بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الفقه الإسلامي
الكافي في فقه أهل المدينة
الفقه المالكي . المجلد الأول
● [ خطبة الكتاب ] ●
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
قال " الشيخ " الفقيه الحافظ أبو عمر [يوسف] بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي.
الحمد لله ولي كل نعمة وكاشف كل غمة الذي كتب على نفسه الرحمة [ وجعل الوسط هذه الأمة ] منّ علينا بالإيمان وصيرنا من أهله وهدانا للإسلام وعلمنا شرائعه وفضلنا بالقرآن [ وتعبدنا ] بأحكامه وجعلنا من أمة محمد نبيه ورسوله وخاتم أنبيائه وألهمنا اتباع سنته فله الحمد كثيرا كما هو أهله وأحمده شاكرا لما سلف من آلائه وملتمسا للمزيد من نعمائه وأستعينه على رعاية ما استودعنا من حقوق وأرغب إليه في العون على توفيقه " وصلى الله علي سيدنا محمد رسوله ".
أما بعد : فإن بعض إخواننا من أهل الطلب و[ العناية ] والرغبة في الزيادة من التعلم سألني أن أجمع له كتابا مختصرا في الفقه يجمع المسائل التي هي أصول وأمهات لما يبنى عليها من الفروع والبينات في فوائد الأحكام ومعرفة الحلال والحرام يكون جامعا مهذبا وكافيا مقربا ومختصرا مبوبا يستذكر به عند الاشتغال " وما يدرك الإنسان من الملال " ، [ ويكفي ] عن المؤلفات الطوال ويقوم مقام المذاكرة عند عدم المدارسة فرأيت أن أجيبه إلى ذلك لما رجوت فيه من [ عون ] العالم المقتصر ونفع الطالب المسترشد التماسا لثواب الله عز وجل في تقريبه على من أراده واعتمدت فيه على [ علم ]أهل المدينة وسلكت فيه [ مسلك ] مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله.
لما صح له من جمع مذاهب أسلافه من أهل بلده مع حسن الاختيار وضبط الآثار فأتيت فيه بما لا يسع جهله لمن أحب أن يسم بالعلم نفسه و[ اقتطعه ] من كتب المالكيين ومذهب المدنيين واقتصرت على الأصح علما والأوثق نقلا فعولت منها على سبعة [ قوانين ] . دون ما سواها وهي الموطأ، والمدونة وكتاب ابن عبد الحكم والمبسوط لإسماعيل [ القاضي ] والحاوي لأبي الفرج، ومختصر أبي مصعب، وموطأ ابن وهب.
" وفيه من كتاب ابن الموازي ومختصر الوقار ومن العتبة والواضحة بقية صالحة ".
● ● ● [ كتاب الطهارة ] ● ● ●
باب ما يوجب الوضوء من الأحداث
وما لا يوجبه منها
باب ما يوجب الوضوء من الأحداث
وما لا يوجبه منها
باب ما يوجب الوضوء من الأحداث وما لا يوجبه منها على ما يميز إلى الصلاة
الذي يوجب الوضوء عند أهل المدينة مالك وأصحابه أربعة أنواع:
" أحدها ما خرج " من أحد المخرجين من ريح أو غائط أو بول أو مذي أو ودي " ما خلا " المني فإنه يوجب الغسل والحجة في ذلك قول الله عز وجل: {أو جاء أحد منكم من الغائط} وذلك كناية عن كل ما يخرج من الفرجين مما كان معتادا أو معروفا دون ما خرج منهما نادرا غبا مثل الدم والدود، والحصاة التي لا أذى عليها، وما كان مثل ذلك، لأن الإشارة بذلك عند مالك إلى ما عهد دائما مترددا دون مالم يعهد .
والنوع الثاني: ما غلب على العقل من الإغماء والنوم الثقيل والسكر والصرع فإن كان النوم خفيفا لا يخامر العقل ولا يغمره فإن استثقل نوما فقد وجب عليه الوضوء ولا يكاد الجالس ولا المحتبي " يستثقلان ".
والحجة [ في ذلك ] أن النوم يوجب الوضوء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه" فدل على أن الوضوء على من انتبه من نومه وقال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} ، قال: يريد قمتم من المضاجع يعني النوم، وقال صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا ننزع خفافنا من غائط ولا بول ولا ننزعهما إلا من جنابة" فسوى بين البول والغائط والنوم في هذا الحديث
والنوم كالحدث ولكنه لا يقوى قوة الحدث لأن الحدث قليله وكثيره وصغيره وكبيره سواء في نقض الطهارة وقليل النوم متجاوز عنه لا حكم له والدليل على الفرق بينهما قوله صلى الله عليه وسلم: "وكاء السه العينان فإذا نامت العينان استطلق الوكاء فمن نام فليتوضأ".
فدلنا بقوله عليه السلام على أن النوم إذا استحكم ونامت [العينان] لم يؤمن الحدث في الأغلب والأغلب أصل في أمور الدين والدنيا والنادر لا يراعى ومن لم يستثقل نوما وإنما اعتراه النعاس سنة فقد أمن منه الحدث وأقل أحوال النائم المستثقل أن يدخله الشك في الوضوء فلا يجوز له أن يستفتح الصلاة بغير وضوء مستيقن وهذا على مذهب مالك وجمهور أصحابه ولذلك دليل آخر وهو قول أنس بن مالك "وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه في صلاة العشاء فينامون حتى تخفق رؤوسهم ولا يتوضئون " فهذا يدلك على أن النوم ليس كالحدث " ومن ارتد ثم راجع الإسلام لزمه الوضوء ، وقد قيل: أن الوضوء ههنا استحباب إن لم يكن منه حدث ".
والنوع الثالث: " الملامسة ، وهي ما دون الجماع من دواعي الجماع فمن قبل امرأة لشهوة كانت من ذوات محارمه أو غيرهن وجب عليه الوضوء التذ أم لم يلتذ فإن كانت من ذوات محارمه فقبلها رحمة وبرا كالأم "والابنة والأخت فلا وضوء عليه إلا أن يقصد إلى ما لا ينبغي فيلتذ ويشتهي ومن قصد إلى لمس امرأة فلمسها بيده انتقض وضوؤه إذا التذ بلمسها من فوق الثوب الرقيق الخفيف أو من تحته وسواء مس منها عند مالك شعرها أو سائر جسدها إذا التذ بلمس ذلك منها وليس لمس المرأة للرجل وهو لا يريد ذلك بموجب عليه شيئا إلا أن يلتذ بذلك ويريده وهذا كله قول مالك وأكثر أصحابه ومن أهل المدينة من قال: ليس بملامس من لمس من فوق الثوب لأنه إنما لمس الثوب.
والقائلون بهذا يقولون بإيجاب الوضوء على كل قاصد إلى ملامسة النساء التذ أو لم يلتذ إذا كان عامدا لذلك فباشر بيده، وفي الموطأ لابن مسعود وابن عمر وهو مذهب عمر إيجاب الوضوء من الملامسة والقبلة دون اشتراط لذة وهذا كله علم أهل المدينة وأما أهل العراق فإن الملامسة عندهم الجماع وذكر ابن وهب عن عائشة وسعيد بن المسيب وابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة وابن هرمز وزيد بن أسلم ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة إيجاب الوضوء من القبلة ولم يذكر عن واحد منهم اعتبار اللذة.
والنوع الرابع: مس الرجل لذكره بباطن الكف قاصدا لذلك فإن فعل ذلك فاعل وجب عليه الوضوء "وكذلك إن مسه قاصدا من بالغ غيره" ولا شيء على من مس فرج البهيمة ولا فرج الصبي والصبية واختلف عن مالك فيمن مس [ فرجه ] ناسيا أو بظاهر كفه وهو مع ذلك يستحب منه الوضوء ، ومن أصحابه من يجعل مسه من باب الملامسة ويعتبر في ذلك اللذة ويوجب الوضوء منه وإعادة الصلاة في الوقت وبعده كالملامس المتقدم ذكره وكان مالك لا يوجب إعادة الصلاة منه إلا في الوقت. وروي عن ابن عمر أنه أعاد الصلاة منه بعد خروج الوقت وقال به جماعة من المدنيين من أصحاب مالك وغيرهم ، واختلف عن مالك في مس المرأة فرجها فروي عنه أنها في ذلك كالرجل على ما ذكرنا من اختلاف أحوال الرجل في ذلك وعليها الوضوء وهو الأشهر وروي عنه أنه خفف ذلك ولم يوجب منه وضوء إلا أن تلطف وفسر الألطاف بالالتذاذ وقال إسماعيل بن أبي أويس سألت مالك بن أنس عن المرأة إذا مست فرجها أعليها الوضوء قال [ مالك ]: إذا ألطفت وجب عليها الوضوء ، فقلت له: ما ألطفت ؟ قال: تدخل يدها بين الشفرين [ ويوجب الوضوء عند مالك الشك في الحدث وهو من باب الاستثقال بالنوم هذا إذا لم يكن الشك في ذلك كثيرا ويستنكحه وأكثر أهل المدينة وغيرهم لا يوجبون الوضوء بالشك ولا ] يرون الشك عملا وقد كان بعض شيوخ العراقيين من المالكيين يقولون أن الوضوء عند مالك على من أيقن بالوضوء وشك في الحدث استحبابا ولمالك في الموطأ من وجد في ثوبه احتلاما ولم يدر متى نزل ذلك به أنه لا يعيد الصلاة إلا من أحدث نومة نامها وهذا طرح منه لأعمال الشك على ما روي عن عمر رضي الله عنه وما سلس من البول والمذي أو الودي وجرى على غير العادة فلا وضوء في شيء منه [ويستحب] مالك لسلس البول والمذي الوضوء لكل صلاة [وغيره يجعل الوضوء في ذلك إيجابا لكل صلاة لا استحبابا ]وهو الأحوط عندي قياسا على الصلاة لأنه يصلي وبوله يقطر فكذلك يتوضأ وبوله يقطر ولا يكلف إلا ما يقدر فإن كان سلس مذيه لشهوة متصلة وطول عزبة وجب عليه الوضوء لكل صلاة عند مالك وغيره وواجب [ حينئذ ] عليه التسري أو النكاح إن قدر ومن كان مذيه لعلة فأمذى في خلال ذلك لشهوة فعليه الوضوء وكذلك إذا بال صاحب سلس البول بول العادة فعليه الوضوء وما خرج من غير المخرجين من سائر الجسد من الدماء وغيرها فلا وضوء في شيء منها والرعاف والقيء والقلس والفصد والحجامة وعصر الجراح وما أشبه ذلك كله لا وضوء في شيء منها ولا وضوء في كل ما مسته النار ولما أجمع العلماء على أن القهقهة لا تنقض الوضوء في غير الصلاة فكذلك لا تنقضه في الصلاة والحديث فيها لا يصح اهـ
● [ باب ما يوجب الغسل ] ●
يوجب الغسل إنزال الماء الدافق من الرجل والمرأة في النوم واليقظة جامع أو لم يجامع وكذلك يوجبه إيلاج الحشفة ومغيب الختان في فرج مباح أو محظور [وسواء] انزل أو لم ينزل [ وفي المحظور مع الغسل العام وجوبه أحكام ستأتي في كتاب الحدود إن شاء الله ] ويوجب الغسل أيضا على النساء مع ما تقدم ذكره الطهر من الحيض والنفاس. ويجب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا أن يكون إسلامه قبل احتلامه فإن كان ذلك فغسله حينئذ مستحب ولاحتلامه واجب ومتى ما أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوى بغسله الجنابة هذا [تحصيل] مذهب مالك و [قد] قال بعض المتأخرين من أصحابه: غسله مستحب لأن الإسلام يهدم ما قبله ويقطع ما سلف من معاني الكفر وهذا ليس بشيء لأن الوضوء يلزمه إذا قام إلى الصلاة بعد إسلامه وإن لم يحدث بعد فكذلك يلزمه الغسل [ إن كان قد ] أجنب ولو مرة [واحدة]، لأنه مخاطب بالغسل إذا قام إلى الصلاة كما هو مخاطب [بالوضوء سواء مع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر قيس بن عاصم حين أسلم بالغسل وأجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهار الشهادة] بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول حتى بلفظ شهادة الإيمان وكلمة الإسلام ويكون قلبه مصدقا للساعة في ذلك فكما لا يكون مسلما حتى يشهد بشهادة الحق فكذلك لا يكون متطهرا ولا مصليا حتى ينطق بالشهادة وإنما تعتقده الأفئدة من الإسلام والإيمان ما تنطق به الألسنة والإيمان عندنا الإقرار باللسان والتصديق بالقلب وإنما بعث رسول الله يدعو الناس إلى أن يقولوا لا اله الله وقال عليه السلام: "من قال لا إله إلا الله صادقا من قبله دخل الجنة".
وقال للسوداء: "أتشهدين أن لا إله الا الله وإني رسول الله" والآثار بهذا المعنى كثيرة جدا وهذا قول جماعة أهل السنة في الإيمان إنه قول باللسان وتصديق بالقلب ويزكو بالعمل قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فاطر وإذا حاضت المرأة الجنب لم تغتسل حتى تطهر من حيضتها ويجزئها غسل واحد لجنابتها وحيضتها وان نوت بغسلها [الحيض وحده] أجزأها، فهذا كله غسل يجب على الحي وغسل الميت واجب كدفنه والصلاة عليه ومن قام به من الأحياء سقط بذلك فرضه وأجزأ .
وأما الغسل المستحب والمسنون فغسل الجمعة والعيدين والإحرام بالحج وكان عمر يغتسل لدخوله مكة ولوقوفه عشية عرفة وكثير من أصحاب مالك يستحبون ذلك ويروونه عنه وكان مالك أيضا يستحب الغسل من غسل الميت ثم سكت عنه لحديث أسماء بنت عميس في غسلها زوجها أبا بكر رضي الله عنه وسؤالها من حضرها من المهاجرين والأنصار وكانوا يومئذ متوافرين هل عليها من غسل ؟ قالوا: لا ، وإذا وطئ بالغ أو غير بالغ فالغسل على البالغ منهما ذكرا كان أو أنثى ولا غسل على غير البالغ وسيأتي ذكر حد البلوغ في أول كتاب الصيام إن شاء الله ومن أصحبنا من لا يرى على المرأة غسلا إذا وطئها صبي إلا أن تنزل وجعله كالإصبع تستدخله والصحيح ما ذكرت لك وقد أجمعوا على الغسل في الرجل يطأ الصغيرة إذا أولج فيها وان لم ينزل.
ومن خرج منه المنى من غير لذة ولا شهوة فلا غسل عليه وعليه الوضوء إلا أن يكون سلسا فيكون حكمه ما تقدم [ذكره] [ومتى] اغتسل لالتقاء الختانين وصلى ثم خرج منه الماء الدافق فقد اختلف [في ذلك عن مالك وأصحابه فقيل: لا غسل عليه وإنما عليه الوضوء لا غير وهو تحصيل المذهب وقيل: عليه الغسل وهو الأحوط ولا إعادة عليه لما صلى ].
● [ باب حكم الماء ] ●
وما ينجسه وما يفسده
وما ينجسه وما يفسده