للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل.
فلا بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء.
فإن تقلقل قبل الوقت لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة.
فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
فالواجب الصبر وإن كن الدعاء مشروعاً ولا ينفع إلا به، إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل بل يتعبد بالصبر والدعاء والتسليم إلى الحكيم.
ويقطع المواد التي كانت سبباً للبلاء فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة.
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر وليس هذا مقام العبودية وإنما المقام الأعلى هو الرضى والصبر هو اللازم.
والتلاحي بكثرة الدعاء نعم المعتمد، والاعتراض حرام والاستعجال مزاحمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء فإنها تهون البلاء.
● [ فصل ] ●
عون على الصبرليس في الوجود شيء أصعب من الصبر إما على المحبوب أو على المكروهات.
وخصوصاً إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج.
وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها، والزاد من أجناس.
فمنه تلمح مقدار البلاء وقد يمكن أن يكون أكثر.
ومنه أنه في حال فوقها أعظم منها مثل أن يبتلي بفقد ولد وعنده أعز منه.
ومن ذلك رجاء العوض في الدنيا.
ومنه تلمح الأجر في الآخرة.
ومنه التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلف فيما يمدحون عليه والأجر من الحق عز وجل.
ومن ذلك بأن الجزع لا يفي بل يفضح صاحبه إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر.
فليس في طريق الصبر نفقة سواها، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ويقطع بها ساعات ابتلائه وقد صبح المنزل.
● [ فصل ] ●
اختيار الله أولىينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها.
لأن الذي إليه أن يدعو، والمدعو مالك حكيم، فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه، وإن أخر فعل بمقتضى حكمته.
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد، مزاحم بمرتبة مستحق.
ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه.
فربما سأل سيلاً سال به وفي الحديث: أن رجلاً كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف: إنك غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت.
فإذا سلم العبد تحكيماً لحكمته وحكمه وأيقن أن الكل ملكه طاب قلبه قضيت حاجته أو لم تقض.
وفي الحديث: ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه. فإما أن يعجلها وإما أن يؤخرها وإما أن يدخرها له في الآخرة.
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب وما لم يجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط.
فافهم هذه الأشياء وسلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال.
● [ فصل ] ●
فضل العلممن أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد فلينظر في رتبة جبريل وميكائيل ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق، وباقي الملائكة قيام للتعبد في مراتب الرهبان في الصوامع.
وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى.
فإذا مر أحدهم بالوحي انزعج أهل السماء حتى يخبرهم بالخبر، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم. قالوا الحق. كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه سأل العلماء عن صحته ومعناه.
فسبحان من خص فريقاً بخصائص شرفوا بها على جنسهم.
ولا خصيصة أشرف من العلم. بزيادته صار آدم مسجوداً له وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة.
فأقرب الخلق من الله العلماء، وليس العلم بمجرد صورته هو النافع بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به.
فكلما دله على فضل اجتهد في نيله وكلما نهاه عن نقص بالغ في تجنبه.
فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب فإذا حركه عجل في سيره.
والذي لا يعمل بالعلم لا يطلعه العلم على غوره ولا يكشف له عن سره، فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه.
فافهم هذا المثل وحسن قصدك وإلا فلا تتعب.
● [ فصل ] ●
التلطف مع النفساعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة.
فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت. وأحاديث الآخرة تقرأ عليه وتجري على لسانه فتذكاره الموت زيادة على ذلك لا تفيد إلا انقطاعه بالمرة.
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفسه أمله قليلاً فيصنف ويعمل أعمال خير، ويقدر على طلب ولد.
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته.
ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته فسبقها، وكان يمزح ويشاغل نفسه ؟.
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن وتزعج النفس.
وقد روي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح عليه فخاف على عقله. فسأل الله أن يرد ذلك عنه.
نتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس وفي ذلك صلاحها والله الموفق والسلام.
● [ فصل ] ●
التطلع إلى الأفضلمن أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض.
ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض.
غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن.
والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله.
أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها.
فقبيح بالعاقل إهمال نفسه، وقد نبه الشرع على الكل بالبعض. فأمر بقص الأظفار، ونتف الإبط، وحلقة العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة.
وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه بريح الطيب فكان الغاية في النظافة والنزاهة.
ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ولكن التوسط هو المحمود.
ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه الذي هو راحلته ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته.
ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها من منفعة لصاحبها ولغيره.
ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض.
وليس ذلك من الشرع ولا نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
إنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا لم يجدوا جاعوا، وربما آثروا فصبروا ضرورة.
وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها - فرب لقمة منعت لقمات - فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح ولا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات.
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلح بمقدار.
ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق.
إنما نقل عنهم تركها لسبب، إما للنظر في حلها، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت ويجوز ذلك.
وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه.
وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم.
ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته رقته إلى أن يختار لنفسه مذهباً ولا يتمذهب لأحد. فإن المقلد أعمى يقوده مقلده.
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع في حالة الأرذال.
فكن رجلاً رجله في الثّرى ... وهامة همّته في الثريّا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل.
وما قعد من قعد بالا لدناءة الهمة وخساستها.
واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتهب. ولا تخلد إلى كسل.
فما فات ما فات إلا بالكسل. ولا نال من نال إلا بالجد والعزم.
وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف:
ليس لي مال سوى كرّي ... فبه أحيا من العدم
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي
● [ فصل ] ●
الفقر بلاء ومنقصةليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال.
وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه.
وقل الصبر فدخوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم. فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير. وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم.
وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقاً من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا.
وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات إلى غير ذلك من المداهنات وسببه الفقر.
فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة.
ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين.
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك.
وإما من كان شديد الصبر قنوعاً بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد ابن حنبل.
ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات. وربما تلف دينه.
فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس فإنه يجمع لك دينك. فما رأينا في الأغلب منافقاً في التدين والتزهد والتخشع ولا آفة طرأت على عالم إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك الفقر.
فإن كان له ما يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشره، خارج عن حيز العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال.
● [ فصل ] ●
فضل الفقهأعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته. ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم.
فإن أرباب المذاهب فاقوا على الخلائق أبداً، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أبو باللغة.
واعتبر هذا بأهل زماننا فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة فيستغني ويعرف حكم الله تعالى في الحوادث ما لا يعرفه النحرير من باقي العلماء.
وكما رأينا مبرزاً في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة لا يعرف مع الشيخوخة معظم أحكام الشرع.
وربما جهل عمل ما ينويه في صلاته، على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبياً عن باقي العلوم. فإنه لا يكون فقيهاً.
بل يأخذ من كل علم بخط ثم يتوفر على الفقه فإنه عز الدنيا والآخرة.
● [ فصل ] ●
نقائض سببها استمكان الهوىرأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول.
فبحثت عن سبب ذلك، فوجدته من شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعاً ولا بصراً.
ومن هذا القبيل أن إخوة يوسف قالوا - حين سمعوا صوت المنادي: " إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ " - " لَقَدْ عَلِمْتُم ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كنَّا سَارِقينَ " ، فجاء في التفسير أنهم لما دخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا تتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا قد رأيتم ما صنعنا بإبلنا فكيف نسرق، ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملكونها، وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب وبيعه بثمن بخس.
وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة، وفيما لا ينقص شيئاً من عادته في مطعم وملبس.
نرى أقواماً يأخذون ويقول أحدهم: كيف يراني عدوي بعد أن بعت داري، أو تغير ملبوسي ومركوبي !.
ونرى أقواماً يوسوسون في الطهارة ويستعملون الكثير من الماء ولا يتحاشون من غيبة.
وأقواماً يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز.
حتى أني رأيت رجلاً من أهل الخير والتعبد أعطاه رجل مالاً ليبني به مسجداً، فأخذه لنفسه وأنفق عوض الصحيح قراضة. فلما احتضر قال لذلك الرجل: اجعلني في حل فإني فعلت كذا وكذا.
ونرى أقواماً يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها لم يتمالكوا.
وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها.
وقد علمنا أن خلقاً من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم، فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم.
وكذلك قيصر فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل، ثم لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه.
فالله الله في تضييع الأصول ! ومن إهمال سرح الهوى. فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه.
وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت.
على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى، وأن يكون بصيراً بما يقوى عليه من أعدائه وبمن يقوى عليه.
● [ فصل ] ●
تجارب مع الناسمن أعظم الغلط الثقة بالناس والاسترسال إلى الأصدقاء.
فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً، لأنه قد اطلع على خفي السر، قال الشاعر:
احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أعم بالمضرة
واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم، أو الغبطة وحب الرفعة، فإذا رآك من يعتقدك مثلاً له وقد ارتقيت عليه فلا بد أن يتأثر وربما حسد.
فإن قلت: كيف يبقى الإنسان بلا صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد، وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم، ولا يتناول من شهوات الدنيا شيئاً، فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح هبط من أعينهم.
فإذا كانت هذه حالة العوام، وتلك حالة الخواص، فمع من تكون المعاشرة ؟.
لا بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس لأنها متلونة.
وليس إلا المداراة للخلق والاحتراز منهم واتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق.
فإن ندر فيكن غير مماثل، لأن الحسد إليه أسبق.
وليكن مرتفعاً عن رتبة العوام، غير طامع في نيل مقامك.
وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي لأن المعاشرة ينبغي ان تكون بين العلماء للمجانس فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة، ولكن لا سبيل إلى الوصال.
ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء عرفوا باطنك، وإن استخدمت البله انعكست مقاصدك.
فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة. والبله لحوائجك في منزلك لئلا يعلموا أسرارك.
واقنع من الأصدقاء، بمن وصفته لك، ثم لا تلقه إلا متدرعاً درع الحذر، ولا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه، وكن كما يقال عن الذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخى الأعادي فهو يقظان هاجع
● [ فصل ] ●
علماء الدنيارأيت نفراً ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفقه من الجهل، ورذيلته، وطلباً للعلم، وفضيلته.
فلما نال منه طرفاً رفعه عن مراتب أرباب الدنيا، ومن لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنسفه من حظوظ.
فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس وغيرهم.
فخاطبت بعضهم وقلت: ويحك أين تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها.
وأظمأت نهارك بسببها، فلما ارتفعت وانتفعت عدت إلى أسفل سافلين.
أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو به عن مقامات الأرذال ؟.
ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى ؟.
ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟.
على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا.
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئاً من الدنيا تستعين به على طلب العلم، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك.
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر ف ما قد عزمت عليه زيادة، بل لعله كله مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه الذي طالما صين لمن لا يصلح التفات مثلك إلى مثله.
وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم.
وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ.
ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن ؟. وكم رمى قفر في بواديه من هالك.
ثم ما تحصله يفنى ويبقى منه ما أعطى، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين بك.
ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه، خصوصاً وقد مر أكثر العمر.
ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.
● [ فصل ] ●
التخطيط لتحصيل العلوم النافعةرأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوت الشره عليه مقصوده.
وقد رأينا من كان شرهاً في جمع المال فحصل له الكثير منه وهو مع ذلك حريص على الازدياد.
ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان جميعاً: وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به فأبقاه لغيره وأفنى نفسه كما قال الشاعر:
كدودة القز، ما تبنيه يهدمها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقاً يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها، وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم ينقسمون.
فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل عنده للحديث - أسلم سالما الله - مائة طريق.
وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة.
ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها ولا من فهم معناها، فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني والفلاني فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه.
وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلاّ كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أوراح في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله، فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط.
ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم وما خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا ؟.
قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم، والا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زاداً، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب.
وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصاً إن تشاغل بالنسخ.
ثم لا يحفظ القرآن.
أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث.
أو بالخلاف في الفقه ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك.
فأقول: ذو الهمة لا يخفي من زمان الصبا.
كما قل سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها.
كما قال سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بلغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس.
فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
أو تصور أن يكون مثلاً خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة.
ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً.
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صح له قراءة القراءات السبعة وأشياء من النحو وكتب اللغة وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث عليم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك.
وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة.
ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب القبول منهم، فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً.
مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا ويجذب إلى مقام الولاية.
ومن أريد وفق.
وإن الله عز وجل أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدباً، ويسمى العقل. ومقوماً، ويقال له الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويهيء لهم أسباب القرب منه.
فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم.
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد.
● [ فصل ] ●
نضح السرائرإن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود.
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم.
ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى.
ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفي ذكره وقبره.
ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق.
فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب.
فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه.
ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة وكأنه قيل له: إبق بما آثرت فيبقى أبداً في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
فتلمحوا ما سطوته، واعرفوا ما ذكرته. ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص.
● [ فصل ] ●
الأقدار والأسبابمن عرف جريان الأقدار ثبت لها.
وأجهل الناس بعد هذا من قاواها، لأن مراد المقدر الذل له.
فإذا قاويت القدر فنلت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل.
مثال هذا: أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة، فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق مستحياُ من الله كيف يسألهم.
وإن كان له عذر بالحاجة التي ألجأته، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى معتذراً مستحياً وذاك المراد منه.
أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فلا يقدر على العود إليها حتى يدخل في خفارة المطعم بن عدي وهو كافر.
فسبحان من ناط الأمور بالأسباب، ليحصل ذل العارف بالحاجة إلى التسبب.
● [ فصل ] ●
محك الحوادثسبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء.
هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة.
وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه.
وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة.
وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح.
وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول.
وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم.
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء. ثم لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف النقلة، فقال: واكرباه.
فمن تلمح بحر الدنيا وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء.
● [ فصل ] ●
في رياضة النفسينبغي للعاقل أن لا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها ؟ ويجرب نفسه في ركوب بعضها سراً من الخلق فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها، ثم يعود فيفتضح.
مثله: رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة ولبس الدون وانفرد في زاوية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح بما جرت به العادة.
فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقه من مرض.
ومنهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب.
وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة.
فإن قويت عزيمته في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر شيئاً للخلق، فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة.
وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل وذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم.
وهذا الفعل عندي من أعظم الخطأ وإن كان منقولاً عن جماعه من الكبار.
ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال: أخطأوا كلهم وقد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء ولم يميزوها، كما روي عن سفيان في دفن كتبه.
أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره.
وهذا التأويل يصح في حق علمائهم.
فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه وابن أسباط فتفريط محض.
فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع أو من ارتكاب ما يظن عزيمة وهو خطيئة، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى.
وعليكم من العمل بم تطيقون كما قال صلى الله عليه وسلم.
● [ فصل ] ●
أهوال الآخرةأجهل الجهال من آثر عاجلاً على آجل لا يأمن سوء مغبته.
فكم قد سمعنا عن سلطان وأمير صاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة من كل لذة.
ولو كان هذا فحسب لكفى حزناً كيف والجزاء الدائم بين يديه.
فالدنيا محبوبة للطبع لا ريب في ذلك ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها.
ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها ويعلم وجه أخذها، ليسلم له عاقبة لذته.
وإلا فلا خير في لذة من بعدها نار.
وهل عد في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنة ثم نقتلك.
هيهات بل الأمر بالعكس وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين ليستريح في عاقبته.
وفي الجملة أف للذة أعقبت عقوبة.
وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب قال أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال حدثنا يوسف بن عمر القواس قال حدثنا الحسين بن إسماعيل إملاء قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن مسلمة البلخي قال حدثنا محمد بن علي القوهستاني قال حدثنا دلف بن أبي دلف، قال: رأيت كأن آتيا بعد موت أبي فقال: أجب الأمير. فقمت معه، فأدخلني دار وحشة وعرة سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد وإذا أبي عريان واضعاً رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم: دلف، قلت: نعم أصلح الله الأمير ؟ فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخفاق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت، قلت: نعم ؟ فأنشأ يقول:
فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
● [ فصل ] ●
جوانب الفضلاللذات كلها بين حسي وعقلي، فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح.
وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا فقد نال النهاية، وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين، غير أن للطالب المرزوق علامة وهو أن يكون مرزوقاً علو الهمة وهذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور.
كما يروي في الحديث أن كان لعبد المطلب مفرش في الحجر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأناً.
فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة ولم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟.
فالجواب أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر.
ثم من البعيد أن يرزقك همة ولا يعينك، فانظر في حالك فلعله أعطاك شيئاً ما شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه.
واعلم أنه ربما روي عنك من لذات الدنيا كثيراً ليؤثرك بلذات العلم، فإنك ضعيف ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك.
وأما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدىء طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفاً، ويجهل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل؛ فبه تبين سير الكاملين.
وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن.
ومتى أدى العلم لمعرفة الحق وخدمة الله عز وجل فتحت له أبواب لا تفتح لغيره.
وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءاً من زمانه مصروفاً إلى توفير الاكتساب والتجارة، مستنيباً فيها، غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتنع من الإسراف والتبذير.
فإن رواية العلم والعمل به إلى درجة المعرفة لله عز وجل آسرة للمشاعر، فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء، ويا لها حالة سليمة من آفة.
وإن وجد من طبعه منازعاً إلى الشوق في النكاح فليتخير السراري في الأغلب غل.
وليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن ودينهن.
فإن رضين طلب الولد منهن، وإلا فالاستبدال بهن سهل.
ولا يتزوج حرة إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها والتسري، وليكن قصده الاستمتاع بها لا إجهاد النفس في الإنزال.
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الأصل.
فهذه الحالة الجامع من لذتي الحس والعقل ذكرتها على وجه الإشارة.
وفهم الذكي يميل عليه ما لم أشرحه.
● [ فصل ] ●
شروط التعلم والحفظأعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً، فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر أو يمرض.
وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بن الأنباري في مرض موت، فنظر إلى مائة كتاب وقال: قد كنت تفعل شيئاً لا يفعله أحد، ثم خرج فقال: ما يجيء منه شيء.
فقيل له: ما الذي كنت تفعل ؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة من الغلط تحمل القلب حفظ الكثير من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل ومنهم من يعجز عن عشرين رطلاً، فكذلك القلوب.
فليأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها، فإنه إذا استنفدها في وقت ضاعت منه أوقات.
كما أن الشره يأكل فضل لقيمات فيكون سبباً إلى منع أكلات.
والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل.
ويرفه القوي في بقية الزمان، والدوام أصل عظيم.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ.
وللحفظ أوقات من العمر فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان.
وأفضلهما إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع.
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطىء نهر، لأن ذلك يلهي.
والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
والخلوة أصل وجمع الهم أصل الأصول.
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبني عليه.
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم، وأن لا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله.
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ.
قال الزهري: ما أكلت خلا منذ عالجت الحفظ.
وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه ؟ قال: بجمع الهم.
وقال حماد بن سلمة: بقلة الغم.
وقال مكحول: من نظف ثوبه قل همه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته.
وأختار للمبتدي في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم.
فإن غلب عليه الأمر تزوج واجتهد في المدافعة بالفعل لتتوفر القوة على إعادة العلم.
ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير.
وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل.
وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن ثم الفقه، وما عبد هذا بمنزلة تابع، ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله، المقصود على الأحسن: " وَاتّ؟قُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللّهُ " .
● [ فصل ] ●
بين الخطأ والتوبةمن أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله عز وجل.
فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافيه التقوى وإن قل إلا وجد عقوبته عاجلة أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ " .
وربما قالت النفس: إنه يغفر فتسامحت ولا شك أنه يغفر ولكن لمن يشاء.
وأنا أشرح لك حالاً فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة.
وذلك أن من هفا هفوة لم يقصدها ولم يعزم عليها قبل الفعل ولا عزم على العود بعد الفعل ثم انتبه لما فعل فاستغفر الله كان فعله وإن دخله عمداً في مقام خطأ.
مثل أن يعرض له مستحسن فيغلبه الطبع فيطلق النظر ويتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه ندم على فعله فقام الندم بغسل تلك الأوساخ التي كانت كأنها غلطة لم تقصد.
فهذا معنى قوله تعالى: " إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفْ مِنَ الشيطان تَذَكّرُوا فَإذَا هم مُبْصِرُونَ " .
فأما المداوم على تلك النظرة المردد لها، المصر عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي مبارز بالخلاف فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره.
ومن البعد أن لا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثاً نصرانياً، ما هذا ؟ لترين غبها ولو بعد حين، فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
واعلم أنهم من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر.
ومن أعظم العقوبة أن لا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض.
قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فألجئت إلى سفر طويل لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقبت ذلك موت أعز الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة فصلح حالي.
ثم عاد الهوى فحملين على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي وعدمت رقته، واستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح.
فلما تأملت ما عوضت وما سلب مني صحت من ألم تلك السياط.
فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى فالعقوبة مرة.
واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.
وبالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى المبتلي كان قليلاً في نيل رضاه.
ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا مع إعراضه عنكم كانت سلامتكم هلاكاً، وعافيتكم مرضاً، وصحتكم سقماً والأمر بآخره، والعاقل من تلمح العواقب.
وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء فما أسرع زواله.
والله الموفق إذ لا حول إلا به ولا قوة إلا بفضله.
عون على الصبر
اختيار الله أولى
فضل العلم
التلطف مع النفس
التطلع إلى الأفضل
الفقر بلاء ومنقصة
فضل الفقه
نقائض سببها استمكان الهوى
تجارب مع الناس
علماء الدنيا
التخطيط لتحصيل العلوم النافعة
نضح السرائر
الأقدار والأسباب
محك الحوادث
في رياضة النفس
أهوال الآخرة
جوانب الفضل
شروط التعلم والحفظ
بين الخطأ والتوبة