحو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتكسير وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها.
● [ فصل ] ●
الأيقاظ والغافلونتدبرت أحوال الأخيار والأشرار فرأيت سبب صلاح النظر، وسبب فساد الأشرار إهمال النظر.
وذاك أن العاقل ينظر فيعلم أنه لا بد من صانع، وأن طاعته لازمة، ويتأمل معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم قياده إلى الشرع.
ثم ينظر فيما يقربه إليه. ويزلفه لديه.
فإذا شق عليه إعادة العلم تأمل ثمرته فسهل ذلك.
وإذا صعب عليه قيام الليل فكذلك.
وإذا رأى مشتهى تأمل عاقبته فعلم أن اللذة تفنى، والعار والإثم يبقيان؛ فيسهل عليه الترك.
وإذا اشتهى الانتقام ممن يؤذيه ذكر ثواب الصبر وندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب.
ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه.
وأما الغافل فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر.
فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع وإثبات الصانع، فجحدوا وتركوا النظر وجحدوا الرسل وما جاءوا به، ونظروا إلى العاجل، ولم يتفكروا في مبتداه ومنتهاه.
فليس عندهم من عرفان المطعم إلا الأكل.
ولو تأملوا كيف أنشىء ؟ ولماذا جعل حافظاً للأبدان ؟ لعرفوا حقائق الأمور.
وكذلك كل شهوة تعرض لهم لا ينظرون في عاقبتها بل في عاجل لذتها.
وكم قد جنت عليهم من وقوع حد وقطع يد وفضيحة. فتعجيل اللذة يفوت الفضائل، ويحصل الرذائل.
وسببه عدم النظر في العواقب، وهذا شغل العقل، وذاك المذموم شغل الهوى.
نسأل الله عز وجل يقظة ترينا العواقب، وتكشف لنا الفضائل والمعائب، إنه قادر على ذلك.
● [ فصل ] ●
قوة الهمةخلقت لي همة عالية تطلب الغايات.
بلغت السن وما بلغت ما أملت، فأخذت أسأل تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال.
فأنكرت علي العادات وقالت: ما جرت عادة بما تطلب.
فقلت إنما أطلب من قادر على تجاوز العادات.
وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رجيلاً.
وقيل لآخر جئناك في حاجة لا ترزؤك، فقال هلا طلبتم لها سفاسف الناس ؟.
فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا فلم لا نطمع في فضل كريم قادر ؟.
وقد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة خمس وسبعين فإن مد لي أجلي وبلغت ما أملته نقلت هذا الفصل إلى ما بعد وبيضته، وأخبرت ببلوغ آمالي.
وإن لم يتفق ذلك فسيدي أعلم بالمصالح، فإنه لا يمنع بخلاً، ولا حول إلا به.
● [ فصل ] ●
فساد التصوفما أقل من يعمل الله تعالى خالصاً لأن أكثل الناس يحبون ظهور عباداتهم.
وسفيان الثوري كان يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي وكانوا يسترون أنفسهم.
واليوم ثياب القوم تشهرهم، وقد كان أيوب السختياني يطول قميصه حتى يقع على قدميه، ويقول كانت الشهرة في التطويل، واليوم الشهرة في التقصير.
فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق ومحو الجاه من قلوبهم بالتعمل وإخلاص القصد وستر الحال وهو الذي رفع من رفع.
فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافياً في وقت ونعلاه في يديه ويخرج للقاط، وبشر يمشي حافياً على الدوام وحده، ومعروف يلتقط النوى.
واليوم صارت الرياسات أكثر من كل حاجة، وما تتمكن الرياسات حتى تتمكن من القلب الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الخلق، فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا.
ولقد رأيت من الناس عجباً، حتى من يتزي بالعلم، إن رآني أمشي وحدي أنكر علي، وإن رآني أزور فقيراً عظم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم نقصت من عينه.
فقلت: فواعجباً هذه كانت طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.
فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه.
لا جرم والله سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق.
فكم ممن يتعب في تربية ناموس ولا يلتفت إليه ولا يحظى بمراده، ويفوته المراد الأكبر.
فالتفتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق. ولتكن عمدتكم الاستقامة مع الحق، فبذلك صعد السلف وسعدوا.
وإياكم وما الناس عليه اليوم، فإنه بالإضافة إلى يقظة السلف نوم.
● [ فصل ] ●
القدر السابقوالله ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق اختيار الخالق لذلك الولد، فإنه سبحانه إذا أراد شخصاً رباه من طفولته وهداه إلى الصواب، ودله على الرشاد، وحبب إليه ما يصلح، وصحبه من يصلح.
وبغض إليه ضد ذلك، وقبح عنده سفساف الأمور، وعصمه من القبائح، وأخذ بيده كلما عثر.
وإذا أبغض شخصاً تركه دائم التعثير متخبطاً في كل حال، ولم يخلق له همة لطلب المعالي، وشغله بالرذائل عن الفضائل، وإن قال لم خصصت بهذا، قال الخطاب الذي لا يجاب " بما كسبت أيديكم " .
● [ فصل ] ●
من الأدلة على اللهمن أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، فقد دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع، فلم يحجبها ستر وإن تكاثف ولا يعرف مع هذا ماهيتها ولا كيفيتها ولا جوهرها ولا محلها.
ولا يفهم من أين جاءت، ولا يدري أين تذهب، ولا كيف تعلقت بهذا الجسد ؟؟.
وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبراً وخالقاً، وكفى بذلك دليلاً عليه. إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها. فسبحانه سبحانه.
● [ فصل ] ●
زهد الصوفية في العلمسبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذين فهموا مقصود الأمر ومراد الشارع، فهم حفظة الشريعة فأحسن الله جزاءهم.
وإن الشيطان ليتجافاهم خوفاً منهم، فإنهم يقدرون على أذاه، وهو لا يقدر على أذاهم.
ولقد تلاعب بأهل الجهل والقليل الفهم.
وكان من أعجب تلاعبه أن حسن لأقوم ترك العلم ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به.
وهذا لو فهموه قدح في الشريعة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بلغوا عني، وقد قال له ربه عز وجل: " بلغ " .
فإذا لم يتشاغل بالعلم فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق.
ولقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد، كبشر الحافي، فإنه قال لعباس بن عبد العظيم: لا تجالس أصحاب الحديث، وقال لإسحاق بن الضيف: إنك صاحب حديث فأحب أن لا تعود إلي.
ثم اعتذر فقال: إنما الحديث فتنة إلا لمن أراد الله به.
وإذا لم يعمل به فتركه أفضل. وهذا عجب منه.
من أين له أن طلابه لا يريدون الله به، وأنهم لا يعملون به ؟.
أوليس العمل به على ضربين: عمل بما يجب، وذلك لا يسع أحداً تركه، والثاني نافلة ولا يلزم.
والتشاغل بالحديث أفضل من التنفل بالصوم والصلاة.
وما أظنه أراد إلا طريقه في دوام الجوع والتهجد، وذلك شيء لا يلام تاركه.
فإن كان يريد أن لا يوغل في علوم الحديث فهذا خطأ لأن جميع أقسامه محمودة.
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟.
فالله الله في الالتفات إلى قول من ليس بفقيه، ولا يهولنك تعظيم اسمه فالله يعفو عنه.
● [ فصل ] ●
جانب الله أحق أن يرعىالعاقل من يحفظ جانب الله عز وجل وإن غضب الخلق.
وكل من يحفظ جانب المخلوقين ويضيع حق الخالق يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه فيسخطه عليه.
قال المأمون لبعض أصحابه: لا تعص الله بطاعتي فيسلطني عليك.
ولما بالغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين وفتك به وصلب رأسه وإن كان ذلك عن إرادة المأمون، ولكن بقي أثر ذلك في قلبه، فكان المأمون لا يقدر أن يراه.
ولقد دخل عليه يوماً فبكى المأمون، فقال له طاهر: لم تبك لا أبكى الله عينك، فلقد دانت لك البلاد ؟.
فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وسره حزن، ولن يخلو أحد من شجن.
فلما خرج طاهر نفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم، وسأله أن يسأل المأمون لم بك ؟ فلما تغدى المأمون قال: يا حسين اسقني.
قال: لا والله ولا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر ؟.
قال: يا حسين وكيف عنيت بهذا حتى سألت عنه ؟ قال: لغمي بذلك.
قال: يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلتك.
قال: يا سيدي ومتى أخرجت لك سراً ؟.
قال: إني ذكرت أخي محمداً وما ناله من الذلة فحنقتني العبرة فاسترحت إلى إفاضتها ولن يفوت طاهراً مني ما يكره.
فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد.
فقال له: إن المعروف عندي ليس بضائع فغيبني عن عينه. قال: سأفعل.
فدخل على المأمون فقال: ما بت البارحة. قال: ولم ؟ قال: لأنك وليت غسان بن عباد خراسان. وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه.
قال: فمن ترى ؟ قال: طاهر بن الحسين فعقد له فمضى، فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة.
فقال له صاحب البريد: ما دعوت لأمير المؤمنين قال: سهو فلا تكتب.
ففعل ذلك في الجمعة الثانية والثالثة. فقال له: لا بد أن أكتب لئلا يكتب التجار ويسبقوني.
قال: اكتب فكتب، فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد وقال: إنه لم يذهب علي احتيالك في أمر طاهر، وأنا أعطي الله عهداً إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك.
فشخص وجعل يتلوم في الطريق ويعتل بالمرض، فوصل إلى الري وقد بلغته وفاة طاهر.
قلت: ولما خرج الراشد من بغداد وأرادوا تولية المقتفي شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة فنزعوه وولوا المقتفي.
فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه، وقال: كان فيمن أعان على أبي جعفر.
وعلى ضد هذا كل من يراعي جانب الحق والصواب، يرضى عنه من سخط عليه.
ولقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بالله كتب إليه كتاباً وهو يومئذ ولي عهد، وأراد أن يستره من أبيه قال فقلت: للواصل به والله ما يمكنني أقرؤه لا أجيب عنه.
فلما ولي الخلافة دخلت عليه فقلت: أكبر دليل على صدقي وإخلاصي أني ما حابيتك في أبيك. فقال: صدقت أنت الوزير.
وحدثني بعض الأصدقاء أن قوماً ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص، فقال المسترشد لصاحب المخزن: خلصه لهم وخذ ما ضمنوا لنا.
فأحضر ابن الرطبي وعرض الأمر عليه، فقال: هذا أمر بظلم وما أحكم فيه.
فقال: إن السلطان قد تقدم، قال ما أفعل ؟.
فأحضر قاضياً آخر فبت الحكم، فأخبر الخليفة بالحال.
فقال: أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال. وأما الآخر فيعزل.
وذلك لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبي.
وكذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك، فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك وامتنع من إجازته الماوردي، فعظم قدره عند السلطان.
ومثل هذا إذا تتبع كثير.
فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق وإن سخط المخلوق، فإنه يعود صاغراً.
ولا يسخط الخالق، فإنه يسخط المخلوق فيفوت الحظان جميعاً.
● [ فصل ] ●
النظر إلى الحقائقينبغي للعاقل أن ينظر إلى الأصول فيمن يخالطه ويعاشره ويشاركه ويصادقه ويزوجه أو يتزوج إليه.
ثم ينظر بعد ذلك في الصور، فإن صلاحها دليل على صلاح الباطن.
أما الأصول فإن الشيء يرجع إلى أصله، وبعيد ممن لا أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن.
وإن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء فقل أن تكون صينة، وكذلك أيضاً المخالط والصديق والمباضع والمعاشر.
فإياك أن تخالط إلا من له أصل يخاف عليه الدنس، فالغالب معه السلامة، وإن وقع غير ذلك كان نادراً.
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل: أشر علي فيمن استعمل.
فقال: أما أرباب الدين فلا يريدونك أي لا يسألونك الرياسة، وأما أرباب الدنيا فلا تردهم، ولكن عليك بالأشراف، فإنهم يصونون شرفهم عما لا يصلح.
وقد روى أبو بكر الصولي قال: حدثني الحسين بن يحيى عن إسحاق قال: دعاني المعتصم فأدخلني معه الحمام، ثم خرج فخلا بي وقل: يا أبا إسحاق في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه.
إن أخي المأمون اصطنع قوماً فأنجبوا، واصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا.
قلت: ومن هم ؟ قال: اصطنع طاهراً وابنه إسحاق وآل سهل فقد رأيت كيف هم.
واصطنعت أنا الأفشين فقد رأيت إلى ما آل أمره، وأسناش فلم أجده شيئاً، وكذلك إيتاخ ووصيف.
قلت: يا أمير المؤمنين، ههنا جواب، علي أمان من الغضب.
قال: لك ذاك. قلت: نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها، واستعملت فروعاً لا أصول لها فلم تنجب.
فقال: يا أبا إسحاق مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب.
أما الصور، فإنه متى صحت البنية ولم يكن فيها عيب فالغالب صحة الباطن وحسن الخلق، ومتى كان فيها عيب فالعيب في الباطن أيضاً.
فاحذر من به عاهة كالأقرع والأعمى وغير ذلك، فإن بواطنهم في الغالب ردية.
ثم مع معرفة المخالط، وكمال صورته لا بد من التجربة قبل المخالطة، واستعمال الحذر لازم، وإن كان كما ينبغي.
● [ فصل ] ●
تجارب مع الحياةينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب والتحرز مما يمكن أن يكون.
ومن الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه ولصحة بدنه، وربما لا يجري له مصحوبه فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك، فيكون مستعداً لتغير الأحوال.
وكذلك النظر في لذة تفنى وتبقى تبعتها وعارها، وإيثار الكسل والدعة لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل.
وكذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال، خصوصاً إذا أريد من ذكي فإنه يفطن بأقل تلويح.
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر وتلطف في الاحتيال.
وقد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر، وأتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء.
مثل ما روي أن رجلاً من الأشراف كان لا يقوم لأحد ولا يخشى أحداً، فجاز عليه بعض الوزراء وحي فلم يرد ولم يقم.
فقال ذاك الوزير لرجل: أخبر فلاناً أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه، وقد أمر له بمائة ألف، فليحضر ليقبضها، فأخبره ذلك الرجل.
فقال الشريف: إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي، وإنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه.
فمتى وقع الإنسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه، ويسرق أغراضه بصنوف الاحتيال وينظر فيما يجوز وقوعه فليحترز منه. كما ينظر صاحب الرقعة النقلات.
وكثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فأعطوه وبالغوا في إكرامه ليصيدوه؛ فإن كان قليل الفطنة وقع الشرك، وإن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئاً فزاه ذلك احترازاً.
وأقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور، فإنك إذا آذيت شخصاً فقد غرست في قلبه عداوة، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة، ولا تلتفت إلى ما يظهر من ود وإن حلف فإن قاربته فكن منه على حذر.
ومن التغفل أن تعاقب شخصاً أو تسيء إليه إساءة عظيمة وتعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد، فتراه ذليلاً لك طائعاً تائباً مقلعاً عما فعل، فتعود فتستطيبه وتنسى ما فعلت وتظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت.
فربما عمل لك المحن، ونصب لك المكايد، كما جرى لقصير مع الزباء، وأخباره معروفة.
فإياك أن تساكن من آذيته، بل إن كان ولا بد فمن خارج فما تؤمن الأحقاد.
ومتى رأيت عدوك فيه غفلة لا يثنيه مثل هذا فأحسن إليه، فإنه ينسى عداوتك ولا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه.
ومن الخور إظهار العداوة للعدو.... ومن أحسن التدبير التلطف بالأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم.... ولو لم يمكن ذاك كان اللطف سبباً في كف أكفهم عن الأذى، وفيهم من يستحيي لحسن فعلك فيتغير قلبه لك.
وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلاً قد شتمهم أهدوا إليه وأعطوه، فهم بالعاجل يكفون شهر، ويحتالون في تقليب قلبه، ويقع بذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا.
وكفى بالذهن الناظر إلى العواقب والتأمل لكل ممكن مؤدباً.
● [ فصل ] ●
في حفظ السررأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به.
فواعجباً كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً ثم لاموا من أفشاه.
وفي الحديث: استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان.
ولعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء، وترى بإفشائه راحة، خصوصاً إذا كان مرضاً أو هماً أو عشقاً.
وهذه الأشياء في إفشائها قريبة. إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضاً.
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه، فإنه إذا ظهر بطل ما يريد أن يفعل، ولا عذر لمن أفشى هذا النوع.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزواً ورى بغيره.
فإن قال قائل: إنما أحدث من أثق به، قيل له وكل حديث جاوز الاثنين شائع، وربما لم يكتم صديقك.
وكم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب وهرب ففات السلطان مراده.
وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره ولا يفشيه إلى أحد.
ومن العجز إفشاء السر إلى الولد والزوجة.
والمال من جملة السر. فإطلاعهم عليه يجر المتاعب إن كان كثيراً فربما تمنوا هلاك الموروث. وإن كان قليلاً تبرموا بوجوده.
وربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات.
وستر المصائب من جملة كتمان السر، لأن إظهارها يسر الشامت ويؤلم المحب.
وكذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن، لأنه إن كان كبيراً استهرموه وإن كان صغيراً احتقروه.
ومما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميراً أو سلطاناً فيقولون فيه فيبلغ ذلك إليه فيكون سبب الهلاك.
وربما رأى الرجل من صديقه إخلاصاً وافياً فأشاع سره. وقد قيل:
إحذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق ... فكان أدرى بالمضرة
ورب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهيناً عنده، ولا يتجاسر أن يطلق الزوجة، ولا أن يهجر الصديق، مخافة أن يظهر سره القبيح.
فالحازم من عامل الناس بالظاهر، فلا يضيق صدره بسره. فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر أحد منهم أن يقول فيه ما يكره.
ومن أعظم الأسرار الخلوات، فليحذر الحازم فيها من الانبساط بمرأى من مخلوق. ومن خلق له عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا.
● [ فصل ] ●
في طريق الاستذكارما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له.
خصوصاً تكرار ما ليس لها في تكراره وحفظه حظ، مثل مسائل الفقه.
بخلاف الشعر والسجع، فإن لها لذة في إعادته وإن كان صعباً، لأنها تلتذ به مرة ومرتين.
فإذا زاد التكرار صعب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فتراها تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ، لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره، فهو في المعنى كالماء الجاري، لأنه جزء بعد جزء.
وكذا من ينسخ ما يحب أن يسمعه أو يصنف، فإنه يلتذ بالجدة ويستريح من تعب الإعادة.
إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقراراً لا يزول.
ويجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ، ويحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة فيقهرها، فإنه يحمد ذلك حمد السري وقت الصباح.
وسيندم من لم يحفظ ندم الكسعي وقت الحاجة إلى النظر والفتوى.
وفي الحفظ نكتة ينبغي أن تلحلظ، وهو أن الفقيه يحفظ الدرس ويعيده ؟ ثم يتركه فينساه فيحتاج إلى زمان آخر لفظه، فينبغي أن يحكم الحفظ ويكثر التكرار ليثبت قاعدة الحفظ.
● [ فصل ] ●
العزلة النافعةما أعرف نفعاً كالعزلة عن الخلق خصوصاً للعالم والزاهد فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة، أو من يأخذ عليك غلطاتك.
فيا للعزلة ما ألذها، سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة، وتضييع الوقت.
ثم خلا فيها القلب بالفكر، بعدما كان مشغولاً عنه بالمخالطة، فدبر أمر دنياه وآخرته، فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها.
وما رأيتها مثل ما يصنع المخالط، لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم فيشتغل بها عما بين يديه. فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف، فجالس أقوماً فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق وما تزود.
فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة كفى..
ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة وإن كانا لا في عزلة.
أما العالم فعلمه مؤنسه، وكتبه محدثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكر في حوادث الزمان السابق فرجته.
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته تضاعفت لذاته، واشتغل به عن الأكوان وما فيها.
فخلا بحبيبه وعمل معه بمقتضى علمه.
وكذلك الزاهد تعبده أنيسه، ومعبوده جليسه، فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن الخلق، وغابوا عنه.
إنما اعتزلا ما يؤذي. فهما في الوحدة بين جماعة. فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما، بل هما قدوة للمتعبدين وعلم للسالكين. ينتفع بكلامهما السامع. وتجري موعظتهما المدامع وتنتشر هيبتهما في المجامع.
فمن أراد أن يتشبه بأحدهما فليصابر الخلوة وإن كرهها ليثمر له الصبر العسل.
وأعوذ بالله من عالم مخالط للعالم، خصوصاً لأرباب المال والسلاطين يجتلب ويجتلب ويختلب ويختلب فما يحصل له شيء من الدنيا إلا وقد ذهب من دينه أمثاله.
ثم أين الأنفة من الذل للفساق ؟.
فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم ولا يدري مالمراد به.
وكأنه به وقد وقع في بادية جرز وقفر أمل مهلك في تلك البراري.
وكذلك المتزهد إذا خالط وخلط، فإنه يخرج إلى الرياء والتصنع والنفاق، فيفوته الحظان، لا الدنيا ونعيمها تحصل له ولا الآخرة.
فنسأل الله عز وجل خلوة حلوة، وعزلة عن الشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته، ويلهم كلا منا طلب نجاته. إنه قريب مجيب.
● [ فصل ] ●
مراحل الحياة وضروراتهاما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت، وهو لا يستعد للقائه.
وأشد الناس بلهاً وتغفيلاً من عبر الستين وقارب السبعين - فإن ما بينهما هو معترك المنايا. ومن نازل المعترك استعد - وهو مع ذلك غافل عن الاستعداد.
قال الشباب لعلنا في شيبنا ... ندع الذنوب فما يقول الأشيب ؟
والله إن الضحك من الشيخ ما له معنى. وإن المزاح منه بارد المعنى.
وإن تعرضه بالدنيا وقد دفعته عنها يضعف القوي ويضعف الرأي.
وهل بقي لابن ستين منزل ؟.
فإن طمع في السبعين فإنما يرتقي إليها بعناء شديد إن قام دفع الأرض. وإن مشى لهث. وإن قعد تنفس.
ويرى شهوات الدنيا ولا يقدر على تناولها. فإن أكل كد المعدة، وصعب الهضم، وإن وطىء أذى المرأة، وقع دنفاً لا يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة. فهو يعيش عيش الأسير.
فإن طمع في الثمانين فهو يزحف إليها زحف الصغير.
وعشر الثمانين من خاضها ... فإن الملمات فيها فنون
فالعاقل من فهم مقادير الزمان. فإن فيما قيل قبل البلوغ صبي ليس على عمره عيار.
إلا أن يرزق فطنة ففي بعض الصبيان فطنة تحثهم من الصغر على اكتساب المكارم والعلوم.
فإذا بلغ فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى وتعلم العلم.
فإذا رزق الأولاد فهو زمان الكسب للمعاملة. فإذا بلغ الأربعين انتهى تمامه. وقضى مناسك الأجل. ولم يبق إلا الانحدار إلى الوطن.
كأن الفتى يرقى من العمر معلماً ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ
فينبغي له عند تمام الأربعين أن يجعل جل همته التزود للآخرة. ويكون كل تلمحه لما بين يديه. ويأخذ في الاستعداد للرحيل.
وإن كان الخطاب بهذا لابن عشرين، إلا أن رجاء التدارك في حق الصغير لا في حق الكبير.
فإذا بلغ الستين فقد أعذر الله إليه في الأجل وجاز من الزمن أخطره. فليقبل بكليته على جمع زاده، وتهيئة آلات السفر.
وليعتقد أن كل يوم يحيا فيه غنيمة ما هي في الحساب.
خصوصاً إذا قوي عليه الضعف وزاد.
وكلما علت سنه فينبغي أن يزيد اجتهاده. فإذا دخل في عشر الثمانين فليس إلا الوداع وما بقي من العمر إلا أسف على تفريط أو تعبد على ضعف.
نسأل الله عز وجل يقظة تامة تصرف عنا رقاد الغفلات. وعملاً صالحاً نأمن معه من الندم يوم الانتقال، والله الموفق.
● [ فصل ] ●
الاشتغال بفلسفة الكلامما نهى السلف عن الخوض في الكلام إلا لأمر عظيم، وهو أن الإنسان يريد أن ينظر ما لا يقوى عليه بصره فربما تحير فخرج إلى الحجب.
لأنا إذا نظرنا في ذات الخالق حار العقل وبهت الحس، فهو لا يعرف شيئاً لا بداية له إنه لا يعلم إلا الجسم والجوهر والعرض، فإثبات ما يخرج عن ذاك لا يفهمه.
وإن نظرنا في أفعاله رأيناه يحكم البناء ثم ينقضه ولا نطلع على تلك الحكمة.
فالأولى للعاقل أن يكف كف التطلع إلى ما لا يطيق النظر إليه.
ومتى قام العقل فنظر في دليل وجود الخالق بمصنوعاته، وأجاز بعثة نبي واستدل بمعجزاته، كفاه ذلك أن يتعرض لما قد أغنى عنه.
وإذا قال القرآن كلام الله تعالى بدليل قوله: " حتى يسمع كلام اللّه " كفاه.
وأما من تحذلق فقال: التلاوة هي المتلو أو غير المتلو، والقراءة هي المقروء أو غير المقروء، فيضيع الزمان في غير تحصيل، والمقصود العمل بما فهم.
وقد حكي أن ملكاً كتب إلى عماله في البلدان إني قادم عليكم فاعملوا كذا وكذا، ففعلوا إلا واحداً منهم.
فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر ؟ أترى كتبه قائماً أو قاعداً؟.
فما زال يتفكر حتى قدم الملك ولم يعمل مما أمره به شيئاً.
فأحسن جوائز الكل وقتل هذا.
الترويح عن النفوس
في تعليم التدبير
عقبى التفريط
هاجس مقلق
عدد الأحاديث
فقه اللغة
الأيقاظ والغافلون
قوة الهمة
فساد التصوف
القدر السابق
من الأدلة على الله
زهد الصوفية في العلم
جانب الله أحق أن يرعى
النظر إلى الحقائق
تجارب مع الحياة
في حفظ السر
في طريق الاستذكار
العزلة النافعة
مراحل الحياة وضروراتها
الاشتغال بفلسفة الكلام