من طرف حكماء الأربعاء 16 يناير 2019 - 4:25
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الأربعون ] ●
عَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ : أَخَذَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَنكِبي ، فقال : ( كُنْ فِي الدُّنيا كأَنَّكَ غَريبٌ ، أو عَابِرُ سَبيلٍ ) وكانَ ابنُ عَمَر يَقولُ : إذا أَمسيتَ ، فَلا تَنتَطِر الصَّباح ، وإذا أَصْبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المساءَ ، وخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرضِكَ ، ومنْ حَياتِكَ لِمَوتِكَ.
رواهُ البُخاريُّ .
الشرح
هذا الحديث خرَّجه البخاري (1) عن عليِّ بن المديني ، حدَّثنا محمدُ ابنُ عبد الرحمان الطفاوي ، حدثنا الأعمش ، حدثني مجاهد ، عن ابن عمر ، فذكره ، وقد تكلم غيرُ واحد من الحفّاظ في لفظة : ( حدثنا مجاهد ) وقالوا : هي غيرُ ثابتة ، وأنكروها على ابن المديني وقالوا : لم يسمع الأعمش هذا الحديث من مجاهد ، إنما سمعه من ليث بن أبي سُليم عنه ، وقد ذكر ذلك العقيليُّ (2) وغيره ، وخرَّجه الترمذي (3) من حديث ليثٍ عن مجاهد ، وزاد فيه : ( وعُدَّ نفسك من أهل القبور ) وزاد في كلام ابن عمر : فإنَّك لا تدري يا عبد الله ما اسمُك غداً . وخرَّجه ابنُ ماجه (4) ولم يذكر قولَ ابن عمر . وخرَّج الإمام أحمد (5) والنَّسائي (6) من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لُبابة ، عن ابن عمر ، قال : أخذ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي ، فقال : ( اعبدِ الله كأنَّك تراه ، وكُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ ، أو عابرُ سبيل ) . وعبدة بن أبي لُبابة أدرك ابنَ عمر ، واختلف في سماعه منه (7)
__________
(1) في " صحيحه " 8/110 ( 6416 ) .
(2) في " الضعفاء " 3/239 .
(3) في " جامعه " ( 2333 ) .
(4) في " سننه " ( 4114 ) .
(5) في " مسنده " 2/132 و441 .
(6) كما في " تحفة الأشراف " 5/278 ( 7304 ) .
(7) قال الإمام أحمد : ( لقي ابن عمر بالشام ) ، وقال أبو حاتم : ( عبدة رأى ابن عمر رؤية ) . انظر : العلل لابن أبي حاتم 2/116 ( 1845 ) ، وتهذيب الكمال 5/26 ( 4206 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وهذا الحديث أصلٌ في قِصَر الأمل في الدنيا ، وأنَّ المؤمنَ لا ينبغي له أن يتَّخذ الدُّنيا وطناً ومسكناً ، فيطمئنّ فيها ، ولكن ينبغي أنْ يكونَ فيها كأنَّه على جناح سفر : يُهَيِّئُ جهازَه للرحيل .
وقد اتَّفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى حاكياً عن مؤمن آل فرعون أنّه قال : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } (1) .
وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( مالي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كمثل راكبٍ قالَ(2) في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها ) (3) .
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم : اعبُروها ولا تَعمُرُوها (4) ، ورُوي عنه أنَّه قال : من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً ، تلكُمُ الدُّنيا ، فلا تتَّخذوها قراراً (5) .
ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته ، فقال : يا أبا ذرٍّ ، أين متاعُكم ؟ قالَ : إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه ، قالَ : إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا ، قالَ : إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه (6) .
__________
(1) غافر : 39 .
(2) قال : من القيلولة ، وهي الاستراحة نصف النهار ، وإنْ لم يكن معها ، يقال : قال يقيل قيلولة فهو قائل .
(3) أخرجه : الطيالسي ( 277 ) ، وأحمد 1/391 و441 ، وابن ماجه ( 4109 ) ، والترمذي ( 2377 ) من حديث ابن مسعود ، وهو حديث صحيح .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/145 عن وهيب المكي قال : ( بلغني أنَّ عيسى - عليه السلام - ، … ) فذكره .
(5) أخرجه : أحمد في " الزهد " ( 325 ) عن مكحول ، قال : ( وقال عيسى ، … ) فذكره .
(6) أخرجه : البيهقي في " شعب الإيمان " ( 10651 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
ودخلوا على بعض الصالحين ، فقلبوا بصرهم في بيته ، فقالوا له : إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ ، فقال : أمرتحلٌ ؟ لا ، ولكن أُطْرَدُ طرداً .
وكان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً ، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً ، ولكُلٍّ منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل (1) .
قال بعضُ الحكماء : عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه ، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة ، ويُعرِض عن المقبلة (2) .
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته : إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم ، كتب الله عليها الفناء ، وكتب على أهلها منها الظَّعَن ، فكم من عامرٍ موثَّق عن قليلٍ يَخْرَبُ ، وكم من مقيمٍ مُغتَبطٍ عما قليل يَظعَنُ ، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرِّحلة بأحسن ما بحضرتكم مِن النقلة ، وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزَّاد التقوى (3) .
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ، ولا وطناً ، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حالُه فيها على أحد حالين : إما أنْ يكونَ كأنَّه غريب مقيمٌ في بلد غُربةٍ ، هَمُّه التزوُّد للرجوع إلى وطنه ، أو يكون كأنَّه مسافرٌ غير مقيم البتَّة ، بل هو ليله ونهارَه ، يسيرُ إلى بلدِ الإقامة ، فلهذا وصّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أنْ يكونَ في الدُّنيا على أحد هذين الحالين .
__________
(1) أخرجه : ابن المبارك في " الزهد " ( 255 ) ، وابن أبي شيبة ( 34495 ) .
(2) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 504 ) ، ولم ينسبه .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 5/292 .
● [ الصفحة التالية ] ●
فأحدهما : أنْ ينْزِل المؤمن نفسه كأنَّه غريبٌ في الدنيا يتخيَّلُ الإقامةَ ، لكن في بلد غُربةٍ ، فهوَ غيرُ متعلِّقِ القلب ببلد الغربة ، بل قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يَرجِعُ إليه ، وإنّما هو مقيمٌ في الدنيا ليقضي مَرَمَّةَ جهازه إلى الرجوع إلى وطنه ، قال الفضيلُ بن عياض : المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزين ، همُّه مَرَمَّةُ جهازه (1) .
ومن كان في الدنيا كذلك ، فلا همَّ له إلا في التزوُّد بما ينفعُه عندَ عودِه إلى وطنه ، فلا يُنافِسُ أهلَ البلدِ الذي هو غريبٌ بينهم في عزِّهم ، ولا يَجْزَعُ من الذلِّ عندهم ، قال الحسن : المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع من ذُلها ، ولا يُنافِسُ في عِزِّها ، له شأنٌ ، وللناس شأن (2) .
لما خُلِق آدم أُسكِنَ هو وزوجتُه الجنّة ، ثم أُهبطا منها ، ووعُدا الرجوع إليها ، وصالح ذرِّيَّتهما ، فالمؤمن أبداً يَحِنُّ إلى وطنه الأوَّل (3) ، وكما قيل:
كمْ مَنْزِلٍ للمَرءِ يَألفُهُ الفتى . وحنينُه أبداً لأوَّل مَنْزِل
ولبعض شيوخنا (4) :
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها . منازِلُكَ الأولى وفيها المُخَيَّم
ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فَهلْ تَرَى . نَعودُ إلى أوطاننا ونُسلِّمُ
وقَدْ زَعَموا أنَّ الغَريبَ إذا نَأى . وشَطَّتْ به أوطانُه فهو مُغرَمُ
وأيُّ اغْترابٍ فوق غُربتنا التي . لها أضحَت الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
__________
(1) أخرجه : ابن عساكر في " تأريخ دمشق " 51/306 .
(2) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35210 ) ، وابن أبي عاصم في " الزهد " : 262 ( ط . دار الريان للتراث ) .
(3) جاء بعد هذا في النسخ المطبوعة : ( وحب الوطن من الإيمان ) ، وقد حذفته لعدم ورودها في النسخة الخطية ؛ ولأنَّ هذا الكلام غير مستقيم .
(4) عزاه ابن كثير لابن القاسم . انظر : تفسير ابن كثير 1/82 .
● [ الصفحة التالية ] ●
كان عطاء السَّلِيمي يقول في دعائه : اللهمَّ ارحم في الدُّنيا غُربتي ، وارحم في القبر وحشتي ، وارحم موقفي غداً بين يديك (1) .
قالَ الحسنُ : بلغني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : ( إنَّما مثلي ومثلُكم ومَثلُ الدُّنيا ، كقوم سلكوا مفازةً غبراءَ ، حتّى إذا لم يَدْرُوا ما سلكوا منها أكثر ، أو ما بقي ، أنفدوا الزَّادَ ، وحَسَروا الظَّهر ، وبقُوا بين ظهراني المفازة لا زادَ ولا حَمُولة ، فأيقنوا بالهَلَكة ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج عليهم رجلٌ في حُلَّةٍ يقطُرُ رأسُه ، فقالوا : إن هذا قريبُ عهدٍ بريفٍ ، وما جاءكم هذا إلاّ من قريبٍ ، فلما انتهى إليهم ، قال : علام أنتم ؟ قالوا : على ما ترى ، قالَ : أرأيتُكم إنْ هديتُكم إلى ماءٍ رواء ، ورياضٍ خُضر ، ما تعملون ؟ قالوا : لا نعصيك شيئاً ، قال : عُهودَكم ومواثيقكم بالله ، قال : فأَعْطَوهُ عهودَهُم ومواثيقهُم بالله لا يَعصُونَه شيئاً ، قال : فأوردهم ماءً ، ورياضاً خُضراً ، فمكث فيهم ما شاء الله ، ثم قال : يا هؤلاء الرحيلَ ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى ماءٍ ليس كمائكم ، وإلى رياضٍ ليست كرياضِكُم ، فقال جُلُّ القوم - وهم أكثرهم - : والله ما وجدنا هذا حتّى ظننّا أنْ لن نَجِدَهُ ، وما نصنع بعيشٍ خيرٍ من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - : ألم تُعطوا هذا الرَّجُلَ عهودكم ومواثيقكم بالله لا تَعصونه شيئاً وقد صدقكم في أوّل حديثه ، فوالله ليصدقنَّكم في آخره ، قال : فراح فيمن اتبعه ، وتخلَّف بقيتهم ، فنذر بهم عدوٌّ ، فأصبحوا من بين أسيرٍ وقتيل ) خرَّجه ابنُ أبي الدنيا (2) ، وخرجه الإمام أحمد (3) من حديث عليّ بنِ زيد بن جُدْعان ، عن يوسف بن مِهران ، عن ابن عباس ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مختصراً.
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/224 .
(2) في " ذم الدنيا " ( 88 ) ، وهو ضعيف لإرساله .
(3) في " مسنده " 1/267 ، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف .
● [ الصفحة التالية ] ●
فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع أمته ، فإنّه أتاهم والعرب حينئذٍ أذلُّ الناس ، وأقلُّهم ، وأسوؤهم عيشاً في الدنيا وحالاً في الآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقِه ، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نَفِدَ ماؤهم ، وهَلَك ظهرهم برؤيته في حُلة مترجلاً يقطر رأسه ماءً ، ودلهم على الماء والرياضِ المُعشِبة ، فاستدلُّوا بهيئته وحاله على صدق مقاله ، فاتبعوه ، ووعدَ من اتَّبعه بفتح بلاد فارس والروم ، وأخذِ كنوزهما ، وحذَّرهم من الاغترار بذلك ، والوقوف معه ، وأمرهم بالتجزي من الدُّنيا بالبلاغ ، وبالجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقاً ، فلما فُتِحتْ عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ الناسِ بجمعها واكتنازها ، والمنافسة فيها ، ورَضُوا بالإقامة فيها ، والتمتُّع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها ، وقبلَ قليلٌ من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرةِ والاستعداد لها . فهذه الطائفةُ القليلة نجت ، ولحقت نبيَّها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا ، وقبلت وصيتهُ ، وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس ، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً على هذه الغِرة ، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير .
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي : الدنيا خمرُ الشيطان ، من سَكِرَ منها لم يُفِقْ إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين (1) .
__________
(1) ذكره : ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 4/67 .
● [ الصفحة التالية ] ●
الحال الثاني : أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا كأنَّه مسافرٌ غيرُ مقيم البتة ، وإنَّما هو سائرٌ في قطعِ منازل السَّفر حتّى ينتهي به السفرُ إلى آخره ، وهو الموت . ومن كانت هذه حالَه في الدنيا ، فهمَّتُه تحصيلُ الزاد للسفر ، وليس له هِمَّةٌ في الاستكثار من متاع الدنيا ، ولهذا أوصى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكونَ بلاغُهم من الدُّنيا كزادِ الرَّاكب .
قيل لمحمد بن واسع : كيف أصبحتَ ؟ قال : ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة (1) ؟
وقال الحسن : إنَّما أنت أيامٌ مجموعة ، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك (2) . وقال : ابنَ آدم إنَّما أنت بين مطيتين يُوضعانِكَ ، يُوضِعُك النهار إلى الليل ، والليل إلى النهار ، حتى يُسلِمَانِك إلى الآخرة ، فمن أعظم منك يا ابنَ آدم خطراً (3) ، وقال : الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم .
قال داود الطائي : إنَّما الليلُ والنهارُ مراحلُ يَنْزِلُها الناسُ مرحلةً مرحلةً حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فإنِ استطعت أن تُقدِّم في كلِّ مرحلة زاداً لِما بَينَ يديها ، فافعل ، فإنَّ انقطاع السَّفر عن قريب ما هو ، والأمر أعجلُ من ذلك ، فتزوَّد لسفرك ، واقض ما أنتَ قاضٍ من أمرك ، فكأنَّك بالأمر قد بَغَتك (4) .
وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له : يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم ، بل أنتَ دائبُ السَّيرِ ، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً ، الموت موجَّهٌ إليك ، والدنيا تُطوى من ورائك ، وما مضى من عمرك ، فليس بكارٍّ عليك حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن .
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ . ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر
ولابدَّ للإنسان من حملِ عُدَّةٍ . ولاسيما إنْ خافَ صولَة قاهِر
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/348 .
(2) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/148 .
(3) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 512 ) .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/345 .
● [ الصفحة التالية ] ●
قال بعضُ الحكماء : كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه ، وشهرُه يهدِمُ سنَتَه ، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه ، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله ، وتقودُه حياتُه إلى موته.
وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ : كم أتت عليك ؟ قال : ستون سنة ، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ ، فقال الرجل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فقال الفضيلُ : أتعرف تفسيرَه تقول : أنا لله عبد وإليه راجع ، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد ، وأنَّه إليه راجع ، فليعلم أنَّه موقوفٌ ، ومن علم أنَّه موقوف ، فليعلم أنَّه مسؤول ، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً ، فقال الرجل : فما الحيلةُ ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي ، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي (1) ، وفي هذا يقول بعضُهم :
وإنَّ امرءاً قد سارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ . إلى مَنهَلٍ من وِرده لقَريبُ
قال بعضُ الحكماء : من كانت الليالي والأيام مطاياه ، سارت به وإنْ لم يسر (2) ، وفي هذا قال بعضهم :
وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ . يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعجَبُ شَيءٍ - لو تأمَّلت - أنَّها . مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ (3)
وقال آخر :
أيا ويحَ نفسي من نهارٍ يقودُها . إلى عسكر الموتى ولَيلٍ يذودُها
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/113 .
(2) بنحوه أخرجه : أبو بكر الدينوري في " المجالسة " ( 1029 ) عن الحسن .
(3) ذكر ابن القيم هذين البيتين في " مدارج السالكين " 3/201 إلا أنَّه لم ينسبهما .
● [ الصفحة التالية ] ●
قال الحسن : لم يزل الليلُ والنهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريبِ الآجال ، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً ، فأصبحوا قَدِموا على ربِّهم ، ووردوا على أعمالهم ، وأصبح اللَّيلُ والنَّهارُ غضَّيْنِ جديدين ، لم يُبلِهُما ما مرَّا به ، مستعدِّين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى .
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له : أما بعد ، فقد أُحيطَ بك من كلّ جانب ، واعلم أنَّه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ ، فاحذرِ الله ، والمقام بين يديه ، وأنْ يكونَ آخر عهدك به ، والسَّلام (1) .
نَسيرُ إلى الآجالِ في كلِّ لحظةٍ . وأيّامُنا تُطوى وهُنَّ مَراحِلُ
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقاً كأنَّه . إذا ما تخطَّتْهٌ الأمانيُّ باطِلُ
وما أقبحَ التَّفريطَ في زمنِ الصِّبا . فكيف به والشَّيبُ للرَّأس شامِلُ
ترحَّل من الدُّنيا بزادٍ من التُّقى . فعُمْرُكَ أيامٌ وهُنَّ قَلائِلُ
وأما وصيةُ ابن عمر رضي الله عنهما ، فهي مأخوذةٌ مِنْ هذا الحديث الذي رواه ، وهي متضمنة لنهاية قِصَرِ الأمل ، وأنَّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصّباحَ ، وإذا أصبح ، لم ينتظر المساء ، بل يظنُّ أنَّ أجلَهُ يُدركُه قبل ذلك ، وبهذا فسّر غيرُ واحدٍ مِنَ العُلماء الزُّهدَ في الدنيا ، قال المروذي : قلتُ لأبي عبد الله - يعني : أحمد - أيُّ شيءٍ الزُّهد في الدنيا ؟ قال : قِصَرُ الأمل (2) ، من إذا أصبحَ ، قال : لا أُمسي ، قال : وهكذا قال سفيان (3) . قيل لأبي عبد الله : بأيِّ شيء نستعين على قِصَرِ الأمل ؟ قال : ما ندري إنَّما هو توفيق .
__________
(1) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/140 .
(2) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 73 ) .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 35683 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/386
● [ الصفحة التالية ] ●
قال الحسن : اجتمع ثلاثةٌ من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أَمَلُكَ ؟ قال : ما أتى عليَّ شهرٌ إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيه ، قال : فقال صاحباه : إنَّ هذا لأمل ، فقالا لأحدهم : فما أَمَلُكَ ؟ قال : ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننتُ أنِّي سأموتُ فيها ، قال : فقال صاحباه : إنَّ هذا لأمل ، فقالا للآخر : فما أملُك ؟ قال : ما أَمَلُ من نفسُه في يد غيره (1) ؟
قال داود الطائي : سألتُ عطوان بنَ عمر التميمي ، قلتُ : ما قِصَرُ الأمل ؟ قال : ما بين تردُّدِ النَّفَسِ ، فحدِّث بذلك الفضيل بن عياض ، فبكى ، وقال : يقول : يتنفس فيخاف أنْ يموتَ قبل أنْ ينقطعِ نفسُه ، لقد كان عطوان مِنَ الموت على حذرٍ (2) .
وقال بعضُ السَّلف : ما نمتُ نوماً قط ، فحدثتُ نفسي أنِّي أستيقظ منه .
وكان حبيبٌ أبو محمد يُوصي كُلَّ يومٍ بما يوصي به المحتضِرُ عند موته من تغسيله ونحوه ، وكان يبكي كلَّما أصبح أو أمسى ، فسُئِلَت امرأته عن بكائه ، فقالت : يخاف - والله - إذا أمسى أنْ لا يُصبح ، وإذا أصبح أنْ لا يُمسي (3) .
وكان محمد بن واسع إذا أراد أنْ ينام قال لأهله : أستودعكم الله ، فلعلَّها أنْ تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم .
وقال بكر المزني : إنِ استطاع أحدُكم أن لا يبيت إلا وعهدُه عند رأسه مكتوبٌ ، فليفعل ، فإنَّه لا يدري لعله أنْ يبيتَ في أهلِ الدُّنيا ، ويُصبح في أهلِ الآخرة .
وكان أويسٌ إذا قيل له : كيف الزمانُ عليك ؟ قال : كيف الزمانُ على رجل إنْ أمسى ظنَّ أنَّه لا يُصبحُ ، وإنْ أصبح ظنَّ أنَّه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار ؟ (4)
__________
(1) أخرجه : عبد الله بن المبارك في " الزهد " ( 253 ) .
(2) ذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 3/62 .
(3) أخرجه : ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 13/43 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/83 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال عونُ بنُ عبد الله : ما أنزل الموتَ كُنْهَ منْزلته مَنْ عدَّ غداً من أجله . كم من مستقبل يوماً لا يستكمِلُه ، وكم من مؤمِّل لغدٍ لا يُدرِكُه ، إنَّكم لو رأيتم الأجلَ ومسيرَه ، لأبْغَضتُم الأمل وغُرورَه (1) ، وكان يقولُ : إنَّ من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنَّه لا يدرك آخره .
وكانت امرأةٌ متعبدة بمكة إذا أمست قالت : يا نفسُ ، الليلةُ ليلتُك ، لا ليلةَ لكِ غيرها ، فاجتهدت ، فإذا أصبحت ، قالت : يا نفس اليومُ يومك ، لا يومَ لك غيره فاجتهدت (2).
وقال بكرٌ المزنيُّ : إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل : لعلِّي لا أُصلِّي غيرها ، وهذا مأخوذٌ مما رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال : ( صلِّ صلاة مودِّع ) (3).
وأقام معروفٌ الكرخيّ الصّلاةَ ، ثم قال لرجل : تقدَّم فصلِّ بنا ، فقال الرجل : إنِّي إنْ صليتُ بكم هذه الصلاة ، لم أُصلِّ بكم غيرَها ، فقال معروف : وأنتَ تحدِّث نفسك أنّك تُصلِّي صلاةً أخرى ؟ نعوذُ بالله من طولِ الأمل ، فإنَّه يمنع خيرَ العمل (4) .
وطرق بعضُهم بابَ أخٍ له ، فسأل عنه ، فقيل له : ليس هو في البيت ، فقال : متى يرجع ؟ فقالت له جارية من البيت : من كانت نفسُه في يد غيره ، من يعلم متى يرجِعُ ، ولأبي العتاهية من جملة أبيات :
وما أدري وإن أَمَّلْتُ عُمراً . لَعَلِّي حِينَ أُصبحُ لَستُ أُمسِي
ألم تَرَ أنَّ كلَّ صباحِ يومٍ . وعُمرُكَ فيه أَقصَرُ مِنهُ أَمسِ
__________
(1) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 34963 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/243
(2) أخرجه : وكيع في " الزهد " ( 9 ) .
(3) أخرجه : أحمد 5/412 ، وابن ماجه ( 4171 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 3987 ) و( 3988 ) عن أبي أيوب الأنصاري ، به ، وسنده ضعيف .
وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس بن مالك قواه بعضهم بها ، والله أعلم .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/361 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء (1) والحسن (2) أنَّهما قالا : ابنَ آدم ، إنَّك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك ، ومما أنشد بعضُ السَّلف :
إنَّا لنفرحُ بالأيَّامِ نقطعُها . وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجل
فاعمَلْ لِنَفسِكَ قبلَ الموتِ مُجتهداً . فإنَّما الرِّبْحُ والخُسرانُ في العَمَلِ
قوله : ( وخُذْ من صحتك لسقمك ، ومن حياتك لموتك ) ، يعني : اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحولَ بينك وبينها السقمُ ، وفي الحياة قبل أنْ يحول بينك وبينها الموتُ ، وفي رواية : ( فإنَّك يا عبدَ الله لا تدري ما اسمُك غداً ) يعني : لعلّك غداً مِنَ الأموات دونَ الأحياء .
وقد رُوي معنى هذه الوصيةِ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ، ففي "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس : الصِّحَّةُ والفراغ ) (3) .
وفي " صحيح الحاكم " (4) عن ابن عباس : أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يَعِظُه : ( اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ : شبابّك قبل هَرَمِك ، وصحَّتَك قبل سَقَمك ، وغِناك قبل فقرِك ، وفراغَكَ قبل شغلك ، وحياتَك قبل موتك ) .
وقال غنيم بن قيس : كنا نتواعظُ في أوَّل الإسلام : ابنَ آدم ، اعمل في فراغك قبل شُغلك ، وفي شبابك لكبرك ، وفي صحتك لمرضك ، وفي دنياك لآخرتك . وفي حياتك لموتك (5) .
__________
(1) أخرجه : البيهقي في " الزهد الكبير " ( 511 ) ، وذكره ابن الجوزي في " صفة الصفوة " 1/282 .
(2) أخرجه : عبد الله بن المبارك ( 852 ) ، وأبو نعيم في " حلية الأولياء " 2/155 .
(3) سبق تخريجه .
(4) 4/306 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 6/200 .
تنبيه : وقع في مطبوع " حلية الأولياء " : ( غنم ) خطأ .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( بادِروا بالأعمال ستاً : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ، أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصَّةَ أحدكم ، أو أمر العامة ) .
وفي " الترمذي " (2) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( قال بادِروا بالأعمال سبعاً : هل تنظُرون إلا إلى فقرٍ مُنْسٍ ، أو غِنًى مُطغٍ ، أو مرض مُفْسدٍ ، أو هَرَمٍ مُفنِّدٍ ، أو موتٍ مُجهِزٍ ، أو الدجَّال ، فشرُّ غائبٍ ينتظر ، أو الساعة فالسَّاعة أدهى وأمرُّ ؟ )
والمرادُ من هذا أنَّ هذه الأشياء كلَّها تعوقُ عن الأعمال ، فبعضُها يشغل عنه ، إمَّا في خاصّة الإنسان ، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته ، وبعضُها عامٌّ ، كقيام الساعة ، وخروج الدجال ، وكذلك الفتنُ المزعجةُ ، كما جاء في حديث آخر : ( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ) (3) .
وبعضُ هذه الأمور العامّة لا ينفع بعدها عملٌ ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } (4) .
وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هُريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تقومُ السَّاعةُ حتّى تطلع الشمسُ من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس ، آمنوا أجمعون ، فذلك حينَ لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) .
__________
(1) 8/207 ( 2947 ) ( 128 ) .
(2) في " جامعه " ( 2306 ) ، وقال : ( هذا حديث حسن غريب ) .
(3) أخرجه : أحمد 2/303 و523 ، ومسلم 1/76 ( 118 ) ، والترمذي ( 2195 ) .
(4) الأنعام : 158 .
(5) أخرجه : البخاري 6/73 ( 4636 ) ، ومسلم 1/95 ( 157 ) ( 248 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفي " صحيح مسلم " (1) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثٌ إذا خرجنَ ، لم ينفع نفساً إيمانُها لم تَكُن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوعُ الشمس من مغربها ، والدجالُ ، ودابةُ الأرض ) .
وفيه أيضاً (2) عنه ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : ( مَنْ تابَ قبل أنْ تَطلُعَ الشمسُ من مغربها تابَ الله عليه ) .
وعن أبي موسى ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله يبسُطُ يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النَّهار ، ويبسُطُ يده بالنَّهار ليتوب مُسيءُ الليل حتى تَطلُعُ الشمس من
مغربها ) (3) .
وخرّج الإمام أحمد (4) ، والنَّسائي (5) ، والترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من حديث صفوان بن عسال ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله فتح باباً قِبَلَ المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يُغلَقُ حتى تطلع الشمس منه ) .
وفي " المسند " (8) عن عبد الرحمان بن عوف وعبد الله بن عمرو ، ومعاوية ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( لا تزالُ التوبةُ مقبولةً حتّى تطلُعَ الشمسُ من المغرب ، فإذا طَلَعَت طُبِعَ على كلِّ قلبٍ بما فيه ، وكُفِي الناسُ العمل ) .
__________
(1) 1/195 ( 158 ) .
(2) 8/73 ( 2703 ) ( 43 ) .
(3) أخرجه : أحمد 4/395 و404 ، ومسلم 8/99 ( 2759 ) ( 31 ) ، والنسائي في " الكبرى " ( 11180 ) .
(4) في " مسنده " 4/240 و241 .
(5) في " الكبرى " ( 11178 ) .
(6) في " جامعه " ( 3535 ) و( 3536 ) ، وقال : ( حسن صحيح ) .
(7) في " سننه " ( 4070 ) .
(8) مسند الإمام أحمد 1/192 ، وإسناده لا بأس به .
● [ الصفحة التالية ] ●
وروي عن عائشة قالت : إذا خرج أوَّلُ الآيات ، طُرِحَتِ الأقلامُ وحُبِسَت الحفظةُ ، وشهدت الأجساد على الأعمال . خرّجه ابن جرير الطبري (1) ، وكذا قال كثيرٌ ابن مرّة ، ويزيدُ بن شريح ، وغيرهما من السَّلف : إذا طلعت الشمس من مغربها طُبِع على القلوب بما فيها ، وتُرفع الحفظة والعمل ، وتؤمرُ الملائكة أنْ لا يكتبوا عملاً (2) ، وقال سفيان الثوري : إذا طلعت الشمسُ من مغربها ، طوت الملائكةُ صحائِفَها ووضعت أقلامَها (3) .
فالواجبُ على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أنْ لا يقدِرَ عليها ويُحال بينه وبينها ، إمَّا بمرضٍ أو موت ، أو بأنْ يُدركه بعضُ هذه الآيات التي لا يُقبل معها عمل . قال أبو حازم : إنَّ بضاعةَ الآخرة كاسدة ويوشِكُ أنْ تَنفَقَ ، فلا يُوصل منها إلى قليلٍ ولا كثيرٍ . ومتى حِيلَ بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرةُ والأسفُ عليه ، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل ، فلا تنفعُهُ الأمنية (4) .
قال تعالى : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (5) .
__________
(1) في " تفسيره " ( 11076 ) .
(2) أخرجه : نعيم بن حماد في " الفتن " ( 1370 ) و( 1838 ) .
(3) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/15 .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/242 .
(5) الزمر : 54 – 58 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (1) .
وقال - عز وجل - : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (2) .
وفي " الترمذي " (3) عن أبي هريرة مرفوعاً : ( ما مِنْ ميِّتٍ يموتُ إلا نَدِمَ ) ، قالوا : وما ندامتُه ؟ قال : ( إنْ كان محسناً ، ندِم أنْ لا يكون ازدادَ ، وإنْ كان مسيئاً ، ندم أنْ لا يكون استعتب ) .
فإذا كان الأمرُ على هذا فيتعيَّنُ على المؤمن اغتنامُ ما بقي من عمره ، ولهذا قيل : إنَّ بقية عمر المؤمن لا قيمة له . وقال سعيدُ بن جُبير : كلّ يوم يعيشه المؤمن غنيمة (4) ، وقال بكر المزني : ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول : يا ابنَ آدم ، اغتنمني لعلَّه لا يومَ لك بعدي ، ولا ليلة إلا تنادي : ابنَ آدم ، اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي (5) ، ولبعضهم :
اغتَنِمْ في الفراغ فَضْلَ رُكوعٍ . فعسى أنْ يكونَ موتُك بَغتة
كم صَحيحٍ رأيتَ من غيرِ سُقم . ذهَبتْ نفسُهُ الصحيحة فلتَة
وقال محمود الورّاق (6) :
مَضَى أَمسُكَ الماضي شَهيداً مُعدّلاً . وأَعْقَبَهُ يَومٌ عَليكَ جَديدُ
فإنْ كُنتَ بالأمسِ اقترفتَ إساءةً . فَثَنِّ بإحسَانٍ وأنتَ حَميدُ
فيومُكَ إنْ أعتَبتَهُ عادَ نَفعُهُ . عَليكَ وماضي الأمسِ لَيسَ يَعودُ
ولا تُرجِ فِعلَ الخيرِ يوماً إلى غَدٍ . لَعلَّ غَداً يَأتِي وأَنْتَ فَقِيدُ
__________
(1) المؤمنون : 99 – 100 .
(2) المنافقون : 10 – 11 .
(3) في " جامعه " ( 2403 ) ، وهو حديث ضعيف جداً ؛ فإنَّ في إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب ، وهو متروك .
(4) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 4/276 .
(5) أخرجه : أبو نعيم في " حلية الأولياء " 7/330 بنحوه عن الحسن بن صالح .
(6) انظر : كتاب الزهد الكبير للبيهقي 2/235 .
● [ تم شرح الحديث ] ●
جامع العلوم والحكم
لإبن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول . البوابة