من طرف حكماء الأربعاء 16 يناير 2019 - 4:03
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الخامس والثلاثون ] ●
عَنْ أَبي هُريرةَ - رضي الله عنه - ، قالَ : قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تَحَاسَدُوا ، ولا تَنَاجَشوا ، ولا تَبَاغَضُوا ، ولا تَدَابَرُوا ، ولا يَبِعْ بَعضُكُمْ على بَيعِ بَعضٍ ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْواناً ، المُسلِمُ أَخُو المُسلم ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ ، ولا يَكذِبُهُ ، ولا يَحقِرُهُ ، التَّقوى هاهُنا ) ، - ويُشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ - ( بِحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلمِ على المُسلِمِ حرامٌ : دَمُهُ ومَالُهُ وعِرضُهُ ).
رواه مسلم .
الشرح
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1) من رواية أبي سعيدٍ مولى عبد الله بن عامر بن كُرَيز عن أبي هريرة ، وأبو سعيد هذا لا يعرَفُ اسمُه ، وقد روى عنه غيرُ واحدٍ ، وذكره ابن حبان في " ثقاته " (2) ، وقال ابن المديني : هو مجهول .
وروى هذا الحديث سفيان الثوري ، فقال فيه : عن سعيد بن يسار ، عن أبي هُريرة ، ووهم في قوله : ( سعيد بن يسار ) ، إنَّما هو : أبو سعيد مولى ابنِ كُريز ، قاله أحمد ويحيى والدَّارقطني (3) ، وقد رُوِي بعضُه من وجه آخر (4) .
__________
(1) صحيح مسلم 8/10 ( 2564 ) ( 32 ) و( 33 ) .
وأخرجه : أحمد 2/277 و311 و360 ، وعبد بن حميد ( 1442 ) ، وابن ماجه ( 3933 ) و( 4213 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 11151 ) .
(2) الثقات 5/586 .
(3) انظر : العلل للدارقطني 11/222 ( 2242 ) .
(4) أخرجه : هناد بن السري في " الزهد " ( 1390 ) من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّجه الترمذي (1) من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلم أخو المسلم ، لا يخونُه ولا يكذِبُه ولا يَخذُلُه ، كلُّ المسلمِ على المسلم حرامٌ : عِرْضُه وماله ودمُه ، التقوى هاهنا ، بحسب امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم ) .
وخرَّج أبو داود (2) من قوله : ( كلُّ المسلم ) إلى آخره .
وخرَّجاه في " الصحيحين " (3) من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تحاسَدُوا ولا تناجَشُوا ، ولا تباغَضُوا ولا تَدابَروا ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً ) .
وخرَّجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة (4) .
وخرَّج الإمام أحمد (5) من حديث واثلةَ بنِ الأسقعِ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ( كُلُّ المسلم على المسلم حرامٌ : دمه ، وعرضه ، وماله ، المسلم أخو المسلمِ ، لا يظلمُه ولا يَخذُلُه ، والتَّقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسبُ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقِرَ أخاهُ المسلم ) .
وخرَّج أبو داود آخره فقط (6) .
__________
(1) في " جامعه " ( 1927 ) .
(2) في " سننه " ( 4882 ) .
(3) صحيح البخاري 8/23 ( 6066 ) ، وصحيح مسلم 8/9 ( 2563 ) ( 28 ) .
وأخرجه : مالك في " الموطأ " ( 2640 ) برواية الليثي ، وابن المبارك في " الجهاد " ( 37 ) ، وأحمد 2/465 و517 ، وابن حبان ( 5687 ) .
(4) أخرجه : البخاري 8/23 ( 6064 ) عن همام ، ومسلم 8/9 ( 2563 ) ( 29 ) عن العلاء ، عن أبيه .
(5) في " مسنده " 3/491 .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " 22/( 183 ) ، وابن عدي في " الكامل " 9/87
(6) كما في " تحفة الأشراف " 8/322 ( 11746 ) ، وذكر المزي في استدراكاته أنَّها في رواية أبي الحسن بن العبد .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " الصحيحين " (1) من حديث ابن عمرَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المسلم أخو المسلم ، لا يَظلِمُهُ ولا يُسلِمه ) . وخرَّجه الإمامُ أحمد (2) ، ولفظه : ( المسلم أخو المسلم ، لا يظلِمُه ولا يخذُله ولا يحقِرُه ، وبحسب المرئ مِنَ الشَّرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم ) .
وفي " الصحيحين " (3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تباغَضُوا ، ولا تحاسَدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عِبادَ الله إخواناً ) .
ويُروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعاً (4) وموقوفاً (5) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تحاسدوا ) يعني : لا يحسُدْ بعضُكم بعضاً ، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر ، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل .
__________
(1) أخرجه : البخاري 3/168 ( 2442 ) و9/28 ( 6951 ) ، ومسلم 7/18 ( 2580 ) ( 58 ) .
(2) في " مسنده " 2/91
وأخرجه : أبو داود ( 4893 ) ، والترمذي ( 1426 ) ، والنسائي في "الكبرى" ( 7291 )، وابن حبان ( 533 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 13137 ) .
(3) صحيح البخاري 8/23 ( 6065 ) و8/25 ( 6076 ) ، وصحيح مسلم 8/8 ( 2559 ) ( 23 ) و8/9 ( 2559 ) ( 24 ) .
وأخرجه : الحميدي ( 1183 ) ، وأحمد 3/110 و209 و225 و277 و283 ، والترمذي ( 1935 ) ، وأبو داود ( 4910 ) .
(4) أخرجه : الحميدي ( 7 ) .
(5) أخرجه : أحمد 1/3 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 724 ) ، وابن ماجه ( 3849 ) ، وأبو يعلى ( 121 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
ثم ينقسم الناس بعدَ هذا إلى أقسام ، فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل ، ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه ، ومنهم من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه ، وهو شرُّهما وأخبثهما ، وهذا هو الحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه ، وهو كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم - عليه السلام - لمَّا رآه قد فاق على الملائكة بأنْ خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكتَه ، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ ، وأسكنه في جواره ، فما زال يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها ، ويروى عن ابن عمرَ أنَّ إبليسَ قال لنوح : اثنتان بهما أُهلك بني آدم : الحسد ، وبالحسد لُعِنتُ وجُعلتُ شيطاناً رجيماً ، والحرص وبالحرص أُبيح آدمُ الجنةَ كلَّها ، فأصبتُ حاجتي منه بالحرص . خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا .
وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن ، كقوله تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ } (1) ، وقوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ } (2).
وخرَّج الإمام أحمد (3) والترمذي (4)
__________
(1) البقرة : 109 .
(2) النساء : 54 .
(3) في " مسنده " 1/167 .
(4) في " جامعه " ( 2510 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 193 ) ، وأبو يعلى ( 669 ) ، والبيهقي 10/232 وفي " شعب الإيمان "، له ( 8747 ) ، وهو حديث ضعيف وإسناده معلول ، وقد أشار الترمذي إلى علته .
● [ الصفحة التالية ] ●
من حديث الزُّبير بن العوَّام ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( دبَّ إليكم داءُ الأمم من قبلكم : الحسدُ والبغضاءُ ، والبغضاءُ هي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقةُ الشعر ، والذي نفس محمد بيده لا تُؤمنوا حتى تحابُّوا ، أولا أُنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحابَبْتُم ؟ أفشوا السَّلام بينكم ).
وخرَّج أبو داود (1) من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إيَّاكم والحسد ، فإنَّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحطب ، أو قال : العُشبَ ) .
وخرَّج الحاكم (2) وغيرُه من حديث أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( سيُصيبُ أُمَّتي داءُ الأمم ) ، قالوا : يا نبيَّ الله ، وما داءُ الأمم ؟ قال : ( الأشرُ والبَطَرُ ، والتَّكاثرُ والتَّنافسُ في الدُّنيا ، والتَّباغُض ، والتَّحاسدُ حتى يكونَ البغيُ ثمَّ الهرجُ ) .
وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره ، لم يعمل بمقتضى حسده ، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ . وقد رُوي عن الحسن أنَّه لا يأثمُ بذلك (3) ، وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة ، وهذا على نوعين :
أحدهما : أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه ، فيكون مغلوباً على ذَلِكَ ، فلا يأثمُ به .
__________
(1) في " سننه " ( 4903 ) .
وأخرجه : عبد بن حميد ( 1430 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6608 ) ، وهو حديث ضعيف قال فيه البخاري في " تاريخه " 1/72 : ( لا يصح ) .
(2) في " المستدرك " 4/168 .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 9016 ) من طريق أبي هانئ ، عن أبي سعيد الغفاري ، عن أبي هريرة ، وقال : ( لم يرو هذا الحديث عن أبي سعيد إلاّ أبو هانئ ) ، قلت : وهو في عداد المجهولين فالحديث ضعيف .
(3) انظر : تحفة الأحوذي 6/55 .
● [ الصفحة التالية ] ●
والثاني : من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختياراً ، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحاً إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه ، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية ، وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء ، وربما يُذكر في موضعٍ آخر إنْ شاء الله تعالى ، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود ، ولو بالقول ، فيأثم بذلك .
وقسم آخر إذا حسد لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود ، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ، ويتمنَّى أنْ يكونَ مثله ، فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً ، فلا خيرَ في ذلك ، كما قال الَّذينَ يُريدُونَ الحياةَ الدُّنيا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } (1) ، وإنْ كانت فضائلَ دينيَّةً ، فهو حسن ، وقد تمنَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشَّهادة في سبيل الله - عز وجل - . وفي " الصحيحين " (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا حسدَ إلاَّ في اثنتين : رجلٌ آتاه اللهُ مالاً ، فهو يُنفقه آناء الليل وآناء النَّهار ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ القرآن ، فهو يقومُ به آناء اللَّيل وآناءَ النَّهار ) ، وهذا هو الغبطة ، وسماه حسداً من باب الاستعارة .
وقسم آخر إذا وجدَ من نفسه الحسدَ سعى في إزالته ، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداءِ الإحسان إليه ، والدُّعاء له ، ونشر فضائله ، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه مِنَ الحسدِ حتّى يبدلَه بمحبَّة أنْ يكونَ أخوه المسلمُ خيراً منه وأفضلَ ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإيمان ، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (3) .
__________
(1) القصص : 79 .
(2) صحيح البخاري 9/189 ( 7529 ) ، وصحيح مسلم 2/201 ( 815 ) ( 266 ) .
(3) سبق تخريجه .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تناجَشوا ) : فسَّره كثيرٌ من العلماء بالنَّجْشِ (1) في البيع ، وهو : أن يزيدَ في السِّلعة من لا يُريدُ شِراءها (2) ، إمَّا لنفع البائع بزيادةِ الثَّمن له ، أو بإضرارِ المشتري بتكثير الثمن عليه ، وفي " الصحيحين " (3) عن ابنِ عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نهى عن النَّجش .
وقال ابن أبي أوفى : النَّاجش : آكلُ ربا خائنٌ ، ذكره البخاري (4) .
قال ابنُ عبد البرِّ : أجمعوا أنَّ فاعلَه عاصٍ لله - عز وجل - إذا كان بالنَّهي عالماً (5).
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقب ( 2142 ) : ( بفتح النون وسكون الجيم بعدها معجمة ) .
(2) انظر : لسان العرب ( نجش ) .
(3) صحيح البخاري 3/91 ( 2142 ) و9/31 ( 6963 ) ، وصحيح مسلم 5/5 ( 1516 ) ( 13 ) .
(4) في " صحيحه " 3/91 معلقاً .
(5) انظر : التمهيد 13/348 .
● [ الصفحة التالية ] ●
واختلفوا في البيع ، فمنهم من قال : إنَّه فاسدٌ ، وهو روايةٌ عن أحمد (1) ، اختارها طائفةٌ من أصحابه ، ومنهم من قال : إنْ كان الناجشُ هو البائعَ ، أو من واطأه البائع على النَّجش فسد ؛ لأنَّ النَّهيَ هُنا يعودُ إلى العاقدِ نفسِه ، وإنْ لم يكن كذلك ، لم يفسُد ، لأنَّه يعودُ إلى أجنبيٍّ . وكذا حُكِي عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه علَّل صحة البيع بأنَّ البائعَ غيرُ النَّاجش (2) ، وأكثرُ الفقهاء على أنَّ البيعَ صحيحٌ مطلقاً وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد في رواية عنه ، إلاَّ أنَّ مالكاً وأحمد أثبتا للمشتري الخيارَ إذا لم يعلم بالحال (3) ، وغُبِنَ غَبناً فاحشاً يخرج عن العادة ، وقدَّره مالكٌ وبعضُ أصحاب أحمد بثلث الثَّمنِ ، فإن اختارَ المشتري حينئذٍ الفسخَ ، فله ذلك ، وإن أراد الإمساكَ ، فإنَّه يحطُّ ما غُبِنَ به من الثَّمن ، ذكره أصحابنا .
__________
(1) انظر : المغني 4/148 .
(2) انظر : تحفة الأحوذي 4/442 ( ط . دار الكتب العلمية ) .
(3) انظر : التمهيد 18/193 ، وحاشية الدسوقي 18/193 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك ، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة : إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في البيع ناجشاً ، ويسمّى الصَّائدُ في اللغة ناجشاً (1) ، لأنَّه يُثير الصَّيد بحيلته عليه ، وخِداعِه له ، وحينئذٍ ، فيكونُ المعنى : لا تتخادَعوا ، ولا يُعامِلْ بعضُكُم بعضاً بالمكرِ والاحتيال . وإنَّما يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم : إمَّا بطريقِ الأصالة ، وإما اجتلاب نفعه بذلك ، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه ، ودخولُه عليه ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } (2) . وفي حديث ابن مسعودٍ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ غَشَّنا فليس منَّا ، والمكرُ والخِداعُ في النار ) (3) . وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديث أبي بكر الصدِّيق المرفوع : ( ملعونٌ من ضارَّ مسلماً أو مكرَ به ) خرَّجه الترمذيُّ (4) .
فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ ونحوه ، كتدليس العيوب ، وكِتمانها ، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء ، وغَبْنِ المسترسل الذي لا يَعرِفُ المماكسة ، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفَّار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم ، وما أحسنَ قول أبي العتاهية :
لَيس دُنيا إلاَّ بدينٍ ولَيْـ . ـسَ الدِّين إلاَّ مَكارمُ الأخْلاقِ
إنَّما المَكْرُ والخَديعَةُ في النَّارِ . هُمَا مِنْ خِصالِ أهْلِ النِّفاقِ
__________
(1) انظر : " لسان العرب " ( نجش ) .
(2) فاطر : 43 .
(3) أخرجه : ابن حبان ( 567 ) و( 5559 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10234 ) وفي " الصغير " ، له ( 725 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/189 ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 253 ) و( 254 ) و( 354 ) ، وكل طرق الحديث لا تخلو من مقال .
(4) في " جامعه " ( 1941 ) وقد سبق تخريجه .
● [ الصفحة التالية ] ●
وإنَّما يجوزُ المكرُ بمن يجوزُ إدخالُ الأذى عليه ، وهم الكفَّارُ المحاربون ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الحربُ خدعةٌ ) (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تَباغضوا ) : نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله ، بل على أهواءِ النُّفوسِ ، فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً ، والإخوةُ يتحابُّونَ بينهم ، ولا يتباغضون ، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفسي بيده ، لا تدخُلُوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا ، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلمتموه تحاببتم ؟ أفشوا السَّلام بينكم ) خرَّجه مسلم (2) . وقد ذكرنا فيما تقدَّم أحاديثَ في النَّهي عن التَّباغُض والتَّحاسد .
وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء ، كما قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } (3) .
__________
(1) أخرجه : الطيالسي ( 1698 ) ، والحميدي ( 1237 ) ، وأحمد 3/308 ، والبخاري 4/77 ( 3029 ) ، ومسلم 5/143 ( 1739 ) ( 17 ) و5/143 ( 1740 ) ( 18 ) ، وأبو داود ( 2636 ) ، والترمذي ( 1675 ) ، وابن الجارود في " المنتقى " ( 1051 ) ، وأبو يعلى ( 1826 ) و( 1968 ) و( 2121 ) .
(2) في " صحيحه " 1/53 ( 54 ) ( 93 ) و( 94 ) .
وأخرجه : ابن أبي شيبة ( 25742 ) ، وأحمد 2/391 و442 و477 و495 و512 ، وأبو داود ( 5193 ) ، وابن ماجه ( 68 ) و( 3692 ) ، والترمذي ( 2688 ) ، وأبو عوانة 1/38 – 39 ، وابن حبان ( 236 ) ، والبيهقي 10/232 من حديث أبي هريرة ، به .
(3) المائدة : 91 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } (1)، وقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (2) .
ولهذا المعنى حرم المشي بالنَّميمة ، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ، ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين النَّاس ، ورغَّب الله في الإصلاح بينهم ، كما قال تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (3) ، وقال : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (4) ، وقال : { فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } (5) .
وخرَّج الإمام أحمد (6) وأبو داود (7) والترمذيُّ (8) من حديث أبي الدرداء ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أخبركم بأفضلَ مِنْ درجة الصلاة والصيام والصَّدقة ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( صلاحُ ذاتِ البينِ ؛ فإنَّ فسادَ ذات البين هي الحالِقةُ ) .
__________
(1) آل عمران : 103 .
(2) الأنفال : 62 – 63 .
(3) النساء : 114 .
(4) الحجرات : 9 .
(5) الأنفال : 1 .
(6) في " مسنده " 6/444 .
(7) في " سننه " ( 4919 ) .
(8) في " جامعه " ( 2509 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
وأخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 391 ) ، وابن حبان ( 5092 ) ، والبيهقي في " الآداب " ( 117 ) ، والبغوي ( 3538 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الإمام أحمد (1) وغيرُه من حديث أسماءَ بنتِ يزيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ألا أُنبِّئُكم بشرارِكم ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( المشَّاؤون بالنَّميمة ، المفرِّقُون بينَ الأحبَّةِ ، الباغون للبُرءاءِ العَنَت ) .
وأمَّا البغض في الله ، فهو من أوثق عرى الإيمان ، وليس داخلاً في النَّهي ، ولو ظهر لرجل من أخيه شرٌّ ، فأبغضه عليه ، وكان الرَّجُل معذوراً فيه في نفس الأمر ، أثيب المبغضُ له ، وإن عُذِرَ أخوه ، كما قال عمر : إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا ، وإذ ينْزل الوحيُ ، وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِ انطُلِقَ به ، وانقطعَ الوحيُ ، فإنَّما نَعْرفكم بما نَخْبُركم ، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيراً ظننَّا به خيراً ، وأحببناه عليه ، ومَنْ أظهر منكم شرّاً ، ظننا به شراً ، وأبغضناه عليه ، سرائرُكم بينكم وبينَ ربِّكم - عز وجل - ) (2).
وقال الربيع بن خُثَيْم : لو رأيت رجلاً يُظهر خيراً ، ويُسرُّ شرّاً ، أحببتَه عليه ، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ ، ولو رأيت رجلاً يُظهر شرّاً ، ويسرُّ خيراً أبغضته عليه ، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ .
__________
(1) في " مسنده " 6/459 ، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب .
(2) أخرجه : أحمد 1/41 ، وهناد بن السري ( 876 ) ، والحاكم 4/439 ، والبيهقي 9/42 ، وفي إسناده مقال .
● [ الصفحة التالية ] ●
ولمَّا كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين ، وكثرَ تفرُّقُهم ، كثُر بسببِ ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم ، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغض لله ، وقد يكونُ في نفس الأمر معذوراً ، وقد لا يكون معذوراً ، بل يكون متَّبِعاً لهواه ، مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه ، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحقَّ ، وهذا الظَّنُّ خطأٌ قطعاً ، وإنْ أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولِفَ فيه ، فهذا الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ ، وقد يكون الحامل على الميلِ مجرَّد الهوى ، أو الإلفُ ، أو العادة ، وكلُّ هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغضُ لله ، فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه ، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ ، وما أشكل منه ، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ البُغض المُحرَّمِ .
وهاهنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له ، وهو أنَّ كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد يقولُ قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه ، مأجوراً على اجتهاده فيه ، موضوعاً عنه خطؤه فيهِ ، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنْزلته في هذه الدَّرجة ؛ لأنَّه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله ، بحيث أنَّه لو قاله غيرُه من أئمَّة الدِّينِ ، لما قبِلَهُ ولا انتصر له ، ولا والى من وافقه ، ولا عادى من خالفه ، وهو مع هذا يظن أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ بمنْزلة متبوعه ، وليس كذلك ، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ ، وإنْ أخطأ في اجتهاده ، وأمَّا هذا التَّابعُ ، فقد شابَ انتصارَه لما يظنُّه الحقَّ إرادة علوِّ متبوعه ، وظهور كلمته ، وأنْ لا يُنسَبَ إلى الخطأ ، وهذه دسيسةٌ تَقْدَحُ في قصد الانتصار للحقِّ ، فافهم هذا ، فإنَّه فَهْمٌ عظيم ، والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
وقوله : ( ولا تدابروا ) قال أبو عبيد : التَّدابر : المصارمة والهجران ، مأخوذ من أن يُولِّي الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَه (1) ، ويُعرِض عنه بوجهه ، وهو التَّقاطع .
وخرَّج مسلم (2) من حديث أنسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تحاسدُوا ، ولا تَبَاغَضُوا ، ولا تَقَاطعُوا ، وكونوا عِبادَ الله إخواناً كما أمركُم الله ) . وخرَّجه (3) أيضاً بمعناه من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وفي " الصحيحين " (4) عن أبي أيوب ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يهجرَ أخاه فوق ثلاثٍ ، يلتقيان ، فيصدُّ هذا ، ويصدُّ هذا ، وخيرُهما الَّذي يَبدأ بالسَّلام ) .
وخرَّج أبو داود (5) من حديث أبي خراش السُّلميِّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ هَجر أخاه سنةً ، فهو كسفكِ دمه ) .
__________
(1) انظر : لسان العرب ( دبر ) .
(2) سبق تخريجه .
(3) سبق تخريجه .
(4) صحيح البخاري 8/26 ( 6077 ) و8/65 ( 6237 ) ، وصحيح مسلم 8/9 ( 2560 ) ( 25 ) .
(5) في " سننه " ( 4915 ) ، وقد أخرجه : ابن سعد في " الطبقات " 7/500 ، أحمد في " المسند " 4/220 ، والبخاري في " الأدب المفرد " ( 404 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 6631 ) ، وهو حديث صحيح .
● [ الصفحة التالية ] ●
وكلُّ هذا في التَّقاطع للأمورِ الدُّنيويَّة ، فأمَّا لأجلِ الدِّين ، فتجوزُ الزِّيادةُ على الثلاثِ (1) ، نصَّ عليه الإمام أحمدُ ، واستدلَّ بقصَّةِ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفوا ، وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بهجرانهم لمَّا خاف منهمُ النِّفاق ، وأباح هِجران أهلِ البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء ، وذكر الخطابي أنَّ هِجران الوالدِ لولده ، والزَّوج لزوجته ، وما كان في معنى ذلك تأديباً تجوزُ الزِّيادة فيه على الثَّلاث ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هجر نساءه شهراً (2) .
واختلفوا : هل ينقطع الهِجران بالسَّلام ؟ فقالت طائفةٌ : يَنقطِعُ بذلك ، ورُوي عن الحسن ومالكٍ في رواية ابن وهبٍ (3) ، وقاله طائفةٌ من أصحابنا ، وخرَّج أبو داود (4)
__________
(1) انظر : التمهيد 6/127 .
(2) انظر : معالم السنن 4/114 .
(3) انظر : تحفة الأحوذي 6/51 ( ط . دار الكتب العلمية ) .
(4) في " سننه " ( 4912 ) .
وأخرجه : البيهقي 10/63 ، وفي إسناده مقال .
● [ الصفحة التالية ] ●
من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ : ( لا يحلُّ لمؤمنٍ أنْ يهجُرَ مؤمناً فوق ثلاثٍ ، فإن مرَّت به ثلاثٌ ، فليلقَهُ ، فليسلِّم عليهِ ، فإن ردَّ عليهِ السَّلامَ ، فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يردَّ عليهِ ، فقد باءَ بالإثم ، وخرج المُسلِّمُ من الهجرة ) . ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخرُ من الرَّدِّ عليهِ ، فأمَّا معَ الرَّدِّ إذا كانَ بينهما قبل الهجرةِ مودَّةٌ ، ولم يعودا إليها ، ففيه نظر . وقد قالَ أحمد في رواية الأثرم ، وسئل عن السَّلام : يقطعُ الهِجران ؟ فقال : قد يُسلم عليه وقد صَدَّ عنه (1) ، ثم قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يلتقيان فيصدُّ هذا ، ويصدُّ هذا ) ، فإذا كان قد عوَّده أنْ يُكلِّمه أو يُصافحه . وكذلك رُوي عن مالكٍ أنَّه لا تنقطعُ الهجرة بدونِ العود إلى المودَّة (2) .
وفرَّق بعضُهم بين الأقارب والأجانب ، فقال في الأجانب : تزول الهجرةُ بينهم بمجرَّد السَّلام ، بخلافِ الأقارب ، وإنَّما قال هذا لوجوب صلة الرَّحِمِ .
__________
(1) انظر : التمهيد 6/127 – 128 .
(2) انظر : التمهيد 6/128 .
● [ الصفحة التالية ] ●
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض ) قد تكاثرَ النَّهي عَنْ ذلك ، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يبيع الرجلُ على بيع أخيه ، ولا يخطُبُ على خِطبةِ أخيه ) . وفي رواية لمسلم (2) : ( لا يَسُمِ المسلمُ على سومِ المسلم ، ولا يَخطُبُ على خِطبته ) . وخرَّجاه (3) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا يَبِعِ الرَّجُلُ على بيع أخيه ، ولا يخطُبْ على خِطبة أخيه ، إلاَّ أنْ يأذن له ) . ولفظه لمسلم .
وخرَّج مسلم (4) من حديث عقبة بن عامر ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المؤمنُ أخو المؤمنِ ، فلا يَحِلُّ للمؤمن أن يبتاعَ على بيع أخيه ، ولا يخطبَ على خِطبةِ أخيه ، حتَّى يَذَرَ ) .
وهذا يدلُّ على أنَّ هذا حقُّ للمسلم على المسلم ، فلا يُساويه الكافر في ذلك ، بل يجوزُ للمسلم أن يبتاعَ على بيع الكافر ، ويَخطُبَ على خِطبته ، وهو قولُ الأوزاعيِّ (5) وأحمدَ ، كما لا يثبتُ للكافر على المسلم حقُّ الشُّفعة عنده ، وكثيرٌ من الفُقهاء ذهبوا إلى أنَّ النَّهي عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر .
واختلفوا : هلِ النَّهيُ للتَّحريم ، أو للتَّنزيه ، فمِنْ أصحابنا من قال : هو للتَّنزيه دونَ التَّحريم ، والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماء : أنَّه للتَّحريمِ .
__________
(1) صحيح البخاري 3/90 – 91 ( 2140 ) ، وصحيح مسلم 4/138 ( 1413 ) ( 51 ) .
(2) 4/138 ( 1413 ) ( 51 ) .
(3) أخرجه : البخاري 3/90 ( 2139 ) ، ومسلم 4/138 ( 1412 ) ( 49 ) .
(4) في " صحيحه " 4/139 ( 1414 ) .
(5) انظر : التمهيد 13/319 .
● [ الصفحة التالية ] ●
واختلفوا : هل يصحُّ البيع على بيعِ أخيه ، أوِ النِّكاحُ على خِطبته ؟ فقال أبو حنيفة والشافعي (1) وأكثر أصحابنا : يَصِحُّ ، وقال مالك في النِّكاح : إنَّه إن لم يدخل بها ، فُرِّقَ بينهما ، وإنْ دخل بها لم يُفرَّقْ (2) . وقال أبو بكر مِنْ أصحابنا في البيع والنِّكاحِ : إنَّه باطلٌ بكلِّ حالٍ ، وحكاه عن أحمد .
ومعنى البيع على بيع أخيه : أنْ يكونَ قد باع منه شيئاً ، فيبذُل للمشتري سلعتَه ليشتريها ، ويفسخ بيعَ الأوَّلِ . وهل يختصُّ ذلك بما إذا كان البذلُ في مدَّة الخيار ، بحيث يتمكَّن المشتري مِنَ الفسخِ فيه ، أم هو عامٌّ في مدَّةِ الخيار وبعدَها ؟ فيه اختلاف بين العلماء ، قد حكاه الإمامُ أحمد في رواية حرب ، ومال إلى القول بأنَّه عامٌّ في الحالينِ ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا . ومنهم من خصَّه بما إذا كان ذلك في مدَّة الخيار ، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد في رواية ابن مشيش ، ومنصوصُ الشَّافعي (3) ، والأوَّلُ أظهرُ ، لأنَّ المشتري وإنْ لم يتمكَّنْ من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنَّه إذا رغب في ردِّ السِّلعة الأُولى على بائعها ، فإنَّه يتسبَّب في ردِّها عليه بأنواع من الطُّرق المقتضية لضَرره ، ولو بالإلحاح عليه في المسألة ، وما أدَّى إلى ضررِ المسلم ، كان محرَّماً ، والله أعلم .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وكونوا عباد الله إخواناً ) : هذا ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالتَّعليل لِما تقدَّم ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم إذا تركُوا التَّحاسُدَ ، والتَّناجُشَ ، والتَّباغُضَ(4) ، والتدابرَ ، وبيعَ بعضِهم على بيعِ بعضٍ ، كانوا إخواناً .
__________
(1) " التمهيد " 13/23 .
(2) انظر : التمهيد 13/23 .
(3) انظر : التمهيد 14/30 .
(4) سقطت من ( ص ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفيه أمرٌ باكتساب ما يصيرُ المسلمون به إخواناً على الإطلاق ، وذلك يدخلُ فيه أداءُ حقوقِ المسلم على المسلم مِنْ رَدِّ السلامِ ، وتشميت العاطس ، وعيادة المريض ، وتشييع الجنازة ، وإجابةِ الدَّعوة ، والابتداء بالسَّلام عندَ اللِّقاء ، والنُّصح بالغيب .
وفي " الترمذي " (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تَهادَوا ، فإنَّ الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدر ) . وخرَّجه غيرُه (2) ، ولفظه : ( تهادوا تحابُّوا ) .
وفي " مسند البزار " (3) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تهادوا ، فإنَّ الهدية تَسُلُّ السَّخيمة ) .
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز - يرفعُ الحديثَ - قال : ( تصافحوا ، فإنَّه يُذهِبُ الشَّحناء ، وتهادَوْا ) (4) .
وقال الحسن : المصافحةُ تزيد في الودِّ (5) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2130 ) .
وأخرجه : الطيالسي ( 2333 ) ، وأحمد 2/405 ، والقضاعي في " مسند الشهاب" ( 656 ) ، وهو حديث ضعيف لضعف أحد رجال إسناده ، وهو أبو معشر المدني .
(2) أخرجه : البخاري في " الأدب المفرد " ( 594 ) ، وأبو يعلى ( 6148 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 657 ) ، وهو حديث حسن .
(3) كما في " كشف الأستار " ( 1937 ) .
وأخرجه : الطبراني في " الأوسط " ( 1549 ) ، والقضاعي في " مسند الشهاب " ( 658 ) ، وهو ضعيف لضعف أحد رجال إسناده ، وهو عائذ بن شريح .
(4) أخرجه : ابن وهب في " الجامع للحديث " ( 246 ) .
(5) أخرجه : أبو محمد الأنصاري في " طبقات المحدثين بأصبهان " 3/507 ، والخطيب في " تأريخ بغداد " 6/358 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال مجاهد (1) : بلغني أنه إذا تراءى المتحابّان ، فضحك أحدُهما إلى الآخر ، وتصافحا ، تحاتت خطاياهما كما يتحاتُّ الورقُ من الشجر ، فقيل له : إنَّ هذا ليسيرٌ مِنَ العمل ، قال : تقولُ يسيرٌ والله يقولُ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( المسلمُ أخو المسلم ، لا يظلِمُه ، ولا يَخذُلُه ، ولا يَكذِبُه ، ولا يَحقِرُه ) . هذا مأخوذ من قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (3) ، فإذا كان المؤمنون إخوةً ، أُمروا فيما بينهم بما يُوجب تآلُفَ القلوب واجتماعَها ، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوب واختلافَها ، وهذا من ذلك .
وأيضاً ، فإنَّ الأخ مِنْ شأنه أنْ يوصِلَ إلى أخيه النَّفع ، ويكفَّ عنه الضَّرر ، ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كفُّه عَنِ الأَخِ المسلم الظُّلم ، وهذا لا يختصُّ بالمسلم ، بل هو محرَّمٌ في حقِّ كلِّ أحَدٍ ، وقد سبق الكلام على الظُّلم مستوفى عندَ ذكر حديث أبي ذرِّ الإلهي : ( يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظُّلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرَّماً ، فلا تظالموا ) (4).
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35449 ) ، والطبري في " تفسيره " ( 12624 ) ، وطبعة التركي 11/257 ، وابن أبي حاتم في " التفسير " ( 9132 ) .
(2) الأنفال : 63 .
(3) الحجرات : 10 .
(4) سبق تخريجه .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومِنْ ذلك : خِذلانُ المسلم لأخيه ، فإنَّ المؤمن مأمورٌ أنْ يَنصُرَ أخاه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ، قال : يا رسولَ الله ، أنصُرُهُ مَظلوماً ، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال : ( تمنعه عنِ الظُّلم ، فذلك نصرُك إيَّاه ) . خرَّجه البخاري (1) بمعناه من حديث أنس ، وخرَّجه مسلم (2) بمعناه من حديث جابر .
وخرَّج أبو داود (3) من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابرِ بن عبد الله ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِن امرئٍ مسلمٍ يخذُلُ امرأً مسلماً في موضع تُنتَهكُ فيه حرمتُه ، ويُنتقصُ فيه من عِرضه ، إلاّ خذله الله في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتَه ، وما مِن امرئٍ ينصرُ مسلماً في موضع يُنتقصُ فيه من عِرضِه ، ويُنتهكُ فيه من حرمته ، إلاّ نصره الله في موضع يحبُّ فيه نصرَتَه ) .
وخرّج الإمام أحمد (4) من حديث أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ أُذِلَّ عنده مؤمنٌ ، فلم ينصُرْه وهو يقدِرُ على أن ينصُرَه ، أذلَّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) .
وخرَّج البزار (5) من حديث عِمران بن حُصين ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ نَصرَ أخاه بالغيب وهو يستطيعُ نصرَه ، نَصَرَهُ الله في الدُّنيا والآخرة ) .
__________
(1) في " صحيحه " 3/168 ( 2444 ) .
(2) في " صحيحه " 8/19 ( 2584 ) ( 62 ) .
(3) في " سننه " ( 4884 ) .
وأخرجه : أحمد 4/30 ، والبخاري في " التاريخ الكبير " 1/374 ، ويعقوب بن سفيان في " المعرفة " 1/300 ، وفي إسناده مقال .
(4) في " مسنده " 3/487 ، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة .
(5) كما في " كشف الأستار " ( 3315 ) و( 3316 ) ، وهو معلول بالوقف والموقوف هو الصحيح كما ذكر البيهقي 8/168 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومن ذلك : كذِبُ المسلم لأخيه ، فلا يَحِلُّ له أن يُحدِّثه فيكذبه ، بل لا يُحدِّثه إلاَّ صدقاً ، وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن النَّوَّاس بن سمعان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كَبُرَت خِيانةً أن تُحدِّثَ أخاكَ حديثاً هو لك مصدِّقٌ وأنت به كاذب ) .
ومن ذلك : احتقارُ المسلم لأخيه المسلم ، وهو ناشئٌ عن الكِبْرِ ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس ) خرَّجه مسلم (2) من حديث ابن مسعود ، وخرَّجه الإمام أحمد (3) ، وفي رواية له : ( الكبرُ سَفَهُ الحقِّ ، وازدراءُ الناس ) ، وفي رواية : ( وغمص الناس ) (4) ، وفي رواية زيادة : ( فلا يَراهم شيئاً ) وغمص النَّاس : الطَّعنُ عليهم وازدراؤهم (5) ، وقال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ } (6) ، فالمتكبر ينظرُ إلى نفسه بعين الكمال ، وإلى غيره بعين النَّقصِ ، فيحتقرهم ويزدريهم ، ولا يراهم أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقهم ، ولا أن يقبلَ مِنْ أحد منهم الحقَّ إذا أورده عليه .
__________
(1) المسند 4/183 ، وهو ضعيف .
(2) في " صحيحه " 1/65 ( 91 ) ( 147 ) .
(3) في " مسنده " 1/399 .
(4) في " مسنده " 1/427 .
وأخرجه : أبو يعلى ( 5291 ) ، والحاكم 4/182 .
(5) انظر : لسان العرب ( غمص ) .
(6) الحجرات : 11 .