بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
تفسير كلام أبي فاتك
أما قوله: الفتى لا يكون نشالاً، فالنشال عنده الذي يتناول من القدر، ويأكل قبل النضج، وقبل أن تنزل القدر ويتتام القوم.
والنشاف: الذي يأخذ حرف الجردقة فيفتحه، ثم يغمسه في رأس القدر، ويشربه الدسم، يستأثر بذلك دون أصحابه.
والمرسال: رجلان: أحدهما إذا وضع في لقمة هريسة أو ثريدة أو حيسة أو أرزة، أرسلها في جوف حلقه إرسالاً. والرجل الآخر: هو الذي إذا مشى في أشب من فسيل أو شجر، قبض على رأسه السعفة، أو على راس الغصن، لينحيها عن وجهه. وإذا قضى وطره أرسلها من يده. فهي لا محالة تصك وجه صاحبه الذي يتلوه، لا يحفل بذلك، ولا يعرف ما فيه.
وأما اللكام: فالذي في فيه اللقمة، ثم يلكمها بأخرى، قبل إجادة مضغها أو ابتلاعها. والمصاص الذي بمص جوف قصبة العظم، بعد أن استخرج مخه، واستأثر به دون أصحابه.
وأما النفاض: فالذي إذا فرغ من غسل يده في الطست، نفض يديه من الماء، فنضح على أصحابه.
وأما الدلاك: فالذي لا يجيد تنقية يديه بالأشنان، ويجيد دلكهما بالمنديل. وله أيضاً تفسير آخر - وليس هو الذي نظنه - وهو مليح. وسيقع في موضعه، إن شاء الله.
والمقور: الذي يقور الجرادق.
والمغربل: الذي يأخذ وعاء الملح، فيديره غدارة الغربال، ليجمع أبازيره، يستأثر به دون أصحابه، لا يبالي أن يدع ملحهم بلا أبزار.
والمحلقم: الذي يتكلم واللقمة قد بلغت حلقومه. نقول لهذا: قبيح! دع الكلام إلى وقت إمكانه.
والمسوغ: الذي يعظم اللقم، فلا يزال قد غص، ولا يزال يسيغه بالماء.
والمبلعم: الذي يأخذ حروف الرغيف، أو يغمز ظهر التمرة بإبهامه، ليحملا له من الزبد والسمن، ومن اللبإ واللبن، ومن البيض النيم برشت، أكثر.
والمخضر: الذي يدلك يده بالأشنان من الغمر والودك، حتى إذا اخضر وأسود من الدرن، دلك به شفته.
هذا تفسير ما ذكر الحارثي من كلام أبي فاتك.
فأما ما ذكره هو، فإن اللطاع: معروف، وهو الذي يلطع إصبعه، ثم يعيدها في مرق القوم أو لبنهم أو سويقهم، وما أشبه ذلك.
والقطاع: الذي يعض على اللقمة، فيقطع نصفها، ثم يغمس النصف الآخر في الصباغ. والنهاش: وهو معروف. وهو الذي ينهش اللحم كما ينهش السبع.
والمداد: الذي ربما عض على العصب التي لم تنضج، وهو يمدها بفيه، ويده توترها له. فربما قطعها بنترة، فيكون لها انتضاح على ثوب المؤاكل. وهو الذي إذا أكل مع أصحابه الرطب، أو التمر، أو الهريسة، أو الأرزة، فأتى على ما بين يديه، مد ما بين أيديهم إليه.
والدفاع: الذي إذا وقع في القصعة عظم فصار مما يليه، نحاه بلقمته من الخبز، حتى تصير مكانه قطعة من لحم، وهو في ذلك كأنه يطلب بلقمته تشريب المرق، دون إراغة اللحم.
والمحول: هو الذي إذا رأى كثرة النوى بين يديه، احتال له حتى يخلطه بنوى صاحه.
وأما ما ذكره من الضيف والضيفن، فإن الضيفن ضيف الضيف.
وأنشد أبو زيد:
إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفـن * فأودى بما يقرى الضيوف الضيافن
وأما قوله: الواغل أهون علي من الراشن، فإنه يزعم أن طفيلي الشراب أهون علي من طفيلي الطعام.
وقول الناس: فلا طفيلي، ليس من أصول كلام العرب: ليس كالرأشن واللعموظ. وأهل مكة يسمونه البرقي.
وكان بالكوفة رجل من بني عبد الله بن غطفان يسمى طفيلاً. كان أبعد الناس نجعة في طلب الولائم والأعراس. فقيل له لذلك: طفيل العرائس، وصار ذلك نبزاً له ولقباً، لا يعرف بغيره. فصار كل من كانت تلك طعمته يقال له: طفيلي.
هذا من قول أبي اليقظان.
ثم قال الحارثي: وأعجب من كل عجب، وأطرف من كل طريف، أنكم تشيرون علي بإطعام الأكلة، ودفعي إلى الناس مالي، وأنتم أترك لهذا مني. فإن زعمتم أني أكثر مالاً، وأعد عدة، فليس من حالي وحالكم في التقارب، أن أطعم أبداً، وأنتم تأكلون أبداً.
فإذا أتيتم في أموالكم من البدل والإطعام على قدر احتمالكم، عرفت بذلك أن الخير أردتم، وإلى تربيي ذهبتم. وإلا فإنكم إنما تحلبون حلباً لكم شطره. بل أنتم كما قال الشاعر:
يحب الخور من مال الندامى * ويكره أن يفارقه الفلوس
ثم قال: والله إني لو لم أترك مؤاكلة الناس وإطعامهم إلا لسوء رعة على الأسواري لتركته. وما ظنكم برجل نهش بضعة لحم تعرقاً، فبلغ ضرسه وهو لا يعلم، فعل ذلك عند إبراهيم بن الخطاب، مولى سليمان.وكان إذا أكل ذهب عقله، وجحظت عينه، وسكر، وسدر، وانبهر، وتربد وجهه، وعصب، ولم يسمع ولم يبصر، فلما رأيت ما يعتريه، وما يعتري الطعام منه، صرت لا آذن له إلا ونحن نأكل التمر والجوز والباقلى.
ولم يفجأني قط وأنا آكل تمراً إلا استفه سفاً، وحساه حسواً، وذرابه ذرواً؛ ولا وجده كثيراً إلا تناول القصعة كجمجمة الثور؛ ثم يأخذ بحضنيها، ويقلها من الأرض، ثم لا يزال ينهشها طولاً وعرضاً، ورفعاً وخفضاً، حتى يأتي عليها جميعاً، ثم لا يقع غضبه إلا على الأنصاف والأتلاف، ولم يفصل تمرة قط من تمرة. وكان صاحب جمل، ولم يكن يرضى بالتفاريق؛ ولا رمى بنواة قط، ولا نزع قمعاً، ولا نفى عنه قشراً، ولا نتشه مخافة السوس والدود! ثم ما رأيته قط، إلا وكأنه طالب ثأر، وشحشحان صاحب طائلة، وكأنه عاشق مغتلم، أو جائع مقرور، والله يا إخوتي لو رأيت رجلاً يفسد طين الردغة، ويضيع ماء البحر، لصرفت عنه وجهي! فإذا كان أصحاب النظر، وأهل الديانة والفلسفة، هذه سيرتهم، وهكذا أدبهم، فما ظنكم بمن لا يعد ما يعدون، ولا يبلغ من الأدب حيث يبلغون
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ
أما قوله: الفتى لا يكون نشالاً، فالنشال عنده الذي يتناول من القدر، ويأكل قبل النضج، وقبل أن تنزل القدر ويتتام القوم.
والنشاف: الذي يأخذ حرف الجردقة فيفتحه، ثم يغمسه في رأس القدر، ويشربه الدسم، يستأثر بذلك دون أصحابه.
والمرسال: رجلان: أحدهما إذا وضع في لقمة هريسة أو ثريدة أو حيسة أو أرزة، أرسلها في جوف حلقه إرسالاً. والرجل الآخر: هو الذي إذا مشى في أشب من فسيل أو شجر، قبض على رأسه السعفة، أو على راس الغصن، لينحيها عن وجهه. وإذا قضى وطره أرسلها من يده. فهي لا محالة تصك وجه صاحبه الذي يتلوه، لا يحفل بذلك، ولا يعرف ما فيه.
وأما اللكام: فالذي في فيه اللقمة، ثم يلكمها بأخرى، قبل إجادة مضغها أو ابتلاعها. والمصاص الذي بمص جوف قصبة العظم، بعد أن استخرج مخه، واستأثر به دون أصحابه.
وأما النفاض: فالذي إذا فرغ من غسل يده في الطست، نفض يديه من الماء، فنضح على أصحابه.
وأما الدلاك: فالذي لا يجيد تنقية يديه بالأشنان، ويجيد دلكهما بالمنديل. وله أيضاً تفسير آخر - وليس هو الذي نظنه - وهو مليح. وسيقع في موضعه، إن شاء الله.
والمقور: الذي يقور الجرادق.
والمغربل: الذي يأخذ وعاء الملح، فيديره غدارة الغربال، ليجمع أبازيره، يستأثر به دون أصحابه، لا يبالي أن يدع ملحهم بلا أبزار.
والمحلقم: الذي يتكلم واللقمة قد بلغت حلقومه. نقول لهذا: قبيح! دع الكلام إلى وقت إمكانه.
والمسوغ: الذي يعظم اللقم، فلا يزال قد غص، ولا يزال يسيغه بالماء.
والمبلعم: الذي يأخذ حروف الرغيف، أو يغمز ظهر التمرة بإبهامه، ليحملا له من الزبد والسمن، ومن اللبإ واللبن، ومن البيض النيم برشت، أكثر.
والمخضر: الذي يدلك يده بالأشنان من الغمر والودك، حتى إذا اخضر وأسود من الدرن، دلك به شفته.
هذا تفسير ما ذكر الحارثي من كلام أبي فاتك.
فأما ما ذكره هو، فإن اللطاع: معروف، وهو الذي يلطع إصبعه، ثم يعيدها في مرق القوم أو لبنهم أو سويقهم، وما أشبه ذلك.
والقطاع: الذي يعض على اللقمة، فيقطع نصفها، ثم يغمس النصف الآخر في الصباغ. والنهاش: وهو معروف. وهو الذي ينهش اللحم كما ينهش السبع.
والمداد: الذي ربما عض على العصب التي لم تنضج، وهو يمدها بفيه، ويده توترها له. فربما قطعها بنترة، فيكون لها انتضاح على ثوب المؤاكل. وهو الذي إذا أكل مع أصحابه الرطب، أو التمر، أو الهريسة، أو الأرزة، فأتى على ما بين يديه، مد ما بين أيديهم إليه.
والدفاع: الذي إذا وقع في القصعة عظم فصار مما يليه، نحاه بلقمته من الخبز، حتى تصير مكانه قطعة من لحم، وهو في ذلك كأنه يطلب بلقمته تشريب المرق، دون إراغة اللحم.
والمحول: هو الذي إذا رأى كثرة النوى بين يديه، احتال له حتى يخلطه بنوى صاحه.
وأما ما ذكره من الضيف والضيفن، فإن الضيفن ضيف الضيف.
وأنشد أبو زيد:
إذا جاء ضيف جاء للضيف ضيفـن * فأودى بما يقرى الضيوف الضيافن
وأما قوله: الواغل أهون علي من الراشن، فإنه يزعم أن طفيلي الشراب أهون علي من طفيلي الطعام.
وقول الناس: فلا طفيلي، ليس من أصول كلام العرب: ليس كالرأشن واللعموظ. وأهل مكة يسمونه البرقي.
وكان بالكوفة رجل من بني عبد الله بن غطفان يسمى طفيلاً. كان أبعد الناس نجعة في طلب الولائم والأعراس. فقيل له لذلك: طفيل العرائس، وصار ذلك نبزاً له ولقباً، لا يعرف بغيره. فصار كل من كانت تلك طعمته يقال له: طفيلي.
هذا من قول أبي اليقظان.
ثم قال الحارثي: وأعجب من كل عجب، وأطرف من كل طريف، أنكم تشيرون علي بإطعام الأكلة، ودفعي إلى الناس مالي، وأنتم أترك لهذا مني. فإن زعمتم أني أكثر مالاً، وأعد عدة، فليس من حالي وحالكم في التقارب، أن أطعم أبداً، وأنتم تأكلون أبداً.
فإذا أتيتم في أموالكم من البدل والإطعام على قدر احتمالكم، عرفت بذلك أن الخير أردتم، وإلى تربيي ذهبتم. وإلا فإنكم إنما تحلبون حلباً لكم شطره. بل أنتم كما قال الشاعر:
يحب الخور من مال الندامى * ويكره أن يفارقه الفلوس
ثم قال: والله إني لو لم أترك مؤاكلة الناس وإطعامهم إلا لسوء رعة على الأسواري لتركته. وما ظنكم برجل نهش بضعة لحم تعرقاً، فبلغ ضرسه وهو لا يعلم، فعل ذلك عند إبراهيم بن الخطاب، مولى سليمان.وكان إذا أكل ذهب عقله، وجحظت عينه، وسكر، وسدر، وانبهر، وتربد وجهه، وعصب، ولم يسمع ولم يبصر، فلما رأيت ما يعتريه، وما يعتري الطعام منه، صرت لا آذن له إلا ونحن نأكل التمر والجوز والباقلى.
ولم يفجأني قط وأنا آكل تمراً إلا استفه سفاً، وحساه حسواً، وذرابه ذرواً؛ ولا وجده كثيراً إلا تناول القصعة كجمجمة الثور؛ ثم يأخذ بحضنيها، ويقلها من الأرض، ثم لا يزال ينهشها طولاً وعرضاً، ورفعاً وخفضاً، حتى يأتي عليها جميعاً، ثم لا يقع غضبه إلا على الأنصاف والأتلاف، ولم يفصل تمرة قط من تمرة. وكان صاحب جمل، ولم يكن يرضى بالتفاريق؛ ولا رمى بنواة قط، ولا نزع قمعاً، ولا نفى عنه قشراً، ولا نتشه مخافة السوس والدود! ثم ما رأيته قط، إلا وكأنه طالب ثأر، وشحشحان صاحب طائلة، وكأنه عاشق مغتلم، أو جائع مقرور، والله يا إخوتي لو رأيت رجلاً يفسد طين الردغة، ويضيع ماء البحر، لصرفت عنه وجهي! فإذا كان أصحاب النظر، وأهل الديانة والفلسفة، هذه سيرتهم، وهكذا أدبهم، فما ظنكم بمن لا يعد ما يعدون، ولا يبلغ من الأدب حيث يبلغون
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ