بّسم الله الرّحمن الرّحيم
تاريخ مكة المكرمة
بناء الزبير الكعبة وما زاد فيها
وخرابها اخر الزمان
ذكر الوقت الذي كانوا يفتحون فيه الكعبة
وأول من خلع النعل عند دخولها
عن عمرو الهذلي قال: رأيت قريشاً يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، وكان حجابه يقعدون عند بابه فيرتقي الرجل إذا كانوا لا يريدون دخوله فيدفع ويطرح وربما عطب، وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء يعظمون ذلك ويضعون نعالهم تحت الدرجة. وأول من خلع الخف والنعل فلم يدخلها بهما الوليد بن المغيرة؛ إعظاماً لها فجرى ذلك سنة. ويروى أن فاختة بنت زهير بن حرب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وهي أم حكيم بن حزام دخلت الكعبة وهي حامل، فأدركها المخاض فيها فولدت حكيماً في الكعبة فحملت في نطع، وأخذ ما تحت مثبرها فغسل عند حوض زمزم.
ذكر بناء الزبير الكعبة
وما زاد فيها وما نقص منها الحجاج
عن ابن جريج قال: سمعت غير واحد ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها فقالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وتخلف وخشي منهم لحق مكة؛ ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فأقسم لا يؤتى به إلا مغلولاً فأرسل إليه رجلاً من أهل الشام في خيل من أهل الشام فعظم على ابن الزبير القضية، وقال: لأن يستحل الحرم بسببك فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولاً وقد عملت لك غلاً من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه، فقال: دعوني أياماً حتى أنظر في أمري فشاور أمه السماء بنت أبي بكر الصديق في ذلك فأبت عليه أن يذهب مغلولاً وقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً، ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك فالموت أحسن من هذا، فأبى أن يذهب إليه في غل وامتنع في مواليه ومن يألف إليه من أهل مكة فكان يقال لهم: الزبيرية، فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله ومن كان بالمدينة من بني أمية وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضاً في بطنه الماء الأصفر فقال له يزيد: إن حدث بك الموت فول الحصين بن نمير الكندي على جيشك، فسار حتى قدم المدينة فقاتلوه فظفر بهم ودخلها وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل فسمي بذلك مسرفاً، ونهب المدينة ثلاثاً، وسار إلى مكة فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار لولا أكره أني أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشاً من أذنك فتقول فيها لكن لا يكن إلا الوقاف ثم العفاف ثم الانصراف، فتوفي مسلم المسرف ومضى الحصين بن نمير إلى مكة فقاتل ابن الزبير بها أياماً وجمع ابن الزبير أصحابه فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، فضرب أصحاب ابن الزبير خياماً يكتنون بها من حجارة المنجنيق ويستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أخشبي مكة وهما أبو قبيس والأحمر فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة حتى تخرق كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء فوهّن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد ناراً في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شرارة في الخيمة فاحترقت وكان في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماك من ساج ومدماك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة، واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعى يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوماً، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاثة سنين وسبعة أشهر، فلما احترقت الكعبة واحترق الركن الأسود وتصدع، كان ابن الزبير بعد ذلك ربطه بالفضة وضعفت جدران الكعبة حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ويقع الحمام عليها فيستأثر حجارتها وهي مجردة موهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً والحصين بن نمير محاصر ابن الزبير، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة من قريش وغيرهم منهم عبد الله بن خالد بن أسيد ورجال من بني أمية إلى الحصين فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا: إن ذلك منكم رميتموها بالنفط. فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل، ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجمع عليه رأى صاحبك يعنون معاوية بن يزيد وهل يجمع الناس عليه، فلم يزالوا به حتى لان لهم ورجع إلى الشام، فلما أدبر جيش الحصين بن نمير وكان خروجه من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاوروهم
في هدم الكعبة، فأشار عليهم ناس قليلون بهدمها وأبى كثير من الناس هدمها، وكان أشدهم إباء عبد الله بن عباس قال له: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن أرقعها فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدهم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله تعالى ، وكان ممن أشار عليها بهدمها جابر ابن عبد الله وعبد بن نمير وعبد الله بن صفوان بن أمية، فأقام أياماً يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يحب أن يردها على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فأرادا أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى به، فقيل: إن الورس يذهب ولكن ابنها بالقصة فسأل عن القصة، فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها وأمر بتثجثج ذلك ثم سأل رجالاً من أهل العلم بمكة من أين أخذت قريش حجارتها فأخبروه مبلغها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج، فلما اجتمعت وأراد هدمها خرج أهل مكة إلى منى وأقاموا بها ثلاثاً؛ فرقا أن ينزل عليهم عذاب بهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها فلم يجترئ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا وهدموا وأرقى ابن الزبير فوقها عبيداً من الجيش فهدموها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ". وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع أفيدع قائم عليها يهدمها بمسحاته. وقال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو? فلم أرها فهدموا وأعانهم الناس فما ترجلت الشمس حتى ألصقوها بالأرض كلها من جوانبها، وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بناء البيت وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، باباً شرقياً يدخل منه الناس، وباباً غربياً يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها " قالت: قلت: لا. قال: " تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها فهلمى لأريك ما تركوا في الحجر منها " فأراها قريباً من سبعة أذرع. فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف عن الأساس أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضاً كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم كان أيداً يقال له: عبد الله بن سميطع العدوي عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها جميعاً، ويقال: إن مكة رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها وأعظموا ذلك إعظاماً شديداً وسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع جدار باب الكعبة على مدماك من الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني. وكان البناءون يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة،
وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية وثياب وطيب فوضعه في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان حتى أعاد بناءها، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين من المدماك الذي تحته وحجر من المدماك الذي فوقه بقدر الركن وطريق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله بن الزبير وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملوه واجعلوه في موضعه فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي، وكان ذلك في حر شديد فلما أقيمت الصلاة وكبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن مطعم شيبة بن عثمان فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، وكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير وأعانه عليه جبير بن شيبة، وقيل: الذي وضعه في موضعه الآن حمزة بن عبد الله بن الزبير، ذكره الزبير بن أبي بكر، فلما قرروه في موضعه وطريق عليه الحجران كبروا فأخف ابن الزبير صلاته وسمه الناس بذلك، وغضب فيه رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين وقع بنته قريش فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله في ردائه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة من قريش رجلاً فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه. وفي رواية ذكرها الأزرقي: أن ابن الزبير وضع الحجر الأسود في موضعه هو بنفسه.
وكان الركن قد تصدع من الحريق ثلاث فرق فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك الشظية من أعلاه، موضعها بيّن في أعلى الركن، طول الركن ذراعان قد أخذ عرض جدار الكعبة ومؤخر الركن داخله في الجدر مضرس على ثلاثة رؤوس. قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر قال بعضهم: هو مورد. وقال بعضهم: هو أبيض كالفضة.
وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعاً في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعاً وجبرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذا صارت عريضة لا طول لها فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولاً في السماء، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعاً في أسماء، وهي سبعة وعشرون مدماكاً وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعاً واحداً، فجعل لها ابن الزبير مصراعين، طولهما أحد عشر ذراعاً من الأرض إلى منتهى أعلاه اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب منفرجة يصعد فيها إلى ظهرها.
فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة جعلها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها وكساها القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر وأن ينحر بدنه فليفعل، ومن لم يقدر فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله، وخرج ماشياً وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله سبحانه، ولم ير يوم كان أكثر عتيقاً ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والركن الغربي؛ لأن البيت لم يكن تاماً.
فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا كاف الطائف استلم الأركان جميعها، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رضي الله عنه ودخل الحجاج مكة وكتب كتاباً إلى عبد الملك بن مروان: أن ابن الزبير زاد في البيت على ما كان عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك بن مروان: أن سد بابها الغربي الذي فتحه ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه. فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما كان هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها ولم يحرك منه شيئاً، فكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج، وسد الباب الذي في ظهرها وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليهما اليوم هما أيضاً من عمل الحجاج فلما فرغ الحجاج من هذا كله وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة. فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة. قال: سمعتها تقول ماذا ، قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بتاء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوا، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " فأراها قريباً من سبع أذرع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض، باباً شرقياً يدخل الناس منه، وباباً غربياً يخرج الناس منه ". قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا. قال: نعم. فجعل ينكت منكساً بقضيب في يده ساعة طويلة ثم قال: وددت والله أني كنت تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك.
قال ابن جريج: وكان الباب الذي عمله ابن الزبير طوله في السماء أحد عشر ذراعاً، فلما كان الحجاج نقص من الباب أربع أذرع وشبراً، وعمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر، فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القشيري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب وعلى ميزاب الكعبة وعلى الأساطين التي في جوفها.
قال الأزرقي: فكل ما على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهّب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب فإنه رق وتفرق، فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له بثمانية عشر ألف دينار؛ ليضرب بها على صفائح الذهب على بابي الكعبة فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلى باب الكعبة وعلى القبارين والعتب، وذلك كله من عمل محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي الكعبة ولكن ضرب عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما.
قال الأزرقي: وأخبرني المثنى بن جبير الصواف أنه حين فرقوا ذهب باب الكعبة وجد فيه ثمانية عشر ألف مثقال فزادوا عليه خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار. وقالوا أيضاً: أنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوباً أصفر.
قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزراً به جدرانها وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدرانها، وهو أول من زخرف المساجد. انتهى ما ذكره الأزرقي.
وأهل مكة يعتمرون في كل ليلة سبع وعشرين من رجب من كل سنة وينسبون هذه العمرة إلى ابن الزبير.
قال المحب الطبري: ولا يبعد أن يكون بناء الكعبة امتد إلى هذا التاريخ، وقد تقدم هذا في باب العمرة. وذكروا أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس رضي الله عنه عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث في ذلك. فقال مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. هكذا ذكر النووي أن السائل لمالك بن أنس هو هارون الرشيد. وقال السهيلي: إن السائل هو أبو جعفر المنصور.
وقال الشافعي: أحب أن لا تهدم الكعبة وتبنى لئلا تذهب حرمتها.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استمتعوا من هذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع في الثالثة ". رواه الطبراني . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كأني به أسود افحج يقلعها حجراً حجراً ". رواه البخاري. وفي حديث آخر رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في غريبه: " لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين ". فقوله: " كأني به " في معنى أبصر به على معنى هذه الصفة، والسويقتين تصغير الساقين وهي مؤنثة فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها، وإنما صغر الساقين؛ لأن الغالي على سوق الحبشة الدقة والحموشة، أي: يخربها رجل من الحبشة له ساقان دقيقتان، وأسود وأفحج حالان عن خبر كأن، وكأن وإن لم تكن بفعل فإنه شبه به، وإذا قيد منصوبه أو مرفوعه بالحال كان تقييداً باعتبار معناه الذي أشبه الفعل، وأفحج بالفاء ثم الحاء المهملة ثم الجيم: الذي يتدانى صدور قدميه ويتباعد عقباه ويتفحج ساقاه ومعناه: يتفرج، والفجج بجيمين فتح ما بين الرجلين وهو أقبح من الفحج، ويقلعها في معنى الحال والضمير للكعبة، ومن صفة ذي السويقتين أنه أصمع أفيدع أصيلع، والأصمع بالصاد المهملة ثم الميم ثم العين المهملة: الصغير الأذن من الناس وغيرهم، والأفيدع تصغير أفدع، بالفاء ثم العين المهملتين : وهو المفرج الرسغ من اليد أو الرجل، والأصيلع تصغير الأصلع : وهو الذي انحسر الشعر عن رأسه، وفي حديث حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه وسلم: " كأني بحبشي أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً ويتناولونها حتى يرموا بها في البحر يعني الكعبة ". رواه ابن الجوزي، وهو حديث فيه طول. وعن علي بن أبي طالب: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام. قال الأصمعي: قوله: أصعل. هكذا يروى، قال: وأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف: وهو الصغير الرأس، وكذلك الحبشة كلهم، وحمش الساقين بالحاء المهملة أي: دقيقهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجئ الحبشى فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه ". رواه أبو داود الطيالسي.
وذكر الحليمي: أن ذلك يكون في زمن عيسى عليه السلام. وذكر أبو حامد في كتاب "مناسك الحج" له وغيره، ويقال: لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض، فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس لها أثر، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد، ثم يرفع القرآن من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح فيه حرف، ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة، ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال وينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تقرب ولادتها. انتهى.
وقال غير الحليمي: إن خرابه يكون بعد رفع القرآن وذلك بعد موت عيسى ابن مريم عليهما السلام وصححه بعض متأخري العلماء. والله أعلم.
واعلم أن حاصل ما ذكرنا في بناء الكعبة فيما تقدم من الروايات أنها بنيت سبع مرات: أولاهن: بناء الملائكة أو آدم على الخلاف المتقدم، الثانية: بتاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم على القواعد الأولى، الثالثة: بناء العمالقة، الرابعة: بناء جرهم، الخامسة: بناء قريش من الإسلام بخمسة أعوام وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء كما ذكرنا، السادسة: بناء عبد الله بن الزبير حين احترقت في عهده بشررة طارت من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترقت. وقيل: إن امرأة أرادت أن تجمرها فطارت شررة من المجمرة في أستارها فاحترقت، السابعة: بناء الحجاج بن يوسف الثقفي وهو الشيء الذي من ناحية حجر إسماعيل الذي هو موجود اليوم.
وذكر السهيلي: أن بناءها كان خمس مرات وعد أولاهن: بناء شيث بن آدم عليهما السلام، قال: وكانت قبل أن يبنيها شيث خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم، قال: وقد قيل: إنه بنى في أيام جرهم مرة أو مرتين؛ لأن السيل كان صدع حائطه ولم يكن بنياناً إنما كان إصلاحاً لما وهي منه، وجداراً بنى بينه وبين السيل بناه عامر الحاذر، وقد تقدم هذا الخبر. انتهى. ويقال: إن قصي بن كلاب جدد بناءها بعد إبراهيم عليه السلام وسقفها بخشب الروم وجريد النخل ثم بنتها قريش.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء
وأول من خلع النعل عند دخولها
عن عمرو الهذلي قال: رأيت قريشاً يفتحون البيت في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، وكان حجابه يقعدون عند بابه فيرتقي الرجل إذا كانوا لا يريدون دخوله فيدفع ويطرح وربما عطب، وكانوا لا يدخلون الكعبة بحذاء يعظمون ذلك ويضعون نعالهم تحت الدرجة. وأول من خلع الخف والنعل فلم يدخلها بهما الوليد بن المغيرة؛ إعظاماً لها فجرى ذلك سنة. ويروى أن فاختة بنت زهير بن حرب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وهي أم حكيم بن حزام دخلت الكعبة وهي حامل، فأدركها المخاض فيها فولدت حكيماً في الكعبة فحملت في نطع، وأخذ ما تحت مثبرها فغسل عند حوض زمزم.
ذكر بناء الزبير الكعبة
وما زاد فيها وما نقص منها الحجاج
عن ابن جريج قال: سمعت غير واحد ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها فقالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية وتخلف وخشي منهم لحق مكة؛ ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فأقسم لا يؤتى به إلا مغلولاً فأرسل إليه رجلاً من أهل الشام في خيل من أهل الشام فعظم على ابن الزبير القضية، وقال: لأن يستحل الحرم بسببك فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولاً وقد عملت لك غلاً من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه، فقال: دعوني أياماً حتى أنظر في أمري فشاور أمه السماء بنت أبي بكر الصديق في ذلك فأبت عليه أن يذهب مغلولاً وقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً، ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك فالموت أحسن من هذا، فأبى أن يذهب إليه في غل وامتنع في مواليه ومن يألف إليه من أهل مكة فكان يقال لهم: الزبيرية، فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله ومن كان بالمدينة من بني أمية وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضاً في بطنه الماء الأصفر فقال له يزيد: إن حدث بك الموت فول الحصين بن نمير الكندي على جيشك، فسار حتى قدم المدينة فقاتلوه فظفر بهم ودخلها وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل فسمي بذلك مسرفاً، ونهب المدينة ثلاثاً، وسار إلى مكة فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار لولا أكره أني أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشاً من أذنك فتقول فيها لكن لا يكن إلا الوقاف ثم العفاف ثم الانصراف، فتوفي مسلم المسرف ومضى الحصين بن نمير إلى مكة فقاتل ابن الزبير بها أياماً وجمع ابن الزبير أصحابه فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، فضرب أصحاب ابن الزبير خياماً يكتنون بها من حجارة المنجنيق ويستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أخشبي مكة وهما أبو قبيس والأحمر فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة حتى تخرق كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء فوهّن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد ناراً في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شرارة في الخيمة فاحترقت وكان في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماك من ساج ومدماك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة، واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعى يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوماً، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاثة سنين وسبعة أشهر، فلما احترقت الكعبة واحترق الركن الأسود وتصدع، كان ابن الزبير بعد ذلك ربطه بالفضة وضعفت جدران الكعبة حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها ويقع الحمام عليها فيستأثر حجارتها وهي مجردة موهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعاً والحصين بن نمير محاصر ابن الزبير، فأرسل ابن الزبير رجالاً من أهل مكة من قريش وغيرهم منهم عبد الله بن خالد بن أسيد ورجال من بني أمية إلى الحصين فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة وقالوا: إن ذلك منكم رميتموها بالنفط. فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل، ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجمع عليه رأى صاحبك يعنون معاوية بن يزيد وهل يجمع الناس عليه، فلم يزالوا به حتى لان لهم ورجع إلى الشام، فلما أدبر جيش الحصين بن نمير وكان خروجه من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم فشاوروهم
في هدم الكعبة، فأشار عليهم ناس قليلون بهدمها وأبى كثير من الناس هدمها، وكان أشدهم إباء عبد الله بن عباس قال له: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن أرقعها فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدهم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله تعالى ، وكان ممن أشار عليها بهدمها جابر ابن عبد الله وعبد بن نمير وعبد الله بن صفوان بن أمية، فأقام أياماً يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يحب أن يردها على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على قواعد إبراهيم وعلى ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فأرادا أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى به، فقيل: إن الورس يذهب ولكن ابنها بالقصة فسأل عن القصة، فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها وأمر بتثجثج ذلك ثم سأل رجالاً من أهل العلم بمكة من أين أخذت قريش حجارتها فأخبروه مبلغها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج، فلما اجتمعت وأراد هدمها خرج أهل مكة إلى منى وأقاموا بها ثلاثاً؛ فرقا أن ينزل عليهم عذاب بهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها فلم يجترئ على ذلك أحد، فلما رأى ذلك علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا وهدموا وأرقى ابن الزبير فوقها عبيداً من الجيش فهدموها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ". وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع أفيدع قائم عليها يهدمها بمسحاته. وقال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو? فلم أرها فهدموا وأعانهم الناس فما ترجلت الشمس حتى ألصقوها بالأرض كلها من جوانبها، وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بناء البيت وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، باباً شرقياً يدخل منه الناس، وباباً غربياً يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها " قالت: قلت: لا. قال: " تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها فهلمى لأريك ما تركوا في الحجر منها " فأراها قريباً من سبعة أذرع. فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف عن الأساس أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضاً كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم كان أيداً يقال له: عبد الله بن سميطع العدوي عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها جميعاً، ويقال: إن مكة رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفاً شديداً حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها وأعظموا ذلك إعظاماً شديداً وسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع جدار باب الكعبة على مدماك من الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريباً من الركن اليماني. وكان البناءون يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة،
وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية وثياب وطيب فوضعه في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان حتى أعاد بناءها، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين من المدماك الذي تحته وحجر من المدماك الذي فوقه بقدر الركن وطريق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله بن الزبير وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملوه واجعلوه في موضعه فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي، وكان ذلك في حر شديد فلما أقيمت الصلاة وكبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن مطعم شيبة بن عثمان فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، وكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير وأعانه عليه جبير بن شيبة، وقيل: الذي وضعه في موضعه الآن حمزة بن عبد الله بن الزبير، ذكره الزبير بن أبي بكر، فلما قرروه في موضعه وطريق عليه الحجران كبروا فأخف ابن الزبير صلاته وسمه الناس بذلك، وغضب فيه رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين وقع بنته قريش فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله في ردائه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة من قريش رجلاً فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه. وفي رواية ذكرها الأزرقي: أن ابن الزبير وضع الحجر الأسود في موضعه هو بنفسه.
وكان الركن قد تصدع من الحريق ثلاث فرق فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلا تلك الشظية من أعلاه، موضعها بيّن في أعلى الركن، طول الركن ذراعان قد أخذ عرض جدار الكعبة ومؤخر الركن داخله في الجدر مضرس على ثلاثة رؤوس. قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر قال بعضهم: هو مورد. وقال بعضهم: هو أبيض كالفضة.
وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعاً في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعاً وجبرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذا صارت عريضة لا طول لها فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولاً في السماء، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعاً في أسماء، وهي سبعة وعشرون مدماكاً وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعاً واحداً، فجعل لها ابن الزبير مصراعين، طولهما أحد عشر ذراعاً من الأرض إلى منتهى أعلاه اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب منفرجة يصعد فيها إلى ظهرها.
فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة جعلها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها وكساها القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر وأن ينحر بدنه فليفعل، ومن لم يقدر فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله، وخرج ماشياً وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم شكراً لله سبحانه، ولم ير يوم كان أكثر عتيقاً ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والركن الغربي؛ لأن البيت لم يكن تاماً.
فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا كاف الطائف استلم الأركان جميعها، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رضي الله عنه ودخل الحجاج مكة وكتب كتاباً إلى عبد الملك بن مروان: أن ابن الزبير زاد في البيت على ما كان عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك بن مروان: أن سد بابها الغربي الذي فتحه ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه. فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما كان هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها ولم يحرك منه شيئاً، فكل شيء فيها بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج، وسد الباب الذي في ظهرها وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليهما اليوم هما أيضاً من عمل الحجاج فلما فرغ الحجاج من هذا كله وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن ابن الزبير سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة. فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة. قال: سمعتها تقول ماذا ، قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قومك استقصروا في بتاء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيه ما تركوا، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " فأراها قريباً من سبع أذرع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض، باباً شرقياً يدخل الناس منه، وباباً غربياً يخرج الناس منه ". قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا. قال: نعم. فجعل ينكت منكساً بقضيب في يده ساعة طويلة ثم قال: وددت والله أني كنت تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك.
قال ابن جريج: وكان الباب الذي عمله ابن الزبير طوله في السماء أحد عشر ذراعاً، فلما كان الحجاج نقص من الباب أربع أذرع وشبراً، وعمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر، فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القشيري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب وعلى ميزاب الكعبة وعلى الأساطين التي في جوفها.
قال الأزرقي: فكل ما على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهّب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب فإنه رق وتفرق، فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له بثمانية عشر ألف دينار؛ ليضرب بها على صفائح الذهب على بابي الكعبة فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلى باب الكعبة وعلى القبارين والعتب، وذلك كله من عمل محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي الكعبة ولكن ضرب عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما.
قال الأزرقي: وأخبرني المثنى بن جبير الصواف أنه حين فرقوا ذهب باب الكعبة وجد فيه ثمانية عشر ألف مثقال فزادوا عليه خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار. وقالوا أيضاً: أنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوباً أصفر.
قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزراً به جدرانها وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدرانها، وهو أول من زخرف المساجد. انتهى ما ذكره الأزرقي.
وأهل مكة يعتمرون في كل ليلة سبع وعشرين من رجب من كل سنة وينسبون هذه العمرة إلى ابن الزبير.
قال المحب الطبري: ولا يبعد أن يكون بناء الكعبة امتد إلى هذا التاريخ، وقد تقدم هذا في باب العمرة. وذكروا أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس رضي الله عنه عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث في ذلك. فقال مالك: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. هكذا ذكر النووي أن السائل لمالك بن أنس هو هارون الرشيد. وقال السهيلي: إن السائل هو أبو جعفر المنصور.
وقال الشافعي: أحب أن لا تهدم الكعبة وتبنى لئلا تذهب حرمتها.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استمتعوا من هذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع في الثالثة ". رواه الطبراني . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ". وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كأني به أسود افحج يقلعها حجراً حجراً ". رواه البخاري. وفي حديث آخر رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في غريبه: " لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين ". فقوله: " كأني به " في معنى أبصر به على معنى هذه الصفة، والسويقتين تصغير الساقين وهي مؤنثة فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها، وإنما صغر الساقين؛ لأن الغالي على سوق الحبشة الدقة والحموشة، أي: يخربها رجل من الحبشة له ساقان دقيقتان، وأسود وأفحج حالان عن خبر كأن، وكأن وإن لم تكن بفعل فإنه شبه به، وإذا قيد منصوبه أو مرفوعه بالحال كان تقييداً باعتبار معناه الذي أشبه الفعل، وأفحج بالفاء ثم الحاء المهملة ثم الجيم: الذي يتدانى صدور قدميه ويتباعد عقباه ويتفحج ساقاه ومعناه: يتفرج، والفجج بجيمين فتح ما بين الرجلين وهو أقبح من الفحج، ويقلعها في معنى الحال والضمير للكعبة، ومن صفة ذي السويقتين أنه أصمع أفيدع أصيلع، والأصمع بالصاد المهملة ثم الميم ثم العين المهملة: الصغير الأذن من الناس وغيرهم، والأفيدع تصغير أفدع، بالفاء ثم العين المهملتين : وهو المفرج الرسغ من اليد أو الرجل، والأصيلع تصغير الأصلع : وهو الذي انحسر الشعر عن رأسه، وفي حديث حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه وسلم: " كأني بحبشي أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، وأصحابه ينقضونها حجراً حجراً ويتناولونها حتى يرموا بها في البحر يعني الكعبة ". رواه ابن الجوزي، وهو حديث فيه طول. وعن علي بن أبي طالب: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام. قال الأصمعي: قوله: أصعل. هكذا يروى، قال: وأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف: وهو الصغير الرأس، وكذلك الحبشة كلهم، وحمش الساقين بالحاء المهملة أي: دقيقهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجئ الحبشى فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه ". رواه أبو داود الطيالسي.
وذكر الحليمي: أن ذلك يكون في زمن عيسى عليه السلام. وذكر أبو حامد في كتاب "مناسك الحج" له وغيره، ويقال: لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض، فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس لها أثر، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد، ثم يرفع القرآن من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح فيه حرف، ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة، ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال وينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تقرب ولادتها. انتهى.
وقال غير الحليمي: إن خرابه يكون بعد رفع القرآن وذلك بعد موت عيسى ابن مريم عليهما السلام وصححه بعض متأخري العلماء. والله أعلم.
واعلم أن حاصل ما ذكرنا في بناء الكعبة فيما تقدم من الروايات أنها بنيت سبع مرات: أولاهن: بناء الملائكة أو آدم على الخلاف المتقدم، الثانية: بتاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم على القواعد الأولى، الثالثة: بناء العمالقة، الرابعة: بناء جرهم، الخامسة: بناء قريش من الإسلام بخمسة أعوام وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء كما ذكرنا، السادسة: بناء عبد الله بن الزبير حين احترقت في عهده بشررة طارت من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترقت. وقيل: إن امرأة أرادت أن تجمرها فطارت شررة من المجمرة في أستارها فاحترقت، السابعة: بناء الحجاج بن يوسف الثقفي وهو الشيء الذي من ناحية حجر إسماعيل الذي هو موجود اليوم.
وذكر السهيلي: أن بناءها كان خمس مرات وعد أولاهن: بناء شيث بن آدم عليهما السلام، قال: وكانت قبل أن يبنيها شيث خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم، قال: وقد قيل: إنه بنى في أيام جرهم مرة أو مرتين؛ لأن السيل كان صدع حائطه ولم يكن بنياناً إنما كان إصلاحاً لما وهي منه، وجداراً بنى بينه وبين السيل بناه عامر الحاذر، وقد تقدم هذا الخبر. انتهى. ويقال: إن قصي بن كلاب جدد بناءها بعد إبراهيم عليه السلام وسقفها بخشب الروم وجريد النخل ثم بنتها قريش.
مختصر: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام لابن الضياء