من طرف حكماء الأربعاء 16 يناير 2019 - 4:08
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث السادس والثلاثون ] ●
عَنْ أبي هُريرة - رضي الله عنه - ، عَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا ، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ ، يَسَّرَ الله عَليهِ في الدُّنيا والآخرَةِ ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً ، سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة ، واللهُ فِي عَوْنِ العَبْد ما كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أخيهِ ، ومَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلتَمِسُ فِيه عِلماً ، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَريقاً إلى الجَنَّةِ ، وما جَلَسَ قَومٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ الله ، يَتْلُونَ كِتابَ الله ، ويَتَدارَسُونَه بَينَهُم ، إلاَّ نَزَلَتْ عليهِمُ السَّكينَةُ ، وغَشِيتْهُمُ الرَّحمَةُ ، وحَفَّتْهُم المَلائكَةُ ، وذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ ، ومَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ، لم يُسرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ).
رواهُ مسلمٌ .
الشرح
هذا الحديث خرَّجه مسلم (1)
__________
(1) في " صحيحه " بهذا اللفظ 8/71 ( 2699 ) ( 38 ) .
وأخرجه : أحمد 2/252 و325 و406 ، وأبو داود ( 4946 ) ، وابن ماجه ( 225 ) ، والترمذي ( 1425 ) و( 2945 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7272 ) و( 7288 ) و( 7289 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، واعترض عليه غيرُ واحدٍ مِنَ الحفَّاظ في تخريجه ، منهم أبو الفضل الهروي والدارقطني(1) ، فإنَّ أسباط بن محمَّد رواه عن الأعمَش (2) ؛ قال : حُدِّثْتُ عن أبي صالح ، فتبيَّن أنَّ الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه به عنه ، ورجَّح التّرمذي (3) وغيره هذه الرواية ، وزاد بعضُ أصحاب الأعمش في متن الحديث : ( ومن أقال مسلماً أقال الله عثرتَه يومَ القيامة ) (4) .
وخرجا في " الصحيحين " (5) من حديث ابن عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( المسلمُ أخو المسلم ، لا يظلِمُه ، ولا يُسْلِمُه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرَّجَ عن مسلم ، فرَّج الله عنه كُربةً مِنْ كُرَب يومِ القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) .
__________
(1) لم يتكلم عليه في "التتبع" ، وإنما تكلم عليه في كتابه "العلل" 10/181 – 188 ( 1966 ) .
(2) أخرجه : أبو داود ( 4946 ) ، والترمذي ( 1425م ) ، ( 1930 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7290 ) .
(3) في " جامعه " عقب الحديث ( 1425 ) ، وقال : ( حديث أسباط أصح ) .
(4) أخرجه : أحمد 2/252 ، وأبو داود ( 3460 ) ، وابن ماجه ( 2199 ) ، وابن حبان ( 5030 ) عن أبي صالح عن الأعمش ، به .
(5) صحيح البخاري 3/168 ( 2442 ) و9/28 ( 6951 ) ، وصحيح مسلم 8/18 ( 2580 ) ( 58 ) .
وأخرجه : أحمد 2/91 ، وأبو داود ( 4893 ) ، والترمذي ( 1426 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7291 ) ، وابن حبان ( 533 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج الطبراني (1) من حديث كعب بن عُجرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً مِنْ كُرَبِهِ ، نفَّس اللهُ عنهُ كُربةً من كُرَب يوم القيامة ، ومن ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عورتَه ، ومن فرَّج عن مؤمن كُربةً ، فرَّج الله عنه كُربته ) .
وخرَّج الإمام أحمد (2) من حديث مسلمة بن مُخلَّدٍ(3) ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ستر مسلماً في الدنيا ، ستره الله في الدُّنيا والآخرة ، ومن نجَّى مَكروباً ، فكَّ اللهُ عنه كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدُّنيا ، نفَّس الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة ) هذا يرجعُ إلى أنَّ الجزاءَ من جنس العمل ، وقد تكاثرت النُّصوصُ بهذا المعنى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنَّما يرحم الله من عِباده الرُّحماء ) (4) ، وقوله : ( إنَّ الله يعذِّب الَّذين يُعذِّبونَ النَّاس في الدُّنيا ) (5) .
__________
(1) في " الكبير " 19/( 350 ) وفي " الأوسط " ، له ( 5649 ) ، وإسناده ضعيف . وانظر : مجمع الزوائد 8/193 .
(2) في " مسنده " 4/104 ، وفي إسناده مقال ؛ لكن قال الذهبي في " السير " 6/335 : ( هذا حديث جيد الإسناد ) ، ولعله قال ذلك لما له من الشواهد .
(3) مَسْلَمة بن مُخَلَّد ، بتشديد اللام ، الأنصاري الزرقي ، صحابيٌّ صغير سكن مصر ، ووليها مرةً ، مات سنة اثنتين وستين . التقريب ( 6666 ) .
(4) أخرجه : أحمد 5/204 و205 ، والبخاري 2/100 ( 1284 ) و7/151 ( 5655 ) و8/166 ( 6657 ) و9/141 ( 7377 ) و164 ( 7448 ) ، ومسلم 3/39 ( 923 ) ( 11 ) ، وأبو داود ( 3125 ) ، وابن ماجه ( 1588 ) من حديث أسامة بن زيد .
(5) أخرجه : مسلم 8/32 ( 2613 ) ( 119 ) ، وأبو داود ( 3045 ) من حديث هشام بن حكيم بن حزام .
● [ الصفحة التالية ] ●
والكُربة : هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكَرب ، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها ، مأخوذٌ مِنْ تنفيس الخناق ، كأنه يُرخى له الخناق حتَّى يأخذ نفساً ، والتفريجُ أعظمُ منْ ذلك ، وهو أنْ يُزيلَ عنه الكُربةَ ، فتنفرج عنه كربتُه ، ويزول همُّه وغمُّه ، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ ، وجزاءُ التَّفريجِ التَّفريجُ ، كما في حديث ابن عمر ، وقد جُمعُ بينهما في حديثِ كعبِ بن عُجرة .
وخرَّج الترمذي (1) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً : ( أيما مُؤْمِنٍ أطعمَ مؤمناً على جُوعٍ ، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ ، سقاه الله يومَ القيامة من الرَّحيق المختوم (2) ، وأيما مؤمنٍ كسا مؤمناً على عُري ، كساه الله من خضر الجنة ) . وخرَّجه الإمام أحمد (3) بالشكّ في رفعه ، وقيل : إنَّ الصحيح وقفه (4) .
وروى ابن أبي الدنيا (5) بإسناده عن ابن مسعود قال : ( يُحشر الناسُ يوم القيامة أعرى ما كانوا قطُّ ، وأجوعَ ما كانوا قطُّ ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ ، وأنصبَ ما كانوا قط ، فمن كسا للهِ - عز وجل - ، كساه الله ، ومن أطعم لله - عز وجل - ، أطعمه الله ، ومن سقى لله - عز وجل - ، سقاه الله ، ومن عفى لله - عز وجل - ، أعفاه الله ) .
__________
(1) في " جامعه " ( 2449 ) .
وأخرجه : أبو داود ( 1682 ) ، وأبو يعلى ( 1111 ) .
(2) الرحيق : من أسماء الخمر ، يريد خمر الجنة ، والمختوم : المصون الذي يبتذل لأجل ختامه . النهاية 2/208 .
(3) في " مسنده " 3/13 .
(4) قال الترمذي عقب الحديث ( 2449 ) : ( هذا حديث غريب وقد روي عن عطية ، عن أبي سعيد موقوفاً وهو أصح عندنا وأشبه ) .
وقال أبو حاتم كما في " العلل " لابنه ( 2007 ) : ( الصحيح موقوف الحفاظ لا يرفعونه ) .
(5) في " اصطناع المعروف " ( 83 ) ، ورواه أيضاً في " قضاء الحوائج " ( 30 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج البيهقي (1) من حديث أنس مرفوعاً : ( أنَّ رجلاً من أهل الجنَّةِ يُشرف يومَ القيامة على أهلِ النَّارِ ، فيُناديه رجلٌ من أهلِ النّار ، يا فلان ، هل تعرفني ؟ فيقول : لا والله ما أعرِفُك ، من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررتَ بي في دار الدُّنيا ، فاستسقيتني شَربةً من ماءٍ ، فسقيتُك ، قال : قد عرفتُ ، قال : فاشفع لي بها عند ربِّك ، قال : فيسأل الله - عز وجل - ، ويقول : شفِّعني فيه ، فيأمر به ، فيُخرجه من النار ) .
وقوله : ( كُربة من كُرَبِ يوم القيامة ) ، ولم يقل : ( من كُرب الدُّنيا والآخرة ) كما قيل في التَّيسير والسَّتر ، وقد قيل في مناسبة ذلك : إنَّ الكُرَبَ هي الشَّدائدُ العظيمة ، وليس كلّ أحد يحصُلُ له ذلك في الدُّنيا ، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر ، فإنَّ أحداً لا يكادُ يخلو في الدُّنيا من ذلك ، ولو بتعسُّر بعض الحاجات المهمَّة . وقيل : لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلا شيءٍ ، فادَّخر الله جزاءَ تنفيسِ الكُرَبِ عندَه ، لينفِّسَ به كُرَب الآخرة ، ويدلُّ على ذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( يجمع الله الأوَّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ ، فيسمَعُهُم الدَّاعي ، وينفُذُهُم البصر ، وتدنو الشَّمسُ منهم ، فيبلُغُ النَّاسُ من الغمِّ والكرب ما لا يُطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناسُ بعضُهم لبعض : ألا ترونَ ما قد بلغكُم ؟ ألا تنظرون من يشفعُ لكم إلى ربِّكم ؟ ) ، وذكر حديثَ الشفاعة ، خرّجاه (2) بمعناه من حديث أبي هريرة .
__________
(1) في "شعب الإيمان" ( 7687 ) ، وطبعة الرشد ( 7283 ) بنحو هذا اللفظ ، أما بهذا اللفظ ؛ فأخرجه : أبو يعلى في " مسنده " ( 3490 ) ، وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " ( 1401 ) ، وهو حديث ضعيف .
(2) البخاري في " صحيحه " 4/163 ( 3340 ) و172 ( 3361 ) و6/105 ( 4712 ) ، ومسلم في " صحيحه " 1/127 ( 194 ) ( 327 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّجا (1) من حديث عائشة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تُحشرون حُفاةً عُراةً غُرْلاً ) ، قالت : فقلتُ : يا رسول الله ، الرِّجال والنِّساءُ ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ ؟ قال : ( الأمرُ أشدُّ من أن يُهِمَّهم ذلك ) .
وخرَّجا (2) من حديث ابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (3) ، قال : ( يقومُ أحدُهم في الرَّشح إلى أنصاف أذنيه ).
وخرَّجا (4) من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( يَعْرَقُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حتّى يذهب عرَقُهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويُلجِمُهُم حتّى يبلغَ آذانهم ) ولفظه للبخاري ، ولفظ مسلم : ( إنَّ العرق ليذهبُ في الأرض سبعين باعاً ، وإنّه ليبلغ إلى أفواهِ النّاس ، أو إلى آذانهم ) .
وخرَّج مسلم (5) من حديث المقداد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( تدنُو الشَّمسُ مِنَ العباد حتَّى تكون قدرَ ميلٍ أو ميلين ، فتصهرُهم الشَّمسُ ، فيكونون في العَرَقِ كقدر أعمالهم ، فمنهم مَنْ يأخذُه إلى عَقِبَيه ، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ ، ومنهم من يُلجمه إلجاماً ) .
__________
(1) البخاري في " صحيحه " 8/136 ( 6527 ) ، ومسلم في " صحيحه " 8/156 ( 2859 ) ( 56 ) .
(2) البخاري في " صحيحه " 6/207 ( 4938 ) و8/138 ( 6531 ) ، ومسلم في " صحيحه " 8/157 ( 2862 ) ( 60 ) .
(3) المطففين : 6 .
(4) صحيح البخاري 8/138 ( 6532 ) ، وصحيح مسلم 8/158 ( 2863 ) ( 61 ) .
(5) في " صحيحه " 8/158 ( 2864 ) ( 62 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال ابن مسعود : الأرضُ كلُّها يومَ القيامةِ نارٌ ، والجنَّةُ من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، فيعرَقُ الرَّجلُ حتَّى يرشَح عرقُه في الأرض قدرَ قامةٍ ، ثمَّ يرتفعُ حتّى يبلغَ أنفه ، وما مسَّه الحسابُ ، قال : فمم ذاك يا أبا عبد الرحمان ؟ قال : ممَّا يرى النَّاس يُصنَعُ بهم (1) .
وقال أبو موسى : الشَّمسُ فوق رؤوسِ النَّاس يومَ القيامة ، فأعمالهم تُظِلُّهم أو تضحِيهم (2) .
وفي " المسند " (3) من حديث عُقبة بن عامرٍ مرفوعاً : ( كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتّى يُفصَلَ بينَ الناسَ ) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن يسَّر على مُعسِرٍ ، يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة ) . هذا أيضاً يدلُّ على أنَّ الإعسار قد يحصُل في الآخرة ، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنّه يومٌ عسير وأنّه على الكافرين غيرُ يسير ، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم ، وقال : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً } (4) .
والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين : إمّا بإنظاره إلى الميسرة ، وذلك واجبٌ ، كما قال تعالى : { وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } (5)، وتارةً بالوضع عنه إن كان غريماً ، وإلاّ فبإعطائه ما يزولُ به إعسارُه ، وكلاهما له فضل عظيم .
__________
(1) أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 15840 ) ، وطبعة التركي 13/733 .
(2) أخرجه : هناد في " الزهد " ( 331 ) موقوفاً .
وذكره الدارقطني في " العلل " 7/248 س ( 1325 ) مرفوعاً ، وقال : ( يرويه الأعمش ، عن أبي ظبيان واختلف عنه فرفعه عبيد بن يعيش ، عن أسباط ، عن الأعمش ، وقفَهُ أبو معاوية وأصحاب الأعمش ، عن الأعمش ، وهو الصواب ) .
(3) أحمد 4/147 – 148 ، وهو حديث صحيح .
(4) الفرقان : 26 .
(5) البقرة : 280 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هُريرة عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( كان تاجرٌ يُداينُ النَّاسَ ، فإذا رأى معسراً ، قال لصبيانه : تجاوزوا عنه ، لعلَّ الله أنْ يتجاوزَ عنّا ، فتجاوز الله عنه ) .
وفيهما عن (2) حُذيفة وأبي مسعود الأنصاري سمعا النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مات رجل فقيل له (3) ، فقال : كنتُ أبايعُ النَّاس ، فأتجاوزُ عَن المُوسِر ، وأُخَفِّفُ عنِ المُعسِرِ ) وفي رواية ، قال : كنتُ أُنظِرُ المعسِرَ ، وأتجوَّزُ في السِّكَّة ، أو قال : في النَّقد ، فغُفِرَ له ) . وخرَّجه مسلم (4) من حديث أبي مسعود عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وفي حديثه : ( فقال الله : نحنُ أحقُّ بذلك منه ، تجاوزوا عنه ).
وخرَّج أيضاً (5) من حديث أبي قتادةَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من سرَّه أن يُنجيَه الله مِنْ كُرَب يومِ القيامة ، فلينفس عن مُعسرٍ ، أو يضعْ عنه ) .
وخرَّج أيضاً (6) من حديث أبي اليَسَر ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أنظر معسراً ، أو وضع عنه ، أظلَّه الله في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه ) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/75 ( 2078 ) و4/214 ( 3480 ) ، وصحيح مسلم 5/33 ( 1562 ) ( 31 ) .
(2) صحيح البخاري 3/153 ( 2391 )، وصحيح مسلم 5/32 ( 1560 ) ( 27 ) و( 28 ).
(3) بعد هذه الكلمة في نسخة محمد عبد الرزاق ونسخة عصام الدين ونسخة البقاعي : ( بم غفر الله لك ؟ ) وفي صحيح مسلم : ( ما كنت تعمل ؟ قال : فإما ذكر وإما ذُكّرَ ).
(4) في " صحيحه " 5/33 ( 1561 ) ( 30 ) .
(5) في " صحيحه " 5/33 ( 1563 ) ( 32 ) و34 ( 1563 ) ( 32 ) .
(6) في " صحيحه " 8/231 ( 3006 ) ( 74 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " المسند " (1) عن ابنِ عمرَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من أراد أنْ تُستجاب دعوته ، وتُكشفَ كُربَتُه ، فليفرِّجْ عن مُعسِرٍ ) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن سَتَرَ مُسلماً ، ستره الله في الدُّنيا والآخرة ) . هذا مما تَكاثرتِ النُّصوص بمعناه. وخرَّج ابن ماجه (2) من حديث ابن عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( من ستر عورةَ أخيه المسلم ، ستر الله عورته يومَ القيامة ، ومن كشفَ عورة أخيه المسلم ، كشف الله عورته حتّى يفضحه بها في بيته ) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث عقبة بن عامر سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : ( من ستر مؤمناً في الدنيا على عورةٍ ، ستره الله - عز وجل - يوم القيامة ).
وقد رويَ عن بعض السَّلف أنَّه قال : أدركتُ قوماً لم يكن لهم عيوبٌ ، فذكروا عيوبَ الناس ، فذكر الناسُ لهم عيوباً ، وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوبٌ ، فكفُّوا عن عُيوب الناس ، فنُسِيَت عيوبهم (4) ، أو كما قال .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 2/23 ، وإسناده ضعيف لانقطاعه ولضعف أحد رواته .
(2) في " سننه " ( 2546 ) ، وفي إسناده ضعف لكن تقدمت له الشواهد .
(3) في " مسنده " 4/153 و159 ، وفي إسناده مقال .
(4) أخرجه : الجرجاني في " تأريخ جرجان " 1/251 ترجمة ( 406 ) عن أحمد بن الحسن بن هارون . انظر : الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي ( 4830 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه قال : ( يا معشرَ من آمن بلسانه ، ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه ، لا تغتابوا المسلمينَ ، ولا تتبعُوا عوراتهم ، فإنَّه منِ اتَّبَع عوراتهم ، تتبَّع الله عورته ، ومن تتبَّع الله عورته ، يفضحه في بيته ) خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود (1) ، وخرَّج الترمذي (2) معناه من حديث ابن عمر .
واعلم أنَّ النَّاس على ضربين :
__________
(1) أحمد 4/420 و424 ، وأبو داود ( 4880 ) ، وهو حديث قويٌّ .
(2) في " جامعه " ( 2032 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
أحدهما : من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ مِنَ المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوةٌ ، أو زلَّةٌ ، فإنَّه لا يجوزُ كشفها ، ولا هتكُها ، ولا التَّحدُّث بها ، لأنَّ ذلك غيبةٌ محرَّمة ، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوصُ ، وفي ذلك قد قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } (1) . والمراد : إشاعةُ الفَاحِشَةِ على المؤمن المستتر فيما وقع منه ، أو اتُّهِمَ به وهو بريء منه ، كما في قصَّة الإفك . قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرُ بالمعروف : اجتهد أن تستُرَ العُصَاةَ ، فإنَّ ظهورَ معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً ، وأقرَّ بحدٍّ ، ولم يفسِّرْهُ ، لم يُستفسر ، بل يُؤمَر بأنْ يرجع ويستُر نفسه ، كما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً والغامدية (2)، وكما لم يُستفسر الذي قال : ( أصبتُ حدّاً ، فأقمه عليَّ ) (3) . ومثلُ هذا لو أخذَ بجريمته ، ولم يبلغِ الإمامَ ، فإنَّه يُشفع له حتّى لا يبلغ الإمام . وفي مثله جاء الحديثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ) . خرَّجه أبو داود والنَّسائي مِن حديث عائشة (4) .
__________
(1) النور : 19 .
(2) أخرجه : مسلم 5/119 ( 1695 ) ( 22 ) و120 ( 1695 ) ( 23 ) .
(3) هو ماعز بن مالك ، وهذا الحديث أخرجه : مسلم في " صحيحه " 5/118 ( 6194 ) ( 20 ) من حديث أبي سعيد الخدري .
(4) أخرجه : أبو داود ( 4375 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 7294 ) – ( 7298 ) .
وأخرجه: أحمد 6/181 ، والبخاري في "الأدب المفرد" ( 465 ) ، وابن حبان ( 1520 ) ، وأبو نعيم في " الحلية " 9/43 ، والبيهقي 8/334 من حديث عائشة ، وهو حديث يتقوى بما له من طرق وشواهد .
● [ الصفحة التالية ] ●
والثاني : من كان مشتهراً بالمعاصي ، معلناً بها لا يُبالي بما ارتكبَ منها ، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجرُ المُعلِنُ ، وليس له غيبة ، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ (1) وغيره ، ومثلُ هذا لا بأس بالبحث عن أمره ، لِتُقامَ عليه الحدودُ . صرَّح بذلك بعضُ أصحابنا ، واستدلَّ بقولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( واغدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا ، فإنِ اعترفت ، فارجُمها ) (2) . ومثلُ هذا لا يُشفَعُ له إذا أُخِذَ ، ولو لم يبلغِ السُّلطان ، بل يُترك حتّى يُقامَ عليه الحدُّ لينكفَّ شرُّه ، ويرتدعَ به أمثالُه . قال
مالك : من لم يُعْرَفْ منه أذى للناس ، وإنَّما كانت منه زلَّةٌ ، فلا بأس أنْ يُشفع له ما لم يبلغ الإمام ، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ أو فسادٍ ، فلا أحبُّ أنْ يشفعَ له أحدٌ ، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحدُّ ، حكاه ابن المنذر وغيره (3) .
وكره الإمام أحمد رفعَ الفسَّاق إلى السلطان بكلِّ حالٍ ، وإنَّما كرهه ؛ لأنَّهم غالباً لا يُقيمون الحدودَ على وجهها ، ولهذا قال : إنْ علمتَ أنَّه يقيمُ عليه الحدَّ فارفعه ، ثم ذكر أنَّهم ضربوا رجلاً ، فمات : يعني لم يكن قتلُه جائزاً .
ولو تاب أحدٌ مِنَ الضَّرب الأوَّل ، كان الأفضلُ له أن يتوبَ فيما بينه وبين الله تعالى ، ويستر على نفسه .
__________
(1) ذكر رجل عند الحسن فنال منه فقيل له : يا أبا سعيد ما نراك إلا اغتبت الرجل ، فقال : أي لكع هل عبت من شيء فيكون غيبة . أيما رجل أعلن بالمعاصي ولم يكتمها كان ذكركم إياه حسنة لكم ، وأيما رجل عمل بالمعاصي فكتمها الناس كان ذكركم إياه غيبته .
أخرجه : الإسماعيلي في " معجم شيوخه " ( 263 ) ، والسمهمي في " تأريخ جرجان " 1/115 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 9668 ) عن يونس ، عن الحسن .
(2) أخرجه : البخاري 3/134 ( 2314 ) و( 2315 ) ، ومسلم 5/121 ( 1697 ) و( 1698 ) ( 25 ) .
(3) انظر : المغني لابن قدامة 10/288 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وأما الضربُ الثاني ، فقيل : إنَّه كذلك ، وقيل : بل الأولى له أنْ يأتيَ الإمامَ ، ويقرَّ على نفسه بما يُوجِبُ الحدَّ حتى يطهِّرَه .
قوله : ( والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه ) وفي حديث ابن عمر : ( ومن كان في حاجةِ أخيه ، كان الله في حاجته ) . وقد سبق في شرح الحديث الخامس والعشرين والسادس والعشرين فضلُ قضاءِ الحوائجِ والسَّعي فيها . وخرَّج الطبراني (1) من حديث عمر مرفوعاً : ( أفضلُ الأعمال إدخالُ السُّرور على المؤمن : كسوت عورته ، أو أشبعت جَوْعَتُه ، أو قضيت له حاجة ) .
وبعث الحسنُ البصريُّ قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم : مرُّوا بثابت البناني ، فخذوه معكم ، فأتوا ثابتاً ، فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه ، فقال : قولوا له : يا أعمش أما تعلم أنَّ مشيك في حاجةِ أخيك المسلم خير لك مِنْ حجة بعد حَجَّةٍ ؟ فرجعوا إلى ثابتٍ ، فترك اعتكافه ، وذهب معهم (2) .
وخرَّج الإمام أحمد (3) من حديث ابنةٍ لخبَّاب بن الأرت (4) ، قالت : خرج خبَّاب في سريَّةٍ ، فكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدُنا حتى يحلُب عنْزةً لنا في جَفْنَةٍ لنا ، فتمتلئ حتّى تفيضَ ، فلمَّا قدم خبَّابٌ حلبَها ، فعادَ حِلابها إلى ما كان .
وكان أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - يحلبُ للحيِّ أغنامهم ، فلمَّا استخلف ، قالت جاريةٌ منهم : الآن لا يحلُبُها ، فقال أبو بكر : بلى وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن شيءٍ كنتُ أفعلُه ، أو كما قال (5) .
__________
(1) في " الأوسط " ( 5081 ) ، وإسناده ضعيف ، انظر : مجمع الزوائد 3/133 .
(2) انظر : فيض القدير للمناوي ( 8961 ) .
(3) في " مسنده " 5/111 و6/372 ، وإسناده ضعيف .
(4) هي زينب بنت خباب بن الأرت التميمية . الإصابة ( 11223 ) .
(5) انظر : الطبقات لابن سعد 3/138 – 139 ، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1/107 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وإنَّما كانوا يقومون بالحِلاب ؛ لأنَّ العربَ كانت لا تَحلُبُ النِّساءُ منهم ، وكانوا يستقبحون ذلك ، فكان الرجالُ إذا غابوا ، احتاج النساءُ إلى من يحْلُبُ لهنَّ . وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال لقوم(1) : ( لا تسقوني حَلَبَ امرأةٍ ) (2) .
وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماءَ باللَّيل ، ورآه طلحةُ بالليل يدخلُ بيتَ امرأةٍ ، فدخلَ إليها طلحةُ نهاراً ، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ ، فسألها : ما يصنعُ هذا الرَّجلُ عندك ؟ قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يُصلِحُني ، ويخرج عنِّي الأذى ، فقال طلحة : ثكلتك أمُّكَ طلحةُ ، عثراتِ عمر تتبع ؟ (3)
وكان أبو وائل يطوفُ على نساء الحيِّ وعجائزهم كلَّ يوم ، فيشتري لهنَّ حوائجهنّ وما يُصلِحُهُنَّ .
وقال مجاهد : صحبتُ ابنَ عمر في السفر لأخدمه ، فكان يخدُمُني (4) .
وكان كثيرٌ من الصَّالِحين يشترطُ على أصحابه في السفر أنْ يخدُمَهم . وصحب رجلٌ قوماً في الجهاد ، فاشترط عليهم أنْ يخدُمَهم ، فكان إذا أرادَ أحدٌ منهم أنْ يغسل رأسه أو ثوبه ، قال : هذا من شرطي ، فيفعله ، فمات فجرَّدوهُ للغسل ، فرأَوا على يده مكتوباً : من أهل الجنَّة ، فنظروا ، فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحم .
__________
(1) سقطت من ( ص ) .
(2) أخرجه : ابن سعد في " طبقاته " 6/115 عن ابن أبي شيخ المحاربي مرفوعاً .
وأخرجه : البزار كما في " كشف الأستار " ( 2903 ) ، وهو حديث ضعيف لا يصح.
(3) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 1/47 – 48 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 3/285 – 286 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " الصحيحين " (1) عن أنس ، قال : كنَّا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السَّفر ، فمنَّا الصّائم، ومنا المفطرُ ، قال : فنَزلنا منْزلاً في يومٍ حارٍّ ، أكثرنا ظلاًّ صاحبُ الكساءِ ، ومنَّا من يتَّقي الشَّمسَ بيده، قال : فسقط الصُّوَّام ، وقام المفطرون ، وضربُوا الأبنية ، وسَقوا الرِّكابَ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ذهب المفطرونَ اليومَ بالأجرِ ) .
ويُروى عن رجلٍ من أسلم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بطعامٍ في بعض أسفاره ، فأكل منه وأكل أصحابُهُ ، وقبض الأسلميُّ يده ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مالك ؟ ) فقال : إنِّي صائمٌ ، قال : ( فما حملَك على ذلك ؟ ) قال : معي ابناي يرحلان لي ويخدُماني ، فقال : ( مازال لهُمُ الفضلُ عليك بعدُ ) (2) .
وفي " مراسيل أبي داود " (3) عن أبي قِلابة أنَّ ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِموا يُثنونَ على صاحبٍ لهم خيراً ، قالوا : ما رأينا مثلَ فلانٍ قطُّ ، ما كان في مسيرٍ إلاَّ كان في قراءةٍ ، ولا نزلنا منْزلاً إلاَّ كان في صلاةٍ ، قال : ( فمن كان يكفيه ضيعته (4) ؟ ) حتى ذكر : ( ومن كان يعلِف جمله أو دابَّته ؟ ) قالوا : نحن ، قال : ( فكلُّكم خيرٌ منه ) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/42 ( 2890 ) ، وصحيح مسلم 3/143 ( 1119 ) ( 100 ) و144 ( 1119 ) ( 101 ) .
(2) لم أقف عليه .
(3) المراسيل ( 306 ) ، وكذا رواه سعيد بن منصور في " سننه " ( 2919 ) ، وإسناده ضعيف لإرساله .
(4) أي : حاجته .
● [ الصفحة التالية ] ●
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيهِ علماً ، سهَّل الله لهُ به طريقاً إلى الجنَّة ) ، وقد روى هذا المعنى أيضاً أبو الدرداء عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وسلوكُ الطَّريقِ لالتماس العلم يدخُلُ فيه سلوكُ الطَّريق الحقيقيِّ ، وهو المشيُ بالأقدام إلى مجالسِ العلماء ، ويدخلُ فيه سلوكُ الطُّرُق المعنويَّة المؤدِّية إلى حُصولِ العلمِ ، مثل حفظه ، ودارسته ، ومذاكرته ، ومطالعته ، وكتابته ، والتفهُّم له ، ونحو ذلك مِنَ الطُّرق المعنوية التي يُتوصَّل بها إلى العلم .
وقوله : ( سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة ) ، قد يُراد بذلك أنَّ الله يسهِّلُ له العلمَ الذي طلبَه ، وسلك طريقه ، وييسِّرُه عليه ، فإنَّ العلمَ طريق موصلٌ إلى الجنَّة ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (2) . وقال بعض السَّلف (3) : هل من طالبِ علمٍ فيعانَ عليه ؟
وقد يُراد أيضاً : أنَّ الله يُيسِّرُ لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله الانتفاعَ به والعملَ بمقتضاه ، فيكون سبباً لهدايته ولدخولِ الجنَّة بذلك .
__________
(1) أخرجه : أحمد 5/196 ، وأبو داود ( 3641 ) و( 3642 ) ، وابن ماجه ( 223 ) ، والترمذي ( 2682 ) ، وابن حبان ( 88 ) ، وقال الترمذي : ( لا نعرف هذا الحديث إلاّ من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة ، وليس هو عندي بمتصل ) .
(2) القمر : 17 .
(3) هو مطر الوراق .
أخرجه : الطبري في " تفسيره " ( 25357 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/76 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد يُيَسِّرُ الله لطالبِ العلم علوماً أُخَرَ ينتفع بها ، وتكونُ موصلة إلى الجنَّة ، كما قيل : من عَمِلَ بما عَلِمَ ، أورثه الله علم ما لم يعلم (1) ، وكما قيل : ثوابُ الحسنة الحسنة بعدَها (2) ، وقد دلَّ على ذلك قولُه تعالى : { وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً } (3) ، وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (4) .
وقد يدخل في ذلك أيضاً تسهيلُ طريق الجنَّة الحِسيِّ يومَ القيامة - وهو الصِّراط - وما قبله وما بعدَه من الأهوال ، فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به ، فإنَّ العلم يدلُّ على الله مِنْ أقرب الطرق إليه ، فمن سلك طريقَه ، ولم يُعرِّجْ عنه ، وصل إلى الله تعالى وإلى الجنَّةِ مِنْ أقرب الطُّرق وأسهلها فسَهُلَت عليه الطُّرُق الموصلةُ إلى الجنَّة كلها في الدنيا والآخرة ، فلا طريقَ إلى معرفة الله ، وإلى الوصول إلى رضوانه ، والفوزِ بقربه ، ومجاورته في الآخرة إلاَّ بالعلم النَّافع الذي بعثَ الله به رُسُلَه ، وأنزل به كتبه ، فهو الدَّليل عليه ، وبه يُهتَدَى في ظُلماتِ الجهل والشُّبَهِ والشُّكوك ، ولهذا سمّى الله كتابه نوراً ؛ لأنّه يُهتَدَى به في الظُّلمات . قال الله تعالى : { قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (5).
__________
(1) انظر : فيض القدير للمناوي 4/510 – 511 ، وكشف الخفاء للعجلوني 2/347 .
(2) انظر : تفسير ابن كثير ( ط . دار ابن حزم ) : 412 و1669 و2002 .
(3) مريم : 76 .
(4) محمد : 17 .
(5) المائدة : 15 – 16 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومثل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَمَلَةَ العلم الذي جاء به بالنُّجوم التي يُهتدى بها في الظُّلمات ، ففي " المسند " (1) عن أنس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ مثلَ العُلَماءِ في الأرض كمثلِ النُّجوم في السَّماء ، يُهتدى بها في ظُلُمات البرِّ والبحرِ ، فإذا انطمست النُّجوم ، أوشك أن تَضِلَّ الهُداة ) .
وما دام العلمُ باقياً في الأرض ، فالنَّاس في هُدى ، وبقاءُ العلم بقاءُ حَمَلَتِهِ ، فإذا ذهب حملتُه ومَنْ يقومُ به ، وقع الناسُ في الضَّلال ، كما في " الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله لا يقبِضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُه مِنْ صُدورِ الناسِ ، ولكن يقبضُه بقبض العُلماء ، فإذا لم يَبقَ(3) عالِمٌ ، اتَّخذ الناسُ رؤساءَ جُهّالاً ، فسئِلوا ، فأفتَوا بِغيرِ عِلمٍ ، فضلُّوا وأضلُّوا ) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 3/157 .
وأخرجه : الرامهرمزي في " الأمثال " ( 51 ) ، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 2/70 ، وهو حديث ضعيف مسلسل بالضعفاء ، وانظر : مجمع الزوائد 1/121 .
(2) صحيح البخاري 1/36 ( 100 ) و9/123 ( 7307 ) ، وصحيح مسلم 8/60 ( 2673 ) ( 13 ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " عقيب ( 100 ) : ( هو بفتح الياء والقاف ، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف ، وعالماً منصوب أي : لم يبق الله عالماً . وفي رواية مسلم : حتى إذا لم يترك عالماً ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وذكر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً رفع العلم ، فقيل له : كيف يذهبُ العلم وقد
قرأنا القرآن ، وأقرأناه نساءنا وأبناءنا ؟ فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( هذه التَّوراة والإنجيلُ عندَ اليهود والنَّصارى ، فماذا تُغني عنهم ؟ ) فسئل عبادةُ بن الصَّامت عن هذا الحديث ، فقال : لو شئت لأخبرتُك بأوَّلِ علمٍ يرفع مِنَ الناس : الخشوع (1) ، وإنَّما قال عُبادة هذا ، لأنَّ العلم قسمان :
أحدهما : ما كان ثمرتُه في قلبِ الإنسان ، وهو العلمُ بالله تعالى ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله المقتضي لخشيتِهِ ، ومهابتِه ، وإجلالِه ، والخضوع له ، ولمحبَّتِه ، ورجائهِ ، ودعائه ، والتوكُّل عليه ، ونحو ذلك ، فهذا هو العلمُ النافع ، كما قال ابنُ مسعود : إنَّ أقواماً يقرءون القرآن لا يُجاوُزِ تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب ، فرسخ فيه ، نفع (2) .
وقال الحسنُ : العلم علمان : علمٌ على اللسان ، فذاك حُجَّة الله على ابن آدم ، وعلم في القلب ، فذاك العلم النافع (3) .
__________
(1) أخرجه : الدارمي ( 294 ) ، والترمذي ( 2653 ) ، والطحاوي في " شرح المشكل "
( 304 ) ، والحاكم 1/99 عن أبي الدرداء ، به .
وأخرجه : أحمد 6/26 – 27 ، والبخاري في " خلق أفعال العباد " ( 42 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 5909 ) عن عوف بن مالك .
وأخرجه : أحمد 4/160 و218 و219 ، وابن ماجه ( 4048 ) ، والحاكم 1/100 عن زياد بن لبيد الأنصاري .
وأخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 7183 ) عن شداد بن أوس .
وقال الترمذي : ( حسن غريب ) .
(2) أخرجه : أحمد 1/380 ، ومسلم 2/204 ( 822 ) ( 375 ) ، وابن خزيمة ( 538 ) ، والبيهقي 3/9 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34361 ) ، والحسين المروزي في زياداته على " الزهد " لابن المبارك ( 1161 ) ، وأبو الشيخ في " طبقات المحدثين بأصبهان " 4/101 ( 566 ) ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/190 – 191 .
● [ الصفحة التالية ] ●
والقسم الثاني : العلمُ الذي على اللِّسَانِ ، وهو حجَّةُ الله كما في الحديث : ( القرآن حجة لك أو عليك ) (1) ، فأوَّلُ ما يُرفعُ مِنَ العلم ، العلمُ النَّافع ، وهو العلم الباطنُ الذي يُخالِطُ القلوبَ ويُصلحها ، ويبقى علمُ اللِّسان حجَّةً ، فيتهاونُ الناسُ به ، ولا يعملون بمقتضاه ، لا حملتُه ولا غيرهم ، ثم يذهبُ هذا العلم بذهاب حَمَلتِه ، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف ، وليس ثَمَّ من يعلمُ معانيه ، ولا حدوده ، ولا أحكامه ، ثمَّ يسرى به في آخر الزمان ، فلا يبقى في المصاحف ولا في القُلوب منه شيءٌ بالكلِّيَّةِ ، وبعد ذلك تقومُ السَّاعة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقومُ السَّاعة إلاَّ على شرارِ الناس ) (2) ، وقال : ( لا تقومُ الساعةُ (3) وفي الأرض أحدٌ يقول : الله الله ) (4) .
__________
(1) سبق تخريجه في الحديث الثالث والعشرين .
(2) أخرجه : أحمد 1/394 و435 ، ومسلم 8/208 ( 2949 ) ( 131 ) ، وأبو يعلى ( 5248 ) ، وابن حبان ( 6850 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 10097 ) ، والبغوي ( 4286 ) من حديث عبد الله بن مسعود .
(3) عبارة : ( لا تقوم الساعة ) لم ترد في ( ص ) .
(4) أخرجه : أحمد 3/162 و259 ، وعبد بن حميد ( 1247 ) ، ومسلم 1/91 ( 148 ) ( 234 ) ، وابن حبان ( 6849 ) ، والحاكم 4/495 ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 524 ) من حديث أنس .
وأخرجه : الحاكم 4/494 عن ابن مسعود .
● [ الصفحة التالية ] ●
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله ، يتلونَ كتابَ الله ، ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهمُ السَّكينةُ ، وغشيتهُم الرَّحمة ، وحفَّتهم الملائكةُ ، وذكرهمُ اللهُ فيمن عنده ) (1) . هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته . وهذا إن حُمِل على تعلم القرآن وتعليمه ، فلا خلاف في استحبابه ، وفي " صحيح البخاري " (2) عن عثمان ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه ) . قال أبو عبد الرحمان السلمي : فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجَّاجَ بن يوسف .
وإن حمل على ما هو أعمُّ مِنْ ذلك ، دخل فيه الاجتماعُ في المساجد على دراسة القرآن مطلقاً ، وقد كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يأمرُ مَنْ يقرأ القرآن ليستمع قراءته ، كما أمر ابن مسعود أنْ يقرأ عليه ، وقال : ( إنِّي أُحِبُّ أن أسمعَهُ مِنْ غيري ) (3) وكان عمرُ يأمرُ من يقرأُ عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون ، فتارةً يأمرُ أبا موسى ، وتارةً يأمرُ عُقبةَ بن عامر .
وسئل ابن عباس : أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ذكرُ الله ، وما جلس قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتعاطَوْنَ فيه كتابَ الله فيما بينهم ويتدارسونه ، إلاَّ أظلَّتهم الملائكة بأجنحتها ، وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتَّى يُفيضوا في حديثٍ غيره (4) . ورُوي مرفوعاً والموقوف أصحُّ .
__________
(1) سبق تخريجه في بداية الحديث .
(2) 6/236 ( 5027 ) و( 5028 ) .
(3) أخرجه : البخاري 6/241 ( 5050 ) ، ومسلم 2/195 ( 800 ) ( 247 ) .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 30308 ) و( 34777 ) ، والدارمي ( 356 ) ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ( 671 ) و( 2030 ) موقوفاً .
● [ الصفحة التالية ] ●
وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال : كانوا إذا صلَّوُا الغداة ، قعدوا حِلَقاً حِلَقاً ، يقرؤون القرآنَ ، ويتعلَّمونَ الفرائضَ والسُّنَنَ ، ويذكرون الله - عز وجل - (1) .
وروى عطية عن أبي سعيد الخدري ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( ما مِنْ قومٍ صلَّوا صلاةَ الغداةِ ، ثم قعدُوا في مُصلاَّهم ، يتعاطَونَ كتابَ الله ، ويتدارسونه ، إلاَّ وكَّلَ الله بهم ملائكةً يستغفرُون لهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره ) (2) وهذا يدلُّ على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن ، ولكن عطية فيه
ضعف (3) .
وقد روى حربٌ الكرمانيُّ بإسناده عن الأوزاعيِّ أنَّه سُئِلَ عن الدِّراسة بعدَ صلاة الصُّبح ، فقال : أخبرني حسَّانُ بن عطيَّة أنَّ أوَّلَ من أحدَثها في مسجد دمشقَ هشامُ بن إسماعيل المخزوميُّ في خلافة عبد الملك بن مروان ، فأخذ النّاسُ بذلك .
وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز ، وإبراهيم بنِ سليمان : أنَّهما كانا يدرسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت والأوزاعي في المسجد لا يُغّيِّرُ عليهم .
__________
(1) أخرجه : أبو يعلى ( 4088 ) ، وهو ضعيف لضعف يزيد بن أبان الرقاشي .
(2) انظر : الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي ( 6117 ) .
(3) هو عطية العوني ، قال عنه أحمد بن حنبل والثوري وهشيم ويحيى بن معين والنسائي : ضعيف الحديث . انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/503 ( 11375 ) ، والضعفاء للعقيلي 3/359 ( 1392 ) ، والكامل لابن عدي 7/84 ( 1535 ) ، وميزان الاعتدال للذهبي 3/79 ( 5667 ) .