بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
قصة ابن العقدى
كان ابن العقدى ربما استزار أصحابه إلى البستان. وكنت لا أظنه ممن يحتمل قلبه ذلك على حال. فسألت ذات يوم بعض زواره، فقلت: احك لي أمرك. قال: وتستر علي، قلت: نعم، ما دمت بالبصرة.
قال: يشتري لنا أرزاً بقشره، ويحمله معه، ليس معه شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز، فإذا صرنا إلى أرضه، كلف أكاره أن يجشه في مجشة له، ثم ذراه، ثم غربله، ثم جش الواش منه. فإذا فرغ من الشراء والحمل، ثم من الجش، ثم من التذرية، ثم من الإدارة والغربلة، ثم من جش الواش، ثم من تذريته، ثم من إدارته وغربلته، كلف الأكار أن يطحنه على ثوره وفي رحاه. فإذا طحنه، كلفه أن يغلي له الماء، وأن يحتطب له. ثم يكلفه العجن؛ لأنه بالماء الحار أكثر نزلاً. ثم كلف الأكار أن يخبزه.
وقبل ذلك ما قد كلفهم أن ينصبوا له الشصوص للسمك، ويسكروا الدرياجة على صغار السمك، لا يدخلوا في السواقي، فيدخلوا أيديهم في حجرة الشلابي والرمان. فإن أصبنا من السمك شيئاً جعله كباباً على نار الخبز تحت الطابق، حتى لا يحتاج من الحطب إلى كثير.
فلا نزال منذ غدوة إلى الليل في كد وجوع وانتظار. ثم لا يكون عشاؤنا إلا خبز أرز أسود غير منخول - بالشلابي. ولو قدر على غير ذلك فعل.
قلت له: فلم لا يتخذ موضع مذار من بعض دقاق أرضه، فيذري لكم الأرز، ثم يكون الخيار في يده، إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد، أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري.
قال: والله لئن سمع هذا وعرفه ليتكلفه. الله الله فينا، فإنا قوم مساكين! ولو قدرنا على شيء لم نحتمل هذا البلاء، حدثني المكي قال: بت عند إسماعيل بن غزوان. وإنما بيتني عنده حين علم أني تعشيت عند مويس، وحملت معي قربة نبيذ. فلما مضى من الليل أكثره، وركبني النوم، جعلت فراشي البساط، ومرفقتي يدي، وليس في البيت إلا مصلى له ومرفقة ومخدة. فأخذ المخدة فرمى بها إلي، فأبيتها ورددتها عليه. وأبى وأبيت. فقال: سبحان الله، يكون أن تتوسد مرفقك، وعندي فضل مخدة? فأخذتها فوضعتها تحت خدي، فمنعني من النوم إنكاري للموضع، ويبس فراشي.
وظن أني قد نمت. فجاء قليلاً قليلاً، حتى سل المخدة من تحت رأسي. فلما رأيته قد مضى بها ضحكت، وقلت: قد كنت عن هذا غنياً، قال: إنما جئت لأسوي رأسك! قلت: إني لم أكلمك حتى وليت بها. قال: كنت لهذا جئت، فلما صارت المخدة في يدي نسيت ما جئت له - ما علمت - والله يذهب بالحفظ أجمع
وحدثني الحزامي والمكي والعروضي، قالوا: سمعنا إسماعيل يقول: أوليس قد أجمعوا على أن البخلاء في الجملة، أعقل من الأسخياء في الجملة، ها نحن أولاء عندك جماعة، فينا من يزعم أنه سخي، وفينا من يزعم أنه بخيل. فانظر أي الفريقين أعقل، هأنذا وسهل بن هارون وخاقان بن صبيح وجعفر بن سعيد والحزامي والعروضي وأبو يعقوب الخريمي، فهل معك إلا أبو إسحاق، وحدثني المكي، قال: قلت لإسماعيل مرة: لم أر أحداً قط أنفق على الناس من ماله، فلما احتاج إليهم آسوه. قال: لو كان ما يصنعون لله رضاً، وللحق موافقاً، لما جمع الله لهم الغدر واللؤم من أقطار الأرض. ولو كان هذا الإنفاق في حقه لما ابتلاهم الله - جل ذكره - من جميع خلقه.
حدثني تمام بن أبي نعيم، قال: كان لنا جار وكان له عرس. فجعل طعامه كله فالوذقا.
فقيل له: إن المؤنة تعظم، قال: أحتمل ثقل الغرم بتعجيل الراحة، لعن الله النساء، ما أشك أن من أطاعهن شر منهن.
وحديث سمعناه على وجه الدهر: زعموا أن رجلاً قد بلغ في البخل غايته، وصار إماماً، وأنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه، وفداه واستنبطه.
وكان مما يقول له: كم من أرض قد قطعت، وكم من كيس قد فارقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع قد أخملت، لك عندي ألا تعرى ولا تضحي - ثم يلقيه في كيسه، ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه - وأنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه، وأن أهله ألحوا عليه في شهوة، وأكثروا عليه في إنفاق درهم، فدافعهم، ما أمكن ذلك. ثم حمل درهماً فقط. فبينا هو ذاهب إذ رأى حواء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه. فقال في نفسه: أتلف شيئاً تبذل فيه النفس، بأكلة أو شربة، والله ما هذا إلا موعظة لي من الله، فرجع إلى أهله، ورد الدرهم إلى كيسه - فكان أهله منه في بلاء. وكانوا يتمون موته والخلاص بالموت أو الحياة. فلما مات وظنوا أنهم قد استراحوا منه، قدم ابنه فاستولى على ماله وداره. ثم قال: ما كان أدم أبى، فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام. قالوا: كان يأتدم بجبنة عنده. قال: أرونيها. فإذا فيها حز كالجدول، من أثر مسح اللقمة، قال: ما هذه الحفرة، قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح على ظهره فيحفر، كما ترى، قال: فبهذا أهلكني، وبهذا أقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع، قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة، ولا يعجبني هذا الحرف الأخير؛ لأن الإفراط لا غاية له. وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجوز أن يكون فيهم، أو حجة أو طريقة. فأما مثل هذا الحرف فليس مما نذكره. وأما سائر حديث هذا الرجل فإنه من البابة.
قال ابن جهانة الثقفية: عجبت ممن يمنع النبيذ طالبه؛ لأن النبيذ إنما يطلب ليوم فصد، أو يوم حجامة، أو يوم زيارة زائر، أو يوم أكل سمك طري، أو يوم شربة دواء. ولم نر أحداً طلبه وعنده نبيذ، ولا ليدخره ويحتكره، ولا لبيعه ويعتقد منه. وهو شيء يحسن طلبه، وتحسن هبته، ويحسن موقعه. وهو في الأصل كثير رخيص، فما وجه منعه?، ما يمنعه عندي إلا من لاحظ له في أخلاق الكرام، وعلى أني لست أوجل - بما أهب منه - على نبيذي النقصان؛ لأني إذا احتجت عن ندمائي بقدر ما أخرجت من نبيذي، رجع إلى نبيذي على حاله، وكنت قد تحمدت بما لا يضرني؛ فمن ترك التحمد بما لا يضره، كان من التحمد بما يضره أبعد.
فذكر ابن جهانة ماله من الكرم بهبة نبيذه، ولم يذكر ما عليه من اللؤم بحجب ندمائه.
قال الأصمعي أو غيره: حمل بعض الناس مدينيا على برذون، فأقامه على الارى. فانتبه من نومه، فوجده يعتلف. ثم نام فانتبه، فوجده يعتلف. فصاح بغلامه: يا بن أم، بعه، وإلا فهبه، وإلا فرده، وإلا فاذبحه، أنام ولا ينام، يذهب بحر مالي، ما أراد إلا استئصالي، قال أبو الحسن المدائني: كان بالمدائن تمار، وكان بخيلاً. وكان غلامه إذا دخل الحانوت يحتال؛ فربما احتبس. فاتهمه بأكل التمر، فسأله يوماً فأنكر. فدعا بقطنة بيضاء، ثم قال: امضغها. فمضغها. فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة، قال: هذا دأبك كل يوم وأنا لا أعلم، أخرج من داري.
وكان عندنا رجل من بني أسد، إذا صعد ابن الأكار إلى نخلة له ليلقط له رطباً، ملأ فاه ماء. فسخروا به، وقالوا له: إنه يشربه، ويأكل شيئاً على النخلة. فإذا أراد أن ينزل بآل في يده، ثم أمسكه في فيه! والرطب أهون على أولاد الأكرة، وعلى أولاد غير الأكرة، من أن يحتمل فيه أحد شطر هذا المكروه ولا بعضه. قال: فكان بعدها يملأ فاه من ماء أصفر أو أحمر أو أخضر، لكي لا يقدر على مثله في رءوس النخل، وحدثني المصري، وكان جار الداردريشي، وماله لا يحصى. قال: فانتهر سائلاً ذات يوم وأنا عنده. ثم وقف عليه آخر فانتهره، إلا أن ذلك بغيظ وحنق. قال: فأقبلت عليه فقلت له: ما أبغض إليك السؤال، قال: أجل، عامة من ترى منهم أيسر مني. قال: فقلت: ما أظنك أبغضتهم لهذا. قال: كل هؤلاء لو قدروا على داري لهدموها، وعلى حياتي لنزعوها، أنا لو طاوعتهم فأعطيتهم كما سألوني كنت قد صرت مثلهم منذ زمان، فكيف تظن بغضي يكون لمن أرادني على هذا? وكان أخوه شريكه في كل شيء. وكان في البخل مثله. فوضع أخوه في يوم جمعة بين أيدينا، ونحن على بابه، طبق رطب يساوي بالبصرة دانقين. فينا نحن نأكل إذ جاء أخوه، فلم يسلم ولم يتكلم، حتى دخل الدار. فأنكرنا ذلك. وكان يفرط في إظهار البشر، ويجعل البشر وقاية دون ماله. وكان يعلم أنه إن جمع بين المنع والكبر قتل.
قال: ولم نعرف علته، ولم يعرفها أخوه. فلما كان الجمعة الأخرى، دعا أيضاً أخوه بطبق رطب. فبينا نحن نأكل، إذ خرج من الدار ولم يسلم ولم يقف. فأنكرنا ذلك، ولم ندر أيضاً ما قصته. فلما أن كان في الجمعة الثالثة، ورأى مثل ذلك، كتب إلى أخيه: يا أخي، كانت الشركة بيني وبينك حين لم يكثر الولد، ومع الكثرة يقع الاختلاف.
ولست آمن أن يخرج ولدي وولدك إلى مكروه. وها هنا أموال باسمي ولك شطرها، وأموال باسمك ولي شطرها، وصامت في منزلي، وصامت في منزلك، لا نعرف فضل بعض ذلك على بعض. وإن طرقنا أمر الله، ما ركدت الحرب بين هؤلاء الفتية، وطال الصخب بين هؤلاء النسوة. فالرأي أن تتقدم اليوم فيما يحسم منهم هذا السبب.
فلما قرأ أخوه كتابه تعاظمه ذلك وهاله، وقلب الرأي ظهراً لبطن، فلم يزده التقليب إلا جهلاً. فجمع ولده وغلظ عليهم، وقال: عسى أن يكون أحد منكم قد أخطأ بكلمة واحدة، أو يكون هذا البلاء من جرائر النساء.
فلما عرف براءة ساحة القوم، تمشى إليه حافياً راجلاً، فقال: ما يدعوك إلى القسمة والتمييز، أدع صلحاء أهل المسجد الساعة، حتى أشهدهم بأني وكيل لك في هذه الضياع، وحول كل شيء في منزلي إلى منزلك، وجرب ذلك مني الساعة. فإن وجدتني أروغ وأعتل فدونك - فحاجتي الآن أن تخبرني بذنبي. قال: مالك من ذنب، وما من القسمة من بد. فأقام عنده يناشده إلى نصف النهار. ثم أقام يومه ذلك إلى نصف الليل يناشده، ويطلب إليه.
فلما طال عليه الأمر، وبلغ منه الجهد، قال له: حدثني عن وضعك أطباق الرطب، وبسطك الحصر في السكك، وإحضارك الماء البارد، وجمعك الناس على بابي في كل جمعة، كأنك ظننت أنا كنا عن هذه المكرمة عمياً، إنك إذا أطعمتهم اليم البرني، أطعمتهم غداً السكر، وبعد غد الهلبات. ثم يصير ذلك أيام الجمع، في سائر أيام الأسبوع. ثم يتحول الرطب إلى الغداء، ثم يؤدي الغداء إلى العشاء. ثم تصير إلى الكساء، ثم الأجداء، ثم الحملان، ثم اصطناع الصنائع! والله إني لأرثي لبيوت الأموال لخراج المملكة من هذا، فكيف بمال تاجر جمعه من الحبات والقراريط والدوانيق، والأرباع والأنصاف، قال: جعلت فداك! تريد ألا آكل رطبة أبداً، فضلاً على غير ذلك، فلا والله لا كلمتهم أبداً! قال: إياك أن تخطئ مرتين: مرة في إطماعهم فيك، ومرة في اكتساب عداوتهم. أخرج من هذا الأمر على حساب ما دخلت فيه، وتسلم تسلم.
كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس. ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها. وكان يعرف بالإمساك الشديد. فقال: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة، قال: كانت عجباً من العجب، فيقول: وتدري ما جنسها، وتدري ما سنها، فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن. وتدري بأي شيء كنا نسمنها. - فلا يزال في هذا، والآخر يضحك ضحكاً نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو الهذيل.
وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدراً، وأوسعهم خلقاً، وأسهلهم سهولة. فإن ذكروا دجاجة، قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة? فإن ذكروا بطة أو عناقاً أو جزوراً أو بقرة، قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر، من تلك الدجاجة في الدجاج، وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم، قال: لا والله، ولا تلك الدجاجة، وإن ذكروا عذوبة الشحم، قال: عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج. وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان، قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة؛ وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم.
وكانت مثلاً في كل شيء، وتاريخاً في كل شيء، وأقبل مرة على محمد بن الجهم، وأنا وأصحابنا عنده، فقال: إني رجل منخرق الكفين، لا أليق شيئاً. ويدي هذه صناع في الكسب، ولكنها في الإنفاق خرقاء، كم تظن من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس، أبو عثمان يعلم ذلك، أسألك بالله يا أبا عثمان هل تعلم ذلك، فقلت: يا أبا الهذيل، ما نشك فيما تقول - فلم يرض باحتضاري هذا الكلام حتى استشهدني، ولم يرض باستشهادي حتى استحلفني.
وكان أبو سعيد المدائني إماماً في البخل عندنا بالبصرة. وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم.
وكان شديد العقل، شديد العارضة، حاضر الحجة، بعيد الروية.
وكنت أتعجب من تفسير أصحابنا لقول العرب في لؤم اللئيم الراضع: قال أصحابنا: كل لئيم بخيل، وليس كل بخيل لئيماً، لأن اسم اللئيم يقع على البخل، وعلى قلة الشكر، وعلى مهانة النفس، وعلى أن له في ذلك عرفاً متقدماً.
قال أبو زيد: هو لئيم وملائم. فاللئيم ما فسرت، والملام الذي يقوم بعذر اللئيم. فأما اللئيم الراضع، فالذي لا يحلب في الإناء، ويرضع الخلف، مخافة أن يضيع من اللبن شيء.
قال ثوب بن شحمة العنبري في امرأته الهمدانية:
وحديث لا مجة التي حدثتني * تدع الإنـاء تشرباً للقادم
القادمان: الخلفان المقدمان.
فلما بلغه ذلك عنها طلقها. فلما طلقها قيل له: إن البخل إنما يعيب الرجال، ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل، قال: ليس ذلك بي. أخاف أن تلد لي مثلها.
قال رافع بن هريم: تحلب قاعداً وتلمج أحياناً وقبعك حاضر
يدعوا الله أن يجعله صاحب شاء، ولا يجعله صاحب إبل، وأن يرتضع من الخلف، وإن كان معه إناء. والعربي يماري على صاحبه فيقول: إن كنت كاذباً، فاحتلبت قاعداً: أي أبدلك الله بكرم الإبل لؤم الغنم.
فكيف يتعجب من لؤم الراضع،
وصنع أبو سعيد المدائني أعظم من ذلك، اصطبغ من دون خل، وهو قائم حتى فني، ولم يخرج منه قليلاً ولا كثيراً.
وكانت له حلقة يقعد فيها أصحاب الغنية والبخلاء الذين يتذاكرون الإصلاح. فبلغهم أن أبا سعيد يأتي الحربية في كل يوم، ليقتضي رجلاً هناك خمسة دراهم فضلت عليه، وقالوا: هذا خطأ عظيم، وتضييع كثير. وإنما الحزم أن يتشدد في غير تضييع. وصاحبنا هذا قد رجع على نفسه بضروب من البلاء.
فاجتمعوا عليه على طريق التفرغ له، والاستفادة منه. قالوا: نراك تصنع شيئاً لا نعرفه، والخطأ منك أعظم منه من غيرك. قد أشكل علينا هذا الأمر، فأخبرنا عنه؛ فقد ضاقت صدورنا به: خبرنا عن مضيك إلى الحربية، لتقتضي خمسة دراهم فواحدة: أنا لا نأمن عليك انتقاض بدنك، وقد خلا ما خلا من سنك، وأن تعتل، فتدع التقاضي الكثير بسبب القليل. وثانية: أنك إن تنصب هذا النصب، فلا بد لك من أن تزداد في العشاء إن كنت ممن يتعشى، أو تتعشى إن كنت ممن لا يتعشى. وهذا إذا اجتمع كان أكثر من خمسة دراهم.
وبعد، فإنك تحتاج أن تشق وسط السوق وعليك ثيابك، والحمولة تستقبلك. فمن هاهنا نترة، ومن هاهنا جذبة؛ فإذا الثوب قد أودى. ومن ذلك أن نعلك تنقب وترق، وساق سراويلك تتسخ وتبلى، ولعلك أن تعثر في نعلك فتقدها قداً، ولعلك أن تهرتها هرتاً.
وبعد، فاقتضاء القليل أدلى بك إلى هذا لو بلغت منه شيئاً. وإنك أفضل؛ إلا أنا نحب أنك تجاى عن الأمر بشيء؛ فليس كلنا يثق لك بالصواب في كل شيء.
قال أبو سعيد: أما ما ذكرتم من انتفاض البدن، فإن الذي أخاف على بدني من الدعة ومن قلة الحركة أكثر. وما رأيت أصح أبداناً من الحمالين والطوافين. والقوم قبلى إن يموتوا، لم يكن لهم تلك عادة. أو ليس يقول الناس: والله لفلان أصح من الجلاوزة - يعني اختلاف الجلاوزة في العدو -. ولربما أقمت في المنزل لبعض الأمر، فأكثر الصعود والنزول، خوفاً من قلة الحركة.
وأما التشاغل بالبعيد عن القريب، فإني لا أعرض للبعيد، حتى أفرغ من القريب.
وأما ما ذكرتم من الزيادة في الطعام، فقد أيقنت نفسي، واطمأن قلبي، على أنه ليس لنفسي عندي إلا ما لها، وأنها إن حاسبتني أيام النصب، حاسبتها أيام الراحة؛ فستعلم حينئذ أين أيام الحربية من أيام ثقيف، وأما ما ذكرتم من تلقى الحمولة، ومن مزاحمة أهل السوق، ومن النتر والجذب، فأنا أقطع عرض السوق من قبل أن يقوم أهل السوق لصلاتهم. ثم يكون رجوعي على ظهر السوق.
وأما ما ذكرتم من شأن النعل والسراويل، فإني من لدن خروجي من منزلي، إلى أن أقرب من باب صاحبي، فإنما نعلي في يدي وسروايلي في كمي، فإذا صرت إليه لبستهما، فإذا فصلت من عنده خلعتهما، فهما في ذلك اليوم أودع أبداناً، وأحسن حالاً، بقي الآن لكم مما ذكرتم شيء، قالوا: لا. قال: فها هنا واحدة تفي بجميع ما ذكرتم. قالوا: وما هي، قال: إذا علم القريب الدار، ومن لي عليه ألوف الدنانير، شدة مطالبتي للبعيد الدار، ومن ليس لي عليه إلا الفلوس، أتي بحقي، ولم يطمع نفسه في مالي. وهذا تدبير يجمع لي إلى رجوع مالي طول راحة بدني. ثم أنا بالخيار في ترك الراحة؛ لأني أقسمها على الأشغال حينئذ كيف شئت. وأخرى، أن هذا القليل لو لم يكن فضلة من كثير، وموصلاً بدين لي مشهور، لجاز أن أتجافى عنه. فأما أن أدع شيئاً يطمع في فضول ما يبقي على الغرماء، فهذا ما لا يجوز.
فقاموا وقالوا بأجمعهم: لا والله، لا سألناك عن مشكلة،
حدثني أحمد المكي، أخو محمد المكي - وكان متصلاً بأبي سعيد - نسيت القنية، ونسيت صنعة المال، لأعاجيب أبي سعيد وحديثه، قال أحمد: قلت له مرة: والله إنك لكثير المال، وإنك لتعرف ما نجهل، وإن قميصك وسخ، فلم لا تأمر بغسله، قال: فلو كنت قليل المال، وأجهل ما تعرف، كيف كان قولك، لي، إني قد فكرت في هذا منذ ستة أشهر، فما وضح لي بعد الأمر فيه. أقول مرة: الثوب إذا اتسخ أكل البدن، كما يأكل الصدأ الحديد، والثوب إذا ترادفه العرق وجف، وتراكم عليه الوسخ ولبد، أكل السلك، وأحرق الغزل. هذا مع نتن ريحه، وقبح منظره.
وبعد، فإني رجل آتي أبواب الغرماء، وغلمان غرمائي جبابرة.فما ظنك بهم إذا رأوني في أطمار وسخة، وأسمال درنة، وحال حداد، جبهوا مرة، وحجبوا مرة، فيرجع ذلك علينا بمضرة. من إصلاح المال أن ينفي عنه كل ما أعان على حبسه، مع ما يدخل من الغيظ، ويلقي من كان كذلك من المكروه.
فإذا اجتمعت هذه الخواطر هممت نغسلها، فإذا همت به، عارضني معارض يوهمني أنه أتاني من جهة الحزم، ومن قبل العقل، فقال: أول ذلك الغرم الذي يكون، في الماء والصابون. والجارية إذا ازدادت عناء، ازدادت أكلاً. والصابون نورة، والنورة تأكل الثوب. وإن انحزق، لا يزال الثوب على خطر، حتى يسلم إلى العصر والدق. ثم إذا ألقي على الرسن، فهو بعرض الجذبة والنترة والعلق.
ولابد من الجلوس يومئذ في البيت. ومتى جلست في البيت، فتحوا علينا أبواباً من النفقة، وأبواباً من الشهوات. والثياب لابد لها من دق. فإن نحن دققناها في المنزل قطعناها. وإن نحن أسلمناها إلى القصار، فغرم على غرم. وعلى أنه ربما أنزل بها من المكروه ما هو أشد. وما جلست في المنزل قط إلا أرجف بي الغرماء، وادعوا على الأمراض والأحداث. وفي ذلك لهم فساد والتواء، وطمع لم يكن عندهم.
فإذا أنا لبستها، وقد ابيضت وحسنت وخفت وطابت، تبينت عند ذلك وسخ جسدي، وكثرة شعري، وقد كان بعض ذلك موصولاً ببعض، فعرفته، فاستبان لي ما لم يكن يستبين، واكترثت لما لم أكن اكترثت له؛ فيصير ذلك مدعاة إلى دخول الحمام. فإن دخلته فغرم ثقيل، مع المخاطرة بالثياب. ولي امرأة جميلة شابة. فإذا رأتني قد أطليت وغسلت رأسي وبيضت ثوبي، عارضتني بالتطيب، وتلبس أحسن ثيابها! مع أمور كثيرة، نسي بعضها أحمد، وبعضها أنا.
وكان أبو سعيد هذا مع بخله أشد الناس نفساً، وأحماهم أنفاً. بلغ من أمره في ذلك، ومن بلوغه فيه، أنه أتى رجلاً من ثقيف يقتضيه ألف دينار، وقد حل عليه المال. فكان ربما أطال عنده الجلوس. ويحضر عنده الغداء، فيتغدى معه. وهو في ذلك يقتضيه.
فلما طال عليه المطل، قال له يوماً، وهو على خوانه: إن لهذا المال زكاة مؤداة، وقد علمنا أنا حين أخرجنا هذا المال من أيدينا أنه معرض للذهاب، وللمنازعة الطويلة، ولأن يقع في الميراث. ثم رضينا منك بالريح اليسير؛ بالذي ظنناه بك من حسن القضاء. ولولا ذلك لم نرض بهذا المال. وهذا المال إذا كان شرطه أن يرجع بعد سنة، فرفهت عنك بحسن المطالبة شهراً أو شهرين، ثم مكث عندي إلى أن أصبت له مثلك، شهراً أو شهرين، سحق فضله، وخرج علينا فضل. ومثلك يكتفي بالقليل. وقد طال اقتضائي، وطال تغافلك.
يقول هذا الكلام، وهو في ذلك لا يقطع الأكل - فأقبل عليه رجل من ثقيف، فعرض له بأنه لو أراد التقاضي محضاً، لكان ذلك في المسجد، ولم يكن في الموضع الذي يحضر فيه الغداء. فقطع الأكل، ثم نزا في وجهه الدم، ونظر إليه نظر الجمل الصول، ثم كاد يطير، ثم أقبل عليه فقال: لا أم لك، أنا إنما اصطبغت من دن خل حتى فني، من حسن العقل. وأحببت الغنى، بفضل بغضي للفقر، وأبغضت الفقر، بفضل أنفتي من احتمال الذل. تعرض لي - لا أم لك - بأني أرغب في غدائه. والله ما أكلت معه إلا ليستحي من حرمة المؤاكلة، وليصير كرمه سبباً لتعجيل الحاجة.
ثم نهض بالصك وعليه طينته، فاعترض بها الحائط حتى كسرها. ثم تفل في الكتاب، وحك بعضه ببعض. ثم مزقه ورمى به. ثم قال لكل من شهد المجلس: هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان، اشهدوا جميعاً أني قد قبضت منه، وأنه برئ من كل شيء أطالبه. ثم نهض. فلما صنع ما صنع، أقبل الغريم على صاحبه فقال: ما دعاك إلى هذا الكلام، ثم تقول لهذا الرجل على مائدتي، وتقدم بهذا الكلام على من لا تعرف كيف موقع الأمور منه، وبعد، فقد والله أردت مطله إلى أن أبيع الثمر، ورجونا حلاوته. فقد أحسنت إليه، وأسأت إلينا، وعجلت عليه ماله. اذهب يا غلام، فاضرب بذلك الثمر السوق فيعه بما بلغ، فأخذ ماله كملاً. ثم ركب إليه، فأبى أن يأخذه. فلما كثر الأمر في ذلك قال: أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قال أنه عربي وأنا مولى. فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال، وإن لم تفعل فإني لا آخذه. فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة، حتى طلبوا إليه، حتى أخذ المال.
وكان أبو سعيد ينهى خادمه أن تخرج الكساحة من الدار، وأمرها أن تجمعها من دور السكان، وتلقيها على كساحتهم. فإذا كان في الحين، جلس وجاءت الخادم ومعها زبيل، فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً، ثم فتشت واحداً واحداً. فإن أصاب قطع دراهم، وصرة فيها نفقة، والدينار، أو قطعة حلي - فسبيل ذلك معروف. وأما ما وجد فيه من الصوف، فكان وجهه أن يباع - إذا اجتمع - من أصحاب البراذع. وكذلك قطع الأكسية. وما كان من خرق الثياب فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات. وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين. وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج. وما كان من نوى التمر فمن أصحاب الحشوف. وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس. وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين. وما كان من القراطيس فللطراز. وما كان من الصحف فلرءوس الجرار. وما كان من قطع الخشب فللا كافين. وما كان من قطع العظام فللوقود. وما كان من قطع الخرق فللتنانير الجدد. وما كان من إشكنج فهو مجموع للبناء؛ ثم يحرك ويثار ويخلل حتى يجتمع قماشه. ثم يعزل للتنور. وما كان من قطع القار بيع من القيار. وإذا بقي التراب خالصاً، وأراد أن يضرب منه اللبن للبيع وللحاجة إليه، لم يتكلف الماء، ولكن يأمر جميع من في الدار ألا يتوضئوا ولا يغتسلوا إلا عليه. فإذا ابتل ضربه لبناً! وكان يقول: من لم يتعرف الاقتصاد تعرفي فلا يتعرض له.
وذهب من ساكن له شيء، كبعض ما يسرق من البيوت. فقال لهم: اطرحوا الليلة تراباً، فعسى أن يندم من أخذه فيلقيه في التراب. ولا ينكر مجيئه إلى ذلك المكان، لكثرة من يجيء لذلك. فاتفق أن طرح ذلك الشيء المسروق في التراب - وكانوا يطرحونه على كناسته - فرآه قبل أن يراه المسروق منه. فأخذ منه كراء الكساحة، فهذا حديث أبي سعيد
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ
كان ابن العقدى ربما استزار أصحابه إلى البستان. وكنت لا أظنه ممن يحتمل قلبه ذلك على حال. فسألت ذات يوم بعض زواره، فقلت: احك لي أمرك. قال: وتستر علي، قلت: نعم، ما دمت بالبصرة.
قال: يشتري لنا أرزاً بقشره، ويحمله معه، ليس معه شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز، فإذا صرنا إلى أرضه، كلف أكاره أن يجشه في مجشة له، ثم ذراه، ثم غربله، ثم جش الواش منه. فإذا فرغ من الشراء والحمل، ثم من الجش، ثم من التذرية، ثم من الإدارة والغربلة، ثم من جش الواش، ثم من تذريته، ثم من إدارته وغربلته، كلف الأكار أن يطحنه على ثوره وفي رحاه. فإذا طحنه، كلفه أن يغلي له الماء، وأن يحتطب له. ثم يكلفه العجن؛ لأنه بالماء الحار أكثر نزلاً. ثم كلف الأكار أن يخبزه.
وقبل ذلك ما قد كلفهم أن ينصبوا له الشصوص للسمك، ويسكروا الدرياجة على صغار السمك، لا يدخلوا في السواقي، فيدخلوا أيديهم في حجرة الشلابي والرمان. فإن أصبنا من السمك شيئاً جعله كباباً على نار الخبز تحت الطابق، حتى لا يحتاج من الحطب إلى كثير.
فلا نزال منذ غدوة إلى الليل في كد وجوع وانتظار. ثم لا يكون عشاؤنا إلا خبز أرز أسود غير منخول - بالشلابي. ولو قدر على غير ذلك فعل.
قلت له: فلم لا يتخذ موضع مذار من بعض دقاق أرضه، فيذري لكم الأرز، ثم يكون الخيار في يده، إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد، أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري.
قال: والله لئن سمع هذا وعرفه ليتكلفه. الله الله فينا، فإنا قوم مساكين! ولو قدرنا على شيء لم نحتمل هذا البلاء، حدثني المكي قال: بت عند إسماعيل بن غزوان. وإنما بيتني عنده حين علم أني تعشيت عند مويس، وحملت معي قربة نبيذ. فلما مضى من الليل أكثره، وركبني النوم، جعلت فراشي البساط، ومرفقتي يدي، وليس في البيت إلا مصلى له ومرفقة ومخدة. فأخذ المخدة فرمى بها إلي، فأبيتها ورددتها عليه. وأبى وأبيت. فقال: سبحان الله، يكون أن تتوسد مرفقك، وعندي فضل مخدة? فأخذتها فوضعتها تحت خدي، فمنعني من النوم إنكاري للموضع، ويبس فراشي.
وظن أني قد نمت. فجاء قليلاً قليلاً، حتى سل المخدة من تحت رأسي. فلما رأيته قد مضى بها ضحكت، وقلت: قد كنت عن هذا غنياً، قال: إنما جئت لأسوي رأسك! قلت: إني لم أكلمك حتى وليت بها. قال: كنت لهذا جئت، فلما صارت المخدة في يدي نسيت ما جئت له - ما علمت - والله يذهب بالحفظ أجمع
وحدثني الحزامي والمكي والعروضي، قالوا: سمعنا إسماعيل يقول: أوليس قد أجمعوا على أن البخلاء في الجملة، أعقل من الأسخياء في الجملة، ها نحن أولاء عندك جماعة، فينا من يزعم أنه سخي، وفينا من يزعم أنه بخيل. فانظر أي الفريقين أعقل، هأنذا وسهل بن هارون وخاقان بن صبيح وجعفر بن سعيد والحزامي والعروضي وأبو يعقوب الخريمي، فهل معك إلا أبو إسحاق، وحدثني المكي، قال: قلت لإسماعيل مرة: لم أر أحداً قط أنفق على الناس من ماله، فلما احتاج إليهم آسوه. قال: لو كان ما يصنعون لله رضاً، وللحق موافقاً، لما جمع الله لهم الغدر واللؤم من أقطار الأرض. ولو كان هذا الإنفاق في حقه لما ابتلاهم الله - جل ذكره - من جميع خلقه.
حدثني تمام بن أبي نعيم، قال: كان لنا جار وكان له عرس. فجعل طعامه كله فالوذقا.
فقيل له: إن المؤنة تعظم، قال: أحتمل ثقل الغرم بتعجيل الراحة، لعن الله النساء، ما أشك أن من أطاعهن شر منهن.
وحديث سمعناه على وجه الدهر: زعموا أن رجلاً قد بلغ في البخل غايته، وصار إماماً، وأنه كان إذا صار في يده الدرهم، خاطبه وناجاه، وفداه واستنبطه.
وكان مما يقول له: كم من أرض قد قطعت، وكم من كيس قد فارقت، وكم من خامل رفعت، ومن رفيع قد أخملت، لك عندي ألا تعرى ولا تضحي - ثم يلقيه في كيسه، ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تهان ولا تذل ولا تزعج منه - وأنه لم يدخل فيه درهماً قط فأخرجه، وأن أهله ألحوا عليه في شهوة، وأكثروا عليه في إنفاق درهم، فدافعهم، ما أمكن ذلك. ثم حمل درهماً فقط. فبينا هو ذاهب إذ رأى حواء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه. فقال في نفسه: أتلف شيئاً تبذل فيه النفس، بأكلة أو شربة، والله ما هذا إلا موعظة لي من الله، فرجع إلى أهله، ورد الدرهم إلى كيسه - فكان أهله منه في بلاء. وكانوا يتمون موته والخلاص بالموت أو الحياة. فلما مات وظنوا أنهم قد استراحوا منه، قدم ابنه فاستولى على ماله وداره. ثم قال: ما كان أدم أبى، فإن أكثر الفساد إنما يكون في الإدام. قالوا: كان يأتدم بجبنة عنده. قال: أرونيها. فإذا فيها حز كالجدول، من أثر مسح اللقمة، قال: ما هذه الحفرة، قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح على ظهره فيحفر، كما ترى، قال: فبهذا أهلكني، وبهذا أقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع، قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة، ولا يعجبني هذا الحرف الأخير؛ لأن الإفراط لا غاية له. وإنما نحكي ما كان في الناس، وما يجوز أن يكون فيهم، أو حجة أو طريقة. فأما مثل هذا الحرف فليس مما نذكره. وأما سائر حديث هذا الرجل فإنه من البابة.
قال ابن جهانة الثقفية: عجبت ممن يمنع النبيذ طالبه؛ لأن النبيذ إنما يطلب ليوم فصد، أو يوم حجامة، أو يوم زيارة زائر، أو يوم أكل سمك طري، أو يوم شربة دواء. ولم نر أحداً طلبه وعنده نبيذ، ولا ليدخره ويحتكره، ولا لبيعه ويعتقد منه. وهو شيء يحسن طلبه، وتحسن هبته، ويحسن موقعه. وهو في الأصل كثير رخيص، فما وجه منعه?، ما يمنعه عندي إلا من لاحظ له في أخلاق الكرام، وعلى أني لست أوجل - بما أهب منه - على نبيذي النقصان؛ لأني إذا احتجت عن ندمائي بقدر ما أخرجت من نبيذي، رجع إلى نبيذي على حاله، وكنت قد تحمدت بما لا يضرني؛ فمن ترك التحمد بما لا يضره، كان من التحمد بما يضره أبعد.
فذكر ابن جهانة ماله من الكرم بهبة نبيذه، ولم يذكر ما عليه من اللؤم بحجب ندمائه.
قال الأصمعي أو غيره: حمل بعض الناس مدينيا على برذون، فأقامه على الارى. فانتبه من نومه، فوجده يعتلف. ثم نام فانتبه، فوجده يعتلف. فصاح بغلامه: يا بن أم، بعه، وإلا فهبه، وإلا فرده، وإلا فاذبحه، أنام ولا ينام، يذهب بحر مالي، ما أراد إلا استئصالي، قال أبو الحسن المدائني: كان بالمدائن تمار، وكان بخيلاً. وكان غلامه إذا دخل الحانوت يحتال؛ فربما احتبس. فاتهمه بأكل التمر، فسأله يوماً فأنكر. فدعا بقطنة بيضاء، ثم قال: امضغها. فمضغها. فلما أخرجها وجد فيها حلاوة وصفرة، قال: هذا دأبك كل يوم وأنا لا أعلم، أخرج من داري.
وكان عندنا رجل من بني أسد، إذا صعد ابن الأكار إلى نخلة له ليلقط له رطباً، ملأ فاه ماء. فسخروا به، وقالوا له: إنه يشربه، ويأكل شيئاً على النخلة. فإذا أراد أن ينزل بآل في يده، ثم أمسكه في فيه! والرطب أهون على أولاد الأكرة، وعلى أولاد غير الأكرة، من أن يحتمل فيه أحد شطر هذا المكروه ولا بعضه. قال: فكان بعدها يملأ فاه من ماء أصفر أو أحمر أو أخضر، لكي لا يقدر على مثله في رءوس النخل، وحدثني المصري، وكان جار الداردريشي، وماله لا يحصى. قال: فانتهر سائلاً ذات يوم وأنا عنده. ثم وقف عليه آخر فانتهره، إلا أن ذلك بغيظ وحنق. قال: فأقبلت عليه فقلت له: ما أبغض إليك السؤال، قال: أجل، عامة من ترى منهم أيسر مني. قال: فقلت: ما أظنك أبغضتهم لهذا. قال: كل هؤلاء لو قدروا على داري لهدموها، وعلى حياتي لنزعوها، أنا لو طاوعتهم فأعطيتهم كما سألوني كنت قد صرت مثلهم منذ زمان، فكيف تظن بغضي يكون لمن أرادني على هذا? وكان أخوه شريكه في كل شيء. وكان في البخل مثله. فوضع أخوه في يوم جمعة بين أيدينا، ونحن على بابه، طبق رطب يساوي بالبصرة دانقين. فينا نحن نأكل إذ جاء أخوه، فلم يسلم ولم يتكلم، حتى دخل الدار. فأنكرنا ذلك. وكان يفرط في إظهار البشر، ويجعل البشر وقاية دون ماله. وكان يعلم أنه إن جمع بين المنع والكبر قتل.
قال: ولم نعرف علته، ولم يعرفها أخوه. فلما كان الجمعة الأخرى، دعا أيضاً أخوه بطبق رطب. فبينا نحن نأكل، إذ خرج من الدار ولم يسلم ولم يقف. فأنكرنا ذلك، ولم ندر أيضاً ما قصته. فلما أن كان في الجمعة الثالثة، ورأى مثل ذلك، كتب إلى أخيه: يا أخي، كانت الشركة بيني وبينك حين لم يكثر الولد، ومع الكثرة يقع الاختلاف.
ولست آمن أن يخرج ولدي وولدك إلى مكروه. وها هنا أموال باسمي ولك شطرها، وأموال باسمك ولي شطرها، وصامت في منزلي، وصامت في منزلك، لا نعرف فضل بعض ذلك على بعض. وإن طرقنا أمر الله، ما ركدت الحرب بين هؤلاء الفتية، وطال الصخب بين هؤلاء النسوة. فالرأي أن تتقدم اليوم فيما يحسم منهم هذا السبب.
فلما قرأ أخوه كتابه تعاظمه ذلك وهاله، وقلب الرأي ظهراً لبطن، فلم يزده التقليب إلا جهلاً. فجمع ولده وغلظ عليهم، وقال: عسى أن يكون أحد منكم قد أخطأ بكلمة واحدة، أو يكون هذا البلاء من جرائر النساء.
فلما عرف براءة ساحة القوم، تمشى إليه حافياً راجلاً، فقال: ما يدعوك إلى القسمة والتمييز، أدع صلحاء أهل المسجد الساعة، حتى أشهدهم بأني وكيل لك في هذه الضياع، وحول كل شيء في منزلي إلى منزلك، وجرب ذلك مني الساعة. فإن وجدتني أروغ وأعتل فدونك - فحاجتي الآن أن تخبرني بذنبي. قال: مالك من ذنب، وما من القسمة من بد. فأقام عنده يناشده إلى نصف النهار. ثم أقام يومه ذلك إلى نصف الليل يناشده، ويطلب إليه.
فلما طال عليه الأمر، وبلغ منه الجهد، قال له: حدثني عن وضعك أطباق الرطب، وبسطك الحصر في السكك، وإحضارك الماء البارد، وجمعك الناس على بابي في كل جمعة، كأنك ظننت أنا كنا عن هذه المكرمة عمياً، إنك إذا أطعمتهم اليم البرني، أطعمتهم غداً السكر، وبعد غد الهلبات. ثم يصير ذلك أيام الجمع، في سائر أيام الأسبوع. ثم يتحول الرطب إلى الغداء، ثم يؤدي الغداء إلى العشاء. ثم تصير إلى الكساء، ثم الأجداء، ثم الحملان، ثم اصطناع الصنائع! والله إني لأرثي لبيوت الأموال لخراج المملكة من هذا، فكيف بمال تاجر جمعه من الحبات والقراريط والدوانيق، والأرباع والأنصاف، قال: جعلت فداك! تريد ألا آكل رطبة أبداً، فضلاً على غير ذلك، فلا والله لا كلمتهم أبداً! قال: إياك أن تخطئ مرتين: مرة في إطماعهم فيك، ومرة في اكتساب عداوتهم. أخرج من هذا الأمر على حساب ما دخلت فيه، وتسلم تسلم.
كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس. ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها. وكان يعرف بالإمساك الشديد. فقال: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة، قال: كانت عجباً من العجب، فيقول: وتدري ما جنسها، وتدري ما سنها، فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن. وتدري بأي شيء كنا نسمنها. - فلا يزال في هذا، والآخر يضحك ضحكاً نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو الهذيل.
وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدراً، وأوسعهم خلقاً، وأسهلهم سهولة. فإن ذكروا دجاجة، قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة? فإن ذكروا بطة أو عناقاً أو جزوراً أو بقرة، قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر، من تلك الدجاجة في الدجاج، وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم، قال: لا والله، ولا تلك الدجاجة، وإن ذكروا عذوبة الشحم، قال: عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج. وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان، قال: كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة؛ وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم.
وكانت مثلاً في كل شيء، وتاريخاً في كل شيء، وأقبل مرة على محمد بن الجهم، وأنا وأصحابنا عنده، فقال: إني رجل منخرق الكفين، لا أليق شيئاً. ويدي هذه صناع في الكسب، ولكنها في الإنفاق خرقاء، كم تظن من مائة ألف درهم قسمتها على الإخوان في مجلس، أبو عثمان يعلم ذلك، أسألك بالله يا أبا عثمان هل تعلم ذلك، فقلت: يا أبا الهذيل، ما نشك فيما تقول - فلم يرض باحتضاري هذا الكلام حتى استشهدني، ولم يرض باستشهادي حتى استحلفني.
وكان أبو سعيد المدائني إماماً في البخل عندنا بالبصرة. وكان من كبار المغتنين ومياسيرهم.
وكان شديد العقل، شديد العارضة، حاضر الحجة، بعيد الروية.
وكنت أتعجب من تفسير أصحابنا لقول العرب في لؤم اللئيم الراضع: قال أصحابنا: كل لئيم بخيل، وليس كل بخيل لئيماً، لأن اسم اللئيم يقع على البخل، وعلى قلة الشكر، وعلى مهانة النفس، وعلى أن له في ذلك عرفاً متقدماً.
قال أبو زيد: هو لئيم وملائم. فاللئيم ما فسرت، والملام الذي يقوم بعذر اللئيم. فأما اللئيم الراضع، فالذي لا يحلب في الإناء، ويرضع الخلف، مخافة أن يضيع من اللبن شيء.
قال ثوب بن شحمة العنبري في امرأته الهمدانية:
وحديث لا مجة التي حدثتني * تدع الإنـاء تشرباً للقادم
القادمان: الخلفان المقدمان.
فلما بلغه ذلك عنها طلقها. فلما طلقها قيل له: إن البخل إنما يعيب الرجال، ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل، قال: ليس ذلك بي. أخاف أن تلد لي مثلها.
قال رافع بن هريم: تحلب قاعداً وتلمج أحياناً وقبعك حاضر
يدعوا الله أن يجعله صاحب شاء، ولا يجعله صاحب إبل، وأن يرتضع من الخلف، وإن كان معه إناء. والعربي يماري على صاحبه فيقول: إن كنت كاذباً، فاحتلبت قاعداً: أي أبدلك الله بكرم الإبل لؤم الغنم.
فكيف يتعجب من لؤم الراضع،
وصنع أبو سعيد المدائني أعظم من ذلك، اصطبغ من دون خل، وهو قائم حتى فني، ولم يخرج منه قليلاً ولا كثيراً.
وكانت له حلقة يقعد فيها أصحاب الغنية والبخلاء الذين يتذاكرون الإصلاح. فبلغهم أن أبا سعيد يأتي الحربية في كل يوم، ليقتضي رجلاً هناك خمسة دراهم فضلت عليه، وقالوا: هذا خطأ عظيم، وتضييع كثير. وإنما الحزم أن يتشدد في غير تضييع. وصاحبنا هذا قد رجع على نفسه بضروب من البلاء.
فاجتمعوا عليه على طريق التفرغ له، والاستفادة منه. قالوا: نراك تصنع شيئاً لا نعرفه، والخطأ منك أعظم منه من غيرك. قد أشكل علينا هذا الأمر، فأخبرنا عنه؛ فقد ضاقت صدورنا به: خبرنا عن مضيك إلى الحربية، لتقتضي خمسة دراهم فواحدة: أنا لا نأمن عليك انتقاض بدنك، وقد خلا ما خلا من سنك، وأن تعتل، فتدع التقاضي الكثير بسبب القليل. وثانية: أنك إن تنصب هذا النصب، فلا بد لك من أن تزداد في العشاء إن كنت ممن يتعشى، أو تتعشى إن كنت ممن لا يتعشى. وهذا إذا اجتمع كان أكثر من خمسة دراهم.
وبعد، فإنك تحتاج أن تشق وسط السوق وعليك ثيابك، والحمولة تستقبلك. فمن هاهنا نترة، ومن هاهنا جذبة؛ فإذا الثوب قد أودى. ومن ذلك أن نعلك تنقب وترق، وساق سراويلك تتسخ وتبلى، ولعلك أن تعثر في نعلك فتقدها قداً، ولعلك أن تهرتها هرتاً.
وبعد، فاقتضاء القليل أدلى بك إلى هذا لو بلغت منه شيئاً. وإنك أفضل؛ إلا أنا نحب أنك تجاى عن الأمر بشيء؛ فليس كلنا يثق لك بالصواب في كل شيء.
قال أبو سعيد: أما ما ذكرتم من انتفاض البدن، فإن الذي أخاف على بدني من الدعة ومن قلة الحركة أكثر. وما رأيت أصح أبداناً من الحمالين والطوافين. والقوم قبلى إن يموتوا، لم يكن لهم تلك عادة. أو ليس يقول الناس: والله لفلان أصح من الجلاوزة - يعني اختلاف الجلاوزة في العدو -. ولربما أقمت في المنزل لبعض الأمر، فأكثر الصعود والنزول، خوفاً من قلة الحركة.
وأما التشاغل بالبعيد عن القريب، فإني لا أعرض للبعيد، حتى أفرغ من القريب.
وأما ما ذكرتم من الزيادة في الطعام، فقد أيقنت نفسي، واطمأن قلبي، على أنه ليس لنفسي عندي إلا ما لها، وأنها إن حاسبتني أيام النصب، حاسبتها أيام الراحة؛ فستعلم حينئذ أين أيام الحربية من أيام ثقيف، وأما ما ذكرتم من تلقى الحمولة، ومن مزاحمة أهل السوق، ومن النتر والجذب، فأنا أقطع عرض السوق من قبل أن يقوم أهل السوق لصلاتهم. ثم يكون رجوعي على ظهر السوق.
وأما ما ذكرتم من شأن النعل والسراويل، فإني من لدن خروجي من منزلي، إلى أن أقرب من باب صاحبي، فإنما نعلي في يدي وسروايلي في كمي، فإذا صرت إليه لبستهما، فإذا فصلت من عنده خلعتهما، فهما في ذلك اليوم أودع أبداناً، وأحسن حالاً، بقي الآن لكم مما ذكرتم شيء، قالوا: لا. قال: فها هنا واحدة تفي بجميع ما ذكرتم. قالوا: وما هي، قال: إذا علم القريب الدار، ومن لي عليه ألوف الدنانير، شدة مطالبتي للبعيد الدار، ومن ليس لي عليه إلا الفلوس، أتي بحقي، ولم يطمع نفسه في مالي. وهذا تدبير يجمع لي إلى رجوع مالي طول راحة بدني. ثم أنا بالخيار في ترك الراحة؛ لأني أقسمها على الأشغال حينئذ كيف شئت. وأخرى، أن هذا القليل لو لم يكن فضلة من كثير، وموصلاً بدين لي مشهور، لجاز أن أتجافى عنه. فأما أن أدع شيئاً يطمع في فضول ما يبقي على الغرماء، فهذا ما لا يجوز.
فقاموا وقالوا بأجمعهم: لا والله، لا سألناك عن مشكلة،
حدثني أحمد المكي، أخو محمد المكي - وكان متصلاً بأبي سعيد - نسيت القنية، ونسيت صنعة المال، لأعاجيب أبي سعيد وحديثه، قال أحمد: قلت له مرة: والله إنك لكثير المال، وإنك لتعرف ما نجهل، وإن قميصك وسخ، فلم لا تأمر بغسله، قال: فلو كنت قليل المال، وأجهل ما تعرف، كيف كان قولك، لي، إني قد فكرت في هذا منذ ستة أشهر، فما وضح لي بعد الأمر فيه. أقول مرة: الثوب إذا اتسخ أكل البدن، كما يأكل الصدأ الحديد، والثوب إذا ترادفه العرق وجف، وتراكم عليه الوسخ ولبد، أكل السلك، وأحرق الغزل. هذا مع نتن ريحه، وقبح منظره.
وبعد، فإني رجل آتي أبواب الغرماء، وغلمان غرمائي جبابرة.فما ظنك بهم إذا رأوني في أطمار وسخة، وأسمال درنة، وحال حداد، جبهوا مرة، وحجبوا مرة، فيرجع ذلك علينا بمضرة. من إصلاح المال أن ينفي عنه كل ما أعان على حبسه، مع ما يدخل من الغيظ، ويلقي من كان كذلك من المكروه.
فإذا اجتمعت هذه الخواطر هممت نغسلها، فإذا همت به، عارضني معارض يوهمني أنه أتاني من جهة الحزم، ومن قبل العقل، فقال: أول ذلك الغرم الذي يكون، في الماء والصابون. والجارية إذا ازدادت عناء، ازدادت أكلاً. والصابون نورة، والنورة تأكل الثوب. وإن انحزق، لا يزال الثوب على خطر، حتى يسلم إلى العصر والدق. ثم إذا ألقي على الرسن، فهو بعرض الجذبة والنترة والعلق.
ولابد من الجلوس يومئذ في البيت. ومتى جلست في البيت، فتحوا علينا أبواباً من النفقة، وأبواباً من الشهوات. والثياب لابد لها من دق. فإن نحن دققناها في المنزل قطعناها. وإن نحن أسلمناها إلى القصار، فغرم على غرم. وعلى أنه ربما أنزل بها من المكروه ما هو أشد. وما جلست في المنزل قط إلا أرجف بي الغرماء، وادعوا على الأمراض والأحداث. وفي ذلك لهم فساد والتواء، وطمع لم يكن عندهم.
فإذا أنا لبستها، وقد ابيضت وحسنت وخفت وطابت، تبينت عند ذلك وسخ جسدي، وكثرة شعري، وقد كان بعض ذلك موصولاً ببعض، فعرفته، فاستبان لي ما لم يكن يستبين، واكترثت لما لم أكن اكترثت له؛ فيصير ذلك مدعاة إلى دخول الحمام. فإن دخلته فغرم ثقيل، مع المخاطرة بالثياب. ولي امرأة جميلة شابة. فإذا رأتني قد أطليت وغسلت رأسي وبيضت ثوبي، عارضتني بالتطيب، وتلبس أحسن ثيابها! مع أمور كثيرة، نسي بعضها أحمد، وبعضها أنا.
وكان أبو سعيد هذا مع بخله أشد الناس نفساً، وأحماهم أنفاً. بلغ من أمره في ذلك، ومن بلوغه فيه، أنه أتى رجلاً من ثقيف يقتضيه ألف دينار، وقد حل عليه المال. فكان ربما أطال عنده الجلوس. ويحضر عنده الغداء، فيتغدى معه. وهو في ذلك يقتضيه.
فلما طال عليه المطل، قال له يوماً، وهو على خوانه: إن لهذا المال زكاة مؤداة، وقد علمنا أنا حين أخرجنا هذا المال من أيدينا أنه معرض للذهاب، وللمنازعة الطويلة، ولأن يقع في الميراث. ثم رضينا منك بالريح اليسير؛ بالذي ظنناه بك من حسن القضاء. ولولا ذلك لم نرض بهذا المال. وهذا المال إذا كان شرطه أن يرجع بعد سنة، فرفهت عنك بحسن المطالبة شهراً أو شهرين، ثم مكث عندي إلى أن أصبت له مثلك، شهراً أو شهرين، سحق فضله، وخرج علينا فضل. ومثلك يكتفي بالقليل. وقد طال اقتضائي، وطال تغافلك.
يقول هذا الكلام، وهو في ذلك لا يقطع الأكل - فأقبل عليه رجل من ثقيف، فعرض له بأنه لو أراد التقاضي محضاً، لكان ذلك في المسجد، ولم يكن في الموضع الذي يحضر فيه الغداء. فقطع الأكل، ثم نزا في وجهه الدم، ونظر إليه نظر الجمل الصول، ثم كاد يطير، ثم أقبل عليه فقال: لا أم لك، أنا إنما اصطبغت من دن خل حتى فني، من حسن العقل. وأحببت الغنى، بفضل بغضي للفقر، وأبغضت الفقر، بفضل أنفتي من احتمال الذل. تعرض لي - لا أم لك - بأني أرغب في غدائه. والله ما أكلت معه إلا ليستحي من حرمة المؤاكلة، وليصير كرمه سبباً لتعجيل الحاجة.
ثم نهض بالصك وعليه طينته، فاعترض بها الحائط حتى كسرها. ثم تفل في الكتاب، وحك بعضه ببعض. ثم مزقه ورمى به. ثم قال لكل من شهد المجلس: هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان، اشهدوا جميعاً أني قد قبضت منه، وأنه برئ من كل شيء أطالبه. ثم نهض. فلما صنع ما صنع، أقبل الغريم على صاحبه فقال: ما دعاك إلى هذا الكلام، ثم تقول لهذا الرجل على مائدتي، وتقدم بهذا الكلام على من لا تعرف كيف موقع الأمور منه، وبعد، فقد والله أردت مطله إلى أن أبيع الثمر، ورجونا حلاوته. فقد أحسنت إليه، وأسأت إلينا، وعجلت عليه ماله. اذهب يا غلام، فاضرب بذلك الثمر السوق فيعه بما بلغ، فأخذ ماله كملاً. ثم ركب إليه، فأبى أن يأخذه. فلما كثر الأمر في ذلك قال: أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قال أنه عربي وأنا مولى. فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال، وإن لم تفعل فإني لا آخذه. فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة، حتى طلبوا إليه، حتى أخذ المال.
وكان أبو سعيد ينهى خادمه أن تخرج الكساحة من الدار، وأمرها أن تجمعها من دور السكان، وتلقيها على كساحتهم. فإذا كان في الحين، جلس وجاءت الخادم ومعها زبيل، فعزلت بين يديه من الكساحة زبيلاً، ثم فتشت واحداً واحداً. فإن أصاب قطع دراهم، وصرة فيها نفقة، والدينار، أو قطعة حلي - فسبيل ذلك معروف. وأما ما وجد فيه من الصوف، فكان وجهه أن يباع - إذا اجتمع - من أصحاب البراذع. وكذلك قطع الأكسية. وما كان من خرق الثياب فمن أصحاب الصينيات والصلاحيات. وما كان من قشور الرمان فمن الصباغين والدباغين. وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج. وما كان من نوى التمر فمن أصحاب الحشوف. وما كان من نوى الخوخ فمن أصحاب الغرس. وما كان من المسامير وقطع الحديد فللحدادين. وما كان من القراطيس فللطراز. وما كان من الصحف فلرءوس الجرار. وما كان من قطع الخشب فللا كافين. وما كان من قطع العظام فللوقود. وما كان من قطع الخرق فللتنانير الجدد. وما كان من إشكنج فهو مجموع للبناء؛ ثم يحرك ويثار ويخلل حتى يجتمع قماشه. ثم يعزل للتنور. وما كان من قطع القار بيع من القيار. وإذا بقي التراب خالصاً، وأراد أن يضرب منه اللبن للبيع وللحاجة إليه، لم يتكلف الماء، ولكن يأمر جميع من في الدار ألا يتوضئوا ولا يغتسلوا إلا عليه. فإذا ابتل ضربه لبناً! وكان يقول: من لم يتعرف الاقتصاد تعرفي فلا يتعرض له.
وذهب من ساكن له شيء، كبعض ما يسرق من البيوت. فقال لهم: اطرحوا الليلة تراباً، فعسى أن يندم من أخذه فيلقيه في التراب. ولا ينكر مجيئه إلى ذلك المكان، لكثرة من يجيء لذلك. فاتفق أن طرح ذلك الشيء المسروق في التراب - وكانوا يطرحونه على كناسته - فرآه قبل أن يراه المسروق منه. فأخذ منه كراء الكساحة، فهذا حديث أبي سعيد
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ