بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
المذكورون بأنهم أبخل الناس
ختام مختصر كتاب البغدادى
قُسم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقُسم البخل إلى عشرة أجزاء، فتسعة في فارس وجزء في سائر الناس، وقُسم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان وجزء في سائر الناس، وقُسم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقُسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الروم وواحد في سائر الناس.
قال الأصمعي : أبخل أهل خراسان أهل طوس وكانت قريه من قراها قد شهر أهلها بالبخل وكانوا لايقرون ضيفا فبلغ ذلك واليا من ولاتهم ففرض عليهم قرى الضيف وأمرهم أن يضرب كل رجل منهم وتدا في المسجد الذي يصلي فيه وقال: إذا نزل ضيف فعلى أي وتد علق سوطا أو ثوبا فقراه على صاحب الوتد، وكان فيهم رجل مفرط البخل فعمد إلى عود صلب فملسه وحدده وصيره في زواية المسجد ووتده منصوبا ليزل عنه ما علق عليه، فدخل المسجد ضيف فقال في نفسه: ينبغي أن يكون هذا الوتد لأبخل القوم وإنما فعل هذا هربا من الضيافه، فعمد إلى عمامته فعقدها على ذلك الوتد عقدا شديدا فثبتت وصاحب الوتد ينظر إليه قد سقط في يديه، فجاء إلى أمرأته مغتما فقالت: ماشأنك، فقال: البلاء الذي كنا نحيد عنه قد جاء الضيف ففعل كذا وكذا، فقالت: ليس لنا حيله إلا الصبر واستعانة الله عليه وجعلت تعزية واجتمع بناته وجيرانه متحزنين لما حل به وكان أمر الضيف عندهم عظيما فعمد إلى شاة فذبحها وإلى دجاجة فاشتواها وإلى جفنة فملاها ثريدا ولحما فجعلت أمرأته وبناته وجاراته يتطلعن من فروج الأبواب والسطوح إلى الضيف وأكله وجعلوا يتبادرون: قد جاء الضيف ويلكم، قد جاء الضيف ،فتناول الضيف عرقا من ذلك اللحم ورغيفا فأكله ومسح يده وحمد الله عز وجل وقال: أرفعوا بارك الله عليكم، فقال صاحب البيت: كل يا عبد الله واستوف عشاءك فقد تكلفنا لك، قال: قد اكتفيت، فقال: هكذا أكل الضيف مثل أكل الناس لاغير، قال: نعم، قال: ما ظننت إلا أنك تأكل جميع ما عملناه وتدعو بغيره، فكان ذلك الرجل بعد ذلك لايمر به ضيف إلا قراه.
قال بعض أهل البصرة : كان عندنا جماعة من القسامل يتواصون باللؤم مقحط الأموال قال: فقال بعضهم: غدوت إلى البازجاه بمران إلى رجل عليه قلسان قال: فقال لي يعني صاحبا له: فرطت وضيعت وأسأت، قال: وكيف، قال: ازددت على قوتك وأخلقت ثوبك وأبليت نعلك، فقال: كان ثوبي مطويا على عنقي ونعلي معلقه بيدي ولم أزدد على قوتي شيئا، فقال: قد حفظت.
مات رجل بالبصرة وأوصى بثلث ماله للسفل، فسأل عن السفل، فقيل له: السماكين فمضى إلى سماكي الجبل فقال: أنتم السفل، قالوا: نحن السفل ولكن سماكي البازجة أسفل منا، فمضى إلى البازجة فقال: أنتم السفل، فقالوا: نحن السفل ولكن سماكي الأبلة أسفل منا، فمضى إلى الأبلة فقال : أنتم السفل، فقالوا: نحن السفل، فمإذا تريد، قال: مات رجل وأوصى بثلث للسفل فأرشدت إليكم، فقام رجل منهم فوثب عليه وقال: لا نتركك حتى نذهب إلى الحاكم فتحلف أنك ما أنتفعت منه بشيء ولا أنفقت، فقال الرجل: اشهد أنكم سفل سفل سفل.
قال صبي من أهل الكوفه لأبيه: يا أبه أشتهي رمانا، فقال: وما يدريك ما الرمان، ثم قال لأمه: ذريه حتى يظن أن الذرور هو الرمان.
قال عمر بن الحكم: وسمعت أبا أيوب الأنطاكي يقول عن رجل قال: دعاني رجل بالكوفه إلى منزله فأتيته فإذا شاة مشدودة في ناحية الدار فبينا أنا كذلك إذ سمعت: الناطف الناطف، قال: فصاحت الشاة واضطربت اضرابا شديدا، قال: ففزعت من ذلك، فقال لي الكوفي: يا عبد الله، لاتفزع ولاترع أن لنا صبيا إذا سمع صوت " الناطف " جاء إلى هذه الشاة فنتف صوفها واشترى به ناطفا، فالشاة لما ينزل بها من الوجع من نتف الصوف تصيح هذا الصياح إذا سمعت صوت " الناطف ".
قال عبد الله بن عقبة الباهلي : دعاني رجل من أهل الكوفة إلى منزله أتغدى عنده فأتيته فأدخلني إلى دار قوراء كبيرة فأجلسني في بيت منها فلم أزل حتى أنتصف النهار وأشتد جوعي فقلت: يا هذا، قد حبستني، قال: فنادى باعلى صوته: يا عاتكة، يا حمامة، يا أم غراب، قال: فأجابته جارية من أقصى الدار: لبيك يا مولاي، قال: ويلك، أبو محمد قد حبسناه منذ غدوة فهاتي ماعندك، فقالت: يا مولاي، قد نخلت دقيقي وأنا أنتظر السقاء يجيء حتى أعجن، قال: فقمت فخرجت.
سمعت بعض اصحابنا يذكر أن رجلا عربيا كان يمشي في بعض درب الكوفة في يوم قائظ شديد الحر فلظه العطش فتقدم إلى باب دار فطرقه فخرجت إليه جارية فقال لها: قد لظني العطش فاسقيني كوزا من ماء فقالت له: والله ما عندنا ماء ولكن عندنا لبن فهل لك أن تشرب منه فقال لها الرجل: ومن لي بذلك، فأخرجت إليه فخارة فيها لبن ودفعتها إليه فعجب الرجل وقال في نفسه إليس يذكر عن أهل الكوفه البخل، وأنا قد طلبت من أهل هذة الدار ماء فسقوني لبنا وهذه غاية الكرم ثم وضع الفخاره عن فمه وقال للجارية: يا هذه إني أرى في الفخارة فأرة ميتة فقالت الجارية: فأرة أخرى، فرمى بالفخارة عن يده إلى الأرض فسقطت فأنكسرت فبادرت الجارية إلى مولاتها صارخة تولول وتقول: يا ستي كسر الرجل مبولتك.
وبلغني أن بغداديا لحاما نزل بالكوفه وفتح فيها حانوتا ليبيع فيه اللحم فمكث زمانا لايشتري احد منه شيئا ثم جاءته أمراة في قناعها نخاله وقالت له: اعطني بهذه النخاله لحما فصاح عليها وأنتهرها وقال: أي خير يرتجى من قوم يريدون ابتياع اللحم بالنخالة، فولت المرأة وهي تضحك تعجبا منه وقالت: هذا البغدادي طريف لايبيع اللحم إلا بنوى.
قال الهيثم بن عدي : كان أبو العميس رجلا بخيلا فكان إذا أخذ الدرهم نقره وقال: كم من يد وقعت فيها ومن بلد دخلته اسكن وقر عينا فقد استقرت بك الدار وأطمأن بك المنزل ثم يرفعه.
قال أبو بكر أحمد بن نصر بن عبد الله الذراع : حدثني بعض اخواني قال: بلغني عن بعض البخلاء أنه كان إذا وقع الدرهم في يده يخاطبه ويقول له: أنت عقلي وديني وصلاتي وصيامي وجامع شملي وقرة عيني وأنسي وقوتي وعدتي وعمادي ثم يقول له:
أهلا وسهلا بك من زائر * كنت إلى وجهك مشتاقا
ثم يقول له: يا نور عيني وحبيب قلبي، قد صرت إلى من يصونك ويعرف قدرك ويعظم حقك ويرعى قديمك ويشفق عليك وكيف لا تكون كذلك وأنت تعظم الأقدار وتعمر الديار وتفتض الأبكار وتسمو على الأشراف وترفع الذكر وتعلي القدر وتؤنس من الوحشة ثم يطرحه في كيسه
كان خالد بن صفوان إذا أخذ جائزته قال للدراهم: أما ولله، لطالما غربت في البلاد فوالله لاطيلن ضجعتك ولأديمن صرعتك.
وأتى خالد بن صفوان رجل يسأله فاعطاه درهما فقال له: سبحان الله يا صفوان، اسألك فتعطيني درهما، فقال له خالد: يا أحمق، أما تعلم أن الدرهم عُشر العشرة والعشرة عُشر المائة والمائة عُشرة الألف والألف عُشر عشرة الأف، ألا ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دية المسلم ، والله ما تطيب نفسي بدرهم أنفقه إلا درهما قرعت به باب الجنة أو درهما أشتري به موزا فأكله.
قال يزيد بن عمير لبنيه: يا بني أعلموا أنه يكون عند احدكم مائة ألف أعظم له من صدور بني تميم وأعظم شرفا من يقسمها فيهم، ولأن يقال لأحدكم شحيح وهو غني خير من أن يقال: سخي وهو قد افتقر، ولأن يقال لأحدكم: جبان وهو حي خير من أن يقال: شجاع وقد قتل، وتعلموا الرد، فوالله لهو أشد من الإعطاء.
قيل لبعض الحكماء اكتسب فلا مالا قال: فهل اكتسب أياما يأكله فيها، قيل: ومن يقدر على ذلك، قال: فما أره اكتسب شيئا.
وقال عبد الله بن المعتز: بشر مال البخيل بحادث أو وارث.
وفد على أنوشروان حكيم للهند وفيلسوف للروم ، فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفي سخيا وعند الغضب وقورا وفي القول متأنيا وفي الرفعة متواضعا وعلى كل ذي رحم مشفقا ، وقام الرومي فقال: من كان بخيلا ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لايرحمه.
قال: أبو العباس أحمد بن يحيى :
إذا كنت جماعا لمالك ممسكا * فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموما إلى غـير حامد * فيأكله عفوا وأنت دفين
قال أبو حاتم عن العتبي عن سعيد : سمعت أعرابيا يقول: عجبا للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب والمؤخر للسعة التي إياها طلب ولعله يموت بين هربه وطلبه فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الاخرة حساب الاغنياء مع أنك لم تر بخيلا إلا وغيره أسعد بماله منه لأنه في الدنيا متهم بجمعه وفي الاخرة أثم يمنعه وغيره آمن في الدنيا من همه وتاج في الآخرة من إثمه.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
بغداد يوم السبت الحادي والعشرين من شعبان سنه ستمائة
تم مختصر: البخلاء تأليف أبي بكر الخطيب البغدادي
قُسم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقُسم البخل إلى عشرة أجزاء، فتسعة في فارس وجزء في سائر الناس، وقُسم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان وجزء في سائر الناس، وقُسم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقُسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الروم وواحد في سائر الناس.
قال الأصمعي : أبخل أهل خراسان أهل طوس وكانت قريه من قراها قد شهر أهلها بالبخل وكانوا لايقرون ضيفا فبلغ ذلك واليا من ولاتهم ففرض عليهم قرى الضيف وأمرهم أن يضرب كل رجل منهم وتدا في المسجد الذي يصلي فيه وقال: إذا نزل ضيف فعلى أي وتد علق سوطا أو ثوبا فقراه على صاحب الوتد، وكان فيهم رجل مفرط البخل فعمد إلى عود صلب فملسه وحدده وصيره في زواية المسجد ووتده منصوبا ليزل عنه ما علق عليه، فدخل المسجد ضيف فقال في نفسه: ينبغي أن يكون هذا الوتد لأبخل القوم وإنما فعل هذا هربا من الضيافه، فعمد إلى عمامته فعقدها على ذلك الوتد عقدا شديدا فثبتت وصاحب الوتد ينظر إليه قد سقط في يديه، فجاء إلى أمرأته مغتما فقالت: ماشأنك، فقال: البلاء الذي كنا نحيد عنه قد جاء الضيف ففعل كذا وكذا، فقالت: ليس لنا حيله إلا الصبر واستعانة الله عليه وجعلت تعزية واجتمع بناته وجيرانه متحزنين لما حل به وكان أمر الضيف عندهم عظيما فعمد إلى شاة فذبحها وإلى دجاجة فاشتواها وإلى جفنة فملاها ثريدا ولحما فجعلت أمرأته وبناته وجاراته يتطلعن من فروج الأبواب والسطوح إلى الضيف وأكله وجعلوا يتبادرون: قد جاء الضيف ويلكم، قد جاء الضيف ،فتناول الضيف عرقا من ذلك اللحم ورغيفا فأكله ومسح يده وحمد الله عز وجل وقال: أرفعوا بارك الله عليكم، فقال صاحب البيت: كل يا عبد الله واستوف عشاءك فقد تكلفنا لك، قال: قد اكتفيت، فقال: هكذا أكل الضيف مثل أكل الناس لاغير، قال: نعم، قال: ما ظننت إلا أنك تأكل جميع ما عملناه وتدعو بغيره، فكان ذلك الرجل بعد ذلك لايمر به ضيف إلا قراه.
قال بعض أهل البصرة : كان عندنا جماعة من القسامل يتواصون باللؤم مقحط الأموال قال: فقال بعضهم: غدوت إلى البازجاه بمران إلى رجل عليه قلسان قال: فقال لي يعني صاحبا له: فرطت وضيعت وأسأت، قال: وكيف، قال: ازددت على قوتك وأخلقت ثوبك وأبليت نعلك، فقال: كان ثوبي مطويا على عنقي ونعلي معلقه بيدي ولم أزدد على قوتي شيئا، فقال: قد حفظت.
مات رجل بالبصرة وأوصى بثلث ماله للسفل، فسأل عن السفل، فقيل له: السماكين فمضى إلى سماكي الجبل فقال: أنتم السفل، قالوا: نحن السفل ولكن سماكي البازجة أسفل منا، فمضى إلى البازجة فقال: أنتم السفل، فقالوا: نحن السفل ولكن سماكي الأبلة أسفل منا، فمضى إلى الأبلة فقال : أنتم السفل، فقالوا: نحن السفل، فمإذا تريد، قال: مات رجل وأوصى بثلث للسفل فأرشدت إليكم، فقام رجل منهم فوثب عليه وقال: لا نتركك حتى نذهب إلى الحاكم فتحلف أنك ما أنتفعت منه بشيء ولا أنفقت، فقال الرجل: اشهد أنكم سفل سفل سفل.
قال صبي من أهل الكوفه لأبيه: يا أبه أشتهي رمانا، فقال: وما يدريك ما الرمان، ثم قال لأمه: ذريه حتى يظن أن الذرور هو الرمان.
قال عمر بن الحكم: وسمعت أبا أيوب الأنطاكي يقول عن رجل قال: دعاني رجل بالكوفه إلى منزله فأتيته فإذا شاة مشدودة في ناحية الدار فبينا أنا كذلك إذ سمعت: الناطف الناطف، قال: فصاحت الشاة واضطربت اضرابا شديدا، قال: ففزعت من ذلك، فقال لي الكوفي: يا عبد الله، لاتفزع ولاترع أن لنا صبيا إذا سمع صوت " الناطف " جاء إلى هذه الشاة فنتف صوفها واشترى به ناطفا، فالشاة لما ينزل بها من الوجع من نتف الصوف تصيح هذا الصياح إذا سمعت صوت " الناطف ".
قال عبد الله بن عقبة الباهلي : دعاني رجل من أهل الكوفة إلى منزله أتغدى عنده فأتيته فأدخلني إلى دار قوراء كبيرة فأجلسني في بيت منها فلم أزل حتى أنتصف النهار وأشتد جوعي فقلت: يا هذا، قد حبستني، قال: فنادى باعلى صوته: يا عاتكة، يا حمامة، يا أم غراب، قال: فأجابته جارية من أقصى الدار: لبيك يا مولاي، قال: ويلك، أبو محمد قد حبسناه منذ غدوة فهاتي ماعندك، فقالت: يا مولاي، قد نخلت دقيقي وأنا أنتظر السقاء يجيء حتى أعجن، قال: فقمت فخرجت.
سمعت بعض اصحابنا يذكر أن رجلا عربيا كان يمشي في بعض درب الكوفة في يوم قائظ شديد الحر فلظه العطش فتقدم إلى باب دار فطرقه فخرجت إليه جارية فقال لها: قد لظني العطش فاسقيني كوزا من ماء فقالت له: والله ما عندنا ماء ولكن عندنا لبن فهل لك أن تشرب منه فقال لها الرجل: ومن لي بذلك، فأخرجت إليه فخارة فيها لبن ودفعتها إليه فعجب الرجل وقال في نفسه إليس يذكر عن أهل الكوفه البخل، وأنا قد طلبت من أهل هذة الدار ماء فسقوني لبنا وهذه غاية الكرم ثم وضع الفخاره عن فمه وقال للجارية: يا هذه إني أرى في الفخارة فأرة ميتة فقالت الجارية: فأرة أخرى، فرمى بالفخارة عن يده إلى الأرض فسقطت فأنكسرت فبادرت الجارية إلى مولاتها صارخة تولول وتقول: يا ستي كسر الرجل مبولتك.
وبلغني أن بغداديا لحاما نزل بالكوفه وفتح فيها حانوتا ليبيع فيه اللحم فمكث زمانا لايشتري احد منه شيئا ثم جاءته أمراة في قناعها نخاله وقالت له: اعطني بهذه النخاله لحما فصاح عليها وأنتهرها وقال: أي خير يرتجى من قوم يريدون ابتياع اللحم بالنخالة، فولت المرأة وهي تضحك تعجبا منه وقالت: هذا البغدادي طريف لايبيع اللحم إلا بنوى.
قال الهيثم بن عدي : كان أبو العميس رجلا بخيلا فكان إذا أخذ الدرهم نقره وقال: كم من يد وقعت فيها ومن بلد دخلته اسكن وقر عينا فقد استقرت بك الدار وأطمأن بك المنزل ثم يرفعه.
قال أبو بكر أحمد بن نصر بن عبد الله الذراع : حدثني بعض اخواني قال: بلغني عن بعض البخلاء أنه كان إذا وقع الدرهم في يده يخاطبه ويقول له: أنت عقلي وديني وصلاتي وصيامي وجامع شملي وقرة عيني وأنسي وقوتي وعدتي وعمادي ثم يقول له:
أهلا وسهلا بك من زائر * كنت إلى وجهك مشتاقا
ثم يقول له: يا نور عيني وحبيب قلبي، قد صرت إلى من يصونك ويعرف قدرك ويعظم حقك ويرعى قديمك ويشفق عليك وكيف لا تكون كذلك وأنت تعظم الأقدار وتعمر الديار وتفتض الأبكار وتسمو على الأشراف وترفع الذكر وتعلي القدر وتؤنس من الوحشة ثم يطرحه في كيسه
كان خالد بن صفوان إذا أخذ جائزته قال للدراهم: أما ولله، لطالما غربت في البلاد فوالله لاطيلن ضجعتك ولأديمن صرعتك.
وأتى خالد بن صفوان رجل يسأله فاعطاه درهما فقال له: سبحان الله يا صفوان، اسألك فتعطيني درهما، فقال له خالد: يا أحمق، أما تعلم أن الدرهم عُشر العشرة والعشرة عُشر المائة والمائة عُشرة الألف والألف عُشر عشرة الأف، ألا ترى كيف ارتفع الدرهم إلى دية المسلم ، والله ما تطيب نفسي بدرهم أنفقه إلا درهما قرعت به باب الجنة أو درهما أشتري به موزا فأكله.
قال يزيد بن عمير لبنيه: يا بني أعلموا أنه يكون عند احدكم مائة ألف أعظم له من صدور بني تميم وأعظم شرفا من يقسمها فيهم، ولأن يقال لأحدكم شحيح وهو غني خير من أن يقال: سخي وهو قد افتقر، ولأن يقال لأحدكم: جبان وهو حي خير من أن يقال: شجاع وقد قتل، وتعلموا الرد، فوالله لهو أشد من الإعطاء.
قيل لبعض الحكماء اكتسب فلا مالا قال: فهل اكتسب أياما يأكله فيها، قيل: ومن يقدر على ذلك، قال: فما أره اكتسب شيئا.
وقال عبد الله بن المعتز: بشر مال البخيل بحادث أو وارث.
وفد على أنوشروان حكيم للهند وفيلسوف للروم ، فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفي سخيا وعند الغضب وقورا وفي القول متأنيا وفي الرفعة متواضعا وعلى كل ذي رحم مشفقا ، وقام الرومي فقال: من كان بخيلا ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لايرحمه.
قال: أبو العباس أحمد بن يحيى :
إذا كنت جماعا لمالك ممسكا * فأنت عليه خازن وأمين
تؤديه مذموما إلى غـير حامد * فيأكله عفوا وأنت دفين
قال أبو حاتم عن العتبي عن سعيد : سمعت أعرابيا يقول: عجبا للبخيل المتعجل للفقر الذي منه هرب والمؤخر للسعة التي إياها طلب ولعله يموت بين هربه وطلبه فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الاخرة حساب الاغنياء مع أنك لم تر بخيلا إلا وغيره أسعد بماله منه لأنه في الدنيا متهم بجمعه وفي الاخرة أثم يمنعه وغيره آمن في الدنيا من همه وتاج في الآخرة من إثمه.
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
بغداد يوم السبت الحادي والعشرين من شعبان سنه ستمائة
تم مختصر: البخلاء تأليف أبي بكر الخطيب البغدادي