بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الأدبية جمهرة أشعار العرب ● [ بقية : أي الشعراء أشعر ] ●
● باب خبر أعشى بكر بن وائل قال الذين قدموا الأعشى: هو أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، وأغزرهم شعراً، وأحسنهم قريضاً. وذكر الجهمي عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال: عليكم بشعر الأعشى، فإنه أشبه شيء بالبازي الذي يصطاد به، ما بين الكركي والعندليب، وهو عصفور صغير، ولعمري إنه أشعر القوم، ولكنه وضعته الحاجة بالسؤال. وذكر ابن دأب: أن الأعشى خرج يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال شعراً حتى إذا كان ببعض الطريق نفرت به راحلته، فقتلته، ولا أنشد شعره الذي يقول فيه: الطويل فآلَيتُ لا أرثي لها مِنْ كَلاَلَةٍ ... ولا مِنْ حَفاً حتَّى تلاقي مُحَمّدَا متى ما تُناخي عند بابِ ابنِ هاشِمٍ ... تفوزي، وتلقَيْ من فواضِله يدَا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: كاد ينجو، ولما. وأخبرنا المفضل عن علي بن طاهر الذهلي عن أبي عبيدة عن المجالد عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى، فإن لكلامه عذوبةً، قاتله الله ما كان أعذب بحره، وأصلب صخره! فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى، فليس يعرف الشعر. وقيل لعلي بن طاهر: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: المتقارب وَتَبْردُ بَرْدَ رِداءِ العَرو ... سِ في الصّيفِ رَقْرَقَتْ فيه العبيرَا وَتَسْخنُ لَيلةَ لا يَستَطيعُ ... نباحاً بها الكلبُ إلاّ هريرَا وقال: يا ابن أخي من قدم على الأعشى أحداً فإنما يفعل ذلك بالميل، فهو أشعر شعراء الناس. ولما أنشد النبي، صلى الله عليه وسلم، قول الأعشى الذي نفر فيه عامر بن الطفيل وفضله على علقمة بن علاثة ويمدح عامراً: السريع عَلقَمُ ما أَنْتَ إلى عامِرِ ... النّاقِمِ الأوْتارِ والواتِرِ سُدْتَ بني الأحوصَ لم تَعْدُهم ... وعَامرٌ سادَ بني عامِرِ وكان علقمة قد أسلم، وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم، فنهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن إنشاد هذا الشعر حين أسلم علقمة، وحديث منافرتهما يطول. ● باب خبر لبيد بن ربيعة قال الذين قدموا لبيد بن ربيعة: هو أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغواً في شعره. وقد قيل عن عائشة، رضي الله عنها، إنها قالت: رحم الله لبيداً ما أشعره في قوله: الكامل ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهِمْ، ... وبقيتُ في خَلَفٍ كجلدِ الأجرَبِ لا يَنفَعون، ولا يُرَجّى خيرُهم، ... ويُعابُ قائلُهُمْ، وإنْ لم يَشْغَبِ ثم قالت: كيف لو رأى لبيد خلفنا هذا! ويقول الشعبي: كيف لو رأت أم المؤمنين خلفنا هذا ● فصل آخر: قال: وكان لبيد جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان قد آلى في الجاهلية أن يطعم ما هبت الصبا، ثم أدام ذلك في إسلامه. ونزل لبيد الكوفة، وأميرها الوليد بن عقبة، فبينا هو يخطب الناس، إذ هبت الصبا بين ناحية المشرق إلى الشمال فقال الوليد في خطبته على المنبر: قد علمتم حال أخيكم أبي عقيل، وما جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، وقد هبت ريحها، فأعينوه! ثم انصرف الوليد، فبعث إليه بمائةٍ من الجزر واعتذر إليه فقال: الوافر أرَى الجَزّارَ يَشْحَذُ شَفرَتيهِ ... إذا هَبّتْ رِياحُ أبي عَقيلِ أشمُّ الأنفِ أَصْيَدُ عامريٌّ، ... طويلُ الباعِ كالسّيفِ الصّقيلِ وفَى ابنُ الجَعفَريِّ بما نَواهُ، ... على العِلاَّتِ والمالِ القَليلِ يُذَكّي الكُومَ ما هَبَّتْ عليهِ ... رِياحُ صَباً تجاوَبُ بالأصيلِ فلما وصلت الهدية إلى لبيد قال له الرسول: هذه هدية ابن وهب، فشكره لبيد وقال: إني تركت الشعر منذ قرأت القرآن، وإني ما أعيا بجواب شاعر، ودعا ابنةً له خماسيةً فقال: أجيبيه عني، فقالت: الوافر إذا هَبَّتْ رِياحُ أبي عقيلٍ، ... دَعَونا عندَ هَبّتِها الوَليدَا أشَمَّ الأنفِ، أصْيَدَ عَبشَمِيّاً ... أعانَ على مُروءَتِهِ لَبيدَا بأَمثالِ الهِضابِ، كأنَّ رَكباً ... عَليها من بَني حامٍ قُعُودَا أبا وَهبٍ! جَزَاكَ اللَّهُ خَيراً ... نَحَرناها، وأطعَمنا الوُفُودَا فَعُدْ، إنّ الكريمَ لهُ مَعَادٌ، ... وظنّي يابنَ أروى أن تَعُودا فقال لبيد: أجبت وأحسنت لولا أنك سألت في شعرك. قالت إنه أمير، وليس بسوقة ولا بأس بسؤاله، ولو كان غيره ما سألناه! قال: أجل! إنه لعلى ما ذكرت. قيل: وكان لبيد أحد المعمرين؛ يقال: إنه لم يمت حتى حرم عليه نكاح خمسمائة امرأةٍ من نساء بني عامر، وهو القائل لما بلغ تسعين حجة: الطويل كأنّي وَقَدْ جاوَزتُ تِسْعينَ حجّةً ... خَلَعتُ بها عنِّي عِذارَ لجامي رَمتني بناتُ الدَّهرِ من حيثُ لا أرَى ... فكَيفَ بمن يُرْمى، وليس برامي ولو أنّني أُرمَى بِسَهْمٍ رأيتُها، ... ولكنَّني أُرمَى بغَيرِ سِهامِ وقال حين بلغ عشرين ومائة: الكامل وغَنِيتُ دَهراً قَبلَ مَجْرى داحسٍ، ... لو كانَ للنّفسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ وقال حين بلغ أربعين ومائة: ولقد سئِمتُ منَ الحَياةِ وطولِها، ... وسؤالِ هذا النّاسِ: كيفَ لبيدُ؟ غَلَبَ الزّمانَ، وكانَ غَيرَ مُغَلَّب، ... دَهرٌ طَويلٌ دائمٌ مَمدُودُ يومٌ إذا يأتي عليَّ، ولَيلَةٌ ... وكلاهُما بَعدَ انقضاهُ يَعُودُ ثم أسلم، وحسن إسلامه، وجمع القرآن وترك قول الشعر. ● فصل آخر من أخباره ولما حضرته الوفاة قال لابنه: إن أباك قد توفي، فإذا قبض أبوك، فأغمضه واستقبل به القبلة، وسجه بثوبه، ولا تصح عليه صائحةٌ، ولا تبك عليه باكيةٌ، وانظر إلى جفنتي التي كنت أصنعها، فأجد صنعتها، ثم احملها إلى مسجدك لمن كان يغشاني عليها، فإذا سلم الإمام فقدمها إليهم، فإذا فرغوا فقل: احضروا جنازة أخيكم لبيد؛ ثم أنشأ يقول: مجزوء الكامل فإذا دَفَنتَ أباكَ فاجْ ... عَلْ فَوقَهُ خَشَباً وطِينَا وصَفائحاً صُمّاً، رَوَا ... سيها يُسَدّدنَ الغُضونا لَيَقينَ حُرّ الوَجهِ مِنْ ... عَفَرِ الترابِ، ولن يَقينا ● باب صفة عمرو بن كلثوم قال الذين قدموا عمرو بن كلثوم: هو من قدماء الشعراء، وأعزهم نفساً، وأكثرهم امتناعاً، وأجودهم واحدة. قال عيسى بن عمر: لله در عمرو بن كلثوم أي حلس شعر، ووعاء علم، لو أنه رغب فيما رغب فيه أصحابه من الشعراء، وإن واحدته لأجود سبعهم. وذكر أبو عمرو بن العلاء: أن عمرو بن كلثوم لم يقل غير واحدته، ولولا أنه افتخر في واحدته وذكر مآثر قومه ما قالها؛ وقيل: إن عمرو بن كلثوم كان ينشد عمرو بن هند، وهو الثاني من ملوك الحيرة، فبينما هو ينشد في صفة جمل، إذ حالت الصفة إلى صفة ناقة، فقال طرفة: استنوق الجمل! والبيت الذي أنشده عمرو بن كلثوم: الطويل وإنّي لأمضي الهَمَّ عِنْدَ احتضارِهِ ... بناجٍ علَيهِ الصّيعرِيّةُ مِيسَمُ الصيعرية: سمة من سمات الإبل الإناث خاصة لا الذكور، فلذلك قال طرفة: استنوق الجمل، فقال عمرو: وما يدريك يا صبي؟ فتشاتما، فقال عمرو ابن هند: سبه يا طرفة، فقال قصيدته التي أولها: الرمل أشَجَاكَ الرَّبعُ أم قِدَمُه ... أم سَوادٌ دارِسٌ حُممُه حتى بلغ إلى قوله: فإذا أَنتم وجَمعُكُمُ ... حَطبٌ للنّارِ تضطَرِمُه فقال عمرو بن كلثوم يتوعد عمرو بن هند: الوافر ألا لا يَجهَلَنْ أحَدٌ عَلَينا، ... فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهلينَا بأيّ مَشيئَةٍ عمرو بن هندٍ، ... تُطيعُ بنا الوُشاةَ وتَزدَرينَا؟ وروي أن هذا الخبر كان بين طرفة والمتلمس، وأنه لا يجترىء على عمرو ابن كلثوم بمثل هذا لشدته في قومه. وقال مطرف: بلغني عن عيس بن عمر، وأظن أني قد سمعته منه، أنه كان يقول: لو وضعت أشعار العرب في كفة وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة لمالت بأكثرها. ● باب صفة طرفة بن العبد قال الذين قدموا طرفة: هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سنه ما بلغ القوم في طول أعمارهم، وإنما بلغ عمره نيفاً وعشرين سنة، وقيل: لا بل عشرين سنة، فخب وركض معهم، وكان من حديثه أنه هجا عبد عمرو بن بشر بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة فقال: الطويل فيا عَجَبَا من عَبدِ عمرٍو وَبَغْيِه، ... لقد رامَ ظُلمي عبدُ عمرو فأنعَما ولا خَيرَ فيهِ غَيرَ أنّ له غِنىً، ... وأنّ له كَشحاً، إذا قامَ، أهضَمَا وكان قد هجا عمرو بن هند الملك، وكان له يوم نعيم ويوم بؤس، فقال: الوافر قَسَمتَ الدّهرَ من زَمَنٍ رَخيّ، ... كذاكَ الدّهْرُ يَقصدُ، أو يَجُورُ لَنا يومٌ، وللكَرَوانِ يَومٌ، ... تَطيرُ البائساتُ، وما يَطيرُ قال: فبينما عمرو بن هند قاعد، وعنده عبد عمرو، إذ نظر إلى خصر قميصه متخرقاً وكان من أجمل العرب، وكان صفياً له يداعبه، وقد سمع ما قال فيه طرفة، فضحك؛ وأنشده شعر طرفة، فقال: أيها الملك، قد هجاك بأشد من هذا. قال: وما هو؟ فأنشده قوله: فوقع في قلبه، وقال: يقول في مثل هذا؟ وكره العجلة عليه لمكان قومه، فكتب إلى عامله؛ وكان المتلمس، وهو عمرو ابن عبد المسيح، رجلاً مسناً مجرباً، وكان المتلمس أيضاً قد هجا عمراً، فأقبل المتلمس وطرفة على عمرو يتعرضان لمعروفه؛ فكتب لهما إلى عامل البحرين وهجر، وقال: إنطلقا إليه، فاقتضيا جوائزكما، فلما خرجا من عنده قال المتلمس: يا طرفة! إنك غلامٌ حديث السن، ولست تعرف ما أعرف، وكلانا قد هجاه، ولست آمن أن يكتب بما نكره، فتعال ننظر في كتبه! فقال طرفة: لم يكن ليقدم علي بمثل هذا، وعدل المتلمس إلى غلام عبادي من أهل الحيرة، فقال: إقرأ ما في هذه الصحيفة، فإذا فيها السوء فألقاها في النهر، وتبع طرفة يريد أن يرده، فلم يدركه. وقدم طرفة على عامل البحرين، وهو ربيعة بن الحرث، وهو الذي كتب إليه في شأن طرفة والمتلمس، فقال المتلمس يذكر ما كان من أمره: الطويل فألقَيتُها من حَيثُ كانَت فإنّني ... كذلكَ أقفُوا كلّ قِطٍ مُضَلَّلِ رَضِيتُ لها بالماءِ لمّا رأيتُها ... يَجولُ بها التيّارُ في كلِّ جَدوَلِ ومضى طرفة حتى إذا كان ببعض الطريق سنحت له ظباءٌ فيها تيسٌ وعقابٌ، فزجرها طرفة فقال: الطويل لَعَمري لقَد مَرّتْ عَواطِسُ جَمّةٌ ... وَمَرّ، قُبَيلَ الصّبحِ، ظبيٌ مُصَمِّعُ وعجزاءُ دفّتْ بالجَ،احِ كأنّها، ... معَ الصّبحِ، شيخٌ في بِجادٍ مُقَنَّعُ فلَن تَمنَعي رِزقاً لعَبدٍِ يَنالُهُ، ... وهل يَعدُوَنْ بؤساكِ ما يُتَوَقّعُ؟ وقال المتلمس: الكامل مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبراً، فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما، ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس ومنها قوله: ألقِ الصّحيفَةَ، لا أَبَا لَكَ، إنّهُ ... يُخشَى علَيكَ مِنَ الحِباءِ النِقْرِسُ فلما قدم طرفة على عامل البحرين دفع إليه كتاب عمرو بن هند، فقرأه فقال: هل تعلم ما أمرت به؟ قال: نعم! أمرت أن تجيزني وتحسن إلي. فقال: يا طرفة! بيني وبينك خؤولةٌ أنا لها راعٍ حافظٌ. فاهرب في ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال طرفة: إشتدت عليك جائزتي، فأردت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلاً! كلا والله لا أفعل ذلك أبداً! فلما أصبح أمر بحبسه، وجاءت بنو بكر، فقالوا: ما أقدم طرفة؟ فقرأ عليهم كتاب الملك ثم حبس طرفة ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند: فقرأ عليهم كتاب الملك ثم حبس طرفة ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند: أن ابعث إلى عملك من تريد، فإني غير قاتله؛ فبعث عمرو بن هند رجلاً من تغلب، فاستعمله على البحرين، فقتل طرفة، وقتل ربيعة بن الحرث، وقدمهما وقرأ عليهما عهده، فلبث أياماً، واجتمعت بكر بن وائل فهمت بالتغلبي. وقتل طرفة رجلٌ من الحواثر يقال له أبو رشية، وقبره اليوم معروفٌ بهجر، بأرضٍ لبني قيس بن ثعلبة، وودته الحواثر إلى أبيه لما كان من قتل صاحبهم إياه، بعثوا بالإبل حسبةً. ويروى أن طرفة قال قبل صلبه: الطويل فمَن مُبلِغٌ أحياءَ بكرِ بنِ وائلِ ... بأَنّ ابنَ عبدٍ راكبٌ غيرُ راجلِ على ناقةٍ لم يركبِ الفَحلُ ظَهَرَها ... مُشَذَّبةٍ أَطرافُها بالمَناجِلِ وقال أيضاً: الطويل لعَمرُك، ما تدري الطّوارقُ بالحَصَى، ... ولا زاجراتُ الطّيرِ ما اللَّهُ فاعِلُ وقال المتلمس يحرض أقوام طرفة: الكامل أَبُنيَ فُلانَةَ لم تكن عاداتُكُم ... أخْذَ الدّنيّةِ قبلَ خِطّةِ مَعضَدِ وقالت أخت طرفة، وهي الخرنق، تهجو عبد عمرو، حين أنشد الملك شعر أخيها طرفة بن العبد: الوافر ألا ثَكِلَتكَ أُمُّكَ عبدَ عمرٍو، ... أبا النّخبَاتِ واخيَتَ المُلُوكَا هُمُ رَكَلُوكَ للوَرِكَينِ رَكْلاً، ... ولو سألُوكَ أعطَيتَ البُرُوكا فيَومُكَ عندَ زانيَةٍ هَلُوكٍ، ... كظِلِّ الرّجعِ مِزْهَرُها ضَحوكا ورثته أخته بقولها: الطويل نَعِمنا بهِ خَمساً وعشرينَ حِجَّةً ... فلمّا تَوَفَّاها استَوى سيِّداً فَخمَا فُجِعْنا بهِ لمّا استَتَمَّ تَمامَهُ، ... على خَيرِ حالٍ، لا وَليداً ولا قَحما ومضى المتلمس هارباً إلى الشام، فكتب فيه عمرو بن هند إلى عماله بنواحي الريف، يأمرهم أن يأخذوا المتلمس إن قدروا عليه يمتار طعاماً، أو يدخل الريف، فقال المتلمس يحرض قومه: البسيط يا آلَ بكرٍ! أَلا للَّهِ دَرُّكُمُ، ... طالَ الثّواءُ وثوبُ العجزِ ملبوسُ وقال أيضاً: الكامل إنَّ العراقَ وأَهلَهُ كانُوا الهَوَى، ... فإذا نآنا ودُّهُمْ، فَلْيَبْعُدُوا وقال أيضاً: الخفيف أَيُّها السّائلي، فإنّي غَريبٌ، ... نازحٌ عن مَحَلّتي، وصَميمي وقال أيضاً: الطويل أَلا أَبْلِغا أَفْنَاءَ سَعدِ بنِ مالكٍ ... رسالةَ مَن قد صارَ في الغَورِ جانبُهْ وقال أيضاً: الكامل أَطَردْتَني حَذْرَ الهجاءِ ولا ... واللاّتِ والأنْصَابِ لا تَئِل وقال أيضاً يهجو عمرو بن هند: البسيط قُولا لعمرو بنِ هِنْدٍ، غَيرَ مُتّئِبٍ: ... يا أَخْنَسَ الأنفِ والأضراسُ كالعَدَسِ مَلْكُ النّهارِ، وأنتَ، اللّيلَ، مُومِسَةٌ ... ماءُ الرَّجالِ على فَخذيكَ كالغَرَسِ لو كُنْتَ كَلبَ قُنَيْصٍ كُنْتَ ذا جُدَدٍ ... تكونُ إربَتُهُ في آخرِ المَرَسِ يَعوي حَريصاً بقَولِ القانصاتِ لهُ: ... قُبِّحْتَ ذا وَجهِ أنفٍ ثمّ مُنْتَكِسِ وقال يهجوه: الطويل كأَنَّ ثَناياهُ إذا افتَرَّ ضاحكاً، ... رؤوسُ جُرادٍ في أُرَيْنٍ تُخَشخِشُ ● باب ذكر طقبات من سمينا منهم قال أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس، وزهير والنابغة، فإن قال قائل: إن امرأ القيس ليس من أهل نجد، فلعمري! إن هذه الديار التي ذكرها في شعره ديار بني أسد بن خزيمة. وفي الطبقة الثانية الأعشى، ولبيد، وطرفة. وقيل: إن الفرزدق قال: امرؤ القيس أشعر الناس؛ وقال جرير: النابغة أشعر الناس؛ وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس؛ وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس؛ وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس؛ وقال ابن مقبل: طرفة أشعر الناس؛ وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس؛ والقول عندنا ما قال أبو عبيدة: امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو وطرفة. وقال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط، فمن قال: إن السبع لغيرهم، فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة، وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون: إن بعدهن سبعاً ما هن بدونهن، ولقد تلا أصحابهن أصحاب الأوائل، فما قصروا، وهن المجمهرات، لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب. وأما منتقيات العرب: فهن للمسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر. وأما المذهبات: فللأوس والخزرج خاصة، وهن لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرىء القيس. وعيون المراثي سبع: لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب النهشلي، ومتمم بن نويرة اليربوعي. وأما مشوبات العرب، وهن اللاتي شابهن الكفر والإسلام، فلنابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، وعمرو بن أحمر، وابن مقبل. وأما الملحمات السبع فهن: للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة والكميت بن زيد، والطرماح بن حكيم. قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدةً عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم. وذكر أبو عبيدة في الطبقة الثالثة من الشعراء: المرقش، وكعب بن زهير، والحطيئة، وخداش بن زهير، ودريد بن الصمة، وعنترة، وعروة بن الورد، والنمر بن تولب، والشماخ بن ضرار، وعمرو بن أحمر. قال المفضل: هؤلاء فحول شعراء أهل نجد الذين ذموا ومدحوا، وذهبوا في الشعر كل مذهبٍ، فأما أهل الحجاز، فإنهم الغالب عليهم الغزل. وذكر أبو عبيدة: أن الناس أجمعوا على أن أشعر أهل الإسلام: الفرزدق، وجرير، والأخطل، وذلك لأنهم أعطوا حظاً في الشعر لم يعطه أحدٌ في الإسلام، مدحوا قوماً فرفعوههم، وذموا قوماً فوضعوهم، وهجاهم قومٌ فردوا عليهم، فأفحموهم، وهجاهم آخرون، فرغبوا بأنفسهم عن جوابهم وعن الرد عليهم، فأسقطوهم، وهؤلاء شعراء أهل الإسلام، وهم أشعر الناس بعد حسان بن ثابت لأنه لا يشاكل شاعر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدٌ. وذكر عن أبي عبيدة قال: قيل لجرير: كيف شعر الفرزدق؟ قال: كذب من قال إنه أشعر من الفرزدق! قيل: فكيف شعرك؟ قال: أنا مدينة الشعر! قيل: كيف قول الراعي؟ قال: شاعر ما خليته وإبله وديمومته! يريد راعي الإبل؛ قيل: كيف شعر الأخطل؟ قال: أرمانا للأعراض! قيل: كيف شعر ذي الرمة؟ قال: نقط عروسٍ وبعر ظباء! وأما جرير فأعزنا بيتاً، وأما الفرزدق فأفخرنا بيتاً. وقال أبو عبيدة: فتح الشعر بامرىء القيس، وختم بذي الرمة، رواه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. وعنه: عن مسلم عن أبي بكر المديني قال: جاء رجل من بني نهشل إلى الفرزدق، وهو بالبصرة، فقال: يا أبا فراس! هل أحد اليوم يرمي معك؟ قال: والله ما أعلم نابحاً إلا وقد انحجر، ولا ناهساً إلا وقد أسكت، إلا أبياتاً جاءت من غلام بالمروة. قال: وما هي؟ قال قوله: الطويل فإنْ لم تكنْ في الشّرقِ والغربِ حاجتي ... تَشاءمتُ أو حَوّلتُ وَجهي يَمانيَا فُردِي جِمالَ الحيّ، ثمّ تَحَمَّلي ... فما لكِ فيهم من مُقامٍ، ولا لِيَا فإنّي لَمغرورٌ أُعَلَّلُ بالمُنى، ... لياليَ أدعو أنّ مالَكَ مالِيَا بأيّ سِنانٍ تَطعنُ القَومَ، بعدما ... نزَعْتَ سِناناً من قَناتِكَ ماضِيَا بأيّ نِجادٍ تَحمِلُ السّيفَ، بعدما ... قَطَعْتَ القُوى من مَحملٍ كان باقيَا لِساني وسَيفي صارِمانِ كلاهما ... ولَلْسَّيفُ أشوى وَقعةً من لسانِيَا فقيل: من هو؟ قال: أخو بني يربوع. وقال أبو عبيدة: قيل للأخطل: أنت أشعر أم الفرزدق؟ قال: أنا، غير أن الفرزدق قال أبياتاً ما استطعت أن أكافئه عليها: الكامل يا ابنَ المَراغة! والهِجانُ إذا التَقَتْ ... أَعنَاقُها وتَمَاحَ:َ الخصمانِ كانَ الهَزيلُ يَقُودُ كُلَّ طِمِرَّةٍ ... دَهْمَاءَ مُقْرَبَةٍ وكُلَّ حِصانِ يا ابنَ المَراغَةِ! إنَّ تَغلِبَ وائلٍ ... رَفَعُوا عِناني فوقَ كلِّ عِنانِ ما ضَرّ تَغْلِبَ وائلٍ أَهَجَوْتَهَا، ... أم بُلْتَ حَيثُ تَناطَحَ البَحرانِ إنّ الأراقِمَ لَن يَنالَ قَدْيِمَهَا ... كَلْبٌ عَوَى مُتَهَتِّمُ الأسنانِ وقيل للفرزدق: أنت أشعر أم الأخطل؟ قال: أنا! غير أن الأخطل قال أبياتاً ما استطعت أن أكافئه عليها، وهي قوله: الكامل وَلَقدْ شَدَدْتَ على المَراغةِ سرجَها ... حَتّى نَزَعْتَ، وأنتَ غيرُ مَجيدِ وَعَصَرْتَ نُطفَتَها لِتُدرِكَ دارِماً، ... هَيهاتَ من أملٍ علَيكَ بَعيدِ وإذا تَعاظَمَتِ الأُمُورُ لدارِمٍ ... طَأْطَأْتَ رَأْسَكَ عنْ قَبائلَ صِيْدِ وإذا عَدَدْتَ بيوتَ قومِكَ لم تجدْ ... بَيتاً كَبَيْتِ عُطارِدٍ ولَبيدِ بَيتٌ تَزِلُّ العُصُمُ عن قُذُفاتِهِ ... في شاهِقٍ ذي مَنْعَةٍ، مَحمُودِ وذكر محمد بن عثمان عن علي بن طاهر الهذلي قال: كنت عند عمرو بن عبيد أكتب الحديث، وكان فيمن حضر المجلس عيسى بن عمر الثقفي، وقد ذكر الشعر والشعراء أيهم أشعر؟ فقلت أنا: أشعر الناس الأعشى، قال عيسى: وكيف ذلك؟ فجعلت أنشد محاسن شعره الذي يفضل به، وهو منصتٌ، فلما فرغت قال: يا ناعس! أشعر الناس الأخطل حيث يقول: الطويل وَنَجّى ابنَ بَدْرٍ ركضَةٌ من رِماحنا، ... وَلَيِّنَةُ الأَعْطافِ مُلْهَبَةُ الحُضْرِ كأنّ بقايا عُذْرِها وخُزامِها، ... أَداوَى تَسِحُّ المَاءَ من خَرزٍ وَفْرِ الوفر: الجديدة: قال: البسيط وَفْرَاءُ غَرفيَّةٌ أَثْأَى خَوارِزَها ... مُشَلشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بينَها الكُتبُ الكتب: الخرز. والمشلشل: كثير القطران. يُشيرُ إلَيها والرّماحُ تَنُوشُهُ: ... فِدىً لكِ أُمّي إنْ دَأبْتِ إلى العصرِ ثم قال: لله دره كيف ينتحل شعره. ● طعام عبد الملك والأعرابي وذكر عوانة بن الحكم: أن عبد الملك بن مروان صنع طعاماً، فأكثر، وأطاب ودعا الناس، فأكلوا، فقال بعضهم: ما أطيب هذا الطعام وما أكثره، وما أظن أحداً أكل أطيب منه. فقال أعرابي من ناحية القوم: أما أكثر، فلا! وأما أطيب فقد أكلت أطيب منه. فطفقوا يضحكون، فأشار إليه عبد الملك، فدنا منه، فقال: ما أنت لما تقول بحقيقٍ. قال: بلى، يا أمير المؤمنين؛ بينا أنا بهجر في ترابٍ أحمر في أقصاها حجراً إذ توفي أبي وترك كلا وعيالاً ونساء ونخلاً، وفي النخل نخلةٌ لم ير الناظرون مثلها، كأخفاف الرباع ولم ير تمرٌ قط أغلظ لحماً ولا أصغر نوىً، ولا أحلى حلاوةً منها. وكانت أتانٌ وحشيةٌ قد ألفت تلك النخلة، فتثبت برجليها، وترفع يديها وتعطو بفيها، وكادت تنفذ ما فيها، فانطلقت بقوسي وكنانتي وأسهمي وزندي، وأنا أظنني أرجع من ساعتي، فمكثت يوماً وليلة، حتى إذا كان السحر، أقبلت فرميتها فأصبتها، ثم عمدت إلى سرتها، فأبرزتها، ثم عمدت إلى حطبٍ جزلٍ فجمعته، وإلى رضفٍ فوضعته، وإلى زندي فأوريته، ثم ألقيت سرتها في ذلك الحطب ثم أدركني النوم فنمت، فلم يوقظني إلا حر الشمس، فانطلقت فكشفتها وألقيت عليها من رطب تلك النخلة من مجزعه ومنقطه فسمعت لها أطيطاً كتداعي قطاً وغطيطا، ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة والتمرة، فقال عبد الملك: لقد أكلت طيباً، فمن أنت؟ قال: أنا رجل جانبتني صأصأة اليمن، وعنعنة تميم وأسد، وكشكشة ربيعة، وتأنيث كنانة. العنعنة: إبدال العين من الهمزة في مثل قول ذي الرمة: البسيط أَعِنْ تَوَسّمت من خَرقاءَ منزلَةً، ... ماءُ الصّبابةِ مِنْ عَينَيك مَسْجُومُ والكشكشة: إبدال الشين المعجمة من الكاف نحو: عليش وبش في موضع عليك وبك. قال عبد الملك: فمن أنت؟ قال: أنا رجلٌ من أخوالك بني عذرة، قال عبد الملك: أولئك من أفصح العرب، فهل لك من معرفةٍ بالشعر؟ قال: سل عما بدا لك يا أمير المؤمنين، قال: أي بيتٍ قالت العرب أمدح؟ قال: قول الشاعر: الوافر أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا، ... وَأَنْدَى العالَمِيْنَ بطونَ راحِ؟ قال: وكان جرير في القوم، فتحرك ورفع رأسه. قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أفخر؟ قال قوله: الوافر إذا غضِبْتْ عليْكَ بَنو تَميمٍ ... وَجَدْتَ النّاسَ كلَّهُمُ غِضَابَا فتحرك جرير وتطاول. ثم قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أهجى؟ قال قوله: الوافر فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُميرٍ ... فلا كَعباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا فتحرك جرير. قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أحسن تشبيهاً؟ قال قوله: الطويل سَرَى لَهُمُ لَيلٌ كأَنَّ نجُومَهُ ... قَناديلُ فيهنّ الذُّبالُ المُفتَّلُ قال: فقال جرير: أصلح الله شأن أمير المؤمنين، جائزتي لأخي عذرة؛ قال عبد الملك: ومثلها معها. قال: وكانت جائزة جرير عند الخلفاء أربعة آلافٍ وما يتبعها من كسوةٍ. فخرج الأعرابي وفي يده اليمنى ثمانية آلافٍ وفي يده اليسرى رزمة ثياب. ● فصل آخر: ذكر أن الفرزدق لما ضرب بين يدي سليمان بن عبد الملك بن مروان الضربة في الأسير فرعشت يده وكان راوية جرير بالباب، فقال: أنت هو؟ فقال: نعم! وقد رأيتك إذ ضربت؛ قال: أتدري ما يقول صاحبك إذا بلغه ما كان؟ كأني به قد قال: الطويل بسيفِ أبي رَغْوانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضَرَبْتَ ولم تَضرِبْ بسيفِ ابن ظالمِ أبو رغوان: جد الفرزدق، وهو مجاشع أيضاً. وابن ظالم: رجل من نزار كان شجاعاً. ضَرَبْتَ بِهِ عنْدَ الإمامِ فَأُرْعَشَتْ ... يداكَ وقَالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ قال: فمضى راوية جرير إلى اليمامة فسألهم عن جرير، فأخبره خبر الفرزدق وأنشده البيتين. فقال له جرير: أفتدري ما يجيبني به؟ قال: لا. قال: كأني به قد قال: وَهَلْ ضَرْبَةُ الرّوميّ جاعِلَةٌ لكُمْ ... أباً غَيْرَ كَلْبٍ أو أباً مثل دارمِ ولا نَقْتلُ الأسرَى ولكنْ نفكُّهُمْ ... إذا أَثْقَلَ الأعناقَ حَمْلُ المَغَارِمِ كذاكَ سيوفُ الهندِ تَنبو ظُباتُها ... وتَقطَعُ أحياناً مَناطَ التّمائِمِ قال: فرد الفرزدق على جرير جوابه، كما قال أيضاً. قال: وبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك فقال: ما أحسب شيطانهما إلا واحداً. هذا ما صحت به الرواية عن الشعراء وأخبارهم. ● أخبار امرىء القيس وعن ابن دأب في حديث الفرزدق وغيره قال: كان من حديث امرىء القيس أنه لما ترعرع علق النساء وأكثر في الذكر لهن، والميل إليهن، فكره ذلك أبوه حجر، فقال: كيف أصنع به؟ فقالوا: اجعله في رعاء إبلك حتى يكون في أتعب عملٍ. فأرسله في الإبل، فخرج بها يرعاها يومه، ثم آواها مع الليل وجعل ينيخها ويقول: يا حبذا طويلة الأقراب، غزيرة الحلاب، كريمة الصحاب. يا حبذا شداد الأوراك عراض الأحناك طوال الأسماك. ثم بات ليلته يدور إلى متحدثه، حيث كان يتحدث. فقال أبوه: ما شغلته بشيء. قيل له: فارسله في الخيل. فأرسله في خيله فمكث فيها يومه حتى آواها مع الليل. فدنا أبوه حجر يسمع فإذا هو يقول: يا حبذا إناثها نساء، وذكورها ظباء، عدةً وسناء. نعم الصحاب راجلاً وراكباً، تدرك طالباً، وتفوت هارباً. قال أبوه: والله ما صنعت شيئاً. فبات ليلته يدور حواليها. قيل له: اجعله في الضأن. فمكث يومه فيها حتى إذا أمسى أراحها فجاءت أمامه وجاء خلفها، فلما بلغت المراح ودنا أبوه يسمع، فإذا هو يقول: أخزاها الله، وقد أخزاها، من باعها خير ممن اشتراها، لا ترفع إذا ارتفعت ولا تروى إذا شربت، أخزاها الله لا تهتدي طريقاً، ولا تعرف صديقاً، أخزاها الله لا تطيع راعياً، ولا تسمع داعياً. ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: أخرج بها. فمضى حتى بعد عن الحي وأشرف على الوادي فحثا في وجهها التراب، فارتدت، وجعل يقول: حجرٌ في حجر حجر، لا مدر هبهاب، لحم وإهاب، للطير والذئاب. فلما رأى أبوه ذلك منه وكان يرغب به عن النساء والشعر وأبى أن يدع ذلك، فأخرجه عنه، فخرج مراغماً لأبيه، فكان يسير في العرب يطلب الصيد والغزل، حتى قتل أبوه حجر، قتله عوف بن ربيعة بن عامر بن سوار بن مالك بن ثعلبة ابن دودان بن أسد بن خزيمة، فرجع امرؤ القيس إلى قومه، وله حديث يطول. ● فصل آخر: قال الفرزدق: إن امرأ القيس صحب عمه شرحبيل قتيل الكلاب، وكان شرحبيل مسترضعاً في بني دارم، فلحق بعمه فلذلك حفظ الفرزدق أخباره، والله أعلم. ● فصل آخر: قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة مطرٌ جودٌ ليلاً، فلما أصبحت ركبت بغلةً لي حتى انتهيت إلى المربد، وإذا آثار دوابٍ قد خرجن، فظننت أنهم قد خرجوا يتنزهون، وخليق أن يكون معهم طعامٌ وشرابٌ، فاتبعت آثارهم حتى أتيت إلى بغالٍ عليها رحالٌ جنب الغدير فأسرعت السير فإذا في الغدير نسوةٌ مستنقعات، فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل. قال: ثم انصرفت فنادينني: يا صاحب البغلة إرجع نسألك. فأقبلت إليهن، فقعدن في الماء إلى حلوقهن وقلن: بالله إلا ما حدثتنا بيوم دارة جلجل. فقلت: حدثني جدي وهو شيخٌ وأنا غلامٌ يومئذٍ حافظٌ لما أسمع أن امرأ القيس كان مولعاً بابنة عمٍ له، يقال لها فاطمة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وذلك أن الحي احتملوا وقدموا الرجال وخلفوا النساء والخدم والعسفاء والثقل. فلما رأى لك امرؤ القيس تخلف عن قومه في غيابة من الأرض حتى مرت به النساء. وإذا فتياتٌ وفيهن إبنة عمه، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا وذهب عنا بعض ما نجد من الكلال. فقالت إحداهن: نعم! فنزلن فنحين ثيابهن، ثم تجردن فدخلن الغدير. قال: فأتاهن امرؤ القيس مخاتلاً فأخذ ثيابهن، ثم جمعها وقعد عليها وقال: والله لا أعطي واحدةً منكن ثوبها حتى تخرج كما هي فتكون هي التي تأخذه؛ فأبين لك عليه، حتى ارتفع النهار وتذامرن بينهن وخشين أن يقصرن دون المنزل الذي يردن، فخرجت إحداهن فوضع لها ثيابها ناحية، فمشت إليها حتى لبستها، ثم تتابعن على ذلك، حتى بقيت إبنة عمه، فناشدته الله أن يطرح إليها ثيابها، فقال: لا والله أو تخرجي، فخرجت فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، فوضع لها ثيابها ناحية، فلبستها، ثم أقبلن عليه فقلن: فضحتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها؟ قلن: نعم! فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وجمع الخدم حطباً وأججوا ناراً عظيمة، فجعل يقطع من سنامها وكبدها وأطايبها ويرمي به في الجمر، وهن يأكلن ويأكل معهن ويشب من فضلة خمر كانت معهن ويغنيهن وينبذ إلى الخدم من ذلك الكباب حتى شبعوا. فلما رأى ذلك، وأراد الرحيل، قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله. فتقسمن متاع راحلته. وبقيت إبنة عمه لم تحمل شيئاً، فحملته على غارب بعيرها، وكان يجنح إليها فيدخل رأسه في حجرها ويقبلها، فإذا امتنعت عليه أمال هودجها، فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل. قال: فما زال كذلك حتى جنه الليل ثم راح إلى أهله فقال: وهذه القصيدة أول ما افتككنا من أشعارهم التسع والأربعين.
كتاب : جمهرة أشعار العرب المؤلف : أبو زيد القرشي منتديات الرسالة الخاتمة - البوابة