من طرف حكماء الجمعة 13 فبراير 2015 - 14:52
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
من حكاية المشعوذ الى ذكر سلطان مصر
● [ حكاية المشعوذ ] ●
وفي تلك الليلة حضر أحد المشعوذة، وهي من عبيد القان، فقال له الأمير: أرنا من عجائبك. فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال، فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار، ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد. فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير، أمر متعلماً له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا. فدعاه فلم يجبه ثلاثاً. فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض، ثم رمى برجله، ثم بيده الأخرى، ثم برجله الأخرى، ثم بجسده، ثم برأسه، ثم هبط، وهو ينفخ، وثيابه ملطخة بالدم. فقبل الأرض بين يدي الأمير، وكلمه بالصيني وأمر له الأمير بشيء ثم إنه أخذ أعضاء الصبي، فألصق بعضها ببعض، وركله برجله فقام سوياً. فعجبت منه. وأصابني خفقان القلب، كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند، حين رأيت مثل ذلك. فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت. وكان القاضي أفخر الدين إلى جانبي، فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو، وإنما ذلك شعوذة. وفي غد تلك الليلة دخلنا من باب المدينة الخامسة، وهي من أكبر المدن، يسكنها عامة الناس. وأسواقها حسان، وبها الحذاق بالصنائع، وبها تصنع الثياب الخنساوية. ومن عجيب ما يصنعون بها أطباق يسمونها الدست، وهي من القصب، وقد ألصقت قطعة أبدع إلصاق، ودهنت بصبغ أحمر مشرق. وتكون هذه الأطباق عشرة: واحد في جوف آخر لرقتها. تظهر لرائبها كأنها طبق واحد، ويصنعون غطاء يغطي جميعها. ويصنعون من هذا القصب صحافاً، ومن عجائبها أن تقع من العلو فلا تنكسر، ويجعل فيها الطعام السخن فلا يتغير صباغها، ولا يحول. وتجلب من هنالك إلى الهند وخراسان وسواها.
ولما دخلنا هذه المدينة بتنا ليلة في ضيافة أميرها. وبالغد دخلنا من باب يسمى كشتى وانان إلى المدينة السادسة. ويسكنها البحرية والصيادون والجلافطة والنجارون، ويدعون دودكاران " درود كران "، والأصباهية وهم الرماة، والبيادة وهم الرجالة، وجميعهم عبيد السلطان. ولا يسكن معهم سواهم، وعددهم كثير. وهذه المدينة على ساحل النهر الأعظم. بتنا بها ليلة في ضيافة أميرها، وجهز لنا الأمير قرطي مركباً بما يحتاج إليه من زاد وسواه، وبعث معنا أصحابه برسم التضييف.
وسافرنا من هذه المدينة وهي آخر أعمال الصين، زدخلنا إلى بلاد الخطا " بكسر الخاء المعجم وطاء مهمل "، وهي أحسن بلاد الدنيا عمارة. ولا يكون في جميعها موضع غير معمور، فإنه إن بقي موضع غير معمور، طلب أهله أو من يواليهم بخراجه. والبساتين والقرى والمزارع منتظمة بجانبي هذا النهر، من مدينة الخنسا إلى مدينة خان بالق. وذلك مسيرة أربعة وستين يوماً. وليس بها أحد من المسلمين إلا من كان حاضراً غير مقيم، لأنها ليست بدار مقام، وليس بها مدينة مجتمعة، إنما هي قرى وبسائط، فيها الزرع والفواكه والسكر. ولم أر في الدنيا مثلها، غير مسيرة أربعة أيام من الأنبار إلى عانة. وكنا كل ليلة ننزل بالقرى لأجل الضيافة، حتى وصلنا إلى مدينة خان بالق " وضبط اسمها بخاء معجم والف ونون مسكن وباء معقود والف ولام مكسور وقاف "، وتسمى أيضاً خانقو " بخاء معجم ونون مكسور وقاف وواو "، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم، الذي مملكته بلاد الصين والخطا. ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها، على العادة عندهم. وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا، فأذنوا لنا في دخول مرساها، فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة، وهي من أعظم مدن الدنيا. وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها. إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي، وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار، واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه، وأبى أن يسير إليه. وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذي ببلاده، وخاطبه بصدر الجهان.
● [ ذكر سلطان الصين والخطا الملقب بالقان ] ●
والقان عندهم سمة لكل من يلي ملك الأقطار، كمثل ما يسمى كل من ملك بلاد اللور بأتابك واسمه باشاي " بفتح الباء المعقود والشين المعجمة وسكون الياء ". وليس للكفار على وجه الأرض مملكة أعظم من مملكته.
● [ ذكر قصره ] ●
وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه. وأكثر عمارته بالخشب المنقوش، وله ترتيب عجيب. وعليه سبعة أبواب: فالباب الأول منها يجلس به الكتوال، وهو أمير البوابين. وله مصاطب مرتفعة عن يمين الباب ويساره، فيها المماليك البرددارية، وهم حفاظ باب القصر، وعددهم خمسمائة رجل. وأخبرت أنهم كانوا فيما تقدم ألف رجل. والباب الثاني يجلس عليه الإصباهية، وهم الرماة، وعددهم خمسمائة. والباب الثالث يجلس عليه النزدارية " بالنون والزاي "، وهم أصحاب الرماح، وعددهم خمسمائة. والباب الرابع يجلس عليه التغدارية " بالتاء المثناة والغين المعجم "، وهم أصحاب السيوف والترسة. والباب الخامس فيه ديوان الوزارة، وبه سقائف كثيرة. فالسقيفة العظمى يقعد بها الوزير، على مرتبة هائلة مرتفعة، ويسمون ذلك الموضع المسند. وبين يدي الوزير دواة عظيمة من الذهب. وتقابل هذه السقيفة سقيفة كاتب السر، وعن يمينها سقيفة كتاب الرسائل، وعن يمين سقيفة الوزير سقيفة كتاب الأشغال. وتقابل هذه السقائف سقائف أربع. إحداها تسمى ديوان الأشراف، يقعد بها المشرف، والثانية سقيفة ديوان المستخرج، وأميرها من كبار الامراء، والمستخرج هو ما يبقى قبل العمال وقبل الأمراء من إقطاعاتهم، والثالثة ديوان الغوث، ويجلس فيها أحد الأمراء الكبار، ومعه الفقهاء والكتاب. فمن لحقته مظلمة استغاث بهم. والرابعة ديوان البريد، يجلس فيها أمير الإخباريين. والباب السداس من أبواب القصر يجلس عليه الجندارية، وأميرهم الأعظم. والباب السابع يجلس عليه الفتيان، ولهم ثلاث شقائف: إحداها سقيفة الحبشان منهم، والثانية سقيفة الهنود، والثالثة سقيفة الصينيين. ولكل طائفة منهم أمير من الصينيين.
● [ ذكر خروج القان لقتال ابن عمه وقتله ] ●
ولما وصلنا حضرة خان بالق، وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك. وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه، بناحية قراقوم وبش بالغ، من بلاد الخطا. وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي، أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود، اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج، كل فوج منها من عشرة آلاف فارس. وأميرهم يسمى أمير طومان، وكان من خواص السلطان، وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك. وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء، واتفقوا على خلعه. لأنه كان قد غير أحكام اليساق، وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم، وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه، وتكون مدينة الخنساء إقطاعاً له. فأبى ذلك، وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك. فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار، واستعمل اللعب والطرب مدة شهر.
ثم جيء بالقان المقتول، وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه. فحفر للقان ناووس عظيم، وهو بيت تحت الأرض، وفرش بأحسن الفرش وجعل به القان بسلاحه، وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة، وجعل معه أربع من الجواري، وستة من خواص المماليك، معهم أواني الشراب. وبني باب البيت، وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم.
ثم جاءوا بأربعة أفراس فأجروها عند قبره حتى وقفت، ونصبوا خشباً على القبر، وعلقوها عليه. بعد أن أدخلوا في دبر كل فرس خشبة حتى خرجت من فمه، وجعل أقارب القان المذكورون في نواويس ومعهم سلاحهم وأواني دورهم، وصلبوا على قبورهم كبارهم. وكانوا عشرة: ثلاثة من الخيل على كل قبر، وعلى قبور الباقين فرساً فرساً. وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً لم يتخلف عنه أحد من الرجال ولا النساء المسلمين والكفار، وقد لبسوا أجمعون ثياب العزاء، وهي الطيالسة البيض للكفار والثياب البيض للمسلمين. وأقام خواتين القان وخواصه في الأخبية على قبره أربعين يوماً، وبعضهم يزيد على ذلك إلى سنة. وصنعت هنالك سوق يباع فيه ما يحتاجون إليه من طعام وسواه. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر. فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم، وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً. لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم، إذا مات ملكهم صنعوا له ناووساً، وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه، وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم، بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم، ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة، ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان، واختصه سلطانهم، أنه كان له ولد. فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم: كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم، ولا من ولدكم ? وفديته منهم بمال عريض. ولما قتل القان كما ذكرنا، واستولى ابن عمه فيروز على الملك، اختار أن تكون حضرته مدينة قراقرم " وضبطها بفتح القاف الأول والراء وضم الثانية وضم الراء الثانية "، لقربها من بلاد بني عمه ملوك تركستان وما وراء النهر. ثم خالفت عليه الأمراء مما لم يحضر لقتل القان، وقطعوا الطرق، وعظمت الفتن.
● [ ذكر رجوعي إلى الصين ثم إلى الهند ] ●
ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن، أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن، ووقفوا معي إلى نائب السلطان فيروز، فبعث معي ثلاثة من أصحابه، وكتب لي بالضيافة. وسرنا منحدرين في النهر إلى الخنساء، ثم إلى قنجنفو، ثم إلى الزيتون. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند، وفي جملتها جنك للملك الظاهر، صاحب الجاوة، وأهله مسلمون. وعرفني وكيله، وسر بقدومي. وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام، فلما قاربنا بلاد طوالسي، تغيرت الريح، وأظلم الجو، وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس. ثم دخلنا بحراً لا نعرفه، وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع إلى الصين، فلم يتمكن ذلك. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً لا نعرف في أي البحار نحن.
● [ ذكر الرخ ] ●
ولما كان في اليوم الثالث والأربعين، ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر، بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً، والريح تحملنا إلى صوبه. فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر، ولا يعهد في البحر جبل، وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجاً الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء، وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونذر التجار الصدقات الكثيرة، وكتبتها لهم في زمام بخطي وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء، وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر، فعجبنا من ذلك. ورأيت البحرية يبكون ويودعون بعضهم بعضاً، فقلت: ما شأنكم ? فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ. وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك اقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى من علينا بريح طيبة، صرفتنا عن صوبه، فلم نره، ولا عرفنا حقيقة صورته. وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة، ونزلنا إلى سمطرة، فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له، وجاء بسبي كثير. فبعث لي جاريتين وغلامين، وأنزلني على العادة، وحضرت أعراس ولده مع بنت أخيه.
● [ ذكر إعراس ولد الملك الظاهر ] ●
وشاهدت يوم الجلوة، فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور منبراً كبيراً، وكسوه بثياب الحرير. وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين، يرفعن أذيالها، من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك عادة لهن إلا في الأعراس خاصة. وصعدت العروس المنبر، وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء، يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء، قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة، وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة، وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله، وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده وجلس إلى جانبها، والخواتين يروحن عليها، وجاءوا بالفوفل والتنبول. فأخذه الزوج بيده، وجعل منه في فمها. ثم أخذت هي بيديها وجعلت في فمه. ثم أخذ الزوج بفمه ورقة تنبول وجعلها في فمها، وذلك كله على أعين الناس، ثم فعلت هي كفعله. ثم وضع عليها الستر، ورفع المنبر وهما فيه، إلى داخل القصر. وأكل الناس وانصرفوا. ثم لما كان من الغد جمع الناس، وأجرى له أبوه ولاية العهد، وبايعه الناس، وأعطاهم العطاء الجزل من الثياب والذهب. وأقمت بهذه الجزيرة شهرين، ثم ركبت في بعض الجنوك.
وأعطاني السلطان كثيراً من العود والكافور والقرنقل والصندل، وزودني. وسافرت عنه، فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم، فنزلت بها في جوار القزويني، قاضي المسلمين. وذلك في رمضان. وحضرت بها صلاة العيد، في مسجدها الجامع. وعادتهم أن يأتوا المسجد ليلاً. فلا يزالون يذكرون الله إلى الصبح. ثم يذكرون إلى حين صلاة العيد، ثم يصلون ويخطب الخطيب وينصرفون. ثم سافرنا من كولم إلى قالقوط، وأقمنا بها أياماً. وأردت العودة إلى دهلي. ثم خفت من ذلك، فركبت البحر فوصلت بعد ثمان وعشرين ليلة إلى ظفار. وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين. ونزلت بدار خطيبها عيسى بن طأطأ.
● [ ذكر سلطان ظفار ] ●
ووجدت سلطانها في هذه الكرة الملك الناصر ابن الملك المغيث، الذي كان ملكاً بها حين وصولي إليها فيما تقدم، ونائبه سيف الدين عمر أمير جندر، التركي الأصل. وأنزلني هذا السلطان، وأكرمني. ثم ركبت البحر، فوصلت إلى مسقط " بفتح الميم "، وهي بلدة صغيرة بها السمك الكثير المعروف بقلب الماس، ثم سافرنا إلى مرسى القريات " وضبطها بضم القاف وفتح الراء والياء آخر الحروف وألف وتاء مثناة ". ثم سافرنا إلى مرسى شبة " وضبط اسمها بفتح الشين المعجم وفتح الباء الموحدة وتشديدها "، ثم إلى مرسى كلبة، ولفظها على لفظ مؤنثة الكلب، ثم إلى قلهات، وقد تقدم ذكرها. وهذه البلاد كلها من عمالة هرمز، وهي محسوبة من بلاد عمان. ثم سافرنا إلى هرمز، وأقمنا بها ثلاثاً. وسافرنا في البر إلى كورستان ثم إلى اللار ثم إلى خنج بال، وقد تقدم ذكر جميعها. ثم سافرنا إلى كارزي " وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الراء وكسر الزاي "، وأقمنا بها ثلاثاً.
ثم سافرنا إلى جمكان " وضبط اسمها بفتح الجيم والميم والكاف وآخره نون "، ثم سافرنا منهم إلى ميمن " وضبط اسمها بفتح الميمين وبينهما ياء آخر الحروف مسكنة وآخره نون "، ثم سافرنا إلى بسا " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة والسين المهمل مع تشديدها "، ثم إلى مدينة شيراز. فوجدنا سلطانها أبا إسحاق على ملكه إلا أنه كان غائباً عنها. ولقيت بها شيخنا الصالح العالم مجد الدين قاضي القضاة، وهو قد كف بصره، نفعه الله ونفع به. ثم سافرت إلى ماين، ثم إلى يزدخاص، ثم إلى كليل، ثم إلى كشك زر، ثم إلى أصبهان، ثم إلى تستر، ثم إلى الحويزا، ثم إلى البصرة، وقد تقدم ذكر جميعها. وزرت بالبصرة القبور الكريمة التي بها، وهي قبر الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وحليمة السعدية، وأبي بكرة، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وثابت البناني، ومحمد بن سيرين، ومالك بن دينار، ومحمد بن واسع، وحبيب العجمي، وسهل بن عبد الله التستري، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم سافرنا من البصرة، فوصلنا إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وزرناه. ثم توجهنا إلى الكوفة، فزرنا مسجدها المبارك، ثم إلى الحلة، حيث مشهد صاحب الزمان، واتفق في بعض تلك الأيام أن وليها بعض الأمراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم إلى مسجد صاحب الزمان، وانتظاره هنالك. ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير، فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً. فزاد ذلك في فتنة الرافضة، وقالوا: إنما أصابه ذلك لأجل منعه الدابة، فلم تمنع بعد. ثم سافرت إلى صرصر، ثم إلى مدينة بغداد. وصلتها في شوال سنة ثمان وأربعين، ولقيت بها بعض المغاربة فعرفني بكائنة طريف، واستيلاء الروم على الخضراء. جبر الله صدع الإسلام في ذلك.
● [ ذكر سلطان العراق ] ●
وكان سلطان بغداد والعراق في عهد دخولي إليها في التاريخ المذكور الشيخ حسن ابن عمة السلطان أبي سعيد رحمه الله. ولما مات أبو سعيد استولى على ملكه بالعراق، وتزوج زوجته دلشاد بنت دمشق خواجة ابن الأمير الجوبان، حسبما كان فعله السلطان أبو سعيد من تزوج زوجة الشيخ حسن.وكان السلطان حسن غائباً عن بغداد في هذه المدة، متوجهاً لقتال السلطان أتابك افراسياب، صاحب بلاد اللور. ثم رحلت من بغداد فوصلت إلى مدينة الأنبار، ثم إلى هيت، ثم إلى الحديثة، ثم إلى عانة. وهذه البلاد من أحسن البلاد وأخصبها. والطريق فيما بينها كثير العمارة، كأن الماشي في سوق من الأسواق، وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد. ثم وصلت إلى مدينة الرحبة، وهي التي تنسب إلى مالك بن طوق. ومدينة الرحبة أحسن بلاد العراق، وأول بلاد الشام. ثم سافرنا إلى السخنة، وهي بلدة حسنة، أكثر سكانها الكفار من النصارى. وإنما سميت السخنة لحرارة مائها. وفيها بيوت للرجال وبيوت للنساء، يستحمون فيها، ويستقون الماء ليلاً، ويجعلونه في السطوح ليبرد. ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام، التي بنتها له الجن، كما قال النابغة:
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام، وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً، وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت لي ولداً ذكراَ، فبعث حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة، لم يكن لي همٌ إلا السؤال عن ولدي. فدخلت الجامع، فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم، فسلمت عليه فلم يعرفني. فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد. فقال مات منذ اثنتي عشرة سنة. وأخبرني أن فقيهاً من أهل طنجة يقيم بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن ولدي وأهلي، فوجدته شيخاً كبيراً، فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن ولدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد، والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقى بدرهم نقرة، وأوقيتهم أربع أواقٍ مغربية. وكان قاضي القضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي، وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي، وقدم معه دمشق، فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه.
حكاية
ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق، وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر. فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه. فأخرج زبانيته، فكانوا حيث ما لقوا أحداً من المساكين، قالوا له: تعال تأخذ الخبز. فاجتمع منهم عدد كثير. فحبسهم تلك الليلة، وركب من الغد، وأحضرهم تحت القلعة، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم. وكان أكثرهم براء عن ذلك. وأخرج طائفة الحرافيش عن دمشق فانتقلوا إلى حمص وحماة وحلب. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقتل. ثم سافرت من دمشق إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى المعرة ثم إلى سرمين ثم إلى حلب. وكان أمير حلب في هذا العهد الحاج رغطي " بضم الراء وسكون الغين المعجم وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكنة ".
حكاية
واتفق في تلك الأيام أن فقيراً يعرف بشيخ المشايخ، وهو ساكن في جبل خارج مدينة عنتاب، والناس يقصدونه ويتبركون به. وله تلميذ ملازم له، وكان متجرداً عزباً لا زوجة له، قال في بعض كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصبر عن النساء، وأنا أصبر عنهن. فشهد عليه بذلك، وثبت عند القاضي، ورفع أمره إلى ملك الأمراء، وأتي به وبتلميذه الموافق له على قوله، فأفتى القضاة الأربعة، وهم شهاب الدين المالكي، وناصر الدين العديم الحنفي، وتقي الدين الصائغ الشافعي، وعز الدين الدمشقي الحنبلي، بقتلهما معاً، فقتلا. وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين، بلغني الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة، وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد. فسافرت إلى حمص، فوجدت الوباء قد وقع بها، ومات يوم دخولي إليها نحو ثلثمائة إنسان، ثم سافرت إلى دمشق ووصلتها يوم الخميس، وكان أهلها قد صاموا ثلاثة أيام ن وخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الأقدام، حسبما ذكرناه في السفر الأول. فخفف الله الوباء عنهم، فانتهى عدد الموتى عندهم إلى ألفين وأربعمائة في اليوم، ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس، ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم. ولقيت خطيبه عز الدين بن جماعة ابن عم عز الدين قاضي القضاة بمصر، وهو من الفضلاء الكرماء. ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر.
حكاية
وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة، ودعاني فيمن دها إليها، فسألته عن سببها، فأخبرني أنه نذر أيام الوباء، أنه إن ارتفع ذلك، ومر عليه يوم لا يصلى فيه على ميت، صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس، لم أصل على ميت، فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله، فلم يبق منهم إلا القليل، مثل المحدث العالم الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ومثل الصالح شرف الدين الخشي شيخ زاوية المسجد الأقصى، ولقيت الشيخ سليمان الشيرازي، فأضافني. ولم ألق بالشام ومصر من وصل إلى قدم آدم عليه السلام سواه.
ثم سافرت عن القدس، ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان الملياني، وشيخ المغاربة بالقدس الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي. فوصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام. وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام. ثم سرنا إلى غزة، فوجدنا معظمها خالياً من كثرة من مات بها في الوباء. وأخبرنا قاضيها أن العدول بها كانوا ثمانين، فبقي منهم الربع، وأن عدد الموتى بها انتهى إلى ألف ومائة في اليوم.
ثم سافرنا في البر، فوصلت إلى دمياط، ولقيت بها قطب الدين النفشواني، وهو صائم الدهر، ورافقني منها إلى فارسكور وسمنود ثم إلى أبي صير " بكسر الصاد المهمل وياء وراء "، ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها.
حكاية
وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم، وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال: إنما قصدت زيارتكم، ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً. ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر، والفقير بركن الزاوية. فجاء الشيخ بالطعام، ودعاه فلم يجبه. فمضى إليه فوجده ميتاً. فصلينا عليه ودفناه، رحمة الله عليه. ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة، ثم إلى نحرارية، ثم إلى أبيار، ثم إلى دمنهور، ثم إلى الإسكندرية. فوجدت الوباء قد خف بها، بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرت إلى القاهرة، وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم. ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا، رحمهم الله تعالى.
● [ ذكر سلطان مصر ] ●
وكان ملك ديار مصر في هذا العهد الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون. وبعد ذلك خلع عن الملك، وولي أخوه الملك الصالح. ولما وصلت القاهرة، وجدت قاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، قد توجه إلى مكة في ركب عظيم يسمونه الرجبي، لسفرهم في شهر رجب. وأخبرت أن الوباء لم يزل معهم حتى وصلوا إلى عقبة أيلة، فارتفع عنهم. ثم سافرت من القاهرة إلى بلاد الصعيد، وقد تقدم ذكرها، إلى عيذاب. وركبت منها البحر، فوصلت إلى جدة، ثم سافرت منها إلى مكة، شرفها الله تعالى وكرمها، فوصلتها في الثاني والعشرين لشعبان سنة تسع وأربعين. ونزلت في جوار إمام المالكية الصالح الولي الفاضل أبي عبد الله محمد بن عبد الله المدعو بخليل. فصمت شهر رمضان بمكة. وكنت أعتمر كل يوم على مذهب الشافعي. ولقيت ممن أعهد من أشياخها شهاب الدين الحنفي، وشهاب الدين الطبري، وأبا محمد اليافعي، ونجم الدين الأصفوني، والحرازي. وحججت ذلك العام، ثم سافرت مع الركب الشامي إلى طيبة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزرت قبره المكرم، زاده الله طيباً وتشريفاً، وصليت في المسجد الكريم، طهره الله وزاده تعظيماً، وزرت من بالبقيع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ولقيت من الأشياخ أبا محمد بن فرحون. ثم سافرنا من المدينة الشريفة إلى العلا وتبوك، ثم إلى بيت المقدس، ثم إلى مدينة الخليل صلى الله عليه وسلم، ثم إلى غزة، ثم إلى منازل الرمل، وقد تقدم ذكر ذلك كله، ثم إلى القاهرة. وهنالك تعرفنا أن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين المتوكل على رب العالمين أبا عنان أيده الله تعالى، قد ضم الله به نشر الدولة المرينية، وشفى ببركته بعد إشفائها البلاد المغربية، وأفاض الإحسان على الخاص والعام، وغمر جميع الناس بسابغ الإنعام. فتشوقت النفوس إلى المثول ببابه، وأملت لثم ركابه. فعند ذلك قصدت القدوم على حضرته العلية، مع ما شاقني من تذكار الأوان، والحنين إلى الأهل والخلان، والمحبة إلى بلادي التي لها الفضل عندي على البلدان.
بلاد بها نيطت عـلـي تـمـائمـي . وأول أرض مس جلدي ترابها
فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة، وذلك في صفر سنة خمسين. وسرت حتى نزلت بجربة. وسافر المركب المذكور إلى تونس، فاستولى العدو عليه. ثم سافرت في مركب صغير إلى قابس، فنزلت في ضيافة الأخوين الفاضلين أبي مروان وأبي العباس ابني مكي أميري جربة وقابس. وحضرت عندهما مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت في مركب إلى سفاقس، ثم توجهت في البحر إلى بليانة، ومنها سرت في البر مع العرب، فوصلت بعد مشقات إلى مدينة تونس، والعرب محاصرون لها.
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
منتدى توتة وحدوتة - البوابة