من طرف حكماء الجمعة 26 ديسمبر 2014 - 13:26
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
من ذكر سلطان غرناطة الى أسوان من صعيد مصر
● [ ذكر سلطان غرناطة ] ●
وكان ملك غرناطة في عهد دخولي إليها السلطان أبا الحجاج يوسف بن السلطان أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر. ولم ألقه بسبب مرض كان به. وبعثت إلى والدته الحرة الصالحة الفاضلة بدنانير ذهب ارتفقت بها. ولقيت بغرناطة جملة من فضلائها، منهم قاضي الجماعة بها الشريف البليغ أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسيني السبتي، ومنهم فقيهها المدرس الخطيب العالم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البياني، ومنهم قاضيها وعالمها ومقرئها الخطيب أبو سعيد فرج بن قاسم، الشهير بابن لب، ومنهم قاضي الجماعة، نادرة العصر وطرفة الدهر أبو البركات محمد بن محمد بن إبراهيم السلمي البلعبعي. قدم عليها من المرية في تلك الأيام، فوقع الاجتماع به في بستان بالفقيه أبي القاسم محمد ابن الفقيه الكاتب الجليل أبي عبد الله بن عاصم. واقمنا هنالك يومين وليلة.
قال ابن جزي: كنت معهم في ذلك البستان، ومتعنا الشيخ أبو عبد الله بأخبار رحلته، وقيدت عنه أسماء الأعلام الذين لقيهم فيها، واستفدنا منه الفوائد العجيبة. وكان معنا جملة من وجوه أهل غرناطة، منهم الشاعر المجيد الغريب الشأن أبو جعفر أحمد بن رضوان بن عبد العظيم الجذامي. ولهذا الفتى أمر عجيب، فإنه نشأ بالبادية، ولم يطلب العلم، ولا مارس الطلبة. ثم إنه نبغ بالشعر الجيد الذي يندر وقوعه من كبار البلغاء وصدور الطلبة مثل قوله:
يا من اختار فؤادي منزلاً . بابه العين الـتـي تـرمـقـه
فتح الباب سهادي بعدكم . فابـعـثـوا طـيفـكـم يغـلـقـــه
ولقيت بغرناطة الشيوخ والمتصوفين منهم الفقيه أبا علي عمر بن الشيخ الصالح الولي أبي عبد الله محمد بن المحروق، وأقمت أياماً بزاويته التي بخارج غرناطة، وأكرمني أشد الإكرام.
وتوجهت معه إلى زيارة الزاوية الشهيرة البركة المعروفة برابطة العقاب، والعقاب جبل مطل على خارج غرناطة، وبينهما نحو ثمانية أميال، وهو مجاور لمدينة التيرة الخربة. ولقيت أيضاً ابن أخيه الفقيه أبا الحسن علي بن أحمد بن المحروق بزاويته المنسوبة للجام، بأعلى ربض نجد، من خارج غرناطة، المتصل بجبل السبيكة، وهو شيخ المتسببين من الفقراء.
وبغرناطة جملة من فقراء العجم، استوطنوها لشبهها ببلادهم. ومنهم الحاج أبو عبد الله السمرقندي، والحاج أحمد التبريزي، والحاج إبراهيم القونوي، والحاج حسين الخراساني والحاجان علي ورشيدي الهنديان، وسواهم.
ثم رحلت من غرناطة إلى الحمة، ثم إلى بلش، ثم إلى مالقة، ثم إلى حصن ذكوان، وهو حصن حسن كثير المياه والأشجار والفواكه، ثم سافرت منه إلى رندة، ثم إلى قرية بني رياح. فأنزلني شيخها أبو الحسن علي بن سليمان الرياحي، وهو أحد كرماء الرجال وفضلاء الأعيان، يطعم الصادر والوارد، وأضافني ضيافة حسنة. ثم سافرت إلى جبل الفتح، وركبت البحر في الجفن الذي جزت فيه أولاً، وهو لأهل أصيلا، فوصلت إلى سبتة. وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو مهدي عيسى بن سليمان بن منصور، وقاضيها الفقيه أبا محمد الزجندري. ثم سافرت منها إلى أصيلا، وأقمت بها شهوراً. ثم سافرت منها إلى مدينة سلا، فوصلت إلى مدينة مراكش. وهي من أجمل المدن، فسيحة الأرجاء، متسعة الأقطار. كثيرة الخيرات، بها المساجد الضخمة، كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة، صعدتها، وظهر لي جميع البلد منها. وقد استولى عليه الخراب. فما شبهته إلا بغداد، إلا أن أسواق بغداد أحسن.
وبمراكش المدرسة العجيبة التي تميزت بحسن الوضع وإتقان الصنعة وهي من بناء الإمام مولانا أمير المسلمين أبي الحسن رضوان الله عليه. قال ابن جزي: في مراكش يقول قاضيها الإمام التاريخي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأوسي:
لله مراكش الغراء من بـلد . وحـبـذا أهـلـهـا الـسـادات مـن سـكـن
ان حلها نازح الأوطان مغتـرب . أسلوه بالأنس عن أهل وعن وطن
بين الـحـديث بها أو العيان لها . ينشأ التحاسد بين العين والأذن
ثم سافرنا من مراكش، صحبة الركاب العلي، ركاب مولانا أيده الله، فوصلنا إلى مدينة سلا، ثم إلى مدينة مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات، المحيطة بها بحائر الزيتون من جميع نواحيها. ثم وصلنا إلى حضرة فاس، حرسها الله تعالى، فوادعت بها مولانا أيده الله، وتوجهت برسم السفر إلى بلاد السودان، فوصلت إلى مدينة سجلماسة. وهي من أحسن المدن، وبها التمر الكثير الطيب، وتشبهها مدينة البصرة في كثرة التمر. لكن تمر سجلماسة أطيب، وصنف إيرار منه لا نظير له في البلاد. ونزلت منها عند الفقيه أبي محمد البشري، وهو الذي لقيت أخاه بمدينة قنجنفو من بلاد الصين. فيا شد ما تباعدا، فأكرمني غاية الإكرام، واشتريت بها الجمال، وعلفتها أربعة أشهر.
ثم سافرت في غرة شهر الله المحرم سنة ثلاث وخمسين، في رفقة مقدمها أبو محمد يندكان المسوفي رحمه الله تعالى، وفيها جماعة من تجار سجلماسة وغيرهم. فوصلنا بعد خمسة وعشرين يوماً إلى تغازى، وضبط اسمها " بفتح التاء المثناة والغين المعجم وألف وزاي مفتوح أيضاً "، وهي قرية لاخير فيها. ومن عجائبها أن بناء بيوتها ومسجدها من حجارة الملح، وسقفها من جلول الجمال. ولا شجر بها، إنما هي رمل في معدن الملح، يحفر عليه في الأرض، فيوجد منه ألواح ضخام متراكبة، كأنها قد نحتت ووضعت تحت الأرض، يحمل الجمل منها لوحين. ولا يسكنها إلا عبيد مسوفة، وهم الذين يحفرون على الملح، ويتعيشون بما يجلب إليهم من تمر درعة وسجلماسة، ومن لحوم الجمال، ومن أنلي المجلوب من بلاد السودان، ويصل السودان من بلادهم، فيحملون منها الملح. ويباع الحمل منه بأيوالاتن بعشرة مثاقيل إلى ثمانية، وبمدينة مالي بثلاثين مثقالاً إلى عشرين، وربما انتهى إلى أربعين مثقالاً.
وبالملح يتصارف السودان، كما يتصارف بالذهب والفضة. يقطعونه قطعاً، ويتبايعون به. وقرية تغازى على حقارتها يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبن. وأقمنا بها عشرة أيام في جهد، لأن ماءها زعاق. وهي أكثر المواضع ذباباً، ومنها يرفع الماء لدخول الصحراء التي بعدها. وهي مسيرة عشرة، لا ماء فيها إلا في النادر. ووجدنا نحن بها ماء كثيراً في غدران أبقاها المطر. ولقد وجدنا في بعض الأيام غديراً بين تلين من حجارة، ماؤه عذب، فتروينا منه، وغسلنا ثيابنا. والكمأة بتلك الصحراء كثيرة، ويكثر القمل بها، حتى يجعل الناس في أعناقهم خيوطاً فيها الزئبق، فيقتلها.
وكنا في تلك الأيام نتقدم أمام القافلة، فإذا وجدنا مكاناً يصلح للرعي رعينا الدواب به. ولم نزل كذلك حتى ضاع في الصحراء رجل يعرف بابن زيري، فلم أتقدم بعد ذلك، ولا تأخرت. وكان ابن زيري وقعت بينه وبين ابن خاله، ويعرف بابن عدي منازعة ومشاتمة، فتأخر عن الرفقة، فضل. فلما نزل الناس، لم يظهر له خبر. فأشرت على ابن خاله بأن يكتري من مسوفة، من يقص أثره لعله يجده فأبى، وانتدب في اليوم الثاني رجل من مسوفة دون أجرة لطلبه، فوجد أثره، وهو يسلك الجادة طوراً، ويخرج عنها تارة، ولم يقع له على خبر. ولقد لقينا قافلة في طريقنا، فأخبرونا أن بعض رجال انقطعوا عنهم. فوجدنا أحدهم ميتاً تحت شجيرة من أشجار الرمل، وعليه ثيابه، وفي يده سوط. وكان الماء على نحو ميل منه. ثم وصلنا إلى تاسرهلا " بفتح التاء المثناة والسين المهمل والراء وسكون الهاء "، وهي احساء ماء، تنزل القوافل عليها، ويقيمون ثلاثة أيام. فيستريحون ويصلحون أسقيتهم ويملأونها بالماء ويخيطون عليها التلاليس خوف الريح، ومن هنالك يبعث التكشيف.
● [ ذكر التكشيف ] ●
التكشيف اسم لكل رجل من مسوفة يكتريه أهل القافلة، فيتقدم إلى أيوالاتن يكتب الناس إلى أصحابهم بها، ليكتروا لهم الدور، ويخرجون للقائهم بالماء، مسيرة أربع. ومن لم يكن له صاحب بأيوالاتن، كتب إلى من شهر بالفضل من التجار بها، فيشاركه في ذلك. وربما هلك التكشيف في هذه الصحراء، فلا يعلم أهل أيوالاتن بالقافلة، فيهلك أهلها، أو الكثير منهم. وتلك الصحراء كثيرة الشياطين، فإن كان التكشيف منفرداً لعبت به، واستهوته حتى يضل عن قصده فيهلك، إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر، إنما هي رمال تسفيها الريح، فترى جبالاً من الرمل في مكان، ثم تراها قد انتقلت إلى سواه، والدليل هنالك من كثر تردده، وكان له قلب ذكي. ورأيت من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواحدة، مريض الثانية، وهو أعرف الناس بالطريق. واكترينا التكشيف في هذه السفرة بمائة مثقال من الذهب، وهو من مسوفة. وفي ليلة اليوم السابع رأينا نيران الذين خرجوا للقائنا، فاستبشرنا بذلك. وهذه الصحراء منيرة مشرقة، ينشرح الصدر فيها، وتطيب النفس. وهي آمنة من السراق. والبقر الوحشية بها كثيراً، يأتي القطيع منها حتى يقرب من الناس فيصطادونه بالكلاب والنشاب. لكن لحمها يولد أكله العطش، فيتحاماه كثير من الناس لذلك. ومن العجائب أن هذه البقرة إذا قتلت، وجد في كروشها الماء. ولقد رأيت أهل مسوفة يعصرون الكرش منها، ويشربون الماء الذي فيه. والحيات أيضاً بهذه الصحراء كثيرة.
حكاية
وكان في القافلة تاجر تلمساني يعرف بالحاج زيان. ومن عادته أن يقبض على الحيات، ويعبث بها. وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي. فلما كان ذات يوم أدخل يده في حجر ضب ليخرجه، فوجد مكانه حية، فأخذها بيده. وأراد الركوب، فلسعته في سبابته اليمنى، وأصابه وجع شديد. فكويت يده، وزاد ألمه عشي النهار، فنحر جملاً وأدخل يده في كرشه وتركها كذلك ليلة، ثم تناثر لحم إصبعه، فقطعها من الأصل. وأخبرنا أهل مسوفة ان تلك الحية كانت قد شربت الماء قبل لسعه، ولو لم تكن شربت لقتلته. ولما وصل إلينا الذين استقبلونا بالماء شربت خيلنا. ودخلنا صحراء شديدة الحر، ليست كالتي عهدنا. وكنا نرحل بعد صلاة العصر، ونسري الليل كله وننزل عند الصباح. وتأتي الرجال من مسوفة وبردامة وغيرهم بأحمال الماء للبيع. ثم وصلنا إلى مدينة إيوالاتن في غرة شهر ربيع الأول، بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وهي أول عمالة السودان، ونائب السلطان بها فربا حسين، وفربا " بفتح الفاء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة " ومعناه النائب. ولما وصلناها جعل التجار أمتعتهم في رحبة، وتكفل لسودان بحفظها، وتوجهوا إلى الفربا، وهو جالس على بساط في سقيف، أعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي، وكبراء مسوفة من ورائه. ووقف التجار بين يديه، وهو يكلمهم بترجمان على قربهم منه، احتقاراً لهم. فعند ذلك ندمت على قدومي بلادهم، لسوء أدبهم، واحتقارهم للأبيض. وقصدت دار ابن بداء، وهو رجل فاضل من أهل سلا، كنت كتبت له أن يكتري لي داراً، ففعل ذلك. ثم إن مشرف أيوالاتن، ويسمى منشاجو، " بفتح الميم وسكون النون وفتح الشين المعجم والف وجيم مضموم وواو " استدعى من جاء في القافلة إلى ضيافته، فأبيت حضور ذلك. فعزم الأصحاب علي أشد العزم، فتوجهت فيمن توجه. ثم أتي بالضيافة، وهي جريش أنلي مخلوطاً بيسير عسل ولبن، قد وضعوه في نصف قرعة صيروه شبه الجفنة، فشرب الحاضرون وانصرفوا. فقلت لهم: ألهذا دعانا الأسود ? قالوا: نعم، وهي الضيافة الكبيرة عندهم. فأيقنت حينئذ أن لا خير يرتجى منهم، وأردت أن أسافر مع حجاج أيوالاتن، ثم ظهر لي أن أتوجه لمشاهدة حضرة ملكهم. وكانت إقامتي بأيوالاتن نحو خمسين يوماً. وأكرمني أهلها، وأضافوني. منهم قاضيها محمد بن عبد الله بن ينومر، وأخوه الفقيه المدرس يحيى. وبلدة أيوالاتن شديدة الحر، وفيها يسير نخيلات، يزرعون في ظلالها البطيخ. وماؤهم من أحساء بها، ولحم الضأن كثير بها. وثياب أهلها حسان مصرية، وأكثر السكان بها من مسوفة. ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأناً من الرجال.
● [ ذكر مسوفة الساكنين بأيوالاتن ] ●
وشأن هؤلاء القوم عجيب، وأمرهم غريب، فأما رجالهم فلا غيرة لديهم، ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه، بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال، ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهن تزوج، لكنهن لا يسافرن مع الزوج، ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات. ويدخل أحدهم داره، فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك.
حكاية
دخلت يوماً على القاضي بأيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع، فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: لم ترجع ? إنها صاحبتي. فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج، واخبرت أنه استأذن السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته، لا أدري، أهي هذه أم لا ? فلم يأذن له.
حكاية نحوها
دخلت يوماً على أبي محمد يندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته، فوجدته قاعداً على بساط، وفي وسط داره سرير مظلل، عليه امرأة معها رجل قاعد، وهما يتحدثان. فقلت له: من هذه المرأة ? فقال: هي زوجتي. فقلت: ومن الرجل الذي معها ? فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا ? وأنت قد سكنت بلادنا، وعرفت أمور الشرع. فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وأحسن طريقة، لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم. فعجبت من رعونته، وانصرفت عنه، فلم أعد إليه بعدها. واستدعاني في مرات، فلم أجبه. ولما عزمت على السفر إلى مالي، وبينها وبين أيوالاتن مسيرة أربعة وعشرين يوماً للمجد، اكتريت دليلاً من مسوفة، إذ لا حاجة إلى السفر في رفقة إلا من تلك الطريق، وخرجت في ثلاثة من أصحابي. وتلك الطريق كثيرة الأشجار، وأشجارها عادية ضخمة، تستظل القافلة بظل الشجرة منها، وبعضها لا أغصان لها ولا ورق، لكن ظل جسدها بحيث يستظل به الانسان، وبعض تلك الأشجار قد استأسن داخلها، واستنقع فيه ماء المطر، فكأنها بئر، ويشرب الناس من الماء الذي فيها. ويكون في بعضها النحل والعسل، فيشتاره الناس منها. ولقد مررت بشجرة منها. فوجدت في داخلها رجلاً حائكاً، قد نصب بها مرمته، وهو ينسج. فعجبت منه. قال ابن جزي: إن ببلاد الأندلس شجرتين من شجر القسطل، في جوف كل واحدة منهما حائك، ينسج الثياب إحداهما بسندا وادي آش، والأخرى ببشارة غرناطة.
وفي أشجار هذه الغابة التي بين أيوالاتن ومالي ما يشبه ثمرة الإجاص، والتفاح والخوخ والمشمش، وليست بها. وفيها أشجار تثمر شبه الفقوس، فإذا طاب انفلق عن شيء شبه الدقيق، فيطبخونه ويأكلونه، ويباع بالأسواق. ويستخرجون من هذه الأرض حبات كالفول، فيقلونها ويأكلونها، وطعمها كطعم الحمص المقلو. وربما طحنوها وصنعوا منها شبه الإسفنج، وقلوه بالغرتي، والغرتي " بفتح الغين المعجم وسكون الراء وكسر التاء المثناة " هو ثمر كالإجاص، شديد الحلاوة مضر بالبيضان إذا أكلوه، ويدق عظمه، فيستخرج منه زيت لهم فيه منافع، فمنها أنهم يطبخون به، ويسرجون السرج ويقلون به هذا الإسفنج، ويدهنون به، ويخلطونه بتراب عندهم، ويسطحون به الدور، كما تسطح بالجير. وهو عندهم كثير متيسر، ويحمل من بلد إلى بلد في قرع كبار، تسع القرعة منها قدر ما تسعه القلة ببلادنا. والقرع ببلاد السودان يعظم، ومنه يصنعون الجفان. يقطعون القرعة نصفين، فيصنعون منها جفنتين، وينقشونها نقشاً حسناً. وإذا سافر أحدهم يتبعه عبيده وجواريه، يحملون فرشه وأوانيه التي يأكل ويشرب فيها، وهي من القرع.
والمسافر بهذه البلاد لا يحمل زاداً ولا إداماً ولا ديناراً ولا درهماً. إنما يحمل قطع الملح، وحلي الزجاج الذي يسميه الناس النظم، وبعض السلع العطرية. وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكي وتاسرغنت، وهو بخورهم، فإذا وصل قرية، جاءت نساء السودان بأنلي واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني، وهو كحب الخردل يصنع من الكسكسو، والعصيدة، ودقيق اللوبيا، فيشتري منهن ما أحب من ذلك. إلا أن الأرز يضر أكله بالبيضان، والفوني خير منه. وبعد مسيرة عشرة أيام من أيوالاتن وصلنا إلى قرية زاغري " وضبطها بفتح الزاي والغين المعجم وكسر الراء "، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان، ويسمون ونجراته " بفتح الواو وسكون النون وفتح الجيم والراء والف وتاء مثناة وتاء تأنيث "، ويسكن معهم جماعة من البيضان، يذهبون مذهب الإباضية من الخوارج، ويسمون صغنغو " بفتح الصاد المهمل والغين المعجم الأول والنون وضم الغين الثاني وواو "، والسنيون المالكيون من البيض يسمون عندهم توري " بضم التاء المثناة وواو وراء مكسورة ". ومن هذه القرية يجلب أنلي إلى أيوالاتن.
ثم سرنا من زاغري فوصلنا إلى النهر الأعظم، وهو النيل وعليه بلدة كارسخو " بفتح الكاف وسكون الراء وفتح السين المهمل وضم الخاء المعجم وواو "، والنيل ينحدر منها إلى كابرة " بفتح الباء الموحدة والراء "، ثم إلى زاغة " بفتح الزاي والغين المعجم "، ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي. وأهل زاغة قدماء في الإسلام. ولهم ديانة وطلب للعلم، ثم ينحدر النيل من زاغة إلى تنبكتو، ثم إلى كوكو، وسنذكرهما، ثم إلى بلدة مولي " بضم الميم وكسر اللام " من بلاد الليميين، وهي آخر عمالة مالي، ثم إلى يوفي واسمها " بضم الياء آخر الحروف وواو مكسورة "، وهي من أكبر بلاد السودان، وسلطانها من أعظم سلاطينهم. ولا يدخلها الأبيض من الناس، لأنهم يقتلونه قبل الوصول إليها، ثم ينحدر إلى بلاد النوبة، وهم على دين النصراينة، ثم إلى دنقلة، وهي أكبر بلادهم " وضبطها ضم الدال والقاف وسكون النون بينهما وفتح اللام "، وسلطانها يدعي بابن كنز الدين، أسلم على أيام الملك الناصر، ثم ينحدر إلى جنادل، وهي آخر عمالة السودان، وأول عمالة أسوان من صعيد مصر، ورأيت التمساح بهذا الموضع من النيل بالقرب من الساحل، كأنه قارب صغير. ولقد نزلت يوماً إلى النيل لقضاء حاجة، فإذا بأحد السودان قد جاء، ووقف فيما بيني وبين النهر. فعجبت من سوء أدبه. وقلة حيائه، وذكرت ذلك لبعض الناس فقال: إنما يفعل ذلك خوفاً عليك من التمساح، فحال بينك وبينه. ثم سرنا من كارسخو فوصلنا إلى نهر صنصرة " بفتح الصادين المهملين والراء وسكون النون "، وهو على نحو عشرة أميال من مالي. وعادتهم أن يمنع الناس من دخولها إلا بإذن. وكنت كتبت قبل ذلك لجماعة البيضان، وكبيرهم محمد بن الفقيه الجزولي، وشمس الدين بن النقويش المصري، ليكتروا لي داراً، فلما وصلت إلى النهر المذكور، جزت في المعدية، ولم يمنعني أحد، فوصلت إلى مدينة مالي حضرة ملك السودان، فنزلت عند مقبرتها، ووصلت إلى محلة البيضان، وقصدت محمد بن الفقيه، فوجدته قد اكترى لي داراً إزاء داره، فتوجهت إليها. وجاء صهره الفقيه المقرئ عبد الواحد بشمعة وطعام، ثم جاء ابن الفقيه إلي من الغد وشمس الدين بن النقويش، وعلي الزودي المراكشي، وهو من الطلبة، ولقيت القاضي بمالي عبد الرحمن، جاءني وهو من السودان، حاج فاضل، له مكارم أخلاق، بعث إلي بقرة في ضيافته. ولقيت الترجمان دوغا " بضم الدال وواو وغين معجم "، وهو من أفاضل السودان وكبارهم، وبعث إلي بثور، وبعث إلي الفقيه عبد الواحد غرارتين من الفوني، وقرعة من الغرتي، وبعث إلي ابن الفقيه الأرز والفوني، وبعث إلي شمس الدين ضيافة وقاموا بحقي أتم قيام. شكر الله حسن أفعالهم. وكان ابن الفقيه متزوجاً ببنت عم السلطان، فكانت تتفقدنا بالطعام وغيره. وأكلنا بعد عشرة أيام من وصولنا عصيدة تصنع شيء شبه القلقاس، يسمى القافي " بقاف والف وفاء "، وهي عندهم مفضلة على سائر الطعام. فأصبحنا جميعاً مرضى، وكنا ستة. فمات أحدنا، وذهبت أنا لصلاة الصبح، فغشي علي فيها، وطلبت من بعض المصريين دواء مسهلاً فأتى بشيء يسمى بيدر " بفتح الباء الموحدة وتسكين الياء آخر الحروف وفتح الدال المهمل وراء "، وهو عروق نبات، وخلطه بالأنيسون والسكر، ولته بالماء فشربته، وتقيأت ما أكلته مع صفراء كثيرة. وعافاني الله من الهلاك. ولكني مرضت شهرين.
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
منتدى توتة وحدوتة - البوابة