من طرف حكماء الجمعة 7 ديسمبر 2018 - 13:34
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الخامس عشر ] ●
عَنْ أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - عن رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بالله واليَومِ الآخرِ ، فَلْيَقُلْ خَيراً أَوْ لِيَصْمُتْ ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ ، فَليُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ).
رواه البخاريُّ ومُسلمٌ(1).
الشرح
هذا الحديث خرَّجاه من طُرُقٍ عن أبي هريرة ، وفي بعض ألفاظها : ( فلا يؤذ جاره ) وفي بعض ألفاظها : ( فليُحسن قِرى ضيفِه ) ، وفي بعضها : ( فليَصِلْ رحمه ) بدل ذكر الجار .
وخرَّجاه أيضاً بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -(2) .
__________
(1) صحيح البخاري 8/13 ( 6018 ) و8/39 ( 6136 ) ، 8/125 ( 6475 ) ، وصحيح مسلم 1/49 ( 47 ) ( 74 ) و( 75 ) و( 76 ) .
وأخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 368 ) و( 372 ) ، والطيالسي ( 2347 ) ، وأحمد 2/267 و269 و433 و463 ، وابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو داود ( 5154 ) ، والترمذي ( 2500 )، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 324 ) ، وفي " الصمت " ، له ( 40 )، والبزار ( 2031 ) ، وأبو يعلى ( 6218 ) ، وأبو عوانة ( 94 ) ، وابن حبان ( 506 ) و( 516 ) ، وابن منده في " الإيمان " ( 298 ) و( 299 ) و( 300 ) و( 301 ) ، والحاكم 4/164 ، والقضاعي ( 469 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 8/164 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 9532 ) و( 9533 ) ، والبغوي ( 4121 ) من طرق عن أبي هريرة ، به
(2) أخرجه : البخاري 8/13 ( 6019 ) و8/39 ( 6135 ) و8/125 ( 6476 ) ، ومسلم 5/137 ( 48 ) ( 15 ) و( 16 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد رُوي هذا الحديثُ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة(1) وابن مسعود(2) وعبد الله بن عمرو(3)، وأبي أيوب الأنصاري(4) وابن عباس(5) وغيرهم مِنَ الصَّحابة .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ كان يؤمِنُ باللهِ واليوم الآخر ) فليفعل كذا وكذا ، يدلُّ على أنَّ هذه الخصال مِنْ خصال الإيمان ، وقد سبق أنَّ الأعمال تدخلُ في الإيمان ، وقد فسَّر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالصبر والسماحة(6) ، قال الحسن : المراد(7) : الصبر عن المعاصي ، والسماحة بالطَّاعة(8) .
وأعمال الإيمان تارة تتعلَّق بحقوق الله ، كأداءِ الواجبات وترك المحرَّمات ، ومِنْ ذلك قولُ الخير ، والصمتُ عن غيره .
__________
(1) أخرجه : أحمد 6/69 ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 3575 ) من طرق عن عمرة ، عن عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه: الطبراني في "الكبير" ( 10442 ) و22/( 1024 ) من طرق عن شقيق ، عنه ، به .
(3) أخرجه : أحمد 2/174 من طريق أبي عبد الرحمان الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، به .
(4) أخرجه : ابن حبان ( 5597 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3873 ) ، والحاكم 4/289 ، والبيهقي في " الكبرى " 7/309 من طرق عن عبد الله بن يزيد الخطمي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، به .
(5) أخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 1926 )، والطبراني في " الكبير " ( 10843 ) من طرق عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، به .
(6) أخرجه : أحمد 4/385 ، وعبد بن حميد ( 300 ) من طريق شهر بن حوشب ، عن عمرو ابن عبسة ، به ، وشهر ضعيف ولم يسمع من عمرو بن عبسة .
(7) سقطت من ( ص ) .
(8) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 2/156 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وتارةً تتعلق بحقوق عبادِه كإكرامِ الضيف ، وإكرامِ الجارِ ، والكفِّ عن أذاه ، فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن : أحدها : قولُ الخير والصمت عما سواه ، وقد روى الطبراني من حديث أسودَ بنِ أصرم المحاربي ، قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : ( هل تملك لسانكَ ؟ ) قلت : ما أملك إذا لم أملك لساني ؟ قال : ( فهل تملك يدك ؟ ) قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي ؟ قال : ( فلا تَقُلْ بلسانك إلا معروفاً ، ولا تبسُط يدَك إلاَّ إلى خير )(1) .
وقد ورد أنَّ استقامة اللسانِ من خصالِ الإيمان ، كما في " المسند " (2) عن أنس(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَستَقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه ، ولا يستقيم قلبُه حتَّى يستقيمَ لسانُه ) .
وخرَّج الطبراني(4)
__________
(1) أخرجه : البخاري في " التاريخ الكبير " 1/444 ، الطبراني في " الكبير " ( 818 ) من حديث أسود بن أصرم المحاربي ، به . وقال البخاري : ( في إسناده نظر ) .
(2) المسند 3/198 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 9 ) ، والقضاعي ( 887 ) ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة .
(3) عبارة : ( عن أنس ) لم ترد في ( ص ) .
(4) في " الأوسط " ( 6563 ) ، وفي " الصغير " ، له ( 944 ) .
وأخرجه : القضاعي ( 893 )، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 5005 ) و( 5006 ) ، وإسناده ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
من حديث أنسٍ (1) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَبْلُغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يَخْزِنَ من لسانه )، وخرَّج الطبراني(2) من حديث معاذ بن جبل، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّكَ لن تزالَ سالماً ما سكتَّ ، فإذا تكلَّمتَ ، كُتِبَ لك أو عليك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (3) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من صمت نجا ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ ما فيها ، يزِلُّ بها في النَّارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغرب ) .
__________
(1) تحرف في ( ص ) إلى : ( علي ) .
(2) في " الكبير " 20/( 137 ) من طرق عبد الرحمان بن غنم ، عن معاذ ، به . قال الهيثمي في
" المجمع " 10/300 : ( رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات ) .
(3) المسند 2/159 و177 .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 385 ) ، وعبد بن حميد ( 345 ) ، والدارمي ( 2716 ) ، والترمذي ( 2501 ) ، وابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 10 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " ( 1 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 207 ) ، والقضاعي ( 334 ) ، = = ... والبغوي ( 4129 ) ، ومداره على ابن لهيعة ، وهو ضعيف لكن سمعه منه من هو قديم السماع عنه ؛ لذا قواه بعضهم لذلك
(4) صحيح البخاري 8/125 ( 6477 )، وصحيح مسلم 8/223 ( 2988 ) ( 49 ) و( 50 ).
وأخرجه : أحمد 2/379 ، وابن حبان ( 5707 ) و( 5708 ) ، والبيهقي 8/164 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4956 ) من طرق عن عيسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمامُ أحمد ، والترمذي(1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار )(2) .
وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال(4) : ( إنَّ الرَّجُلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِنْ رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجاتٍ ، وإنَّ العبدَ ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم ) .
وخرَّج الإمام أحمد(5) من حديث سليمان بن سُحيم ، عن أمِّه ، قالت : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : ( إنَّ الرجلَ ليدنو من الجنة حتَّى ما يكونَ بينه وبينَها إلا ذراعٌ فيتكلم بالكلمة ، فيتباعد منها أبعدَ مِن صنعاء ) .
__________
(1) لم يرد في ( ص ) .
(2) حديث صحيح أخرجه : أحمد 2/236 و355 و533 ، والترمذي ( 2314 ) .
وأخرجه : ابن ماجه ( 3971 ) ، وأبو يعلى ( 6235 ) ، وابن حبان ( 5706 ) ، والحاكم 4/597 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 8/125 ( 1478 ) .
وأخرجه : أحمد 2/334 ، والبيهقي 8/165 ، وابن عبد البر في " التمهيد " 7/143-144 من طرق عن أبي هريرة ، به .
(4) من قوله : ( إن الرجل ليتكلم ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) المسند 4/64 و5/377 .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 429 ) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " ( 3458 ) ، وإسناده ضعيف محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمام أحمد ، والترمذي ، والنَّسائي من حديث بلالِ بنِ الحارث قال : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنَّ أحدكم ليتكلَّمُ بالكلمة مِن رضوان الله ما يَظُنُّ أنْ تَبْلُغ ما بلغت ، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه ، وإنَّ أحدَكُم ليتكلَّمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بلغت ، فيكتب الله عليه بها سَخطه إلى يوم يلقاه )(1) .
وقد ذكرنا فيما سبق حديثَ أمِّ حبيبة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كلامُ ابنِ آدم عليه لا له ، إلا الأمرَ بالمعروف ، والنهيَ عن المنكر ، وذكر الله - عز وجل - )(2) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فليقل خيراً أو ليصمُت ) أمر بقول الخير، وبالصمت عمَّا عداه، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس هناك كلام يستوي قولُه والصمت عنه ، بل إمَّا أنْ يكون خيراً ، فيكون مأموراً بقوله، وإمَّا أنْ يكون غير خير، فيكون مأموراً بالصمت عنه ، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا .
__________
(1) أخرجه : أحمد 3/469 ، والترمذي ( 2319 ) ، والنسائي كما في " تحفة الأشراف " 2/126 ( 2028 ) .
وأخرجه : مالك ( 2818 ) برواية الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 1394 ) ، والحميدي ( 911 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 81 ) ، وهناد في " الزهد " ( 1141 ) ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 2/92 ( 1852 ) وفي " التاريخ الصغير " ، له 1/94-95 ، وابن ماجه ( 3969 ) ، وابن حبان ( 280 ) و( 281 ) و( 287 ) ، والطبراني في "الكبير" ( 1129 ) و( 1130 ) و( 1131 ) و( 1132 ) و( 1133 ) و( 1134 ) و( 1135 ) و( 1136 ) و( 1137 )، والحاكم 1/45 و46 ، والبيهقي 8/165 ، وفي "شعب الإيمان" ، له ( 4957 ) ، وابن عبد البر في " التمهيد " 13/50 ، والبغوي ( 4124 ) و( 4125 ) ، وقال الترمذي : ( حسن صحيح ) .
(2) تقدم تخريجه .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه : إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( يا مُعاذُ ثكلتك أُمُّكَ وهَلْ تقول شيئاً إلاَّ وهو لك أو عليك )(1).
وقد قال الله تعالى : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (2) وقد أجمع السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ ، والذي عن شِماله يكتبُ السيئات ، وقد رُوي ذلك مرفوعاً من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف(3) . وفي " الصحيح " (4) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان أحدُكُم يُصَلِّي ، فإنَّه يُناجي ربَّه والملك عن يمينه(5) ) . ورُوي من حديث حُذيفة مرفوعاً : ( إنَّ عن يمينه كاتب الحسنات )(6) .
__________
(1) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 6 ) ، وسنده منقطع .
(2) ق : 17-18 .
(3) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 8/( 7765 ) و( 7787 ) و( 7971 ) ، وفي " مسند الشاميين " ، له ( 468 ) و( 526 ) ، والبيهقي في "شعب الإيمان" ( 7049 ) و( 7050 ) و( 7051 ) .
(4) صحيح البخاري 1/113 ( 416 ) .
وأخرجه : همام بن منبه في " صحيفته " ( 119 ) ، وعبد الرزاق ( 1686 ) ، وابن حبان ( 2269 ) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 490 ) ، والبيهقي في " الكبرى " 2/293 من طرق عن أبي هريرة ، به .
وأخرجه : الحميدي ( 729 ) ، وابن أبي شيبة ( 7449 ) ، وأحمد 3/24 ، وأبو داود ( 480 )، وأبو يعلى ( 993 ) ، وابن خزيمة ( 880 ) و( 926 ) ، وابن حبان ( 2270 ) ، والحاكم 1/257 من طرق عن أبي سعيد الخدري ، به .
(5) زاد في ( ص ) : ( يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات ) .
(6) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 7455 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
واختلفوا : هل يكتب كلَّ ما تكلَّم به ، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عِقاب ؟ على قولين مشهورين . وقال عليُّ بنُ أبي طلحة ، عن ابن عباس : يكتب كل ما تكلم به من خيرٍ أو شرٍّ حتى إنَّه ليكتب قوله : أكلتُ وشربتُ وذهبتُ وجئتُ ، حتّى إذا كان يوم الخميسِ عُرِضَ قوله وعمله فأقرَّ ما كان فيه من خير أو شرٍّ(1) ، وألقي سائره ، فذلك قولُه تعالى : { يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (2) .
وعن يحيى بن أبي كثير ، قال : ركب رجل الحمارَ ، فعثر به ، فقال : تَعِسَ
الحمارُ ، فقال صاحب اليمين : ما هي حسنة أكتبها ، وقال صاحبُ الشمال : ما هي من السيئات فأكتبها ، فأوحى الله إلى صاحب الشمال : ما ترك صاحبُ اليمين من شيء ، فاكتبهُ ، فأثبت في السيئات : ( تَعِسَ الحمارُ )(3) .
وظاهر هذا أنَّ ما ليس بحسنةٍ فهو سيئة ، وإنْ كان لا يُعاقب عليها ، فإنَّ بعضَ السيئات قد لا يُعاقب عليها (4) ، وقد تقع مكفرةً باجتناب الكبائر ، ولكن زمانها قد خسره صاحبُها حيث ذهب باطلاً ، فيحصل له بذلك حسرةٌ في القيامة وأسف عليه ، وهو نوعُ عقوبة .
وخرَّج الإمامُ أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَا مِنْ قوم يقومون مِنْ مجلس لا يذكُرون الله فيه ، إلاَّ قاموا عن مثلِ جِيفة حمار ، وكان لهم حسرة )(5)
__________
(1) من قوله : ( حتى إنه ليكتب ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(2) الرعد : 39 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35480 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 6/76 ، والحسين المروزي في " زياداته على الزهد لابن المبارك " ( 1013 ) .
(4) من قوله : ( فإن بعض السيئات ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
(5) أخرجه : أحمد 2/389 و494 و515 و527 ، وأبو داود ( 4855 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 10241 ) ، وفي " عمل اليوم والليلة " ، له ( 403 ) و( 408 ) ، وهو حديث قويٌّ .
وأخرجه : ابن حبان ( 590 ) و( 592 ) و( 853 ) ، وابن السني في " عمل اليوم
والليلة " ( 446 ) وأبو الشيخ في " طبقات المحدّثين بأصبهان " 3/448 ، والحاكم 1/491-492 و492 ، وأبو نعيم في " الحلية " 7/207 ، وفي " تاريخ أصبهان " ، له 2/224 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 541 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّجه الترمذي(1) ولفظه : ( ما جلسَ قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يُصَلُّوا على نبيهم ، إلاَّ كان عليهم تِرَة (2) ، فإنْ شاء عذبهم ، وإنْ شاء غفر لهم ) .
وفي رواية لأبي داود والنَّسائي : ( من قَعَدَ مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه
من الله ترة ، ومن اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من الله ترة ) زاد النَّسائي : ( ومَنْ قام مقاماً لم يذكر الله فيه ، كانت عليه من اللهِ تِرة ) (3) . وخرَّج أيضاً من حديث أبي سعيدٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما مِنْ قوم يجلسون مجلساً لا يذكُرونَ الله فيه إلا كانت عليهم حسرةً يوم القيامة ، وإنْ دخلوا الجنَّة )(4) .
__________
(1) في " الجامع الكبير " ( 3380 ) وقال : ( هذا حديث حسن ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2311 ) ، وأحمد 2/446 و453 و481 و484 و495 ، وأبو داود ( 4856 ) و( 5059 ) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 404 ) و( 405 ) و( 406 ) ، وابن حبان ( 853 ) ، والطبراني في " الدعاء " ( 1923 ) و( 1924 ) و( 1925 ) ، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " ( 450 ) ، والحاكم 1/496 و550 ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/130، والبيهقي 3/210 ، وفي " شعب الإيمان " ، له ( 1569 ) ، والبغوي ( 1254 ) و( 1255 ) من طرق عن أبي هريرة ، به .
(2) أي : حسرة وندامة يوم القيامة .
(3) أخرجه : أبو داود ( 4856 ) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ( 404 ) وفي " الكبرى " ، له ( 10236 ) عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به ، وهو حديث صحيح .
(4) أخرجه : النسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 409 ) و( 410 ) وفي " الكبرى " ، له ( 10242 ) و( 10243 ) مرفوعاً وموقوفاً ، والرواية المرفوعة أقوى .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال مجاهد : ما جلس قومٌ مجلساً ، فتفرَّقوا قبل أنْ يذكُرُوا الله ، إلا تفرَّقوا عن أنتنِ من ريح الجيفة ، وكان مجلسُهم يَشهدُ عليهم بغفلتهم ، وما جلس قومٌ مجلساً ، فذكروا الله قبل أنْ يتفرَّقوا ، إلاَّ تفرَّقوا عن أطيب من ريحِ المسك ، وكان مجلسهم يشهدُ لهم بذكرهم .
وقال بعضُ السَّلف : يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعاتُ عمره ، فكلُّ ساعة تمرُّ بابنِ آدمَ (1)لم يذكر الله فيها تتقطَّعُ نفسه عليها(2) حسراتٍ .
وخرَّجه الطبراني(3) من حديث عائشة مرفوعاً : ( ما مِنْ ساعة تمرُّ بابن آدم لم
يذكرِ الله فيها بخيرٍ ، إلا حسرَ عندَها يومَ القيامةِ ) .
فمن هنا يعلم أنَّ ما ليس بخيرٍ مِنَ الكلامِ، فالسُّكوتُ عنه أفضلُ من التكلم به، اللَّهمَّ إلا ما تدعو إليه الحاجةُ مما لابدَّ منه . وقد روي عن ابن مسعود قال : إيَّاكم وفضولَ الكلام ، حسبُ امرئ ما بلغ حاجته(4) ، وعن النَّخعي قال : يَهلِكُ الناسُ في فضول المال والكلام .
وأيضاً فإنَّ الإكثارَ من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجبُ قساوةَ القلب كما في " الترمذي "(5) من حديث ابن عمر مرفوعاً : ( لا تُكثِرُوا الكلامَ بغيرِ ذكر الله ، فإنَّ كثرةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله يُقسِّي القلب ، وإنَّ أبعدَ الناس عن الله القلبُ القاسي ) .
__________
(1) عبارة : ( تمرّ بابن آدم ) لم ترد في ( ج ) .
(2) سقطت من ( ص ) .
(3) في " الأوسط " ( 8316 ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/361-632 ، وإسناده ضعيف جداً ؛ عمرو بن الحصين العقيلي متروك ، وقد تفرد به كما نص عليه الطبراني .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 8507 ) موقوفاً .
(5) الجامع الكبير ( 2411 ) ، وقال : ( حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ) ، وقوله : ( غريب ) يعني ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال عمر : مَنْ كَثُرَ كلامُه ، كَثُرَ سَقَطُهُ ، ومَنْ كَثُرَ سَقَطُه ، كَثُرَتْ ذُنوبهُ ، ومَن كَثُرَتْ ذنوبُه ، كانت النارُ أولى به(1) . وخرَّجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعاً بإسنادٍ ضعيفٍ(2) .
وقال محمد بن عجلان : إنَّما الكلام أربعة : أنْ تذْكُرَ الله ، وتقرأ القرآن ، وتسأل عن علم فتخبر به ، أو تكلَّم فيما يعنيك من أمر دنياك .
وقال رجل لسلمان : أوصني ، قال : لا تكلَّم ، قال : ما يستطيعُ من عاش في الناس أنْ لا يتكلم ، قال : فإنْ تكلَّمت ، فتكلم بحقٍّ أو اسكُت(3) .
وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأخذ بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد(4) .
__________
(1) أخرجه : ابن حبان في " روضة العقلاء " : 36 ، والطبراني في " الأوسط " ( 6541 ) ، والقضاعي ( 374 ) .
(2) أخرجه : العقيلي في " الضعفاء " 3/384 ، وفي إسناده عيسى بن موسى : مجهول ، وفيه عمر ، قال عنه : ( إن كان هذا عمر بن راشد فهو ضعيف ، وإن كان غيره فمجهول ) .
وأخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/74 ، والقضاعي ( 372 ) و( 373 ) و( 374 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 44 ) .
(4) أخرجه : مالك ( 2825 ) برواية يحيى الليثي ، وعبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 369 ) ، ووكيع بن الجراح في " الزهد " ( 287 ) ، وابن أبي شيبة ( 26500 ) و( 37047 ) ، وفي " الأدب " ، له ( 222 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 562 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/33 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 4947 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال ابن مسعود : والله الذي(1) لا إله إلا هو ، ما على الأرض أحقُّ بطول سجنٍ مِنَ اللِّسانِ(2) . وقال وهب بن منبه : أجمعت الحكماءُ على أنَّ رأسَ الحكمِ الصمتُ(3) .
وقال شميط بن عجلان : يا ابن آدم ، إنَّك ما سكتَّ ، فأنت سالمٌ ، فإذا تكلمت ، فخذ حِذرَك ، إمَّا لك وإمَّا عليك(4) . وهذا بابٌ يطول استقصاؤه .
والمقصود أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكلام بالخير ، والسُّكوتِ عمَّا ليس بخيرٍ ، وخرَّج الإمام أحمدُ وابنُ حبان(5) من حديث البراء بن عازب: أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، علمني عملاً يُدخلُني الجنَّة ، فذكر الحديثَ ، وفيه قال : ( فأطعم الجائع ، واسقِ الظمآن ، وأْمُر بالمعروف ، وانْهَ عَنِ المُنكر ، واسكت عن الشَّرِ(6) ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك ، فكفَّ لسانك إلاَّ مِن خيرٍ )(7)
__________
(1) في ( ص ) : ( والذي ) .
(2) أخرجه : وكيع بن الجراح في " الزهد " ( 285 ) ، وابن أبي شيبة ( 26499 ) ، وفي " الأدب " ، له ( 221 ) ، وأحمد في " الزهد " ( 162 ) ، وابن حبان في " روضة العقلاء " : 39 ، والطبراني في " الكبير " ( 8744 ) و( 8745 ) و( 8746 ) و( 8747 ) ، وأبو الشيخ في " الأمثال " ( 244 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 1/134 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 619 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 623 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 3/129 .
(5) تحرف في ( ص ) إلى : ( ابن ماجه ) .
(6) عبارة : ( واسكت عن الشر ) سقطت من ( ج ) .
(7) أخرجه : أحمد 4/299 ، وابن حبان ( 374 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 739 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 69 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2743 ) و( 2744 ) ، والدارقطني 2/135 ، والحاكم 2/217 ، والبيهقي 10/272-273 وفي " شعب الإيمان " ، له ( 4335 ) ، والبغوي ( 2419 ) من طرق عن عبد الرحمان بن عوسجة ، عن البراء بن عازب ، به ، وهو حديث صحيح .
● [ الصفحة التالية ] ●
فليس الكلامُ مأموراً به على الإطلاق ، ولا السُّكوتُ كذلك ، بل لابدَّ منَ الكلامِ بالخير ، والسكوت عنِ الشرِّ ، وكان السَّلفُ(1) كثيراً يمدحُون الصَّمتَ عن الشَّرِّ ، وعمَّا لا يعني ؛ لِشِدَّته على النفس ، ولذلك يقع فيه النَّاسُ كثيراً ، فكانوا يُعالجون أنفسهم ، ويُجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم .
قال الفضيلُ بن عياض : ما حجٌّ ولا رِباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبس اللسان ، ولو أصبحت يهمُّكَ لسانُك ، أصبحتَ في غمٍّ شديد ، وقال : سجنُ اللسان سجنُ المؤمن ، ولو أصبحت يهمُّك لسانُك ، أصبحت في غمٍّ شديد(2) .
وسئلَ ابنُ المبارك عن قولِ لقمان لابنه : إنَّ كان الكلامُ من فضَّةٍ ، فإنَّ الصَّمتَ من ذهبٍ ، فقال : معناه : لو كان الكلامُ بطاعة الله من فضة ، فإنَّ الصَّمتَ عن معصيةِ الله من ذهبٍ(3) . وهذا يرجعُ إلى أنَّ الكفَّ عن المعاصي أفضلُ من عمل الطاعات ، وقد سبق القولُ في هذا مستوفى .
وتذاكروا عندَ الأحنفِ بنِ قيس ، أيُّما أفضل الصمتُ أو النطقُ ؟ فقالَ قوم : الصمتُ أفضلُ ، فقالَ الأحنفُ : النطقُ أفضل ؛ لأنَّ فضلَ(4) الصمت لا يعدو صاحبَه ، والمنطق الحسن ينتفع به مَنْ سَمِعَهُ(5) .
__________
(1) لم ترد في ( ص ) .
(2) من قوله : ( ولو أصبحت يهمك ... ) إلى هنا سقط من ( ص ) .
والأثر أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 651 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 8/110 .
(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 47 ) من قول نبي الله سليمان - عليه السلام - .
(4) سقطت من ( ص ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 712 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال رجلٌ من العلماء عند عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله : الصَّامت على علمٍ كالمتكلم على علمٍ ، فقال عمر : إنِّي لأرجو أنْ يكونَ المتكلمُ على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً ، وذلك أنَّ منفعته للناس ، وهذا صمتُه لنفسه ، فقال له : يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة المنطق (1) ؟ فبكى عمرُ عند ذلك(2) بكاءً شديداً .
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوماً فرقَّ الناسُ وبكَوا ، فقطع خطبته ، فقيل له : لو أتممتَ كلامك رجونا أنْ ينفعَ الله به ، فقال عمر : إنَّ القولَ فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول .
وكنت من مدَّةٍ طويلةٍ قد رأيتُ في المنام(3) أميرَ المؤمنين عمرَ بنَ عبد العزيز - رضي الله عنه - ، وسمعته يتكلَّمُ في هذه المسألة ، وأظنُّ أنِّي فاوضتُه فيها ، وفهمتُ من كلامِه أنَّ التكلُّم بالخير أفضلُ من السُّكوتِ ، وأظُنُّ أنَّه وقع في أثناء الكلام ذكرُ سليمان ابن عبد الملك ، وأنَّ عمر قال ذلك له ، وقد رُويَ عن سليمانَ بن عبد الملك أنَّه قال : الصمت منامُ العقل ، والمنطقُ يَقظَتُهُ (4) ، ولا يتمُّ حالٌ إلا بحالٍ ، يعني : لابدَّ من الصَّمت والكلام .
وما أحسنَ ما قال عُبيدُ الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته ، وكان أحدَ الحكماء : إذا كان المرءُ يحدِّث في مجلسٍ ، فأعجبه الحديثُ فليسكتْ ، وإذا كان ساكتاً ، فأعجبه السكوتُ ، فليُحدِّث(5) ، وهذا حسنٌ فإنَّ من كان كذلك ، كان سكوتُه وحديثُه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ، ومن كان كذلك ، كان جديراً بتوفيق الله إيَّاه وتسديده في نطقه وسكوته ؛ لأنَّ كلامَه وسكوتَه يكونُ لله - عز وجل - .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) عبارة : ( عند ذلك ) سقطت من ( ص ) .
(3) عبارة : ( في المنام ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : ابن الدنيا في " الصمت " ( 696 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي الدنيا في " الصمت " ( 97 ) و( 269 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي مراسيل الحسن ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربِّه - عز وجل - قالَ : ( علامة الطُّهر أنْ يكونَ قلبُ العبد عندي معلَّقاً ، فإذا كانَ كذلك لم ينسني على حال ، وإذا كانَ كذلك مننتُ عليهِ بالاشتغال بي كي لا ينساني ، فإذا نسيني حرَّكتُ قلبهُ ، فإنْ تكلّم، تكلّم لي ، وإن سكتَ، سكتَ لي، فذلك الذي تأتيه المعونةُ من عندي ) خرَّجه إبراهيمُ بنُ الجنيد .
وبكلِّ حالٍ ، فالتزامُ الصمت مطلقاً ، واعتقاده قربة إمَّا مطلقاً ، أو في بعض العبادات ، كالحجِّ والاعتكاف والصيام منهيٌّ عنه . ورُوي من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه نهى عن صيامِ الصَّمت(1) . وخرَّج الإسماعيلي من حديث عليٍّ قال : نهانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصمت في العُكوفِ ، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث عليٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا صُماتَ يَومٍ إلى الليلِ ) . وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لامرأة حَجَّتْ مُصمتَةً : إنَّ هذا لا يَحلُّ هذا من عمل الجاهلية(3) . وروي عن عليِّ بنِ الحسين زين العابدين أنَّه قال : صومُ الصَّمْتِ حرام(4) .
__________
(1) أخرجه: أبو حنيفة كما في "جامع المسانيد" للخوارزمي 1/476 من حديث أبي هريرة ، به .
(2) السنن ( 2873 ) .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 11450 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 658 ) ، والبيهقي 6/57 و7/461 ، وفي إسناده مقال .
وأخرجه : أبو حنيفة كما في " جامع المسانيد " للخوارزمي 1/474 من حديث النَزال بن سبرة ، به .
وأخرجه : عبد الرزاق ( 13899 ) و( 15919 ) من حديث جابر بن عبد الله ، به .
(3) أخرجه : الدارمي ( 212 ) ، والبخاري 5/52 ( 3834 ) ، موقوفاً عليه .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/142 .
● [ الصفحة التالية ] ●
الثاني مما أمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المؤمنين : إكرامُ الجار ، وفي بعض الرِّوايات : ( النهي عن أذى الجار ) فأمَّا أذى الجار ، فمحرَّمٌ ، فإنَّ الأذى بغيرِ حقٍّ محرَّمٌ لكلِّ أحدٍ ، ولكن في حقِّ الجار هو أشدُّ تحريماً ، وفي " الصحيحين " (1) عن ابن مسعودٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سُئِلَ : أيُّ الذَّنبِ أعظمُ ؟ قالَ : ( أنْ تجعل للهِ ندَّاً وهو خلقك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قالَ : ( أنْ تقتُلَ ولدَكَ مخافة أنْ يَطْعَمَ معك ) ، قيل : ثُمَّ أي ؟ قال : ( أن تُزَانِي حليلةَ جارك ) . وفي " مسند الإمام أحمد " (2)
__________
(1) صحيح البخاري 6/22 ( 4477 ) ، و9/186 ( 7520 ) ، وصحيح مسلم 1/63 ( 441 ) ( 86 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 103 ) ، وسعيد بن منصور ( 2302 ) ، وأحمد 1/380 و431، والنسائي في " الكبرى " ( 3478 ) و( 10987 ) و( 11368 ) ، وفي " التفسير " ، له ( 388 ) و( 389 ) ، وأبو يعلى ( 5098 ) و( 5130 ) و( 5167 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 20123 ) ، والشاشي ( 486 ) و( 487 ) و( 493 ) و( 775 ) و( 776 ) و( 778 ) ، وابن حبان ( 4414 ) و( 4415 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 9811 ) و( 9819 ) و( 9820 ) و( 9821 ) ، والدارقطني في " العلل " 5/223 ، والبيهقي في " الكبرى " 8/18 من طرق عن عبد الله بن مسعود ، به .
(2) المسند 6/8 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 103 ) ، وفي " التاريخ الكبير " ، له 7/361 ( 2126 ) والطبراني في " الكبير " 20/( 605 ) ، وفي " الأوسط " ، له ( 6333 ) من طرق عن المقداد بن الأسود ، به ، وإسناده لا بأس به .
● [ الصفحة التالية ] ●
عن المقداد بنِ الأسود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما تقولون في الزنى؟ ) قالوا : حرام حرَّمه الله ورسوله ، فهو حرامٌ إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لأنْ يزني الرَّجلُ بعشرِ نسوةٍ أيسرُ عليه من أنْ يزنيَ بامرأةِ جاره ) ، قال : ( فما تقولون في السَّرقة ؟ ) قالوا : حرَّمها الله ورسوله ، فهي حرام ، قال : ( لأنْ يَسرِقَ الرجلُ من عشرة أبياتٍ أيسرُ عليه من أنْ يسرق من جاره ) .
وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شُريح ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( والله لا يُؤْمِنُ ، والله لا يُؤْمِنُ ، واللهِ لا يؤمنُ ) قيل : وَمَنْ يا رسولَ الله ؟ قالَ : ( مَنْ لا يأْمَنُ جارهُ بوائِقَهُ ) . وخرَّجه الإمامُ أحمد(2) ، وغيره من حديث أبي هُريرة .
وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يَدخُلُ الجنَّة مَنْ لا يَأْمَنُ جارُه بوائقهُ ) .
__________
(1) الصحيح 8/12 ( 6016 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 1340 ) ، وأحمد 4/31 ، و6/385 ، والطبراني في " الكبير " 22/( 487 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9534 ) وفي " الآداب " ، له ( 77 ) من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي شريح ، به .
(2) المسند 2/288 و336 .
وأخرجه : البخاري عقيب الحديث ( 6016 ) ، والحاكم 1/10 ، و4/165 من طرق عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، به .
(3) الصحيح 1/49 ( 46 ) ( 73 ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 121 ) من طريق العلاء بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمامُ أحمد ، والحاكم من حديث أبي هُريرة ، قال : قيلَ : يا رسولَ الله إنَّ فُلانةَ تُصلي الليلَ ، وتصومُ النهار وفي لسانها شيءٌ تؤذي جيرانها سليطة ، قال : ( لا خير فيها ، هي في النار ) ، وقيل له : إنَّ فلانة تُصلي المكتوبةَ ، وتصومُ رمضانَ ، وتتصدَّقُ بالأثوارِ ، وليس لها شيء غيره ، ولا تؤذي أحداً ، قال : ( هي في الجنة ) ولفظ الإمام أحمد : ( ولا تؤذي بلسانها جيرانها ) (1) .
وخرَّج الحاكمُ(2) من حديث أبي جُحيفة قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يشكو جارَه ، فقال له : ( اطرح متاعَك في الطَّريق ) ، قال: فجعل النَّاسُ يمرُّون به فيلعنونه ، فجاء إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسولَ الله ، ما لقيتُ من الناس ، قال: ( وما لقيتَ منهم ؟ ) قال : يلعنوني ، قال : ( فقد لعنك الله قبلَ النَّاسِ ) ، قال : يا رسولَ الله ، فإني لا أعود . وخرَّجه أبو داود (3)
__________
(1) أخرجه : أحمد 2/440 ، والحاكم 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 119 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 1902 )، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" ( 385 ) و( 616 )، وابن حبان ( 5764 )، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9545 ) و( 9546 ) ، وفي إسناده أبو يحيى ، مولى آل جعدة مقبول حيث يتابع ولم يتابع .
(2) المستدرك 4/166 .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 125 ) ، والبزار كما في " كشف الأستار " ( 1903 ) ، وفي إسناده شريك القاضي ضعيف عند التفرد .
(3) السنن ( 5153 ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 124 ) ، وابن حبان ( 520 ) ، والحاكم 4/165-166 من طرق عن محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به ، ومحمد بن عجلان قال عنه الحافظ في " التقريب " ( 6136 ) : ( صدوق إلاَّ أنَّه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
بمعناه من حديث أبي هريرة ، ولم يذكر فيه : ( فقد لعنك الله قبل الناس ) .
وخرَّج الخرائطي من حديث أمِّ سلمة ، قالت : دخلت شاةٌ لجارٍ لنا ، فأخذت قرصةً لنا ، فقمت إليها فاجتذبتها من بين لحْيَيْهَا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( إنَّه لا قليلَ من أذى الجار ) (1).
وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه ، فمأمورٌ به ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } (2) ، فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكرِ حقِّه على العبد وحقوقِ العباد على العبد أيضاً ، وجعل العبادَ الذين أمرَ بالإحسّان إليهم خمسة أنواع :
أحدها : من بينَه وبينَ الإنسان قرابةٌ ، وخصَّ منهمُ الوالدين بالذِّكر ؛ لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يَشْرَكونهما فيه ، فإنَّهما كانا السببَ في وجود الولد ولهما حقُّ التربية والتأديب وغير ذلك .
الثاني : مَنْ هو ضعيفٌ محتاجٌ إلى الإحسَّان ، وهو نوعان : من هو محتاج لضعف بدنه ، وهو اليتيم ، ومن هو محتاج لِقِلَّةِ ماله ، وهو المسكين .
والثالث: مَنْ له حقُّ القُرب والمخالطة ، وجعلهم ثلاثة أنواع : جارٌ ذو قربى ، وجار جُنبٌ ، وصاحبٌ بالجنب .
__________
(1) أخرجه : الطبراني في " الكبير " 23/( 535 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 10/27 من حديث أم سلمة رضي الله عنها ، به . قال الهيثمي في " المجمع " 8/170 : ( ورجاله ثقات ) .
(2) النساء : 36 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فمنهم مَن قال : الجارُ ذو القربى : الجارُ الذي له قرابةٌ ، والجارُ الجُنب : الأجنبيُّ(1) ، ومنهم من أدخل(2) المرأةَ في الجارِ ذي القربى ، ومنهم من أدخلها في الجار الجُنب(3) ، ومنهم من أدخل الرَّفيقَ في السَّفر في الجارِ الجُنب(4) ، وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه : ( أعوذُ بكَ من جارِ السُّوءِ في دار الإقامة ، فإنَّ جار البادية يتحوَّلُ )(5) .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7485 ) و( 7486 ) و( 7487 ) ( 7494 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5296 ) و( 5299 ) .
(2) عبارة : ( من أدخل ) سقطت من ( ص ) .
(3) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7512 ) و( 7515 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5297 ) .
(4) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7502 ) و( 7503 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5300 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 25421 ) ، وأحمد 2/346 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 117 ) ، والنسائي 8/274 ، وأبو يعلى ( 6536 ) ، وابن حبان ( 1033 ) ، والحاكم 1/532 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9553 ) ، وهو حديث قويٌّ .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومنهم من قال : الجارُ ذو القربى : الجار المسلم ، والجارُ الجنب : الكافر(1) ، وفي " مسند البزار " (2) من حديث جابر مرفوعاً : ( الجيرانُ ثلاثةٌ : جارٌ له حقٌّ واحدٌ ، وهو أدنى الجيران حقاً(3) ، وجارٌ له حَقَّان ، وجار له ثلاثةُ حقوق وهو أفضلُ الجيران حقاً ، فأمَّا الذي له حقٌّ واحدٌ ، فجارٌ مشرك ، لا رَحِمَ له ، له حقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له حقَّان ، فجارٌ مسلمٌ ، له حقُّ الإسلام وحقُّ الجوار ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ ، فجار مسلمٌ ذو رحم ، له حقُّ الإسلام ، وحقُّ الجوار ، وحقُّ الرحم ) . وقد روي هذا الحديثُ من وجوه أُخر متصلة ومرسلة(4) ، ولا تخلو كلُّها مِنْ مقالٍ .
وقيل: الجار ذو القربى : هو القريبُ الملاصق ، والجار الجُنُب: البعيد الجوار(5).
وفي " صحيح البخاري " (6)
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 7492 ) و( 7501 ) ، وابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 5298 ) .
(2) كما في " كشف الأستار " ( 1896 ) من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به ، والحسن لم يسمع من جابر .
(3) عبارة : ( وهو أدنى الجيران حقاً ) سقطت من ( ص ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 5/207 من طريق الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، به .
وأخرجه : ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 341 ) من طريق سعيد بن أبي هلال ، وإسناده معضل .
(5) انظر : المحرر الوجيز 4/51 ، وتفسير البغوي 1/616 ، وتفسير القرطبي 5/184 .
(6) الصحيح 3/115 ( 2259 ) و3/208 ( 2595 ) و8/13 ( 6020 ) .
وأخرجه : عبد الله بن المبارك في " مسنده " ( 10 ) وفي " الزهد " ، له ( 720 ) ، والطيالسي ( 1529 ) ، وإسحاق بن راهويه ( 1367 ) ، وأحمد 6/175 و187 و193 و239 ، والحسين المروزي في زياداته على " البر والصلة " لابن المبارك ( 244 ) و( 259 ) ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 107 ) و( 108 ) ، وأبو داود ( 5155 ) ، وابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 336 ) ، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " ( 2797 ) ، والخرائطي في " مكارم الأخلاق " : 39 ، والحاكم 4/167 ، والبيهقي في " الكبرى " 6/275 و7/28 ، والخطيب في " تاريخه " 7/275 من طرق عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة رضي الله عنها ، به