من طرف حكماء الخميس 5 يونيو 2014 - 5:58
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
الفن الثانى: الأمراض والأسباب والأعراض الكلية
تابع التعليم الثاني: الأسباب
● [ تابع الجملة الأولى ] ●
الفصل الحادي عشر : موجبات المساكن
قد ذكرنا في باب تغيرات الهواء أحوالاً للمساكن، ونحن نريد أن نورد أيضاً فيها كلاماً مختصراً على ترتيب آخر ولا نبالي أن نكرر بعض ما سلف.
في أحكام المساكن قد علمت أن المساكن تختلف أحوالها في الأبدان بسبب ارتفاعها وانخفاضها في أنفسها ولحال ما يجاورها من ذلك، ومن الجبال، ولحال تربتها هل هي طينة أو نزة أو حمأة أو بها قوة معدن، ولحال كثرة المياه وقلتها، ولحال ما يجاورها من مثل الأشجار والمعادن والمقابر والجيف ونحوها. وقد علمت كيف يتعرّف أمزجة الأهوية من عروضها ومن تربتها ومن مجاورة البحار والجبال لها ومن رياحها ونقول بالجملة: إن كل هواء يسرع إلى التبرد إذا غابت الشمس ويسخن إذا طلعت فهو لطيف وما يضاده بالخلاف. ثم شر الأهوية ما كان يقبض الفؤاد ويضيّق النفس ثم لنفصل الآن حال مسكن مسكن.
في المساكن الحارة : المساكن الحارة مسوّدة مفلفلة للشعور مضعفة للهضم، لماذا كثر فيها التحليل جدا وقلت الرطوباث أسرع الهرم إلى أهلها، كما في الحبشة فإن أهلها يهرمون من بلادهم في ثلاثين سنة وقلوبهم خائفة لتحلل الروح جداً. والمساكن الحارة أهلها ألين أبداناً.
في المساكن الباردة : المساكن الباردة أهلها أقوى وأشجع وأحسن هضماً كما علمت فإن كانت رطبة، كان أهلها لحيمين شحيمين غائري العروق جافي المفاصل غضين بضين.
في المساكن الرطبة : المساكن الرطبة أهلها حسنو السحنات لينو الجلود يسرع إليهم الاستر. ء في رياضاتهم ولا يسخن صيفهم شديداً ولا يبرد شتاؤهم شديداً، وتكثر فيهم الحميّات المزمنة والإسهال ونزف الدم من الحيض والبواسير، وتكثر البواسير وتكثر القروح والعفن والقلاع ويكثر فيهم الصرع في المساكن اليابسة.
المساكن اليابسة يعرض لأصحابها أن تيبس أمزجتهم وتقحل جلودهم وتتشقق ويسبق إلى أثمغتهم اليبس، ويكون صيفهم حاراً وشتاؤهم بارد الضد ما أوضحناه.
في المساكن العالية : سكان المساكن العالية أصحاء أقوياء أجلاد طويلو الأعمار.
في المساكن الغائرة : سكان الأغوار يكونون دائماً في ومد وكمد ومياه غير باردة خصوصاً إن كانت راكدة أو مياهاً بطيحية أو سبخية وعلى أن مياهها بسبب هوائها رديئة.
في المساكن الحجرية المكشوفة : هؤلاء يكون هواؤهم حاراً شديداً في الصيف بارداً في الشتاء وتكون أبدانهم صلبة مدمجة كثيرة الشعر قوية بنية المفاصل تغلب عليهم اليبوسة، ويسهرون وهم سيئو الأخلاق، مستكبرون مستبدون، ولهم نجدة في الحروب وذكاء في الصناعات وحدة.
في المساكن الجبلية الثلجية : سكان المساكن الجبلية الثلجية،حكمهم حكم كان سائر البلاد الباردة، وتكون بلادهم بلاد أريحية، وما دام الثلج باقياً تولد منها رياح طيبة، فإذا ذابت وكانت الجبال بحيث تمنع الرياح عادت ومدة .
في المساكن البحرية : هذه البلاد يعتدل حرها وبردها لاستعصاء رطوبتها على الانفعال وقبول ما ينفذ فيها، وأما في الرطوبة واليبوسة فيميل إلى الرطوبة لا محالة، فإن كانت شمالية كان قرب البحر وغور المسكن أعدل لها، وإن كانت جنوبية حارة الضد من ذلك.
في المساكن الشمالية : هذه المساكن في أحكام البلاد والفصول الباردة التي تكثر فيها أمراض الحقن والعصر وتكثر الأخلاط فيها مجتمعة في الباطن. ومن مقتضياتها جودة الهضم وطول العمر ويكثر فيهم الرعاف لكثرة الامتلاء وقلة التحلل، فتتفجّر العروق.
وأما الصرع فلا يعرض لهم لصحة باطنهم ووفور حرارتهم الغريزية، فإن عرض كان قوياً لأنه لن يعرض إلا لسبب قوي. ويسرع برء القروح في أبدانهم لقوتهم وجودة دمائهم، ولأنه ليس من خارج سبب يرخّيها ويلينها ولشدة حرارة قلوبهم تكون فيهم أخلاق سبعية . ويعرض لنسائهم أن لايستنقين فضل استنقاء بالطمث فإن طمثهن لايسيل سيلاناً كافياً لتقبض المسالك وعدم ما يسيل ويرخي، فلذلك يكن فيما قالوا عواقر لأن الأرحام فيهن غير نقية. وهذا خلاف ما يشاهد عليه الحال في بلاد الترك بل أقول: إن اشتداد حرارتهن الغريزية يقاوم ما ينقص من فعل الأسباب المسيّلة والمرخية من خارج. قالوا: وقلما يعرض لهن الإسقاط وذلك دليل صحيح على أن القوى في سكان هذا الصقع قوية ويعسر ولادهن لأن أعضاء ولادتهن منضمة منسدة وأكثر ما يسقطن للبرد، وتقل ألبانهن وتغلظ للبرد الحابس من النفوذ والسيلان. وقد يعرض في هذه البلدة وخصوصاً لضعاف القوى مثل النساء كزاز وسل، وخصوصاً للواتي تضعن فإنه يعرض لهن السل والكزاز كثير الشدة تزحرهن لعسر الولادة، فتنصدع العروق التي في نواحي الصدر أو أجزاء من العصب والليف فيعرض من الأول سل ومن الثاني كزاز، ويكون مراق البطن منهن عرضة للانصداع عند شدة العسر. ويعرض للصبيان أدرة الماء ويزول مع الكبر. ويعرض للجواري ماء البطن والأرحام، ويزول مع الكبر. والرمد يعرض لهم في النادر وإذا عرض كان شديداً.
في المساكن الجنوبية : المساكن الجنوبية، أحكامها أحكام البلاد والفصول الحارة، وأكثر مياهها يكون ملحاً كبريتياً. ورؤوس سكانها تكون ممتلئة مواد رطبة لأن الجنوب يفعل ذلك. وبطونهم دائمة الاختلاف ما لا بد أن يسيل إلى معدهم من رؤوسهم، ويكونون مسترخي الأعضاء ضعافها، وحواسهم ثقيلة وشهواتهم للطعام والشراب ضعيفة أيضاَ. ويعظم خمارهم من الشراب لضعف رؤوسهم ومعدهم ويعسر برء قروحهم وتترهل وتكثر بها في النساء نزف الحيض ولا يحبلن إلا بعسر ويسقطن في الأكثر لكثرة أمراضهن، لا لسبب آخر ويصيب الرجال اختلاف الدم والبواسير والرمد الرطب السريع التحلل. وأما الكهول فمن جاوز الخمسين فيصيبهم الفالج من نوازلهم، ويصيب عامتهم لسبب امتلاء الرؤوس الربو والتمدّد والصرع، ويصيبهم حميّات يجتمع فيها حر وبرد والحميّات الطويلة الشتوية والليلية، وتقل فيهم الحميات الحارة لكثرة استطلاقاتهم وتحلّل اللطيف من أخلاطهم.
في المساكن المشرقيّة : المدينة المفتوحة إلى المشرق الموضوعة بحذائه صحيحة جيدة الهواء تطلع عليهم الشمس في أول النهار ويصفو هواؤهم، ثم ينصرف عنهم وقد صفى. وتهب عليهم رياح لطيفة ترسلها إليهم الشمس وتتبعها بنفسها وتتفق حركاتها.
في المساكن المغربية : المدينة المكشوفة إلى المغرب المستورة عن المشرق لا توافيها الشمس إلى حين، وكما توافيها تأخذ في البعد عنها لا في القرب إليها فلا تلطف هواءها ولا تجففه، بل تتركه رطباً غليظاً وإن أرسلت إلى المدينة رياحاً أرسلتها مغربية وليلاً، فتكون أحكامها أحكام البلاد الرطبة المزاج المعتدلة الحرارة الغليظة، ولولا ما يعرض من كثافة الهواء لكانت تشبه طباع الربيع، لكنها تقصر عن صحة هواء البلاد المشرقية قُصُوراً كثيراً، فلا يجب أن يلتفت إلى قوله من جزم أن قوة هذه البلاد قوة الربيع قولاً مطلقاً، بل إنها بالقياس إلى بلاد أخرى جيدة جداً. ومن المعنى المذموم فيها أن الشمس لا توافيهم إلا وهي مستولية على تسخين الإقليم لعلوها تطلع عليهم لذلك دفعة بعد برد الليل ولرطوبة أمزجة هوائهم، تكون أصواتهم باحة وخصوصاً في الخريف لنوازهم.
في اختيار المساكن وتهيئتها : ينبغي لمن يختار المساكن أن يعرف تربة الأرض وحالها في الارتفاع والانخفاض والانكشاف والإستتار وماءها وجوهر مائها وحاله في البروز والانكشاف أو في الارتفاع والانخفاض، وهل هي معرّضة للرياح أو غائراً في الأرض ويعرف رياحهم. هل هي الصحيحة الباردة وما الذي يجاورها من البحار والبطائح والجبال والمعادن، ويتعرّف حال أهل البلد في الصحة والأمراض، وأيّ الأمراض يعتاد بهم ويتعرف قوتهم وهضمهم وجنس أغذيتهم، ويتعرف حال مائها وهل هو واسع منفتح أو ضيّق المداخل مخنوق المنافس، ثم يجب أن يجعل الكوى والأبواب شرقية شمالية، ويكون العمدة على تمكين الرياح المشرقية من مداخلة الأبنية وتمكين الشمس من الوصول إلى كل موضع فيها، فإنها هي المصلحة للهواء. ومجاورة المياه العذبة الكريمة الجارية الغمرة النظيفة التي تبرد شتاء وتسخن صيفاً، خلاف الكامنة أمر جيد منتفع به. فقد تكلمنا في الهواء والمساكن كلاماً مشروحاً، وخليق بنا أن نتكلم فيما يتلوها من الأسباب المعدودة معها.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثاني عشر : موجبات الحركة والسكون ] ●
الحركة يختلف فعلها في بدن الإنسان بما يشتدّ ويضعف وبما يقلٌ ويكثر وبما يخالطها من السكون، وهذا عند الحكماء قسم برأسه وبما يتعاطاه من المواد والحركة الشديدة والكثيرة والقليلة المخالطة للسكون يشترك في تهييج الحرارة، إلا أن الشديدة الغير الكثيرة تفارق الكثيرة الغير الشديدة، والكثيرة المخالطة للسكون بأنها تسخن البدن سخونة كثيرة وتحلل إن حللت أقل.
وأما الكثيرة فإنها تحلل بالرفق فوق ما يسخن وإذا أفرد كل واحد منهما برد لفرط تحليله الحار الغريزي وجفف أيضاَ. وأما إذا كانت متعاطاة لمادة فربما كانت المادة تفعل ما يعين فعلها، وربما كانت تفعل ما ينقص فعلها، مثلاً إن كانت الحركة حركة صناعة القصارة فإنها يعرض لها أن تفيد برد أو رطوبات، وإن كانت حركة صناعة الحدادة عرض، لها أن تفيد فضل سخونة وجفاف. وأما السكون فهو مبرّد دائماً لفقدان انتعاش الحرارة الغريزية والإحتقان الحانق ومرطب لفقد التحلّل من الفضول.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الثالث عشر : موجبات النوم واليقظة ] ●
النوم شديد الشبه بالسكون، واليقظة شديدة الشبه بالحركة، لكن لهما بعد ذلك خواص يجب أن نعتبر فنقول: إن النوم يقوي القوى الطبيعية كلها بحقن الحرارة الغريزية ويرخي القوى النفسانية بترطيبه مسالك الروح النفساني وإرخائه إياها وتكديرها جوهر الروح ويمنع ما يتحلل، ولكنه يزيل أصناف الإعياء ويحبس المستفرغات المفرطة لأن الحركة تزيد المستعدات للسيلان إسالة، إلا ما كان من المواد في ناحية الجلد فربما أعان للنوم على دفعه لحصره الحرارة داخلاً، وتوزيعه الغذاء في البدن واندفاع ما قرب من الجلد بضن ما بعد، ولكن اليقظة في هذا أبلغ، على أن النوم أكثر تعريفاً من اليقظة وذلك لأن تعريفه على سبيل الاستيلاء على المادة لا على سبيل التحليل الرقيق المتّصل. ومن عرق كثيراً في نومه ولا سبب له من أسباب أخرى فإنه يمتلىء من الغذاء بما لا يحتمله، فإن صادف النوم مادة مستعدّة للهضم أو النضج أحالها إلى طبيعة الدم وسخنها فانبث الحار في البدن فسخن البدن سخونة غريزية، وإن صادف أخلاطاً حارة مرارية وطال زمانه سخن البمن صخونة غريبة، وإن صادف خلاء تبرد بما يحلل أو خلطاً عاصياً على القوة الهائمة برد بما ينشر منه،واليقظة تفعل أضداد جميع ذلك لكنها إذا أفرطت أفسدت مزاج الدماغ إلى ضرب من اليبوسة، وأضعفته فخلطت العقل وأحرقت الأخلاط فأحدثت أمراضاً حادة. والنوم المفرط يحدث ضدّ ذلك فيحدث بلادة القوى النفسانية وثقل الدماغ والأمراض الباردة وذلك بما يمنع من التحلل، والسهر يزيد في الشهوة ويجوع بما يحلل من المادة وينقص من الهضم بما يحلّل من القوة والتحليل بين سهر ونوم، رديء الأحوال كلها. والغالب من حال النوم أن الحز فيه يبطن والبرد يظهر ولذلك يحتاجون من الدثار لأعضائهم كلها إلى ما لا يحتاج إليه اليقظان. وستجد من أحكام النوم وما يتعرف منه ومن أحواله كلاماً كثيراً في الكتب المستقبلة.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الرابع عشر : موجبات الحركات النفسانية ] ●
جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصحبها حركات الروح إما إلى خارج، وإما إلى داخل، وذلك إما دفعة، وإما قليلاً قليلاً، ويتبع حركتها إلى خارج برد الباطن، وربما أفرط ذلك فيتحلل دفعة فيبرد الباطن والظاهر ويتبعه غشي أو موت ويتبع حركتها إلى داخل برودة الظاهر وحرارة الباطن. وربما اختنقت من شدّة الانحصار فيبرد الظاهر والباطن ويتبعه غشي عظيم أو موت.والحركة إلى خارج إما دفعة، كما عند الغضب وإما أولاً، فأولاً، كما عند اللذة وعند الفرح المعتدل. والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزع، وإما أولاً فأولاً، كما عند الحزن. والاختناق، والتحلل المذكوران إنما يتبعان دائماً ما يكون دفعة. وأما النقصان وذبول الغريزية فيتبع دائماً ما يكون قليلاً قليلاً- أعني بالنقصان الاختفاق بالتدريج- وفي جزء جزء لا دفعة، وقد يتفق أن يتحرك إلى جهتين في وقت واحد إذا كان العارض يلزمه عارضان مثل الهم: فإنه قد يعرض معه غضب وحزن فتختلف الحركتان، ومثل الخجل: فإنه قد يقبض أولاً إلى الباطن ثم يعود العقل والرأي فيبسط المنقبض فيثور إلى خارج فيحمر اللون.
وقد ينفعل البدن عن هيئات نفسانية غير التي ذكرناها، مثل التصورات النفسانية فإنها تثير أموراً طبيعية كما قد يعرض أن يكون المولود مشابهاً لمن يتخيل صورته عند المجامعة ويقرب لونه من لون ما يلزمه البصر عند الإنزال. وهذه أحوال ربما اشمأز عن قبولها قوم لم يقفوا على أحوال غامضة من أحوال الوجود. وأما الذين لهم غوص في المعرفة فلا ينكرونها إنكار ما لا يجوز وجوده. ومن هذه القبيل اتباع حركة الدم من المستعد لها إذا كَثر تأمله ونظره في الأشياء الحمر، ومن هذا الباب تضرُس الإنسان لأكل غيره من الحموضة وإصابته الألم في عضو يؤلم مثله غيره إذا راعه ومن هذا الباب تبدل المزاج بسبب تصور ما يخاف أو يفرح به.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
● [ الفصل الخامس عشر : موجبات ما يؤكل ويشرب ] ●
ما يؤكل ويشرب يفعل في بدن الإنسان من وجوه ثلاثة: فإنه يفعل فعلاً بكيفيته فقط، وفعلاً بعنصره، وفعلاً بجملة جوهره، وربما تقاربت مفهومات هذه الألفاظ بحسب التعارف اللغوي. إلا أنا نصطلح في استعَمالها على معان نشير إليها
فأما الفاعل بكيفيته فهو أن يكون من شأنه أن يتسخن إذا حصل في بدن الإنسان أو يتبرد فيسخن بسخونته ويبرد ببرده من غير أن يتشبه به.
وإما بعنصره: فأن يكون بحيث يستحيل عن طباعه فيقبل صورة جزء عضو من أعضاء الإنسان، إلا أن عنصره مع قبوله صورته قد يتفق أن يبقى فيه من أول الأمر إلى أن يتم الانعقاد. والتشبه بقية من كيفياته التي كانت له ما هو أشد في بابها من الكيفيات لبدن الإنسان مثل الدم المتولد من الخس، فإنه يصحبه من البرودة ماهوأبرد من مزاج الإنسان، وإن كان قد صار دماً وصلح أن يكون جزء عضو إنسان. والدم المتولد من النوم بالضد وأما الفاعل بجوهره، فهو الفاعل بصورته النوعية التي بها هو هو لا بكيفيته من غير تشبه بالبدن، أو مع تشته بالبدن، وأعني بالكيفية إحدى هذه الكيفيات الأربع، فالفاعل بالكيفية لا مدخل لمادته في الفعل والفاعل بالعنصر هو الذي إذا استحال عنصره عن جوهره استحالة يوجبها قوة في البدن قام بدل ما يتحلل أولاً، وذكى الحرارة الغريزية بالزيادة في الدم ثانياً، وربما فعل أيضاً بالكيفية الباقية فيه ثالثاً. والفاعل بالجوهر هو الذي يفعل بصورة نوعه الحاصلة بعد المزاج الذي إذا امتزجت بسائطه وحدث منها شيء واحد استعد لقبول نوع وصورة زائدة على بسائط تلك الصورة ليست الكيفيات الأول التي للعنصر ولا المزاج الكائن عنها، بل كمال يحصل للعنصر بحسب استعداد حصل له من المزاج مثل القوة الجاذبة في مغناطيس، ومثل طبيعة كل نوع من أنواع الحيوان والنبات المستفادة بعد المزاج بإعداد المزاج، وليست من بسائط المزاج ولا نفس المزاج، إذ ليست حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة لا بسيطة ولا ممزوجة، بل هي مثل لون أو رائحة أو نفس أو صورة أخرى ليست من المحسوسات.
وهذه الصورة الحادثة بعد المزاج، قد يتفق أن يكون كمالها الانفعال من الغير إذ كانت هذه الصورة قوة إنفعالية، وقد يتفق أن يكون كمالها فعلاً في الغير إذا كانت هذه الصورة قوية على فعل في الغير. وإذا كانت فعالة في الغير قد يتفق أن يكون فعلها في بدن الإنسان، وقد يتفق أن لا يكون. وإن كانت قوة تفعل في بدن الإنسان، فقد يتفق أن تفعل فعلاً ملائماً، وقد يتفق أن تفعل فعلاً غير ملائم. وتكون جملة الفعل فعلاً ليس مصدره عن مزاجه بل عن صورته النوعية الحادثة بعد المزاج فلهذا يسمى هذا فعلاً بجملة الجواهر، أي بصورة النوع لا بالكيفية، أي لا بالكيفيات الأربع وما هو مزاج عنها.
أما الملائم فمثل فعل "فاوانيا" في إبطاله الصرع.
وأما المنافي فمثل قوة البيش المفسدة لجوهر الإنسان. ونرجع الآن فنقول: إنا إذا قلنا للشيء المتناول أو المطلوخ أنه حار أو بارد، فإنما نعني أنه كذلك بالقوة لا بالفعل، ونعني أنه بالقوة أحر من أبداننا وأبرد من أبداننا ونعني بهذه القوة قوة معتبرة بوقت فعل حرارة بدننا فيها بأن يكون إذا انفعل حاملها عن الحار الغريزي الذي لنا حدث حينئذ فيها ذلك بالفعل، وربما عنينا بهذه القوة شيئاً آخر، وهو أن تكون القوة بمعنى جودة الاستعداد كقولنا إن الكبريت حار بالقوة، وربما اكتفينا بقولنا إن الشيء حار أو بارد إلى الأغلب في مزاجه من الأركان الأولى غير ملتفتين إلى جانب فعل بدننا فيه. وقد نقول للدواء إنه بالقوة كذا إذا كانت القوة بمعنى المَلَكَةِ، كقوة الكاتب التارك للكتابة على الكتابة، مثل قولنا إن البيش بالقوة مفسد. والفرق بين هذا وبين الأول أن الأول ما لم يُحِلْهُ البدن إحالَةً ظاهرة لم يخرج إلى الفعل، وهذا، بما أن يفعل بنفس الملاقاة كسم الأفاعي، أو بأدنى استحالة في كيفيته كالبيش. وبين القوة الأولى والقوة التي ذكرناها قوة متوسطة هي مثل قوة الأدوية السمية. ثم نقول إن مراتب الأدوية قد جعلت أربعة.
المرتبة الأولى منها: أن يكون فعل المتناول في البدن بكيفيته فعلاً غير محسوس مثل أن يسخن أو يبرّد تسخيناً أو تبريداً ليس يفطن له ولا يحس به إلا أن يتكرر أو يكثر.
والمرتبة الثانية: أن يكون الفعل أقوى من ذلك، ولكن لا يبلغ أن يضر بالأفعال ضرراً بيناًولا يغير مجراها الطبيعي إلا بالعرض، أو إلا أن يتكرر ويكثر.
والمرتبة الثالثة: أن يكون فعلها يوجب بالذات ضرراً بيناً، ولكن لا يبلغ أن يهلك ويفسد.
والمرتبة الرابعة: أن يكون بحيث يبلغ أن يهلك ويفسد، وهذه خاصية الأدوية السميّة فهذا ما يكون بالكيفية. وأما المهلك بجملة جوهره فهو السم.
ونقول من رأس إن جميع ما يرد على البدن مما يجري بينهما فعل وانفعال: إما أن يتغير عن البدن ولا يغيره، وإما أن يتغيّر عن البدن ويغيره، وإما أن لا يتغيّر عن البدن ويغيره.
فأما الذي يتغيرعن البدن ولا يغيره. تغييراً معتدًا به، فإما أن يتشبه بالبدن، وإما أن لا يتشبه. والذي يتشبّه به هو الغذاء على الإطلاق، وأما الذي لا يتشبه به فهو الدواء المعتدل.
وأما الذي يتغير عن البدن ويغيّره فلا يخلو، إما أن يكون كما يتغير عن البدن يغيّر البدن، ثم إنه يتغير عن البدن اَخر الأمر فيبطل بغيره، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون هو الذي يغير البدن آخر الأمر ويفسده. والقسم الأول، إما أن يكون بحيث يتشبه بالبدن، أو لا يكون بحيث يتشبّه به، فإن تشبه به فهو الغذاء الدوائي، وإن لم يتشبّه فهو الدواء المطلق. والقسم الثاني فهو الدواء السمّي.
وأما الذي لا يتغير عن البدن البتة ويغيره فهو السم المطلق، ولسنا نعني بقولنا إنه لا يتغير عن البدن أنه لا يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه، بل أكثر السموم ما لم يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه لم يؤثر فيه بل نعني أنه لا يتغير في صورته الطبيعية، بل لا يزال يفعل وهو ثابت القوة والصورة حتى يفسد البدن، وقد تكون طبيعة هذا حارة فتعين طبيعته خاصيته في تحليل الروح كسم الأفعى والبيش. وقد تكون باردة فتعين طبيعته خاصيته في إخماد الروح وإيهانه كسم العقرب والشوكران وجميع ما يبرّد، وقد يغيّر البدن آخر الأمر تغييراً طبيعياً وهو التسخين. فإنه إذا استحال إلى الدم زاد لا محالة في التسخين، حتى إن الخس والقرع يسخن هذا التسخين، إلا أنا لسنا نقصد بالتغيير هذا التسخين، بل ما كان صادراً عن كيفية الشيء ونوعه بعد باق. والدواء الغذائي يستحيل عن البدن بجوهره ويستحيل عنه بكيفيته، لكنه يستحيل أولاً في كيفيته، فمنه ما يستحيل أولاً إلى حرارة فيسخن كالثوم، ومنه ما يستحيل أولاً إلى برودة فيبرد كالخس. وإذا استتمت الاستحالة إلى الدم كان أكثر فعله التسخين بتوفير الدم ، وكيف لا يسخن وقد استحالت حارة وخلعت برودتها. لكنه قد يصحب أيضاً كل واحد منهما من الكيفية الغريزية شيء بعد الاستحالة في الجوهر، فيبقى في الدم الحادث من الخس تبريد ما، ومن الدم الحادث من الثوم تسخين ما ولكن إلى حين.
والأدوية الغذائية فمنها ما هو أقرب إلى الدوائية ومنها ما هو أقرب إلى الغذائية كما أن الأغذية نفسها منها ما هو قريب الطباع إلى جوهر الدم كالشراب ومح البيض وماء اللحم، ومنها ما هو أبعد منه يسيراً مثل الخبز واللحم، ومنها ما هو أبعد جداً كالأغذية الدوائية.
ونقول: إن الغذاء يغير حال البدن بكيفيته وكميته، إما بكيفيته فقد عرف ذلك، وإما بكميته فذلك إما بأن يزيد فيورث التخمة والسدد ثم العفونة، واما بأن ينقص فيورث الذبول والزيادة في كمية الغذاء مبردة دائماً، اللهم إلا أن يعرض منها عفونة فتسخن فإن العفونة، كما أنها إنما تحدث عن حرارة غريبة، كذلك تحدث عنها أيضاً حرارة غريبة.
ونقول أيضاً: إن الغذاء منه لطيف، ومنه كثيف، ومنه معتدل. واللطيف هو الذي يتولد منه دم رقيق، والكثيف هو الذي يتولد منه دم ثخين، وكل واحد من الأقسام، فإما أن يكون كثير التغذية، وإما أن يكون يسير التغذية. مثال اللطيف الكثير الغذاء: الشراب وماء اللحم ومح البيض المسخّن، أو النيمبرشت ، فإنه كثير الغذاء لأن كثر جوهره يستحيل إلى الغذاء.
ومثال الكثيف القليل الغذاء: الجبن والقديد والباذنجان وما يشبهها، فإن الشيء المستحيل منها إلى الدم قليل.
ومثال الكثيف الكثير الغذاء: البيض المسلوق ولحم البقر.
ومثال اللطيف القليل الغذاء: الجلاب والبقول المعتدلة القوام والكيفية. ومن الثمار التفاح والرمان وما يشبهه فإن كل واحد من هذه الأقسام قد يكون رديء الكيموس، وقد يكون محمود الكيموس . مثال اللطيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس: صفرة البيض والشراب وماء اللحم.
ومثال اللطيف القليل الغذاء الحسن الكيموس: الخس والتفاح والرمان.
ومثال اللطيف القليل الغذاء الرديء الكيموس: الفجل والخردل وأكثر البقول.
ومثال اللطيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس: الرئة ولحم النواهض.
ومثال الكثيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس: البيض المسلوق ولحم الحولي من الضأن .
ومثال الكثيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس: لحم البقر ولحم البط ولحم الفرس.
ومثال الكثيف القليل الغذاء الرديء الكيموس: القديد. وأنت تجد في هذه الجملة المعتدل.
● [ يتم متابعة الجملة الأولى من التعليم الثانى ] ●
القانون فى الطب لإبن سينا
الكتاب الأول: الأمور الكلية فى علم الطب
منتدى حُكماء رُحماء الطبى . البوابة