لما استهل شوال من سنة ست وعشرين ، خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة، فأخذت في الحركة معهم، وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان، من كبار الأمراء وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني، وحج في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين العماري، وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة، أميرهم محمد بن رافع كبير القدر في الأمراء وارتحلنا من الكسوة إلى قرية تعرف بالصنمين عظيمة ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة وهي صغيرة من بلاد حوران نزلنا بالقرب منها ثم ارتحلنا إلى مدينة بصرى، وهي صغيرة ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعاً ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مآربه - وإلى بصرى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث في تجارة خديجة، وبها مبرك ناقته قد بنبي عليه مسجد عظيم، ويجتمع أهل حوران بهبذه المدينة، ويتزود الحاج منها ثم يرحلون إلى بركة زيرة " زيرا " ، ويقيمون عليها يوماً، ثم يرحلون إلى اللجون، وبها الماء الجاري ثم يرحلون إلى حصن الكرك، وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب والوادي يطيف به من جميع جهاته وله باب واحد قد نحت المدخل اليه في الحجر الصلد، ومدخل دهليزه كذلك وبهذا الحصن يتحصن الملوك، وإليه يلجؤون في النوائب وله لجأ الملك الناصر، لأنه ولي الملك وهو صغير السن، فاستولى على التدبير مملوكه سلار النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج، ووافقه الأمراء على ذلك فتوجه إلى الحج فلما وصل عقبة أيلة، لجأ إلى الحصن، وأقام به أعواماً إلى أن قصده أمراء الشام، واجتمعت عليه المماليك وكان الملك في تلك المدة بيبرس الششنكير ، وهو أمير الطعام وتسمى بالملك المظفر، وهو الذي بنى الخانقاه البيبرسية، بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين بن أيوب فقصده الملك الناصر بالعساكر، ففر بيبرس إلى الصحراء، فتبعته العساكر وقبض عليه، وأتي به إلى الملك الناصر فأمر بقتله فقتل.وقبض على سلار، وحبس في جب حتى مات جوعاً. ويقال: إنه أكل جيفة من الجوع نعوذ بالله من ذلك. وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام بموضع يقال له الثنية، وتجهزوا لدخول البرية. ثم ارتحلنا إلى معان، وهو آخر بلاد الشام، ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال فيها: داخلها مفقود وخارجها مولود. وبعد مسيرة يومين نزلنا ذات حج، وهي حسيان لا عمارة بها، ثم إلى وادي بلدح ولا ماء به، ثم إلى تبوك وهو الموضع الذي غزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها عين ماء كانت تبض بشيء من الماء. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها، جادت بالماء المعين. ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك، أخذوا أسلحتهم، وجردوا سيوفهم، وحملوا على المنزل، وضربوا النخل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروي منها جميعهم، ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك. ومن عادة السقائين أنهم ينزلون على جوانب هذه العين، ولهم أحواض مصنوعة من جلود الجواميس، كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال، ويملأون الروايا والقرب. ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماه وجمال أصحابه، ويملأ رواياهم. وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على سقي جمله وملء قربته، بشيء معلوم من الدراهم. ثم يرحل الركب من تبوك، ويجدون السير ليلاً ونهاراً خوفاً من هذه البرية. وفي وسطها الوادي الأخيضر: كأنه وادي جهنم، أعاذنا الله منها. وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب، فانتشفت المياه، وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار، ومات مشتريها وبائعها. وكتب ذلك في بعض صخر الوادي. ومن هنالك ينزلون بركة المعظم، وهي ضخمة، نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب. ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين، وربما جف في بعضها، وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون البئر الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يردها أحد من الناس، مع شدة عطشهم، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بها في غزوة تبوك، فأسرع براحلته وأمر أن لا يسقى منها أحد. ومن عجن به أطعمه الجمال. وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر الأحمر منحوتة، لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة، وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت. إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة صالح عليه السلام بين جبلين هنالك، وبينهما أثر مسجد يصلي الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه. والعلا قرية كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة، يقيم بها الحجاج أربعاً، يتزودون ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية. وأهل هذه القرية أصحاب أمانة، وإليها ينتهي تجار نصارى الشام، لا يتعدونها، ويبايعون الحجاج الزاد وسواه. ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم الوادي المعروف بالعطاس، وهو شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة. هبت السنين على الركب فمل يخلص منها إلا اليسير. وتعرف تلك السنة سنة الأمير الجالقي، ومنه ينزلون هدية، وهي حسيان ماء بواد يحفرون به، فيخرج الماء وهو زعاق. وفي اليوم الثالث ينزلون البلد المقدس الكريم الشريف.
مقتبسة من كتاب رحلة أبن بطوطة منتديات الرسالة الخاتمة - البوابة