من طرف حكماء الإثنين 9 فبراير 2015 - 11:24
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ ذكر المكان ] ●
اعلم : أن الأماكن ليست كالأزمنة التي يعمل فيها كل فعل فينصبها نصب الظروف لأن الأمكنة : أشخاص له خلق وصور تعرف بها كالجبل والوادي وما أشبه ذلك وهن بالناس أشبه من الأزمنة لذلك وإنما الظروف منها التي يتعدى إليها الفعل الذي لا يتعدى ما كان منها مبهماً خاصة ومعنى المبهم أنه هو الذي ليست له حدود معلومة تحصره
وهو يلي الإسم من أقطاره نحو : خلف وقدام وأمام ووراء وما أشبه ذلك ألا ترى أنك إذا قلت : قمت خلف المسجد لم يكن لذلك الخلف نهاية تقف عندها وكذلك إذا قلت : قدام زيد
لم يكن لذلك حد ينتهي إليه فهذا وما أشبهه هو المبهم الذي لا اختلاف فيه أنه ظرف
وأما مكة والمدينة والمسجد والدار والبيت فلا يجوز أن يكن ظروفاً لأن لها أقطاراً محدودة معلومة تقول : قمت أمامك وصليت وراءك ولا يجوز أن تقول : قمت المسجد ولا قعدت المدينة ولا ما أشبه ذلك والأمكنة تنقسم قسمين منها ما استعمل اسماً يتصرف في جميع الإِعراب وظرفاً ومنها ما لا يرفع ولا يكون إلا ظرفاً
فأما الظروف التي تكون اسماً فذكر سيبويه : أنها خلفك وقدامك وأمامك وتحتك وقبالتك ثم قال :
وما أشبه ذلك وقال : ومن ذلك : هو ناحيةً من الدار
ومكاناً صالحاً وداره ذات اليمين وشرقي كذا وكذا
قال : وقالوا : منازلهم يميناً وشمالاً وهو قصدك وهو حلَةَ الغور أي قصده وهما خطان جنابتي أنفهما يعني الخطين اللذين اكتنفا أنف الظبية وهو موضعه ومكانه صددك ومعناه القصد وسقبك وهو قربك وقرابتك ثم قال : واعلم : أن هذه الأشياء كلها قد تكون اسماً غير ظرف بمنزلة زيد وعمرو
وحكى : هم قريب منك وقريباً منك وهو وزن الجبل أي : ناحية منه وهو زنة الجبل أي : حذاءه وقُرابَتك وقُربكَ وحواليه بنو فلان وقومك أقطار البلاد قال ومن ذلك قول أبي حية :
( إذَا ما نَعَشْنَاهُ علَى الرَّحْلِ يَنثني ... مُسالَيْهِ عنهُ مِنْ وراءٍ ومُقدَمِ )
مسالاة : عطفاه
ومما يجري مجرى ما ذكره سيبويه من الأسماء التي تكون ظروفاً فرسخ
وميل تقول : سرت فرسخاً وفرسخين وميلاً وميلين فإن قال قائل : ففرسخ وميل موقت معلوم فلم جعلته مبهماً قيل له : إنما يراد بالمبهم ما لا يعرف له من البلاد موضع ثابت ولا حدود من الأمكنة فهذا إنا يعرف مقداره
فالإِبهام في الفرسخ والميل بعد موجود لأن كل موضع يصلح أن يكون من الفرسخ والميل فافهم الفرق بين المعروف الموضع والمعروف القدر وكذلك ما كان من الأمكنة مشتقاً من الفعل نحو : ذهبت المذهب البعيد وجلست المجلس الكريم
وأما الظروف التي لا ترفع : فعند وسوى وسواء إذا أردت بهما معنى ( غير ) لم تستعمل إلا ظروفاً
قال سيبويه : إن سواءك بمنزلة مكانك ولا يكون اسماً إلا في الشعر
ودل على أن سواءك ظرف أنك تقول : مررت بمن سواءك والفرق بين قولك : عندك وخلفك أن خلفك تعرف بها الجهة وعندك لما حضرك من جميع أقطارك وكذلك سواءك لا تخص مكاناً من مكان فبعداً من الأسماء لإستيلاء الإِبهام عليهما
واعلم : أن الظروف أصلها الأزمنة والأمكنة ثم تتسع العرب فيها للتقريب والتشبيه فمن ذلك قولك : زيد دون الدار وفوق الدار إنما تريد : مكاناً دون الدار ومكاناً فوق الدار ثم يتسع ذلك فتقول : زيد دون عمرو وأنت تريد في الشرف أو العلم أو المال أو نحو ذلك وإنما الأصل المكان
ومما اتسعوا فيه قولهم : هو مني بمنزلة الولد إنما أخبرت أنه في أقرب المواضع وإن لم ترد البقعة من الأرض وهو مني منزلة الشغاف ومزجر الكلب ومقعد القابلة ومناط الثريا ومعقد الإِزار
قال سيبويه : أجرى مجرى : هو مني مكان كذا ولكنه حذف
ودرج السيول ورجع أدراجه وقال : إنما يستعمل من هذا الباب ما استعلمت العرب وأما ما يرتفع من هذا الباب فقولك : هو مني فرسخان وأنت مني يومان وميلان وأنت مني عدوة الفرس وغلوة السهم هذا كله مرفوع لا يجوز فيه إلا ذاك وإنما فصله من الباب الذي قبله أنك تريد : ها هنا بيني وبينك فرسخان ولم ترد أنت من هذا المكان لأن ذلك لا معنى له فما كان في هذا المعنى فهذا مجراه نحو : أنت مني فوت اليد ودعوة الرجل
قال سيبويه : وأما أنت مرأى ومسمع فرفع لأنهم جعلوه الأول وبعض الناس ينصب مرأى ومسمعاً فأما قولهم : داري من خلف دارك فرسخاً فانتصب فرسخ لأن ما خلف دارك الخبر وفرسخاً على جهة التمييز فإن شئت قلت : داري خلف دارك فرسخان تلغي ( خلف )
قال سيبويه : وزعم يونس : أن أبا عمرو كان يقول : داري من خلف دارك فرسخان شبهه : بدارك مني فرسخان
قال : وتقول في البعد زيد مني مناط الثريا كما قال :
( وإنَّ بني حَرْبٍ كمَا قَد عَلِمْتُمُ ... مَناطَ الثُّريَّا قَد تَعَلَّت نُجُومُها )
واعلم : أنه لا يجوز : أنت مني مربط الفرس وموضع الحمار لأن ذلك شيء غير معروف في تقريب ولا تبعيد وجميع الظروف من الأمكنة خاصة تتضمن الجثث دون ظرف الأزمنة تقول : زيد خلفَكَ والركب أمامَكَ والناس عندَكَ وقد مضى تفسير هذا ذلك أن تجعل الظروف من المكان مفعولات على السعة كما فعلت ذلك في الأزمنة
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : وَسْطَ رأسه دهن لأنك تخبر عن شيء فيه وليس به هذا إذا أسكنت السين كان ظرفاً فإِنْ حركت السين فقلت : وسَطَ لم يكن ظرفاً تقول : وسط رأسه صلب فترفع لأنك إنما تخبر عن بعض الرأس فوسط إذا أردت به الشيء الذي هو اسمه وجعلته بمنزلة البعض فهو اسم وحركت السين وكان كسائر الأسماء وإذا أردت به الظرف وأسكنت السين : تقول : ضربت وَسْطَهُ وَوَسْطَ الدار واسع وهذا في وَسَط الكتاب لأن ما كان معه حرف الجر فهو اسم بمنزلة زيد وعمرو
وأما قول الشاعر :
( هَبَّتْ شَمالاً فذِكرى ما ذكرتُكُم ... عِنْدَ الصَّفَاةِ التي شرقيَّ حَوَرانَا )
فإنه جعل الصفاة في ذلك الموضع ولو رفع الشرقي لكان جيداً بجعل الصفاة هي الشرق بعينه ونقول : زيد خلفك وهو الأجود
فإن جعلت زيداً هو الخلف قلت : زيد خلفك فرفعت
وتقول : سير بزيد فرسخان يومين وإن شئت : فرسخين يومان أي : ذلك أقمته مقام الفاعل على سعة الكلام وصلح
وتقول : ضربت زيداً يوم الجمعة عندك ضرباً شديداً فالضرب مصدر ويوم الجمعة ظرف من الزمان وعندك ظرف من المكان وقولك : شديداً نعت للمصدر ليقع فيه فائدة
فإذا بنيت الفعل لما لم يسم فاعله رفعت زيداً وأقررت الكلام على ما هو عليه لأنه لا سبيل إلى أن تجعل شيئاً من هذه التي ذكرنا من ظرف أو مصدر في مكان الفاعل والإسم الصحيح معها فإن أدخلت ( شاغلاً ) من حروف الإِضافة كنت مخيراً بين هذه الأشياء وبينه
فإن شئت نصبت الظرف والمصدر وأقمت الإسم الذي معه حرف الإِضافة مقام الفاعل وإن شئت أقمت أحدها ذلك المقام إذا كان متصرفاً في بابه فإن كان بمنزلة عند وذات مرة وما أشبه ذلك لم يقم شيء منها مقام الفاعل ولم يقع له ضمير كضمير المصادر والظروف المتمكنة وأجود ذلك أن يقوم المتصرف من الظروف والمصادر مقام الفاعل إذا كان معرفة أو نكرة موصوفة لأنك بقرب ذلك من الأسماء وتقول : سير على بعيرك فرسخان يوم الجمعة فإن شئت نصبت ( يوم الجمعة ) على الظرف وهو الوجه وإن شئت نصبته على أنه مفعول على السعة كما رفعت الفرسخين على ذلك وتقول : الفرسخان سير بزيد يوم الجمعة فإن قدمت يوم الجمعة وهو ظرف قلت : يوم الجمعة سير بزيد فيه فرسخان وإن قدمت : يوم الجمعة على أنه مفعول قلت : يوم الجمعة سيرهُ بزيد فرسخان وإن قدمت يوم الجمعة والفرسخين ويوم الجمعة ظرف قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرا فيه بزيد وإن جعلت يوم الجمعة مفعولاً قلت : سيراه
فإن أقمت يوم الجمعة مقام الفاعل قلت : الفرسخان يوم الجمعة سير بزيد فيهما فإن جعلت الفرسخين مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة سيرهما بزيد فإن زدت في المسألة خلفك قلت : سير بزيد فرسخان يوم الجمعة خلفك فإذا قدمت الخلف مع تقديمك الفرسخين واليوم وأقمت الفرسخين مقام الفاعل وجعلت الخلف واليوم ظرفين قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيرا بزيد فيه فيه وإن جعلتهما مفعولين على السعة قلت : الفرسخان يوم الجمعة خلفك سيراه بزيد إياه ترد أحد الضميرين المنصوبين إلى اليوم والآخر إلى خلف وأن لا تجعل مفعولاً ولا مرفوعاً أحسن وذلك لأنه من الظروف المقاربة للإِبهام وكذلك أمام ويمين وشمال فإذا قلت : عندك قام زيد فقيل لك أكن عن ( عندك ) لم يجز لأنك لا تقول : قمت في عندك فلذلك لم توقعه على ضمير وإنما دخلت ( من ) على ( عند ) من بين سائر حروف الجر كما دخلت على ( لدن )
وقال أبو العباس وإنما خصت ( من ) بذلك لأنها لإبتداء الغاية فهي أصل حروف الإِضافة
واعلم : أنَّ الأشياءَ التي يسميها البصريونَ ظروفاً يسميها الكسائي صفة والفراء يسميها محال ويخلطون الأسماء بالحروف فيقولون : حروف الخفض : أمام وقدام وخلف وقبل وبعد وتلقاء وتجاه وحذاء وإزاء ووراء ممدودات
ومع وعن وفي وعلى ومن وإلى وبين ودون وعند وتحت وفوق وقباله وحيال وقبل وشطر وقرب ووسَطَ ووسْطَ ومِثل ومَثَلَ وسوى وسواء ممدودة ومتى في معنى وَسْطَ والباء الزائدة والكاف الزائدة وحول وحوالي وأجْلٌ وإجلٌ وإجلىَ مقصورٌ وجَلَل وجِلالٌ في معناها وحذاء ممدود ومقصور وبَدْل وَبَدلٌ ورئِد وهو القرنُ ومكانُ وقُرابُ وَلدة وشبهَ وخدن وقرن وقرْن وميتاء وميداء والمعنى واحد ممدود ومنا مقصورٌ بمنزلة حذاء ولدى فيخلطون الحروف بالأسماء والشاذ بالشائع وقد تقدم تبيين الفرق بين الإسم والحرف وبين الشاذ والمستعمل فإذا كان الظرف غير محل للأسماء سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغواً ولم يجز في الخبر إلا الرفع وذلك قولك : فيك عبد الله راغب ومنك أخواك هاربان وإليك قومك قاصدون لأن ( منك وفيك وإليك ) في هذه المسائل لا تكون محلاً ولا يتم بها الكلام وقد أجاز الكوفيون : فيك راغباً عبد الله شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم ( راغب ) على عبد الله
وذهب الكسائي إلى أن المعنى : فيك رغبةً عبد الله
واستضعفوا أن يقولوا : فيكَ عبدُ الله راغباً وقد أنشدوا بيتاً جاءَ فيهِ مثلُ هذا منصوباً في التأخير :
( فَلاَ تَلْحَنيِ فِيهَا فإنَّ بِحُبِّها ... أَخَاكَ مُصَابَ القَلبِ جَماً بلابِلهُ )
فنصب ( مصاب القلب ) على التشبيه بقولك : إن بالباب أخاك واقفاً وتقول : في الدار عبد الله قائماً فتعيد ( فيها ) توكيداً ويجوز أن ترفع ( قائماً ) فتقول : في الدار عبد الله قائم فيها ولا يجيز الكوفيون الرفع قالوا : لأن الفعل لا يوصف بصفتين متفقتين لأنك لو قلت : عبد الله قائم في الدار فيها لم يكنْ يحسنُ أنْ تكرَر ( في ) مرتين بمعنى
وهذا الذي اعتلوا به لازم في النصب لأنه قد أعاد ( في ) والتأكيد إنما هو إعادة للكلمة أو ما كان في معناها فإن استقبح التكرير سقط التأكيد ويجيزون في قولك : عبد الله في الدار قائم في البيت الرفع والنصب لإختلاف الصفتين وتقول : له عليَّ عشرون درهماً فلك أن تجعل ( له ) الخبر ولك أن تجعل ( عليَّ ) الخبر
وتلغي أيما شئتَ
● [ شرح الرابع من المنصوبات : وهو المفعول له ] ●
اعلم : أن المفعول له لا يكون إلا مصدراً ولكن العامل فيه فعل غير مشتق منه وإنما يذكر لأنه عذر لوقوع الأمر نحو قولك : فعلت ذاك حذار الشر وجئتك مخافة فلان ( فجئتك ) غير مشتق من ( مخافة ) فليس انتصابه هنا انتصاب المصدر بفعله الذي هو مشتق منه نحو ( خفتك ) مأخوذة من مخافة وجئتك ليست مأخوذة من مخافة فلما كان ليس منه أشبه المفعول به الذي ليس بينه وبين الفعل نسب
قال سيبويه : إن هذا كله ينتصب لأنه مفعول له كأنه قيل له : لِمَ فعلتَ كذا وكذا فقال : لِكَذا وكذا ولكنه لما طرح اللام عمل فيه ما قبله ومن ذلك : فعلت ذاك أجل كذا وكذا وصنعت ذلك ادخار فلان قال حاتم :
( وأَغْفِرُ عُوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وأَصْفَحُ عَنْ شَتْمِ اللَّئيمِ تَكَرُّمَا )
وقال الحرث بن هُشام :
( فَصفُحْتُ عَنْهُم والأَحِبَّةُ فِيهِمُ ... طَمَعَاً لهَم بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفسدٍ )
وقال النابغة :
( وحَلَّتْ بُيوتي في يَفَاعٍ مُمنَّعٍ ... يُخَالُ بِه راعي الحمولةِ طَائرا )
( حِذاراً عَلَى أنْ لا تُصَابَ مقَادتي ... ولا نِسوتي حَتَّى يَمُتْنَ حَرائَرا )
وقال العجاج :
( يَركَبُ كُلُّ عَاقِرٍ جُمهْورِ ... مَخافَةً وزَعَلَ المَحبْورِ )
يصف ثور الوحش والعاقر هنا : الرملة التي لا تنبت أي : يركب هذا الثور كل عاقر مخافة الرماة والزعل : النشاط أي يركب خوفاً ونشاطاً والمحبور : المسرور
واعلم : أن هذا المصدر الذي ينتصب لأنه مفعول له يكون معرفة ويكون نكرة كشعر حاتم ولا يصلح أن يكون حالاً كما تقول : جئتك مشياً لا يجوز أن تقول : جئتك خوفاً تريد : خائفاً وأنت تريد معنى للخوف ومن أجل الخوف وإنما يجوز : جئتك خوفاً إذا أردت الحال فقط أي : جئتك في حال خوفي أي : خائفاً ولا يجوز أيضاً في هذا المصدر الذي تنصبه نصب المفعول له أن تقيمه مقام ما لم يسم فاعله
قال أبو العباس رحمه الله : أبو عمر يذهب إلى أنه ما جاء في معنى ل ( كذا ) لا يقوم مقام الفاعل ولو قام مقام الفاعل لجاز : سير عليه مخافة الشر فلو جاز : سير فيه المخافة لم يكن إلا رفعاً فكان مخافة وما أشبهه لم يجيء إلا نكرة
فأشبه مع خرج مخرج مع لا يقوم مقام الفاعل نحو : الحال والتمييز ولو جاز لما أشبه ( مخافة الشر ) أن يقوم مقام الفاعل لجاز سير ( بزيد راكب ) فأقمت ( راكباً ) مقام الفاعل ومخافة الشر وإن أضفته إلى معرفةٍ فهو بمنزلةِ ( مثلِكَ ) وغيركَ وضارب زيد غداً نكرة
قال أبو بكر : وقرأت بخط أبي العباس في كتابه : أخطأ الرياشي في قوله : مخافة الشر ونحوه ( حال ) أقبح الخطأ لأن باب ل ( كذا ) يكون معرفة ونكرة وهذا خلاف قول سيبويه لأن سيبويه بجعله معرفة ونكرة إذا لم تضفه أو تدخله الألف واللام كمجراه في سائر الكلام لأنه لا يكون حالاً قال سيبويه : حسن فيه الألف واللام لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل حالاً وأنه لا يبتدأ به ولا يبنى على مبتدأ لأنه عنده تفسير لما قبله وليس منه
وأنه انتصب كما انتصب الدرهم في قولك عشرون درهماً
● [ شرح الخامس : وهو المفعول معه ] ●
اعلم : أن الفعل إنما يعمل في هذا الباب في المفعول بتوسط الواو والواو هي التي دلت على معنى ( مع ) لأنها لا تكون في العطف بمعنى ( مع ) وهي ها هنا لا تكون إذا عمل الفعل فيما بعدها إلا بمعنى ( مع ) ألزمت ذلك ولو كانت عاملة كان حقها أن تخفض
فلما لم تكن من الحروف التي تعمل في الأسماء ولا في الأفعال وكانت تدخل على الأسماء والأفعال وصل الفعل إلى ما بعدها فعمل فيه
وكان مع ذلك أنها في العطف لا تمنع الفعل الذي قبلها أن يعمل فيما بعدها فاستجازوا في هذا الباب إعمال الفعل ما بعدها في الأسماء وإن لم يكن قبلها ما يعطف عليه وذلك قوهم : ما صنعت وأباك ولو تركت الناقة وفصيلَها لرضعها
قال سيبويه : إنما أردت : ما صنعت مع أبيك ولو تركت الناقة مع فصيلها والفصيل مفعول معه
والأب كذلك والواو لم تغير المعنى
ولكنها تعمل في الإسم ما قبلها
ومثل ذلك ك ما زلت وزيداً أي : ما زلت بزيد حتى فَعَلَ فهو مفعول به فقد عمل ما قبل الواو فيما بعدها والمعنى معنى الباء ومعنى ( مع ) أيضا يصلح في هذه المسألة لأن الباء يقرب معناها من معنى مع إذ كانت الباء معناها الملاصقة للشيء ومعنى ( مع ) المصاحبة ومن ذلك : ما زلت أسير والنيل واستوى الماء والخشبة أي مع الخشبة وبالخشبة وجاء البرد والطيالسة أي مع الطيالسة وأنشد سيبويه :
( وكُوُنُوا أَنْتُمُ وَبَنى أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الكُلْيَتيْن مِنَ الطَّحَالِ )
وقال كعيب بنُ جعيل :
( فَكانَ وإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ الماءِ إذ لاقاهُ حَتَّى تقدَّدا )
قال : وإن قلت : ما صنعت أنت وأبوك جاز لكل الرفع والنصب لأنك أكدت التاء التي هي اسمك بأنت
وقبيح أن تقول : ما صنعت وأبوك فتعطف على التاء وإنما قبح لأنك قد بنيتها مع الفعل وأسكنت لها ما كان في الفعل متحركاً وهو لام الفعل فإذا عطفت عليها فكأنك عطفت على الفعل وهو على قبحه يجوز وكذلك لو قلت : اذهب وأخوك كان قبيحاً حتى تقول : أنت لأنه قبيح أن تعطف على المرفوع المضمر
فقد دلك استقباحهم العطف على المضمرات الإسم ليس بمعطوف على ما قبله في قولهم : ما صنعت وأباك
ومما يدلك على أن هذاه الباب كان حقه خفض المفعول بحرف جر أنك تجد الأفعال التي لا تتعدى والأفعال التي قد تعدت إلى مفعولاتها جميعاً فاستوفت ما لها تتعدى إليه فتقول : استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة فلولا توسط الواو وإنها في معنى حرف الجر لم يجز ولكن الحرف لما كان غير عامل عمل الفعل فيما بعدها ولا يجوز التقديم للمفعول في هذا الباب لا تقول : والخشبة استوى الماء لأن الواو أصلها أن تكون للعطف وحق المعطوف أن يكون بعد العطف عليه كما أن حق الصفة أن تكون بعد الموصوف وقد أخرجت الواو في هذا الباب عن حدها ومن شأنهم إذا أخرجوا الشيء عن حده الذي كان له الزموه حالاً واحدة وسنفرد فصلاً في هذا الكتاب لذكر التقديم والتأخير وما يحسن منه ويجوز وما يقبح ولا يجوز إن شاء الله
وهذا الباب والباب الذي قبله أعني : بابي المفعول له والمفعول مهه كان حقهما أن لا يفارقهما حرف الجر ولكنه حذف فيهما ولم يجريا مجرى الظروف في التصرف في الإِعراب وفي إقامتها مقام الفاعل فيدلك ترك العرب لذلك أنهما بابان وضعا في غير موضعهما وأن ذلك اتساع منهم لأن فيهما لأن المفعولات التي تقدم ذكرها وجدناها كلها تقدم وتؤخر وتقام مقام الفاعل وتبتدأ ويخبر عنها إلا أشياء منها مخصوصة
وقد تقدم تبييننا إياها في مواضعها
ويفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن باب المفعول له إذا قلت : جئتك طلب الخير إن في ( جئتك ) دليلاً على أن ذلك لشيء
وإذا قلت : ما صنعت وأباك فليس في ( صنعت ) دليل على أن ذلك مع شيء لأن لكل فاعل غرضاً له فعل ذلك الفعل وليس لكل فاعل مصاحب لا بد منه ولا يجوز حذف الواو في ما صنعت وأباك كما جاز حذف اللام في قولك : فعلت ذاك حذار الشر تريد : لحذار الشر لأن حذف اللام لا يلبس وحذف الواو يلبس
ألا ترى أنك لو قلت : ما صنعت أباك صار الأب مفعولاً به
● [ القسم الثاني من الضرب الأول من المنصوبات ] ●
وهو المشبه بالمفعول : المشبه بالمفعول ينقسم على قسمين
فالقسم الأول قد يكون فيه المنصوب في اللفظ هو المرفوع في المعنى
والقسم الثاني : ما يكون المنصوب في اللفظ غير المرفوع والمنصوب بعض المرفوع
● [ ذكر ما كان المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى ] ●
هذا النوع ينقسم على ثلاثة أضرب : فمنه ما العامل فيه فعل حقيقي ومنه ما العامل فيه شيء على وزن الفعل ويتصرف تصرفه وليس بفعل في الحقيقة ومنه ما العامل فيه حرف جامد غير متصرف
ذكر ما شبه بالمفعول والعالم فيه فعل حقيقي
وهو صنفان يسميها النحويون الحال والتمييز : فأما الذي يسمونه الحال فنحو قولك : جاء عبد الله راكباً وقام أخوك منتصباً وجلس بكر متكئاً
فعبد الله مرتفع ( بجاء ) والمعنى : جاء عبد الله في هذه الحال وراكب منتصب لشبهه بالمفعول لأنه جيء به بعد تمام الكلام واستغناء الفاعل بفعله وإن في الفعل دليلاً عليه كما كان فيه دليل على المفعول ألا ترى أنك إذا قلت : قمت فلا بد من أن يكون قد قمت على حال من أحوال الفعل فأشبه : جاء عبد الله راكباً
ضرب عبد الله رجلاً وراكب هو عبد الله ليس هو غيره وجاء وقام فعل حقيقي تقول : جاء يجيء وهو جاء وقام يقوم وهو قائم والحال تعرفها وتعتبرها بإدخال ( كيف ) على الفعل والفاعل تقول : كيف جاء عبد الله فيكون الجواب : راكباً وإنما سميت الحال لأنه لا يجوز أن يكون اسم الفاعل فيها إلا لما أنت فيه تطاول الوقت أو قصر
ولا يجوز أن يكون لما مضى وانقطع ولا لما لم يأت من الأفعال ويبتدأ بها
والحال إنما هي هيئة الفاعل أو المفعول أو صفته في وقت ذلك الفعل المخبر به عنه ولا يجوز أن تكون تلك الصفة إلا صفةً متصفة غير ملازمة
ولا يجوز أن تكون خلقة لا يجوز أن تقول : جاءني زيد أحمر ولا أخوك ولا جاءني عمرو طويلاً فإن قلت : متطاولاً أو متحاولاً جاز لأن ذلك شيء يفعله وليس بخلقة
ولا تكون الحال إلا نكرة لأنها زيادة في الخبر والفائدة وإنما تفيد السائل والمحدث غير ما يعرف فإن أدخلت الألف واللام صارت صفة للإسم المعرفة وفرقاً بينه وبين غيره والفرق بين الحال وبين الصفة تفرق بين اسمين مشتركين في اللفظ والحال زيادة في الفائدة والخبر وإن لم يكن للإسم مشارك في لفظه
ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد القائم فأنت لا تقول ذلك إلا وفي الناس رجل آخر اسمه زيد وهو غير قائم ففصلت بالقائم بينه وبين من له هذا الإسم وليس بقائم
وتقول : مررت بالفرزدق قائماً وإن لم يكن أحد اسمه الفرزدق غيره فقولك : قائماً إنما ضممت به إلى الأخبار بالمرور خبراً آخر متصلاً به مفيداً
فهذا فرق ما بين الصفة والحال وهو أن الصفة لا تكون إلا لإسم مشترك فيه لمعنيين أو لمعان والحال قد تكون للإسم المشترك والإسم المفرد وكذلك الأمر في النكرة إذا قلت : جاءني رجل من أصحابك راكباً إذا أردت الزيادة في الفائدة والخبر وإن أردت الصفة خفضت فقلت : مررت برجل من أصحابك راكب وقبيح أن تكون الحال من نكرة لأنه كالخبر عن النكرة والإِخبار عن النكرات لا فائدة فيها إلا بما قدمنا ذكره في هذا الكتاب فمتى كان في الكلام فائدة فهو جائز في الحال كما جاز في الخبر وإذا وصفت النكرة بشيء قربتها من المعرفة وحسن الكلام
تقول : جاءني رجل من بني تميم راكباً . وما أشبه ذلك
واعلم : أن الحال يجوز أن تكون من المفعول كما تكون من الفاعل تقول : ضربت زيداً قائماً فتجعل قائماً لزيد
ويجوز أن تكون الحال من التاء في ( ضربتُ ) إلا أنك إذا أزلت الحال عن صاحبها فلم تلاصقه لم يجز ذلك إلا أن يكون السامع يعلمه كما تعلمه أنت فإن كان غير معلوم لم يجز وتكون الحال من المجرور كما تكون من المنصوب إن كان العامل في الموضع فعلاً فتقول : مررت بزيد راكباً فإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف جر لم يجز أن تقدم الحال على المجرور إذا كانت له فتقول : مررت راكباً بزيد إذا كان ( راكباً ) حالاً لك وإن كان لزيدٍ لَمْ يجز لأن العامل في ( زيد ) الباءُ فلمَّا كانَ الفِعْل لا يصلُ إلى زيدٍ إلا بحرفِ جر لم يجز أن يعمل في حالِه قبل ذكر الحرف
والبصريون يجيزون تقديم الحال على الفاعل والمفعول والمكنى والظاهر إذا كان العامل فعلاً يقولون : جاءني راكباً أخوك وراكباً جاءني أخوك وضربت زيداً راكباً وراكباً ضربت زيداً فإن كان العامل معنى
لم يجز تقديم الحال تقول : زيد فيها قائماً فالعالم في ( قائم ) معنى الفعل لأن الفعل غير موجود
ولا يجوز أن تقول : قائماً زيد فيها ولا زيدٌ قائماً فيهما
والكوفيون لا يقدمون الحال في أول الكلام لأن فيها ذكراً من الأسماء فإن كانت لمكنى جاز تقديمها فيشبهها البصريون بنصب التمييز ويُشَبّهها الكسائي بالوقت
وقال الفراء : هي بتأويل جزاء وكان الكسائي يقول : رأيت زيداً ظريفاً، فينصب ( ظريفاً ) على القطع ومعنى القطع أن يكون أراد النعت فلما كان ما قبله معرفة وهو نكرة انقطع منه وخالفه
واعلم : أنه يجوز لك أن تقيم الفعل مقام اسم الفاعل في هذا الباب إذا كان في معناه وكنت إنما تريد به الحال المصاحبة للفعل تقول : جاءني زيد يضحك أي : ضاحكاً
وضربت زيداً يقوم وإنما يقع من الأفعال في هذا الموضع ما كان للحاضر من الزمان
فأما المستقبل والماضي فلا يجوز إلا أن تدخل ( قد ) على الماضي فيصلح حينئذ أن يكون حالاً تقول : رأيت زيداً قد ركب أي : راكباً إلا أنك إنما تأتي ( بقد ) في هذا الموضع إذا كان ركوبه متوقعاً فتأتي ( بقد ) ليعلم أنه قد ابتدأ بالفعل ومر منه جزء والحال معلوم منها أنها تتطاول فإنما صلح الماضي هنا لإتصاله بالحاضر فأغنى عنه ولولا ذلك لم يجز فمتى رأيت فعلاً ماضياً قد وقع موقع الحال فهذا تأويله ولا بد من أن يكون معه ( قَدْ ) إما ظاهرةً وإما مضمرةً لتؤذَن بإبتداء الفعلِ الذي كان متوقعاً
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : زيد في الدار قائماً، فتنصب ( قائماً ) بمعنى الفعل الذي وقع في الدار لأن المعنى : استقر زيد في الدار فإن جعلت في الدار للقيام ولم تجعله لزيد قلت : زيد في الدار قائم لأنك إنما أردت : زيد قائم في الدار فجعلت : ( قائماً ) خبراً عن زيد وجعلت : ( في الدار ) ظرفاً لقائم فمن قال هذا قال : إن زيداً في الدار قائم ومن قال : الأول قال : إن زيداً في الدار قائماً فيكون : ( في الدار ) الخبر ثم خَبَّرَ على أي حال وقع استقراره في الدار ونظير ذلك قوله تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ) فالخبر قوله : ( في جنات وعيون ) و ( آخذين ) : حال وقال عز و جل : ( وفي النار هو خالدون ) لأن المعنى : وهم خالدون في النار فخالدون : الخبر و ( في النار ) : ظرف للخلود
وتقول : جاء راكباً زيد كما تقول : ضرب عمراً زيد وراكباً جاء زيد كما تقول : عمراً ضرب زيد وقائماً زيداً رأيتُ كما تقولُ : الدرهمُ زيداً أعطيت وضربتُ قائماً زيداً
قال أبو العباس : وقول الله تعالى عندنا : على تقدير الحال والله أعلم وذلك قوله : ( خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث ) وكذلك هذا البيت :
( مُزِبْداً يَخْطُر ما لَمْ يَرَني ... وإذَا يَخلوُ لَهُ لحمي رَتَعْ )
قال : ومن كلام العرب : رأيت زيداً مصعداً منحدراً ورأيتُ زيداً ماشياً راكباً إذا كان أحدُهما ماشياً والآخر راكباً وأحدكما مصعداً والآخر منحدراً
تعني أنك إذا قلت : رأيت زيداً مصعداً منحدراً أن تكون أنت المصعد وزيد المنحدر فيكون ( مصعداً ) حالاً للتاء و ( منحدراً ) حالاً لزيد وكيف قدرت بعد أن يعلم السامع من المصعد ومن المنحدر جاز وتقول : هذا زيد قائماً وذاك عبد الله راكباً فالعاملُ معنى الفعل وهو التنبيه كأنك قلت : أنتبه له راكباً وإذا قلت : ذاك زيد قائماً فإنما ذاك للإِشارة كأنك قلت : أشير لك إليه راكباً ولا يجوز أن يعمل في الحال إلا فعل أو شيء في معنى الفعل لأنها كالمفعول فيها وفي كتاب الله : ( وهذا بعلي شيخاً )
ولو قلت : زيد أخوك قائماً وعبد الله أبوك ضاحكاً كان غير جائز
وذلك أنه ليس ها هنا فعل ولا معنى فعل ولا يستقيم أن يكون أباه أو أخاه من النسب في حال ولا يكون أباه أو أخاه في أخرى ولكنك إن قلت : زيدٌ أخوك قائماً فأردت : أخاه من الصداقة جاز لأن فيه معنى فعل كأنك قلت : زيد يؤاخيك قائماً فإذا كان العامل غير فعل ولكن شيء في معناه لم تقدم الحال على العامل لأن هذا لا يعمل مثله في المفعول وذلك قولك : زيدٌ في الدار قائماً لا تقول : زيدٌ قائماً في الدار وتقول : هذا قائماً حسن ولا تقول : قائماً هذا حسن وتقول : رأيت زيداً ضارباً عمراً وأنت تريد رؤية العين ثم تقدم الحال فتقول : ضارباً عمراً رأيت زيداً وتقول : أقبل عبد الله شاتماً أخاه ثم تقدم الحال فتقول : شاتماً أخاه أقبل عبد الله وقوم يجيزون : ضربت يقوم زيداً ولا يجيزون : ضربت قائماً زيداً إلا وقائم حال من التاء
لأن ( قائماً ) يلبس ولا يعلم أهو حال من التاء أم من زيد والفعل يبين فيه لمن الحال
والإِلباس متى وقع لم يجز لأن الكلام وضع للإِبانة إلا أن هذه المسألة إن علم السامع من القائم جاز التقديم كما ذكرنا فيما تقدم تقول : جاءني زيد فرسك راكباً وجاءني زيدٌ فيك راغباً وتقول : فيها قائمين أخواك تنصب ( قائمين ) على الحال ولا يجوز التقديم لما أخبرتك ولا يجوز : جالساً مررت بزيد لأن العامل الباء وقد بنيته فيما مضى ومحال أن يكون : ( جالس ) حالاً من التاء لأن المرور يناقض الجلوس إلا أن يكون محمولاً في قبة أو سفينة وما أشبه ذلك تقول : لقي عبد الله زيداً راكبين ولا يجوز أن تقول : الراكبان ولا الراكبين وأنت تريد النعت وذلك لإختلاف إعراب المنعوتين فاعلم
والأخفش يذكر في باب الحال : هذا بسراً أطيب منه تمراً وهذا عبد الله مقبلاً أفضل منه جالساً قال : وتقول : هذا بسرا أطيب منه عنب فهذا : اسم مبتدأ والبسر : خبره وأطيب : مبتدا ثانٍ وعنب : خبر له قال : وكذلك ما كان من هذا النحو لا يتحول فهو رفع ن وما كان يتحول فهو نصب وإنما قلنا : لا يتحول لأن البسر لا يصير عنباً والذي يتحول قولك : هذا بسراً أطيب منه تمراً وهذا عنباً أطيب منه زبيباً وأما الذي لا يتحول فنحو قولك : هذا بسر أطيب منه عنب وهذا زبيب أطيب منه تمر ( فأطيب منه ) : مبتدأ وتمر : خبره وإن شئت قلت : ( تمر ) هو المبتدأ و ( أطيب منه ) : خبر مقدم وتقول : مررت بزيد واقفاً فتنصب ( واقفاً ) على الحال والكوفيون يجيزون نصبه على الخبر يجعلونه كنصب خبر ( كان ) وخبر الظن ويجيزون فيه إدخال الألف واللام ويكون : مررت عندهم على ضربين : مررت بزيد فتكون تامة ومررت بزيد أخاك فتكون ناقصة إن أسقطت الأخ كنقصان ( كان ) إذا قلت : كان زيد أخاك ثم أسقطت الأخ كان ناقصاً حتى تجيء به
وهذا الذي أجازوه غير معروف عندي من كلام العرب ولا موجود في ما يوجبه القياس
وأجاز الأخفش : إن في الدار قائمين أخويك وقال : هذه الحال ليست متقدمة لأنها حال لقولك ( في الدار ) ألا ترى أنك لو قلت : قائمين في الدار أخواك لم يجز لأن : ( في الدار ) ليس بفعل
وتقول : جلسَ عبد الله آكلاً طعامك فالكسائي يجيز تقديم ( طعامك ) على ( آكلٍ ) فيقول : جلسَ عبد الله طعامك آكلاً ولم يجزه الفراء وحكي عن أبي العباس محمد بن يزيد : أنه أجاز هذه المسألة
● [ باب التمييز ] ●
الأسماء التي تنتصب بالتمييز والعامل فيها فعل أو معنى فعل والمفعول هو فاعل في المعنى وذلك قولك : قد تفقأ زيد شحماً وتصبب عرقاً وطبت بذلك نفساً وامتلأ الإِناء ماءً وضقت به ذرعاً فالماء هو الذي ملأ الإِناء والنفس هي التي طابت والعَرَق هو الذي تصبب فلفظهُ لفظ المفعول وهو في المعنى فاعل
وكذلك : ما جاء في معنى الفعل وقام مقامه نحو قولك : زيد أفرهم عبداً وهو أحسنهم وجهاً فالفاره في الحقيقة هو العبد والحسن هو الوجه إلا أن قولك : أفره وأحسن في اللفظ لزيد وفيه ضميره والعبد غير زيد والوجه إنما هو بعضه إلا أن الحسن في الحقيقة للوجه والفراهة للعبد فإذا قلت : أنت أفره العبيد فأضفت فقد قدمته على العبيد ولا بدّ من أن يكون إذا أضفته واحدا منهم
فإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فمعناه : أنت أفره من كل عبد إذا أفردوا عبداً عبداً كما تقول : هذا خير إثنين في الناس أي : إذا كان الناس اثنين اثنين
واعلم : أن الأسماء التي تنصب على التمييز لا تكون إلا نكرات تدل على الأجناس وأن العوامل فيها إذا كن أفعالاً أو في معاني الأفعال كنت بالخيار في الإسم المميز إن شئت جمعته وإن شئت وحَّدته تقول : طبتم بذلك نفساً وإن شئت أنفساً قال الله تعالى : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) وقال تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) فتقول على هذا : هو أفره الناس عبيداً وأجود الناس دوراً
قال أبو العباس : ولا يجوز عندي : عشرون دراهم يا فتى والفصل بينهما أنك إذا قلت : عشرون فقد أتيت على العدد فلم يحتج إلا إلى ذكر ما يدل على الجنس
فإذا قلت : هو أفره الناس عبداً جاز أن تعني عبداً واحداً فمن ثم اختير وحسن إذا أردت الجماعة أن تقول : عبيداً وإذا كان العامل في الإسم المميز فعلاً جاز تقديمه عند المازني وأبي العباس وكان سيبويه لا يجيزه والكوفيون في ذلك على مذهب سيبويه فيه لأنه يراه، كقولك : عشرون درهماً وهذا أفرههم عبداً فكما لا يجوز : درهماً عشرون ولا : عبداً هذا أفرههم لا يجوز هذا ومن أجاز التقديم قال : ليس هذا بمنزلة ذلك لأن قولك : عشرون درهماً إنما عمل في الدرهم ما لم يؤخذ من فعل
وقال الشاعر فقدم التمييز لما كان العامل فعلاً :
( أتَهْجُرُ سَلْمَى لِلفِرَاقِ حبيبها ... ومَا كانَ نَفْساً بالفِرَاقِ تَطِيبُ )
فعلى هذا تقول : شحماً تفقأت وعرقاً تصببت وما أشبه ذلك وأما قولك : الحسن وجهاً والكريم أبا فإن أصحابنا يشبهونه : بالضارب رجلاً وقد قدمت تفسيره في هذا الكتاب وغير ممتنع عندي أن ينتصب على التمييز أيضاً بل الأصل ينبغي أن يكون هذا
وذلك الفرع لأنك قد بينت بالوجه الحسن منه كما بينت في قولك : هو أحسنهم وجهاً وكذلك يجري عندي قولهم : هو العقور كلباً وما أشبه فإذا نصبت هذا على تقدير التمييز لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام فإذا نصبته على تقدير المفعول والتشبيه بقولك : الضارب رجلاً جاز أن تدخل عليه الألف واللام وكان الفراء لا يجيز إدخال الالف واللام في وجه وهو منصوب إلا وفيما قبله الألف واللام نحو قولك : مررت بالرجل الحسن الوجه وهو كله جائز لك أن تنصبه تشبيهاً بالمفعول
[ مسائل من هذا الباب ]
تقول : زيد أفضل منك أباً فالفضل في الأصل للأب كأنك قلت : زيد يفضل أبوه أباك ثم نقلت الفضل إلى زيد وجئت بالأب مفسراً ولك أن تؤخر ( منك ) فتقول : زيد أفضل أباً منك وإن حذفت ( منك ) وجئت بعد أفضل بشيء يصلح أن يكون مفسراً فإن كان هو الأول فأضف أفضل إليه واخفضه وإن كان غيره فانصبه واضمره نحو قولك : علمك أحسن علم تخفض ( علماً ) لأنك تريد : أحسن العلوم وهو بعضها وتقول : زيد أحسن علماً تريد : أحسن منك علماً فالعلم غير زيد فلم تجز إضافته وإذا قلت : أنت أفره عبد في الناس فإنما معناه : أنت أحد هؤلاء العبيد الذين فضلتهم
ولا يضاف ( أفعل ) إلى شيء إلا وهو بعضه كقولك : عمرو أقوى الناس ولو قلت : عمرو أقوى الأسد لم يجز وكان محالاً لأنه ليس منها، ولذلك لا يجوز أن تقول : زيد أفضل إخوته لأن هذا كلام محال يلزم منه أن يكون هو أخا نفسه فإن أدخلت ( من ) فيه جاز فقلت : عمرو أقوى من الأسد أفضل من إخوته ولكن يجوز أن تقول : زيد أفضل الإِخوة إذا كان واحداً من الإِخوة وتقول : هذا الثوب خير ثوب في اللباس إذا كان هذا هو الثوب فإن كان هذا رجلاً قلت : هذا الرجل خير منك ثوباً لأن الرجل غير الثوب وتقول : ما أنت بأحسن وجهاً مني ولا أفره عبداً فإن قصدت قصد الوجه بعينه قلت : ما هذا أحسن وجه رأيته إنما تعني الوجوه إذا ميزت وجهاً
وقال أبو العباس رحمه الله : فأما قلوهم : حسبك بزيد رجلاً وأكرم به فارساً وما أشبه ذلك ثم تقول : حسبك به من رجل وأكرم به من فارس ولله دره من شاعر وأنت لا تقول : عشرون من درهم ولا هو أفره منك من عبد فالفصل بينهما أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت ( من ) لتخلصه للتمييز ألا ترى أنك لو قلت : أكرِم به فارساً وحسبك به خطيباً لجاز أن تعني في هذه الحال وكذلك إذا قلت : كم ضربت رجلاً وكم ضربت من رجل جاز ذلك لأن ( كم ) قد يتراخى عنها مميزها فإن قلت : كم ضربتَ رجلاً لم يدر السامع أردت : كم مرة ضربتَ رجلاً واحداً أم : كم ضربت من رجل فدخول ( من ) قد أزال الشك وقال في قول الله تعالى : ( ثم يخرجكم طفلا ) وقوله : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) : أن التمييز إذا لم يسم عدداً معلوماً : كالعشرين والثلاثين جاز تبيينه بالواحد للدلالة على الجنس وبالجميع إذا وقع الإِلباس ولا إلباس في هذا الموضع لقوله : ( فإن طبن لكم ) ولقوله : ( ثم يخرجكم ) وقال : وقد قال قوم ( طفلاً ) حال وهذا أحسن إلا أن الحال إذا وقعت موقع التمييز لزمها ما لزمه كما أن المصدر إذا وقع موقع الحال لم يكن إلا نكرة تقول : جاء زيد مشياً فهو مصدر ومعناه ماشياً وهذا كقوله تعالى : ( يأتيك سعيا ) لأنه في هذه الحال
واعلم : أن ( أفعل منك ) لا يثنى ولا يجمع وقد مضى ذكر هذا تقول : مررت برجل أفضل منك وبرجلين أفضل منك وبقوم أفضل منك وكذلك المؤنث
وأفضل موضعه خفض على النعت إلا أنه لا ينصرف فإن أضفته جرى على وجهين إذا أردت : أنه يزيد على غيره في الفضل فهو مثل الذي معه ( من ) فتوحده تقول : مررت برجل أفضل الناس وأفضل رجل في معنى أفضل الرجال وكذلك التثنية والجمع تقول : مررت برجلين أفضل رجلين وبنساء أفضل نساء
والوجه الآخر أن تجعل أفضل اسماً ويثنى ويجمع في الإِضافة ولا يكون فيه معنى ( من كذا ) فإذا كان بهذه الصفة جاز أن تدخله الألف واللام إذا لم تضفه ويثنى ويجمع ويؤنث ويعرف بالإِضافة فتقول : جاءني الأفضل والأفضلان والأفضلون وهذان أفضلا أصحابك وهؤلاء أفاضل أصحابك فإذا كان على هذا لم تقع معه ( من ) وكانت أنثاه على ( فعلى ) وتثنيتها الفضليان والفضلين وتجمع الفضل والفضليات قال سيبويه : لا تقول : نسوة صغر ولا قوم أصاغر إلا بالألف واللام وأفعل التي معها ( منك ) لا تنصرف وإن أضفتها إلى معرفة ألا ترى أنك تقول : مررت برجل أفضل الناس فلو كانت معرفة ما جاز أن تصف بها النكرة ولا يجوز أن تسقط من أفعل ( من ) إذا جعلته إسماً أو نعتاً تقول : جاءني رجل أفضل منك ومررت برجل أفضل منك فلا تسقطها فإن كان خبراً جاز حذفها وأنت تريد : أفضل منك وزيد أفضل وهند أفضل
قال أبو بكر : جاز حذف ( من ) لأن حذف الخبر كله جائز والصفة تبيين ولا يجوز فيه حذف ( من ) كما لا يجوز حذف الصفة لأن الصفة تبيين وليس لك أن تبهم إذا أردت أن تبين
كتاب : الأصول في النحو
المؤلف : أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة