بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الباب الأول
ما جاء في أوله ألف أصلية أو مجتلبة
المقدمة والمجموعة الأولى
مقدمة كتاب جمهرة الأمثال للعسكري
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحمد الله حمد الشاكرين، وأشهد بوحدانيته شهادة العارفين، وأقر بإحسانه في إيضاح السبيل، وإقامة الدليل، وتوكيد الحجة، وتبيين المحجة؛ إقرار الخاضعين. وأثني عليه بسالف نعمته، وفارط منته، في مثل ضربه، ومثال نصبه؛ لينتهي إليه العارف فيرشد،ويهتدى أبهديه فيتسدد ثناء المخلصين.
ودل على فضيلة ذلك في محكم بيانه، ومنزل فرقانه، فقال جل ثناؤه: (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)، وقال: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة)، وقال: (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)، وقال: (ضرب الله مثلا عبداً مملوكاً)، وقال: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)، وقال: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم)؛ إلى غير ذلك مما أشار به إلى منافع الأمثال في مصرفاتها، وحسن مواقعها في جهاتها.
ونحن نسأل الله أن ينفعنا بها كما وقفنا عليها، ويقيض لنا عائدتها، كما رزقنا معرفتها، وأن يصلي على رسوله الذي جعله واسطة بينه وبيننا فيها، وفيما يهدينا ويأخذ بأيدينا منها، ثم من سائر آياته المحكمات، وحججه البالغات، وعلى آله الطاهرين، وعترته المنتجبين، وأصحابه المختارين، ويسلم تسليما.
ثم إني ما رأيت حاجة الشريف إلى شيء من أدب اللسان بعد سلامته من اللحن، كحاجته إلى الشاهد والمثل، والشذرة والكلمة السائرة، فإن ذلك يزيد المنطق تفخيما، ويكسبه قبولاً، ويجعل له قدراً في النفوس، وحلاوةً في الصدور، ويدعو القلوب إلى وعيه، ويبعثها على حفظه، ويأخذها باستعداده لأوقات المذاكرة، والاستظهار به أوان المجاولة في ميادين المجادلة، والمصاولة في حلبات المقاولة، وإنما هو في الكلام كالتفصيل في العقد، والتنوير في الروض، والتسهيم في البرد؛ فينبغي أن يستكثر من أنواعه؛ لان الإقلال منها كاسمه إقلال؛ والتقصير في التماسه قصور، وما كان منه مثلا سائراً فمعرفته ألزم؛ لان منفعته أعم، والجهل به أقبح.
ولما عرفت العرب أن الأمثال تتصرف في أكثر وجوه الكلام، وتدخل في جل أساليب القول أخرجوها في أقواها من الألفاظ؛ ليخف استعمالها، ويسهل تداولها؛ فهي من أجل الكلام وأنبله، وأشرفه وأفضله؛ لقلة ألفاظها، وكثرة معانيها، ويسير مئونتها على المتكلم، مع كبير عنايتها، وجسيم عائدتها.
ومن عجائبها أنها مع إيجازها تعمل عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت في أثناء الخطاب؛ والحفظ موكل بما راع من اللفظ، وندر من المعنى.
والأمثال أيضاً نوع من العلم منفرد بنفسه، لا يقدر على التصرف فيه إلا من اجتهد في طلبه حتى أحكمه، وبالغ في التماسه حتى أتقنه. وليس من حفظ صدراً من الغريب فقام بتفسير قصيدة، وكشف أغراض رسالة أو خطبة، قادراً على أن يقوم بشرح الأمثال والإبانة عن معانيها، والأخبار عن المقاصد فيها؛ وإنما يحتاج الرجل في معرفتها مع العلم بالغريب إلى الوقوف على أصولها، والإحاطة بأحاديثها، ويكمل لذلك من اجتهد في الرواية، وتقدم في الدراية؛ فأما من قصر وعذر؛ فقد قصر وتأخر، وأنى يسوغ الأديب لنفسه ذلك، وقد علم أن كل من لم يعن بها من الأدباء عنايةً تبلغه أقصى غاياتها، وأبعد نهاياتها، كان منقوص الأدب، غير تام الآلة فيه، ولا موفور الحظ منه! ولما رأيت الحاجة إليها هذه الحاجة عزمت على تقريب سبلها، وتلخيص مشكلها، وذكر أصولها وأخبارها؛ ليفهمها الغبي فضلا عن اللقين الذكي، فعملت كتابي هذا مشتملا منها على ما لم يشتمل عليه كتاب أعرفه؛ وضمنته إياها ملخصةً لا يشينها الاهذار، ولا يزري بها الإكثار، ولا يعيبها التقصير والإقلال، منظومةً على نسق حروف المعجم، ليدنو مجتناها، ويسهل مبتغاها.
وميزت ما أورد حمزة الاصبهاني من الأمثال المضروبة في التناهي والمبالغة، وهي الأمثال على أفعل من كذا، فأوردت منها ما كان عربياً صحيحاً، ونفيت المولد السقيم، ليتبرأ كتابي من العيب الذي لزم كتاب حمزة، في اشتماله على كل غث من أمثال المولدين، وحشوة الحضريين، فصارت العلماء تلغيه، وتسقطه وتنفيه.
ويجري في خلال ما فسرت منها ومن غيرها حكايات وأشعار تصلح أن تكون أمثالا، وكتبت بإزائها من الحاشية ميماً؛ لتتميز مما يجاورها، فتؤخذ وتستعمل في المواضع التي تصلح لها. وما توفيقنا إلا بالله، عليه نتوكل. وبه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
نبدأ بذكر اشتقاق المثل، فنقول: أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام؛ كقولهم: كما تدين تدان؛ وهو من قولك: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول: شبهه وشبهه، ثم جعل كل حكمة سائرة مثلا. وقد يأتي القائل بما يحسن أن يتمثل به؛ إلا أنه لا يتفق أن يسير فلا يكون مثلا.
وضرب المثل جعله يسير في البلاد؛ من قولك: ضرب في الأرض؛ إذا سار فيها، ومنه سمي المضارب مضارباً. ويقولون: الأمثال تحكى؛ يعنون بذلك أنها تضرب على ما جاءت عن العرب، ولا تغير صيغتها، فتقول للرجل: الصيف ضيعت اللبن، فتكسر التاء؛ لأنها حكاية.
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المجموعة الأولى من حرف الألف
المثل المضروب
إن من البيان لسحراً
تفسير هذا المثل
أول من لفظ به النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أحمد الكاغدي، عن أبي بكر عبد الله بن حماد العقدي. عن أبي جعفر أحمد بن الحارث الخزاز، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن الاهتم: أخبرنا عن الزبرقان، فقال: إنه مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من ذلك، ولكن حسدني، فقال عمرو: والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، حديث الغنى، أحمق الوالد، لئيم الخال، وما كذبت في الاولى، ولقد صدقت في الاخرى؛ رضيت فقلت بأحسن ما علمت، وسخطت فقلت بأسوأ ما علمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً "؛ وذلك أول ما سمع.
وأخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عسل بن ذكوان، قال: قال أبو عبد الرحمن: أذم البيان أم مدحه، فما أبان أحد بشيء. فقال: ذمه؛ لان السحر تمويه، فقال: إن من البيان ما يموه الباطل حتى يشبهه بالحق. وقال غيره: بل مدحه، لان البيان من الفهم والذكاء.
قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: الصحيح أنه مدحه، وتسميته إياه سحراً إنما هو على جهة التعجب منه؛ لانه لما ذم عمرو الزبرقان ومدحه في حال واحدة، وصدق في مدحه وذمه فيما ذكر، عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما يعجب من السحر، فسماه سحراً من هذا الوجه.
وقد أجمع أهل البلاغة على أن تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق من ارفع درجات البلاغة، وقد أحكمنا ذلك في كتاب صنعة الكلام.
وقد روي هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، ومعه زيادات توخيت من أجلها تكريره. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا معمر بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا سعد الجرمي، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو جعفر النحوي، عن عبد الله بن ثابت، عن صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً، وإن من العلم جهلا وإن من القول عيالا ". قوله: " إن من العلم جهلا " يعني تكلف العالم القول فيما يجهله. وقوله: " إن من القول عيالا "؛ يعني عرضك الكلام على من ليس من شأنه. والحكم: الحكمة، كقولك: العذر والعذرة. وقيل: يعني قوله: إن من البيان لسحراً، أن البليغ يبلغ ببيانه ما يبلغ الساحر بلطافة حيلته في سحره.
وتكلم بعضهم عند عمر بن عبد العزيز بكلام حسن، فقال عمر: هذا السحر الحلال؛ فتصرف الشعراء في هذه اللفظة، فقال بعضهم:
وحديثها السحر الحلال لو أنه * لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت * ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها * للمستهام وعقلة المستوفـــز
ولا نعرف في الحديث كلاماً أحسن من هذا.
وقال بعض المهالبة في المعتمد:
سيبقى فيك ما يهدي لساني * إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملا الافاق مما * أحـل الله مـن سـحــر الــبـــيان
بها ينفى الكرى السارون عنهم * وتلهي الشـرب أوتار القيان
بمعتمد على الله اسـتجرنا * فصرنا آمنين من الزمـان
المثل المضروب
إن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطاً أو يلم
تفسير هذا المثل
أول من تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب الصفار، قال: حدثنا زياد بن يحيى الحساني، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن يحيى أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرة الدنيا وزينتها "، فقال رجل: يا نبي الله، أو يأتي الخير بالشر، فأرينا أنه ينزل عليه، فقال: أين السائل، فكأنه حمده، فقال: " إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطاً أو يلم "؛ وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، وأفصحه لفظاً، وألطفه معنىً.
وهو مثل ضربه لمن أعطي من الدنيا حظاً، فألهاه الاشتغال به، والاستكثار منه، والحرص عليه، ومجانبة القصد فيه؛ عن إصلاح دينه، فيكون فيه هلاكه، كما أن الماشية إذا لم تقتصد في مراعيها حبطت بطونها فماتت أو كادت. والحبط: انتفاخ البطن. ورواه بعضهم: خبطاً بالخاء، وهو تصحيف. ونحو المثل قول النابغة:
اليأس عما فات يعقب راحةً * ولرب مطعمة تعود ذباحا
المثل المضروب
إياكم وخضراء الدمن
تفسير هذا المثل
هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم،
حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا محمد بن الحسين بن سعيد بواسط، قال: حدثنا أحمد بن الخليل البرجلاني، قال: حدثنا الواقدي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن حيان، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم وخضراء الدمن "، وهو النبت ينبت على البعر، فيروق ظاهره، وليس في باطنه خير. وضربه مثلا للمرأة الحسناء في منبت السوء، وكره ذلك لان عرق السوء ينزع.
ومثله قول العرب: إياكم وعقيلة الملح، يعنون الدرة، وهي تكون في الماء الملح، ومعناه النهي عن نكاح الحسناء في منصب السوء.
وأنشد بعضهم قول زفر بن الحارث بعقب هذا الخبر، وذكر أنه مثله:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتقى حزازات النفوس كما هيا
وقال غيره: ليس هو منه في شيء، قال: ومعناه أن الدمنة هي الموضع الذي تبرك فيه الابل، فتبول وتبعر فيه، فلا ينبت شيئاً، فإذا أصابته السماء وسقته الرياح أنبت، فيقول: إن ذلك الموضع قد ينبت بعد أن لم يكن ينبت فيتغير بالنبات، وتبقى حزازات النفوس لا تتغير.
قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: وهذا مثل قول صاحب كليلة: لكل حريق مطفئ؛ للنار الماء، وللسم الدواء، وللعشق البين، ونار العداوة لا تخمد أبداً بشيء من الاشياء.
وفي نحو ما تقدم قول الشاعر:
فلا يغرنك أضغان مرملة * قد يضرب الدبر الدامي بأحلاس
وتقول العرب: عرق السوء ينجث ولو بعد حين، أي يستخرج منه ما هو كامن فيه.
قال أكثم بن صيفي: لا يغلبنكم الجمال على صراحة النسب؛ فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف.
وقال الشاعر:
فأدركه خالاته فاختزلنه * ألا إن عرق السوء لا بد مدرك
المثل المضروب
أول العي الاحتلاط
تفسير هذا المثل
الاحتلاط: الغضب، ومعناه أن الرجل إذا عجز عن دفع خصمه بحجة قاطعة أظهر الغضب ليجعله سبباً إلى التخلص منه.
وله وجه آخر؛ وهو أنه إذا غضب عي عن الجواب، وامتنع عليه الخطاب، وأحضر الناس جواباً من لم يغضب. قالوا: وأحزم الفريقين الركين والعاجز عن الجواب أيضاً ربما تعلل بالضحك.
وفي بعض الامثال: من عجز عن الجواب ضحك من غير عجاب.
وقال عبد الجبار بن عدي: قلت لعجوز من نصارى لخم: لو تحنفت! فقالت: لو تنصرت! قلت: الحنيفية أقرب إلى الله قالت: أقربها إليه أقدمها؛ الذي أرسل به رسولا، و أعطاه الحكم صبياً، وأنطقه في المهد وليدا؛ أثبت به الحجة، ووكد به الهدية، ولم يحوجه إلى نصر العشيرة. قال: فضحكت تعجباً من قولها، فقالت: من عجز عن الجواب ضحك من غير عجاب.
المثل المضروب
أفرط فأسقط
تفسير هذا المثل
هو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كثر كلامه كثر سقطه ".
أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا الفضل بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن خليد، قال: حدثنا عبدة بن شبل الحنفي، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به ".
وقال بعضهم: الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال ذلك، وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم. أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا الحسن بن خضر، قال: حدثنا الحجاج بن نصير، قال: حدثنا صالح المزي، عن مالك بن دينار، عن الاحنف، قال لي عمر: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
المثل المضروب
أسوأ القول الإفراط
تفسير هذا المثل
ومن أمثالهم في النهي عن مفارقة التوسط في القول قولهم: أسوأ القول الافراط، قال الله تعالى: (و إذا قلتم فاعدلوا).
وقالت الحكماء: لكل شيء طرفان ووسط، ففي طرفه الاول شعبة من التقصير، ومع الاخير بعض الافراط، وخيره وسطه.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: سمعت أبا الحسن الاخفش، يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول: لا أعلم فيما روي في التوسط أحسن من قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: عليكم بالنمرقة الوسطى، فإليها يرجع الغالي، وبها يلحق التالي. وقال حكيم الشعراء:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله * إن التخلق يأتي دونه الخلق
وقال آخر:
إن بين التفريط والافراط * مسلكاً منجياً من الايراط
قال الشيخ رحمه الله: أي من الهلكة.
والافراط مذموم في كل شيء؛ فمن أفرط في المدح نسب إلى الملق، أو في النصيحة لحقته التهمة. وقيل: كثير النصح يهجم بك على كثير الظنة، و إذا أفرط في سرعة السير قطع به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ".
والعرب تقول: شر السير الحقحقة وهي شدة السير. وقال المرار:
نقطع بالنزول الارض عنا * وطول الارض يقطعه النزول
و إذا أفرط في الاكل والشرب سقم، وإذا أفرط في الزهد منع نفسه ما أحل له فعذبها من حيث لو نعمها لم يضره، و إذا أفرط في البذل كان مبذراً، وأرجع الامر إلى الفقر، و إذا أفرط في المنع كان بخيلا يذم بكل لسان، ويحتقره كل إنسان، ويشبه بالكلب في دناءة نفسه وقصور همته. ولا يدخل الافراط شيئاً إلا أفسده.
أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، قال: سمعت أبا العباس المبرد يقول: خلال الخير لها مقادير، فإذا خرجت عنها استحالت؛ فالحياء حسن، فإذا جاوز المقدار كان عجزاً، والشجاعة حسنة، فإذا جاوزت المقدار كان تهوراً، والبذل حسن، فإذا جاوز المقدار كان تضييعاً، والقصد حسن، فإذا جاوز المقدار كان بخلا، والكلام حسن، فإذا جاوز المقدار كان إهذاراً، والصمت حسن، فإذا جاوز المقدار كان عياً.
وقال بعض الاعراب: إنما جعلت لك أذنان ولسان واحد؛ ليكون استماعك ضعفي كلامك.
المثل المضروب
أحق شيء بسجن لسان
تفسير هذا المثل
ومن أمثالهم في حفظ اللسان قولهم: " أحق شيء بسجن لسان "، ومعناه: أحق ما ينبغي أن يمنع من الانبعاث في الباطل اللسان، لان زلته مهلكة، ومن حق ما يهلك إرساله أن يزم. والسجن بالفتح مصدر سجنت سجناً. والمحبس: السجن. وقرئ: السجن أحب إلي بالفتح والكسر.
ومن أول ما روي في حفظ اللسان قول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه اسانه * فليس على شيء سواه بخزان
وقال المحدث: إنما السالم من ألجم فاه بلجام. وأخذ أبو الاسود لفظ المثل فقال:
لعمرك ما شيء عرفت مكانه * أحق بسجن من لسان مذلل
وقالوا: من علامات العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، حافظاً للسانه، مقبلا على شانه.
حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو روق، عن الرياشي عن عبد العزيز بن عمر الحمصي، عن الفيض بن عبد الحميد، قال: كتب رجل إلى أخيه:
وما شيء أردت بـه بـيانـاً * بأبلغ لا أبالك من لسان
فأجابه:
وما شيء إذا روأت فيه * أحق بطول سجن من لسان
المثل المضروب
إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يعرف بالكذب؛ حتى يرد صدقه. وأصله أن القين وهو الحداد إذا كسد عمله أشاع بارتحاله، وهو يريد الاقامة، وإنما يذكر الرحيل؛ ليستعمله أهل الماء، ثم إذا صدق لم يصدق؛ لان من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
وقال نهشل بن حري:
وعهد الغانيات كعهد قين * ونت عنه الجعائل مستذاق
كبرق لاح يعجب من رآه * ولا يغني الحوائم من لماق
ونت عنه الجعائل، أي قصرت فلم تبلغه، والجعائل هاهنا: أجور عمله. والمستذاق: قيل المجرب، وقيل المنظور منه إلى ما يفعل؛ والصحيح أنه إذا أتى قوماً يحسن لهم العمل في أول أمره معهم، حتى يذوقوا ذلك منه فيأتوه، ثم يفسد بعد ذلك فيقول: إنهن أول ما يوصلن يتحببن، ثم يفسدن بعد ذلك ويغدرن. وذقت الشيء: جربته، قال الشاعر:
وإن الله ذاق حلوم قيس * فلما راء خفتهـا قـلاهـا
راء بمعنى رأى. ويقولون: ذاق السيف، إذا جربه: أصارم أم كهام، والسرى: سير الليل، مؤنثة، فأما قول لبيد:
قال هجدنا فقد طال السرى
فإنما قال ذلك؛ لانه فعل قد تقدم، وليس بتأنيث حقيقي. ويقال: ما كان قيناً، ولقد قان يقين قيانةً، وقان الحديدة يقينها: أصلحها. وقن إناءك، وكل أمة قينة؛ مغنيةً كانت أو غير مغنية، ولا يقال للعبد قين. وأنشد ثعلب:
ولي كبد مجروحة قد بدا بها * صدوع الهوى لو كان قين يقينها
وتقينت تقيناً، أي تزينت، وأنشد:
وهن مناخات تجللن زينةً * كما اقتان بالنبت العهاد المجود
المثل المضروب
أساء سمعاً فأساء إجابة
أشبه امرأً بعض بزه.
تفسير هذا المثل
يضرب الاول مثلا للرجل يخطئ السمع فيسيء الاجابة. والجابة اسم؛ مثل الطاعة والطاقة والاجابة: المصدر؛ مثل الاطاعة والاطاقة.
قالوا: والمثل لسهيل بن عمرو، وكان له ابن مضعوف فرآه إنسان فقال له: أين أمك. أي قصدك. فظن أنه يسأله عن أمه، فقال: ذهبت تطحن، فقال سهيل: أساء سمعاً فأساء إجابة، فذهبت مثلا. فلما صار إلى زوجته أخبرها بما قال ابنها؛ فقالت: إنك تبغضه، فقال: أشبه امرأً بعض بزه، فأرسلها مثلا.
والصحيح أن هذا المثل لذي الاصبع العدواني، وسيجئ خبره في الباب الحادي عشر إن شاء الله.
وأنشدنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي حفص في الجابة:
وما من تهتفين به لنصر * بأسرع جابةً لك من هديل
وقصة الهديل أكذوبة من أكاذيب العرب؛ زعموا أن الهديل فرخ كان على عهد نوح فصاده جارح، فما من حمامة إلا وهي تبكيه وتدعوه فلا يجيبها؛ فيقول: إن دعاءك من تدعوه لنصرك لا يجاب، كدعاء الحمام الهديل. ونحوه قول الاخر:
فإن تك قيس قدمنك لنصرها * هلكت قيس وذل نصيرها
المثل المضروب
إليك يساق الحديث
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يصلح له الامر، وهو مستعجل يلتمس الوصول إليه قبل أوانه. وأصله أن رجلا خطب امرأةً، فجعل يصف لها نفسه، وجعل ذكره يتحرك حتى يصفه ثوبه، فضربه بيده وقال: إليك يساق الحديث.
ومن أمثالهم في نحو هذا قول أوس بن حجر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ولا أعرف أحداً مدح العجلة إلا أبا العيناء، فإن رجلا رآه يستعجل في أمر، فقال له: ارفق فإن العجلة من عمل الشيطان، فقال: لو كان كذلك ما قال موسى عليه السلام: (وعجلت إليك ربي لترضى)، وهو اللسان يضعه البليغ حيث يريد.
المثل المضروب
أبدى الصريح عن الرغوة
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للامر ينكشف بعد استتاره. والمثل لعبيد الله بن زياد، قاله في هانئ بن عروة، وكان مسلم بن عقيل حين بعثه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قد استخفى عنده، فبلغ عبيد الله مكانه، فأحضر هانئاً وسأله عنه فكتمه، فلما تهدده أقر، فقال عبيد الله: أبدى الصريح عن الرغوة. فذهبت مثلا؛ أي قد انكشف المستور. والرغوة: ما يعلو اللبن من الزبد، يقال: أرغى اللبن، ورغى. ومثله قولهم: صرح الحق عن محضه، وقولهم: برح الخفاء، أي زال الاستتار، وقالوا: أوضح الصبح لذي عينين.
المثل المضروب
أفرخ القوم بيضتهم
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للامر ينكشف بعد خفائه أيضاً. وأصله خروج الفرخ من البيضة، وظهوره منها بعد كمونه فيها. ومثله قولهم: بدا نجيث القوم أي ظهر ما أسروه، وقد نجث الامر، إذا أسر. وسميت البيضة بيضةً لانها تجمع ما فيها. وبيضة القوم مجتمعهم. وبيضة الحديد مشبهة ببيضة الحيوان.
المثل المضروب
أبى الحقين العذرة
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يعتذر وليس له عذر. وأصله أن قوماً استسقوا رجلا لبناً، فمنعهم إياه، واعتذر إليهم من تعذره عليه، فالتفتوا فإذا هم بلبن قد حقنه في وطب، فقالوا: أبى الحقين العذرة، والعذر والعذرة سواء، مثل القل والقلة، والنحل والنحلة وهي العطية والقر والقرة؛ أي ليس لك عذر في منع القرى وعندك لبن.
أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبي عن عسل، عن أبي الاسود، عن حبيش بن إبراهيم، عن عمر بن عبد الوهاب الرياحي، عن عامر بن صالح، عن أبي بكر الهذلي، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لسعيد بن يحيى المرادي: كيف أنت يا أبا يحيى، قال: أخبرك عني في الجاهلية؛ إني لم أخم عن تهمة، ولم أنادم زميلةً، وكنت لا أرى إلا في نادي عشيرة، أو خيل مغيرة، أو حمل جريرة، وأما الاسلام فقد أبى الحقين العذرة؛ معناه أن الذي عنده لبن لا يعتذر إلى الاضياف أنه لا قرى عنده. قال: فذنوبي تأبى أن أخبرك عن حالي في الاسلام.
ومن أمثالهم في العذر: المعاذر مكاذب. وقال بعضهم: لا يعتذر أحد إلا كذب.
المثل المضروب
أعن صبوح ترقق
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يريد الشيء، فيعرض به ولا يصرح بذكره. وأصله أن رجلا نزل بقوم ليلا، فأضافوه، فلما فرغ قال: أين أغدو إذا صبحتموني، أي سقيتموني الصبوح. فقيل له: أعن صبوح ترقق! يعني عن الغداء. وترقق: معناه ترقق كلامك وتحسنه؛ ومن ثم قيل للشعر في الغزل: الرقيق.
المثل المضروب
إياك أعنى فاسمعي يا جارة
تفسير هذا المثل
المثل لسيار بن مالك الفزاري قاله لاخت حارثة بن لأم الطائي، وذلك أنه نزل بها، فنظر إلى بعض محاسنها فهويها، واستحيا أن يخبرها بذلك، فجعل يشبب بامرأة غيرها، فلما طال ذلك، وضاق ذرعاً بما يجد، وقف لها فقال:
كانت لنا من غطفان جاره * حلالة ظعانة ســــــــــياره
كأنها من هيئة وشـاره * والحلي حلي التبر والحجـاره
مدفع ميثاء إلى قراره * إياك أعني فاسمعي يا جاره
والحازم العاقل قادر أن يكتم كل شيء يريد كتمانه، إلا الهوى فإن كتمانه ممتنع.
وقال العباس بن الاحنف:
من كان يزعم أن يواري في الهوى * حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للفؤاد بقهره * من أن يرى للسـر فيه نصيب
فإذا بدا سر اللبيب فإنه * لم يبد إلا أنه مغلوب
إني لابغض عاشقاً متستراً * لم تتهمه أعين وقلوب
المثل المضروب
أنجز حر ما وعد
أزمت شجعات بما فيها
تفسير هذا المثل
يقال: أنجز حر الوعد فنجز. وأصله من السرعة، يقال: تناجز القوم في الحرب، إذا تسافكوا دماءهم، كأنهم أسرعوا فيها.
وأول من قاله الحرث بن عمرو آكل المرار الكندي، كان من حديثه أنه قال لصخر بن نهشل بن دارم: هل أدلك على غنيمة على أن لي خمسها، قال: نعم. فدله على ناس من أهل اليمن، فأغار عليهم بقومه، فغنموا وملئوا أيديهم، فلما انصرفوا، قال له الحارث: أنجز حر ما وعد، فأراد صخر أن يفي له بوعده، فأبى قومه،
وفي طريقه ثنية يقال لها شجعات، فوقف صخر عليها وقال: أزمت شجعات بما فيها؛ فذهبت مثلا. فقال عمرو بن ثعلبة بن يربوع: والله لا نعطيه من غنيمتنا شيئاً، ومضى في الثنية، فحمل عليه صخر فقتله، فأجاب الجيش بإعطائه الخمس، فقال نهشل بن حري:
ونحن منعنا الجيش أن يتأوبوا * على شجعات والجياد بنا تـجـري
حنسناهم حتى أقروا بحكمنا * وأدى أنفال الخميس إلى صخر
أزمت، أي ضاقت. وأصل الازم: العض، ومنه: سنة أزوم، أي عضوض.
ومما يجري مع ذلك قولهم: الخلف ثلث النفاق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من علامات المنافق أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن ".
ولفظ قولهم: أنجز حر ما وعد لفظ الخبر، ومعناه الامر، أي لينجز حر ما وعد.
المثل المضروب
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للقوي يلقى أقوى منه. والاعصار: الريح الشديدة تثير الغبار، حتى يتصعد في السماء، والجمع الاعاصير، وفي القرآن: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت).
ونحو المثل أن أرطأة بن سهية قال لزمل بن أبير:
إني امرؤ تجد الرجال عداوتي * وجد الركاب من الذباب الازرق
فقال له زمل:
مثلي من الاقوام ليث خادر * ورد وما أنا بالذباب الازرق
فغلبه. ونحوه:
إن كنت جلمود صخر لا أؤبسه * أوقد عليه أحميه فينصدع
المثل المضروب
ألوى بعيد المستمر
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل الذي لا يطاق نكارةً. وأول من تكلم به النعمان بن المنذر، وأخذه طفيل الغنوي، فقال: أخبرنا أبو القاسم، عن العقدي، عن رجاله، قال: لما التقى الجمعان بصفين حتى كثرت القتلى، فجالت الخيل عليها، فتحولوا إلى موضع آخر، فاقتتلوا حتى جالت الخيل على القتلى وحانت الصلاة وهم يقتتلون، فنادى رجل: يأيها الناس، أكفرتم بعد إيمانكم، الصلاة ؛ فجمعوا بين الظهر والعصر ؛ ثم عادوا للقتال وعمرو بن العاص يتمثل قول طفيل:
إذا تخازرت وما بي من خزر * ثم كسرت الـعـين مـن غـير عـور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر * أحمل ما حملـت مـن خـير وشـر
كالحية الصماء في أصل الحجر * ذا صولة في المصمئلات الكبر
أبذي إذا بوذيت من كلب ذكر * أكدر شغار يغذى فـي الـسحر
ثم تقدم وقال:
شدوا علي سرتي لا تنقلف * يوماً لهمدان ويوماً للصدف
والربعيون لهم يوم عصف * وفي سدوس نخـوة لا تنحرف
نضربهم بالسيف حتى تنصرف * ولتميم مثلها أو تعتــرف
والالوى: المعوج، وهو مثل للرجل المحجاج الصليب الرأي. الشديد الخصومة، الذي لا تدفعه عن حجة إلا تعلق بأخرى.
ويقولون: هو بعيد الغور؛ إذا كان دقيق الاستنباط. وبعيد النظر، وبعيد مطرح الفكر.
المثل المضروب
إن يبغ عليك قومك لا يبغ القمر
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يدعي تلبيساً في الامر المشهور. وأصله أن رجلين تخاطرا على غروب القمر وطلوع الشمس صبيحة ثلاث عشرة؛ أيهما يسبق صاحبه، وكان بحضرتهما قوم مالوا إلى أحدهما، فقال الاخر: تبغون علي، فقيل له: إن يبغ عليك قومك لا يبغ القمر، فصار مثلا؛ أي هو يغيب لوقته لا يحابي أحداً؛ فليس لشكواك معنى.
المثل المضروب
أمكراً وأنت في الحديد
تفسير هذا المثل
يضرب للرجل يحتال وهو أسير ممنوع. والمثل لعبد الملك بن مروان، قاله لعمرو بن سعيد الاشدق، وكان عمرو خلعه، وأراد الامر لنفسه؛ فكتب إليه عبد الملك: رحمتي إياك تصرفني عن الغضب عليك؛ وذلك لتمكن الخدع منك، وخذلان التوفيق لك. نهضت بأسباب، ووهمتك نفسك أن تستفيد بها عزاً، وأنت جدير ألا تدفع بها ذلا، ومن رحل عنه سوء الظن، واستعبدته الاماني، ملك الحين تصريفه، واستترت عنه عواقب أموره؛ وعن قليل يتبين من سلك سبيلك بمثل أسبابك؛ أنه صريع طمع، وأسير خدع، والرحم تعطف على الصفح عنك، ما لم تحل بك عواقب جهلك؛ فانزجر قبل الايقاع بك، وإن فعلت فإنك في كنف وستر. والسلام.
فكتب إليه عمرو: استدراج النعم إياك أفادك البغي، وراحة القدرة أورثتك الغفلة؛ ولو كان ضعف الاسباب يوئس من شريف الطلاب ما انتقل سلطان، ولا ذل عز إنسان؛ وعن قليل تتبين من صريع بغي وأسير عدوان، والسلام.
ثم حمل عمرو إلى عبد الملك أسيراً؛ فقال له: طالما رحلت ثفال الغي، وهجهجت بقعود الباطل؛ أفظننت أن الحق لا يلحق باطلك، والسيف لا يقطع كاهلك، وأمر بقتله وكان مكبلا فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن رأيت ألا تفضحني بأن تخرجني إلى الناس فتقتلني بحضرتهم، وأراد عمرو أن يخالفه، فيخرجه فيمنعه أصحابه؛ ففطن عبد الملك لذلك وقال: يا أبا أمية، أمكراً وأنت في الحديد. ثم أمر فقطعوه، فكان ذلك أول غدر في الاسلام.
المثل المضروب
ابن الأيام
ابن الايام وما يجري في بابه
تفسير هذا المثل
يقال للرجل الجلد المجرب: ابن الايام، وابن الملمة؛ وهو الذي يقوم بها، وابن جلا، وابن أجلى، وابن بيض: المنجلي الامر، المنكشفه. وقال بعضهم: ابن جلا وابن أجلى رجل بعينه: قال الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
يعني ثنايا الجبال؛ ومعناه أنا المشهور.
وابن بيض؛ رجل بعينه أيضاً، وهو الذي يقال فيه: سد ابن بيض الطريق.
وابن أحذار: الحذر، وهو رجل بعينه أيضاً.
وابن أقوال: المقتدر على الكلام.
وابن خلاوة: البرئ من الشيء.
وابن حبة: الخبز؛ ويقال له: جابر بن حبة.
وابن يم: الخليج من خلجان البحر.
وابن النعامة: الطريق؛ وقيل: هو صدر القدم. وقيل: هو الخط في وسط القدم من باطن؛ وقيل: هي القدم نفسها، وأنشد: وابن النعامة يوم ذلك مركبي
وابن المخدش: الكاهل.
وابن آوى: سبع معروف؛ وكذلك ابن عرس.
وابن أنقد: القنفذ.
وابن مخاض وابن اللبون؛ من أولاد الابل، معروفان.
وابن ماء: ما يسكن الماء من الطير؛ وكني به عن الشيب في قول الشاعر:
وكم فر الغراب من ابن ماء
يعني الشباب والشيب.
وابن دأية: الغراب؛ وذلك أنه يقع على دأية البعير؛ والجمع دأيات، وهي عظام الصلب.
وابن تمرة: طائر.
وابن بريح: العذاب والمشقة، وهو الغراب أيضاً، لانه يبرح بالبعير إذا وقع على ظهره.
وابن قترة: ضرب من الافاعي.
وابن وردان، معروف.
وابن ثأداء وابن ثأداء والصحيح ابن ثأداء قال بعض الشعراء:
وما كنا بني ثأداء حتى * شفينا بالأسنة كل وتر
وابن ثأطاء وابن ثأطان: ابن الامة، وابن فرتنى مثله؛ وقيل: هو ابن الفاجرة.
وابن الطريق: ولد الزنا وابن السبيل: الغريب.
وابن درزة: السفلة الساقط؛ قال الشاعر:
أولاد درزة أسلموك وطاروا
وابن غبراء: الفقير، قال طرفة:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
وابن إحداها: الكريم الاباء والامهات.
وابن مدينتها، وابن بلدتها، وابن بجدتها، وابن بعثطها، وابن سرسورها، وابن سوبانها: العالم بالشيء؛ وبعثط الوادي: سرته.
وابن عذرها: المبدع للشيء.
وابن الانس: الصفي.
وابن البوح، قالوا: ولد الصلب.
وابنا ملاط: العضدان والكتفان.
وابنا دخان: غنى وباهلة.
وابنا عيان؛ أن يخط الناظر في أمر بإصبعه في الارض، ثم يعليه بإصبع أخرى، ويقول: ابني عيان، أسرعا البيان؛ كأنه يقول: أرياني ما أريد عياناً؛ وهو معنى قول ذي الرمة:
عشية ما لي حيلة غير أنني * بلقط الحصى والخط في الدار مولع
وقيل: البوح الذكر، من قولك: ابنك ابن بوحك.
وفي معناه قولهم: ابنك من دمى عقبيك، قالته امرأة الطفيل بن جعفر بن كلاب؛ وهي من بلقين؛ وكانت ولدت له عقيل بن الطفيل، فتبنته كبشة بنت عروة بن جعفر، فعرم على أمه يوماً فضربته، فجاءت كبشة تمنعها وتقول: ابني ابني، فقالت: ابنك من دمى عقبيك، أي من نفست به.
وقيل: البوح النفس. وروى: ولدك من دمى عقبيك. والولد والولد سواء؛ مثل العجم والعجم، والعرب والعرب؛ وفي القرآن: (ماله وولده إلا خساراً)، والولد أيضاً جمع الولد؛ كذا قال ابن دريد.
وابن شمام: هضبتان في أصل جبل.
وابنا سمير، وابنا جمير: الليل والنهار؛ سميا ابني سمير؛ لانه يسمر فيهما، وابني جمير؛ للاجتماع فيهما، يقال: شعر مجمور؛ إذا ضفر وجمع.
وابن جمير: الليلة التي لا يرى فيها القمر. وقيل: السمير: الدهر وقال بعضهم: ابنا سمير: الغداة والعشي. وقيل: ابن جمير: الليل المظلم، وأنشد:
نهارهم ظمآن ضاح ولـيلهم * وإن كان بدراً ظلمة ابن جمير
يقول: إذا طلبوا حقاً عموا عنه ليلا ونهاراً. وقال ابن دريد: ابن جمير وابن سمير: الليل المظلم، وابن ثمير: الليل المقمر؛ ويقولون: حلف بالسمر والقمر؛ السمر: الظلمة؛ لانهم كانوا يسمرون فيها؛ وقوله تعالى: (سامراً تهجرون)؛ أي تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم في سمركم.
وابن مزنة: الهلال؛ قال الشاعر:
كأن ابن مزنته جانحاً * فسيط لدى الافق من خنصر
والفسيط: قلامة الظفر؛ وهو أول من شبه الهلال بها؛ إلا أنه جاء به في غاية التكلف؛ وأخذه ابن المعتز فحسنه فقال:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحه * مثل القلامة قد قصت من الظفر
وابن ذكاء: الصبح.
وابن أوبر: ضرب من الكمأة.
وابن طاب: جنس من الرطب.
وابن الارض: نبت يخرج في رؤس الاكام، له أصل يطول، يؤكل؛ وهو سريع الخروج.
وبنت الارض: بقلة من الرمث؛ واحدتها مثل جمعها.
وبنت الجبل: الصدى؛ وهو الصوت الذي يرجع إليك من الجبل؛ وأنث على معنى الصيحة. وبنت الجبل أيضاً: الحية التي لا تجيب الراقي.
وبنت الشفة: الكلمة؛ يقال: ما كلمني ببنت شفة.
وبنت الفكر: الرأي.
وبنت المطر: دويبة حمراء ترى غب المطر؛ يقال: أشد حمرة من بنت المطر.
وبنت دم: نبت يضرب إلى الحمرة، وتجمع بنات دم وبنت المنية: الحمى.
وبنت الحية: الافعى. ويقال: " العصا من العصية، والافعى بنت حية "
وبنت أدحية: النعامة.
وبنت قضاعة: لعبة من جلود بيض.
وبنات بحنة: السياط؛ وبالمدينة نخلة طويلة السعف؛ يقال لها: بحنة.
وبنات بخر: السحاب.
وبنات مخر: سحائب تنشأ قبل الصيف.
وبنات السحاب: البرد.
وبنات الشمس: لعابها.
وبنات رباط: الخيل.
وبنات صعدة: الحمر الاهلية.
وبنات الطريق: المساكين.
وبنات قين: موضع ينسب إليه يوم من أيامهم.
وبنات نعش: كواكب معروفة.
وبنات مسند: ما يأتي به الدهر من حوادثه، والمسند: الدهر.
وبنات غير: الكذب والباطل، وصحفه ابن الاعرابي فقال: " بنات عين ".
وبنات برح، وبنات طمار، وبنات طبق: الدواهي.
وبنات الليل: الاحلام؛ وهي أيضاً أهواله.
وبنوا لهم: الصابرون عليه.
وبنو الفلاة: المداومون لسلوكها وبنوا الحرب: الصابرون فيها أيضاً، المطيلون مراسها.
وابن فهلل، وابن ثهلل: الضلال.
وابن قل: القليل.
وابن بي: الذليل المجهول؛ وكذلك ابن بيان، وكذلك ابن هي وابن هيان.
وطامر ابن طامر: البرغوث، والطمر: الوثب.
وابن الحارض: الساقط؛ يقال: أحرض الرجل، إذا حاء بولد لا خير فيه.
وابن واحد: المعروف الاب؛ يقال: هو واحد ابن واحد؛ وهو ضد ضل ابن ضل؛ وأكثر هذا الباب أمثال.
ومما يجري مع ذلك المكنى: أبو الحارث: الاسد.
أبو جعدة: الذئب.
أبو الحصين: الثعلب.
وأبو زنة: القرد، وأبو ضوطرى،
وأبو جخادب: سب يسب به الانسان. وقال أبو عمر الجرمي: أبو جخادب كنية الحرباء؛ أو دابة تشبهه؛ والاول قول جماعة أهل اللغة.
وأبو حباحب: كنية النار التي لا ينتفع بها: مثل النار التي تخرج من حوافر الخيل: ويقال لها: نار حباحب أيضاً. وقال خالد بن كلثوم: أبو حباحب كان كنية رجل من بخلاء العرب، وكان يوقد ناراً ضعيفة، ويخفيها مخافة الاضياف، فجعلته العرب كنية لكل نار ضعيفة، لا تثبت ولا تحرق.
وأبو قلمون: ثياب معروفة، وأظنها مولدة، ويستعار للرجل الكثير التلون.
وأبو براقش: طائر يتلون في اليوم ألواناً؛ مأخوذ من البرقشة؛ وهي النقش، والفيروزج أيضاً يتلون في اليوم لونين، ولم يتمثل به العرب، ولكن جاء في أمثال الفرس.
وأبو قبيس: جبل مكة.
وأبو أدراس: الفرج، مأخوذ من الدرس، وهو الحيض.
وأبو أدراص، وأبو ليلى: الرحل المحمق. والدرص: ولد الفأر؛ فكأنهم قالوا: هو أبو فأرة، وإذا قالوا: أبو ليلى فكأنهم قالوا: هو أبو امرأة.
وأبو زيد: الكبر؛ قال الشاعر:
إما ترى شكتي رميح أبي * زيد فقد أحمل السلاح معاً
وأبو مالك وأبو عمرة: الجوع، ويقال في المثل: " أبي أبو عمرة إلا ما أتاه "، يقوله الرجل قد سلم للدهر؛ وقال الشاعر:
إن أبا عمرة حـل حجرتي * وصار بيت العنكبوت برمتي
وأم حلس: كنية الاتان، وهي أم الهنبر أيضاً، والهنبر: الجحش، ويقولون: " أحمق من أم الهنبر "، وعند فزارة أن أم الهنبر الضبع.
وأم الندامة: العجلة.
وأم رمال، وأم خنور، وأم رغم، وأم عمرو، وأم عامر، كل ذلك الضبع، ومن العرب من يجعل أم خنور الداهية، ومنهم من يجعلها النعيم، ومنهم من يجعلها الدنيا.
وأم فروة: النعجة.
وأم الهيثم وأم الحوار: العقاب، قال الشاعر:
وكأنها لما عـدت سروية * مسعورة باللحم أم حوار
سروية، أي عقاب من عقبان السراة.
وأم رياح: طائر.
وأم عجلان: طائر.
وأم حبين: دويبة معروفة.
وأم عوف: الجرادة.
وأم حمارس: دابة لها قوائم كثيرة.
وأم الهدير: الشقشقة.
وأم القردان وأم القراد من الخيل والابل: الوطأة التي من وراء الخف والحافر، دون الثنة.
وأم الرمح: ما يلف عليه إذا جعل لواء، قال الشاعر:
فسلبنا الرمح فيه أمه * من يد العاصي إذا طال الطول
وأم سويد وأم سكين، وأم عزمل، وأم عرم، وأم تسعين؛ كل ذلك الاست.
وأم الرأس، وأم الدماغ: الهامة.
وأم الكبد: بقلة من دق البقل؛ لها زهرة غبراء في برعم مدور؛ وهي شفاء من وجع الكبد، ومن الصفر إذا عض الشر سوف بزعمهم.
وأم كلب: شجيرة جبلية لها نور أصفر في خلقة ورق الخلاف.
وأم غيلان: شجرة من العضاه؛ وهي أكثرها شوكا.
وأم حنين: الخمر، فيما ذكر المنتجع بن نبهان.
وأم ليلى: الخمر إذا كان لونها أسود، ذكر ذلك أبو حنيفة الدينوري.
وأم جابر: إياد؛ وقيل: أبو أسد، وجابر: اسم الخبز.
وأم أوعال: هضبة معروفة.
وأم المثوى؛ وأم المنزل: التي تضيف، يقال: كانت فلانة البارحة أم مثواي، وأم منزلي؛ وفلان أبو مثواي، وأبو منزلي؛ أي بت ضيفه.
وأم العيال، وأم القوم: من يقلدونه أمورهم.
وأم الطفل: المرأة المرضع.
وأم القرى: مكة، ثم أم كل أرض أعظم بلدانها، وأكثرها أهلا؛ كمرو؛ فإنها تسمى أم خراسان.
وأم كنات: الارض.
وأم غياث: السماء.
وأم السماء: المجرة؛ ويقال لها: أم النجوم.
وأم الظباء: الفلاة.
وأم راشد المفازة.
وأم معمر: الليل، حكى ذلك ثعلب. وأم معمر: الدين.
وأم شملة، وأم دفر، وأم العجب.
وأم درزة: الدنيا. وقيل أبو العجب الدهر وذكر المبرد: يقال للأنذال: أولاد درزة وقال الرياشي: أولاد درزة: خياطون خرجوا مع زيد ابن علي بالكوفة.
وأم الهبرزي، وأم ملدم، وأم ملذم؛ بالدال والذال: الحمى؛ قال الشاعر:
فمنهن أم الهبرزي تتبعت * عظامي فمنها ناحل وكسير
وأم ملدم، بالدال هو الاكثر؛ مأخوذ من اللدم؛ وهو ضرب الوجه حتى يحمر، وأما اللذم، فمن قولهم: لذم به؛ إذا لزمه.
وأم جندب: الغشم والظلم؛ يقال: وقعوا في أم جندب، وركبوا أم جندب؛ وأم جندب أيضاً: اسم من أسماء الداهية.
وأم الحرب: الحرب؛ وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله:
والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وأم الدهيم وأم اللهيم: المنية، وأم الربيق: الداهية؛ يقال: " جاء الربيق على أريق " وزعم الاصمعي أنه من قول رجل زعم أنه رأى الغول على جمل أورق، فقال: " جاء أم ربيق على أريق ".
وأم قشعم، وأم خشاف، وأم كلواذ، وأم خشور، وأم ناد وأم خنشفير، وأم الرقوب، وأم قوب، وأم الرقم، وأم أريق، وأم البليل، وأم الربيس، وأم حبو كرى، وأم أدراص؛ كل ذلك الداهية.
ويقال: داهية ربس وربيس؛ ويقال: رمل حبو كرى، إذا كان طويلا ويقال: وقع في أم أدراص مضللة؛ في موضع استحكام الهلكة؛ لان أم أدراص جحرة الفأرة؛ وجحرتها تتنافذ؛ فيقول: وقع في أمر مختلط، لا يعرف أوله من آخره. وقيل: أم قشعم: العنكبوت.
وقالوا: أم المؤمنين، وأم الكتاب.
فهذه الكنى عربية. والكنى المولدة كثيرة، منها: أبو المضاء: الفرس، وأبو اليقظان: الديك، وأبو خداش: السنور.
المثل المضروب
أول الغزو أخرق
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا لقلة التجارب، يراد، إنما الحكام بعد المعاودة، والتجربة ردء العقل.
ورأى أعرابي رجلا ينال من سلطان، فقال: إنك غفل لم تسمك التجارب؛ وكأني بالضاحك إليك باك عليك؛ والعقل عقلان: مخلوق ومكتسب؛ فالمخلوق ما يجعله الله لعبده ويكلفه من أجله، والمكتسب ما يناله العبد بالتجربة وليس يفضل رأي الشيخ على رأي الغلام إلا لتجربة الشيخ وغرارة الغلام.
ويقال لمن لا تجربة له: غر بين الغرارة؛ قال الشاعر:
ابحث لتعلم ما قد كنت تجهله * فالعقل فنان مطبوع ومسموع
وقيل لابن هبيرة: أي شيء أول العقل بعد الغريزي المولود، والتالد الموجود، قال: تجربة الامور التثبت فيها، والتقلب في البلاد، والنظر في عجائبها.
قال الشيخ رحمه الله: على أن التجربة لا تنفع إلا العقلاء؛ وأما الجهال فليس لهم فيه منفعة. وقد قيل: إنما تنفع التجارب من كان عاقلا، وقيل:
وقد ينفع المرء اللبيب تجاربه
مُختصر كتاب جمهرة الأمثال لأبو هلال العسكري
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحمد الله حمد الشاكرين، وأشهد بوحدانيته شهادة العارفين، وأقر بإحسانه في إيضاح السبيل، وإقامة الدليل، وتوكيد الحجة، وتبيين المحجة؛ إقرار الخاضعين. وأثني عليه بسالف نعمته، وفارط منته، في مثل ضربه، ومثال نصبه؛ لينتهي إليه العارف فيرشد،ويهتدى أبهديه فيتسدد ثناء المخلصين.
ودل على فضيلة ذلك في محكم بيانه، ومنزل فرقانه، فقال جل ثناؤه: (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)، وقال: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة)، وقال: (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون)، وقال: (ضرب الله مثلا عبداً مملوكاً)، وقال: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)، وقال: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم)؛ إلى غير ذلك مما أشار به إلى منافع الأمثال في مصرفاتها، وحسن مواقعها في جهاتها.
ونحن نسأل الله أن ينفعنا بها كما وقفنا عليها، ويقيض لنا عائدتها، كما رزقنا معرفتها، وأن يصلي على رسوله الذي جعله واسطة بينه وبيننا فيها، وفيما يهدينا ويأخذ بأيدينا منها، ثم من سائر آياته المحكمات، وحججه البالغات، وعلى آله الطاهرين، وعترته المنتجبين، وأصحابه المختارين، ويسلم تسليما.
ثم إني ما رأيت حاجة الشريف إلى شيء من أدب اللسان بعد سلامته من اللحن، كحاجته إلى الشاهد والمثل، والشذرة والكلمة السائرة، فإن ذلك يزيد المنطق تفخيما، ويكسبه قبولاً، ويجعل له قدراً في النفوس، وحلاوةً في الصدور، ويدعو القلوب إلى وعيه، ويبعثها على حفظه، ويأخذها باستعداده لأوقات المذاكرة، والاستظهار به أوان المجاولة في ميادين المجادلة، والمصاولة في حلبات المقاولة، وإنما هو في الكلام كالتفصيل في العقد، والتنوير في الروض، والتسهيم في البرد؛ فينبغي أن يستكثر من أنواعه؛ لان الإقلال منها كاسمه إقلال؛ والتقصير في التماسه قصور، وما كان منه مثلا سائراً فمعرفته ألزم؛ لان منفعته أعم، والجهل به أقبح.
ولما عرفت العرب أن الأمثال تتصرف في أكثر وجوه الكلام، وتدخل في جل أساليب القول أخرجوها في أقواها من الألفاظ؛ ليخف استعمالها، ويسهل تداولها؛ فهي من أجل الكلام وأنبله، وأشرفه وأفضله؛ لقلة ألفاظها، وكثرة معانيها، ويسير مئونتها على المتكلم، مع كبير عنايتها، وجسيم عائدتها.
ومن عجائبها أنها مع إيجازها تعمل عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت في أثناء الخطاب؛ والحفظ موكل بما راع من اللفظ، وندر من المعنى.
والأمثال أيضاً نوع من العلم منفرد بنفسه، لا يقدر على التصرف فيه إلا من اجتهد في طلبه حتى أحكمه، وبالغ في التماسه حتى أتقنه. وليس من حفظ صدراً من الغريب فقام بتفسير قصيدة، وكشف أغراض رسالة أو خطبة، قادراً على أن يقوم بشرح الأمثال والإبانة عن معانيها، والأخبار عن المقاصد فيها؛ وإنما يحتاج الرجل في معرفتها مع العلم بالغريب إلى الوقوف على أصولها، والإحاطة بأحاديثها، ويكمل لذلك من اجتهد في الرواية، وتقدم في الدراية؛ فأما من قصر وعذر؛ فقد قصر وتأخر، وأنى يسوغ الأديب لنفسه ذلك، وقد علم أن كل من لم يعن بها من الأدباء عنايةً تبلغه أقصى غاياتها، وأبعد نهاياتها، كان منقوص الأدب، غير تام الآلة فيه، ولا موفور الحظ منه! ولما رأيت الحاجة إليها هذه الحاجة عزمت على تقريب سبلها، وتلخيص مشكلها، وذكر أصولها وأخبارها؛ ليفهمها الغبي فضلا عن اللقين الذكي، فعملت كتابي هذا مشتملا منها على ما لم يشتمل عليه كتاب أعرفه؛ وضمنته إياها ملخصةً لا يشينها الاهذار، ولا يزري بها الإكثار، ولا يعيبها التقصير والإقلال، منظومةً على نسق حروف المعجم، ليدنو مجتناها، ويسهل مبتغاها.
وميزت ما أورد حمزة الاصبهاني من الأمثال المضروبة في التناهي والمبالغة، وهي الأمثال على أفعل من كذا، فأوردت منها ما كان عربياً صحيحاً، ونفيت المولد السقيم، ليتبرأ كتابي من العيب الذي لزم كتاب حمزة، في اشتماله على كل غث من أمثال المولدين، وحشوة الحضريين، فصارت العلماء تلغيه، وتسقطه وتنفيه.
ويجري في خلال ما فسرت منها ومن غيرها حكايات وأشعار تصلح أن تكون أمثالا، وكتبت بإزائها من الحاشية ميماً؛ لتتميز مما يجاورها، فتؤخذ وتستعمل في المواضع التي تصلح لها. وما توفيقنا إلا بالله، عليه نتوكل. وبه نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
نبدأ بذكر اشتقاق المثل، فنقول: أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام؛ كقولهم: كما تدين تدان؛ وهو من قولك: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول: شبهه وشبهه، ثم جعل كل حكمة سائرة مثلا. وقد يأتي القائل بما يحسن أن يتمثل به؛ إلا أنه لا يتفق أن يسير فلا يكون مثلا.
وضرب المثل جعله يسير في البلاد؛ من قولك: ضرب في الأرض؛ إذا سار فيها، ومنه سمي المضارب مضارباً. ويقولون: الأمثال تحكى؛ يعنون بذلك أنها تضرب على ما جاءت عن العرب، ولا تغير صيغتها، فتقول للرجل: الصيف ضيعت اللبن، فتكسر التاء؛ لأنها حكاية.
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
المجموعة الأولى من حرف الألف
المثل المضروب
إن من البيان لسحراً
تفسير هذا المثل
أول من لفظ به النبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أحمد الكاغدي، عن أبي بكر عبد الله بن حماد العقدي. عن أبي جعفر أحمد بن الحارث الخزاز، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن الاهتم: أخبرنا عن الزبرقان، فقال: إنه مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من ذلك، ولكن حسدني، فقال عمرو: والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، حديث الغنى، أحمق الوالد، لئيم الخال، وما كذبت في الاولى، ولقد صدقت في الاخرى؛ رضيت فقلت بأحسن ما علمت، وسخطت فقلت بأسوأ ما علمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً "؛ وذلك أول ما سمع.
وأخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن عسل بن ذكوان، قال: قال أبو عبد الرحمن: أذم البيان أم مدحه، فما أبان أحد بشيء. فقال: ذمه؛ لان السحر تمويه، فقال: إن من البيان ما يموه الباطل حتى يشبهه بالحق. وقال غيره: بل مدحه، لان البيان من الفهم والذكاء.
قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: الصحيح أنه مدحه، وتسميته إياه سحراً إنما هو على جهة التعجب منه؛ لانه لما ذم عمرو الزبرقان ومدحه في حال واحدة، وصدق في مدحه وذمه فيما ذكر، عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما يعجب من السحر، فسماه سحراً من هذا الوجه.
وقد أجمع أهل البلاغة على أن تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق من ارفع درجات البلاغة، وقد أحكمنا ذلك في كتاب صنعة الكلام.
وقد روي هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، ومعه زيادات توخيت من أجلها تكريره. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا معمر بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا سعد الجرمي، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو جعفر النحوي، عن عبد الله بن ثابت، عن صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً، وإن من العلم جهلا وإن من القول عيالا ". قوله: " إن من العلم جهلا " يعني تكلف العالم القول فيما يجهله. وقوله: " إن من القول عيالا "؛ يعني عرضك الكلام على من ليس من شأنه. والحكم: الحكمة، كقولك: العذر والعذرة. وقيل: يعني قوله: إن من البيان لسحراً، أن البليغ يبلغ ببيانه ما يبلغ الساحر بلطافة حيلته في سحره.
وتكلم بعضهم عند عمر بن عبد العزيز بكلام حسن، فقال عمر: هذا السحر الحلال؛ فتصرف الشعراء في هذه اللفظة، فقال بعضهم:
وحديثها السحر الحلال لو أنه * لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت * ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها * للمستهام وعقلة المستوفـــز
ولا نعرف في الحديث كلاماً أحسن من هذا.
وقال بعض المهالبة في المعتمد:
سيبقى فيك ما يهدي لساني * إذا فنيت هدايا المهرجان
قصائد تملا الافاق مما * أحـل الله مـن سـحــر الــبـــيان
بها ينفى الكرى السارون عنهم * وتلهي الشـرب أوتار القيان
بمعتمد على الله اسـتجرنا * فصرنا آمنين من الزمـان
المثل المضروب
إن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطاً أو يلم
تفسير هذا المثل
أول من تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب الصفار، قال: حدثنا زياد بن يحيى الحساني، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن يحيى أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرة الدنيا وزينتها "، فقال رجل: يا نبي الله، أو يأتي الخير بالشر، فأرينا أنه ينزل عليه، فقال: أين السائل، فكأنه حمده، فقال: " إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطاً أو يلم "؛ وهذا من أحسن الكلام وأوجزه، وأفصحه لفظاً، وألطفه معنىً.
وهو مثل ضربه لمن أعطي من الدنيا حظاً، فألهاه الاشتغال به، والاستكثار منه، والحرص عليه، ومجانبة القصد فيه؛ عن إصلاح دينه، فيكون فيه هلاكه، كما أن الماشية إذا لم تقتصد في مراعيها حبطت بطونها فماتت أو كادت. والحبط: انتفاخ البطن. ورواه بعضهم: خبطاً بالخاء، وهو تصحيف. ونحو المثل قول النابغة:
اليأس عما فات يعقب راحةً * ولرب مطعمة تعود ذباحا
المثل المضروب
إياكم وخضراء الدمن
تفسير هذا المثل
هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم،
حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا محمد بن الحسين بن سعيد بواسط، قال: حدثنا أحمد بن الخليل البرجلاني، قال: حدثنا الواقدي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن حيان، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم وخضراء الدمن "، وهو النبت ينبت على البعر، فيروق ظاهره، وليس في باطنه خير. وضربه مثلا للمرأة الحسناء في منبت السوء، وكره ذلك لان عرق السوء ينزع.
ومثله قول العرب: إياكم وعقيلة الملح، يعنون الدرة، وهي تكون في الماء الملح، ومعناه النهي عن نكاح الحسناء في منصب السوء.
وأنشد بعضهم قول زفر بن الحارث بعقب هذا الخبر، وذكر أنه مثله:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتقى حزازات النفوس كما هيا
وقال غيره: ليس هو منه في شيء، قال: ومعناه أن الدمنة هي الموضع الذي تبرك فيه الابل، فتبول وتبعر فيه، فلا ينبت شيئاً، فإذا أصابته السماء وسقته الرياح أنبت، فيقول: إن ذلك الموضع قد ينبت بعد أن لم يكن ينبت فيتغير بالنبات، وتبقى حزازات النفوس لا تتغير.
قال الشيخ أبو هلال رحمه الله: وهذا مثل قول صاحب كليلة: لكل حريق مطفئ؛ للنار الماء، وللسم الدواء، وللعشق البين، ونار العداوة لا تخمد أبداً بشيء من الاشياء.
وفي نحو ما تقدم قول الشاعر:
فلا يغرنك أضغان مرملة * قد يضرب الدبر الدامي بأحلاس
وتقول العرب: عرق السوء ينجث ولو بعد حين، أي يستخرج منه ما هو كامن فيه.
قال أكثم بن صيفي: لا يغلبنكم الجمال على صراحة النسب؛ فإن المناكح الكريمة مدرجة للشرف.
وقال الشاعر:
فأدركه خالاته فاختزلنه * ألا إن عرق السوء لا بد مدرك
المثل المضروب
أول العي الاحتلاط
تفسير هذا المثل
الاحتلاط: الغضب، ومعناه أن الرجل إذا عجز عن دفع خصمه بحجة قاطعة أظهر الغضب ليجعله سبباً إلى التخلص منه.
وله وجه آخر؛ وهو أنه إذا غضب عي عن الجواب، وامتنع عليه الخطاب، وأحضر الناس جواباً من لم يغضب. قالوا: وأحزم الفريقين الركين والعاجز عن الجواب أيضاً ربما تعلل بالضحك.
وفي بعض الامثال: من عجز عن الجواب ضحك من غير عجاب.
وقال عبد الجبار بن عدي: قلت لعجوز من نصارى لخم: لو تحنفت! فقالت: لو تنصرت! قلت: الحنيفية أقرب إلى الله قالت: أقربها إليه أقدمها؛ الذي أرسل به رسولا، و أعطاه الحكم صبياً، وأنطقه في المهد وليدا؛ أثبت به الحجة، ووكد به الهدية، ولم يحوجه إلى نصر العشيرة. قال: فضحكت تعجباً من قولها، فقالت: من عجز عن الجواب ضحك من غير عجاب.
المثل المضروب
أفرط فأسقط
تفسير هذا المثل
هو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كثر كلامه كثر سقطه ".
أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا الفضل بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن خليد، قال: حدثنا عبدة بن شبل الحنفي، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر كذبه، ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به ".
وقال بعضهم: الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال ذلك، وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم. أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا الحسن بن خضر، قال: حدثنا الحجاج بن نصير، قال: حدثنا صالح المزي، عن مالك بن دينار، عن الاحنف، قال لي عمر: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
المثل المضروب
أسوأ القول الإفراط
تفسير هذا المثل
ومن أمثالهم في النهي عن مفارقة التوسط في القول قولهم: أسوأ القول الافراط، قال الله تعالى: (و إذا قلتم فاعدلوا).
وقالت الحكماء: لكل شيء طرفان ووسط، ففي طرفه الاول شعبة من التقصير، ومع الاخير بعض الافراط، وخيره وسطه.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: سمعت أبا الحسن الاخفش، يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول: لا أعلم فيما روي في التوسط أحسن من قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: عليكم بالنمرقة الوسطى، فإليها يرجع الغالي، وبها يلحق التالي. وقال حكيم الشعراء:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله * إن التخلق يأتي دونه الخلق
وقال آخر:
إن بين التفريط والافراط * مسلكاً منجياً من الايراط
قال الشيخ رحمه الله: أي من الهلكة.
والافراط مذموم في كل شيء؛ فمن أفرط في المدح نسب إلى الملق، أو في النصيحة لحقته التهمة. وقيل: كثير النصح يهجم بك على كثير الظنة، و إذا أفرط في سرعة السير قطع به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى ".
والعرب تقول: شر السير الحقحقة وهي شدة السير. وقال المرار:
نقطع بالنزول الارض عنا * وطول الارض يقطعه النزول
و إذا أفرط في الاكل والشرب سقم، وإذا أفرط في الزهد منع نفسه ما أحل له فعذبها من حيث لو نعمها لم يضره، و إذا أفرط في البذل كان مبذراً، وأرجع الامر إلى الفقر، و إذا أفرط في المنع كان بخيلا يذم بكل لسان، ويحتقره كل إنسان، ويشبه بالكلب في دناءة نفسه وقصور همته. ولا يدخل الافراط شيئاً إلا أفسده.
أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر، قال: سمعت أبا العباس المبرد يقول: خلال الخير لها مقادير، فإذا خرجت عنها استحالت؛ فالحياء حسن، فإذا جاوز المقدار كان عجزاً، والشجاعة حسنة، فإذا جاوزت المقدار كان تهوراً، والبذل حسن، فإذا جاوز المقدار كان تضييعاً، والقصد حسن، فإذا جاوز المقدار كان بخلا، والكلام حسن، فإذا جاوز المقدار كان إهذاراً، والصمت حسن، فإذا جاوز المقدار كان عياً.
وقال بعض الاعراب: إنما جعلت لك أذنان ولسان واحد؛ ليكون استماعك ضعفي كلامك.
المثل المضروب
أحق شيء بسجن لسان
تفسير هذا المثل
ومن أمثالهم في حفظ اللسان قولهم: " أحق شيء بسجن لسان "، ومعناه: أحق ما ينبغي أن يمنع من الانبعاث في الباطل اللسان، لان زلته مهلكة، ومن حق ما يهلك إرساله أن يزم. والسجن بالفتح مصدر سجنت سجناً. والمحبس: السجن. وقرئ: السجن أحب إلي بالفتح والكسر.
ومن أول ما روي في حفظ اللسان قول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه اسانه * فليس على شيء سواه بخزان
وقال المحدث: إنما السالم من ألجم فاه بلجام. وأخذ أبو الاسود لفظ المثل فقال:
لعمرك ما شيء عرفت مكانه * أحق بسجن من لسان مذلل
وقالوا: من علامات العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، حافظاً للسانه، مقبلا على شانه.
حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو روق، عن الرياشي عن عبد العزيز بن عمر الحمصي، عن الفيض بن عبد الحميد، قال: كتب رجل إلى أخيه:
وما شيء أردت بـه بـيانـاً * بأبلغ لا أبالك من لسان
فأجابه:
وما شيء إذا روأت فيه * أحق بطول سجن من لسان
المثل المضروب
إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يعرف بالكذب؛ حتى يرد صدقه. وأصله أن القين وهو الحداد إذا كسد عمله أشاع بارتحاله، وهو يريد الاقامة، وإنما يذكر الرحيل؛ ليستعمله أهل الماء، ثم إذا صدق لم يصدق؛ لان من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه.
وقال نهشل بن حري:
وعهد الغانيات كعهد قين * ونت عنه الجعائل مستذاق
كبرق لاح يعجب من رآه * ولا يغني الحوائم من لماق
ونت عنه الجعائل، أي قصرت فلم تبلغه، والجعائل هاهنا: أجور عمله. والمستذاق: قيل المجرب، وقيل المنظور منه إلى ما يفعل؛ والصحيح أنه إذا أتى قوماً يحسن لهم العمل في أول أمره معهم، حتى يذوقوا ذلك منه فيأتوه، ثم يفسد بعد ذلك فيقول: إنهن أول ما يوصلن يتحببن، ثم يفسدن بعد ذلك ويغدرن. وذقت الشيء: جربته، قال الشاعر:
وإن الله ذاق حلوم قيس * فلما راء خفتهـا قـلاهـا
راء بمعنى رأى. ويقولون: ذاق السيف، إذا جربه: أصارم أم كهام، والسرى: سير الليل، مؤنثة، فأما قول لبيد:
قال هجدنا فقد طال السرى
فإنما قال ذلك؛ لانه فعل قد تقدم، وليس بتأنيث حقيقي. ويقال: ما كان قيناً، ولقد قان يقين قيانةً، وقان الحديدة يقينها: أصلحها. وقن إناءك، وكل أمة قينة؛ مغنيةً كانت أو غير مغنية، ولا يقال للعبد قين. وأنشد ثعلب:
ولي كبد مجروحة قد بدا بها * صدوع الهوى لو كان قين يقينها
وتقينت تقيناً، أي تزينت، وأنشد:
وهن مناخات تجللن زينةً * كما اقتان بالنبت العهاد المجود
المثل المضروب
أساء سمعاً فأساء إجابة
أشبه امرأً بعض بزه.
تفسير هذا المثل
يضرب الاول مثلا للرجل يخطئ السمع فيسيء الاجابة. والجابة اسم؛ مثل الطاعة والطاقة والاجابة: المصدر؛ مثل الاطاعة والاطاقة.
قالوا: والمثل لسهيل بن عمرو، وكان له ابن مضعوف فرآه إنسان فقال له: أين أمك. أي قصدك. فظن أنه يسأله عن أمه، فقال: ذهبت تطحن، فقال سهيل: أساء سمعاً فأساء إجابة، فذهبت مثلا. فلما صار إلى زوجته أخبرها بما قال ابنها؛ فقالت: إنك تبغضه، فقال: أشبه امرأً بعض بزه، فأرسلها مثلا.
والصحيح أن هذا المثل لذي الاصبع العدواني، وسيجئ خبره في الباب الحادي عشر إن شاء الله.
وأنشدنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي حفص في الجابة:
وما من تهتفين به لنصر * بأسرع جابةً لك من هديل
وقصة الهديل أكذوبة من أكاذيب العرب؛ زعموا أن الهديل فرخ كان على عهد نوح فصاده جارح، فما من حمامة إلا وهي تبكيه وتدعوه فلا يجيبها؛ فيقول: إن دعاءك من تدعوه لنصرك لا يجاب، كدعاء الحمام الهديل. ونحوه قول الاخر:
فإن تك قيس قدمنك لنصرها * هلكت قيس وذل نصيرها
المثل المضروب
إليك يساق الحديث
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يصلح له الامر، وهو مستعجل يلتمس الوصول إليه قبل أوانه. وأصله أن رجلا خطب امرأةً، فجعل يصف لها نفسه، وجعل ذكره يتحرك حتى يصفه ثوبه، فضربه بيده وقال: إليك يساق الحديث.
ومن أمثالهم في نحو هذا قول أوس بن حجر:
ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم
ولا أعرف أحداً مدح العجلة إلا أبا العيناء، فإن رجلا رآه يستعجل في أمر، فقال له: ارفق فإن العجلة من عمل الشيطان، فقال: لو كان كذلك ما قال موسى عليه السلام: (وعجلت إليك ربي لترضى)، وهو اللسان يضعه البليغ حيث يريد.
المثل المضروب
أبدى الصريح عن الرغوة
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للامر ينكشف بعد استتاره. والمثل لعبيد الله بن زياد، قاله في هانئ بن عروة، وكان مسلم بن عقيل حين بعثه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قد استخفى عنده، فبلغ عبيد الله مكانه، فأحضر هانئاً وسأله عنه فكتمه، فلما تهدده أقر، فقال عبيد الله: أبدى الصريح عن الرغوة. فذهبت مثلا؛ أي قد انكشف المستور. والرغوة: ما يعلو اللبن من الزبد، يقال: أرغى اللبن، ورغى. ومثله قولهم: صرح الحق عن محضه، وقولهم: برح الخفاء، أي زال الاستتار، وقالوا: أوضح الصبح لذي عينين.
المثل المضروب
أفرخ القوم بيضتهم
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للامر ينكشف بعد خفائه أيضاً. وأصله خروج الفرخ من البيضة، وظهوره منها بعد كمونه فيها. ومثله قولهم: بدا نجيث القوم أي ظهر ما أسروه، وقد نجث الامر، إذا أسر. وسميت البيضة بيضةً لانها تجمع ما فيها. وبيضة القوم مجتمعهم. وبيضة الحديد مشبهة ببيضة الحيوان.
المثل المضروب
أبى الحقين العذرة
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يعتذر وليس له عذر. وأصله أن قوماً استسقوا رجلا لبناً، فمنعهم إياه، واعتذر إليهم من تعذره عليه، فالتفتوا فإذا هم بلبن قد حقنه في وطب، فقالوا: أبى الحقين العذرة، والعذر والعذرة سواء، مثل القل والقلة، والنحل والنحلة وهي العطية والقر والقرة؛ أي ليس لك عذر في منع القرى وعندك لبن.
أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبي عن عسل، عن أبي الاسود، عن حبيش بن إبراهيم، عن عمر بن عبد الوهاب الرياحي، عن عامر بن صالح، عن أبي بكر الهذلي، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لسعيد بن يحيى المرادي: كيف أنت يا أبا يحيى، قال: أخبرك عني في الجاهلية؛ إني لم أخم عن تهمة، ولم أنادم زميلةً، وكنت لا أرى إلا في نادي عشيرة، أو خيل مغيرة، أو حمل جريرة، وأما الاسلام فقد أبى الحقين العذرة؛ معناه أن الذي عنده لبن لا يعتذر إلى الاضياف أنه لا قرى عنده. قال: فذنوبي تأبى أن أخبرك عن حالي في الاسلام.
ومن أمثالهم في العذر: المعاذر مكاذب. وقال بعضهم: لا يعتذر أحد إلا كذب.
المثل المضروب
أعن صبوح ترقق
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يريد الشيء، فيعرض به ولا يصرح بذكره. وأصله أن رجلا نزل بقوم ليلا، فأضافوه، فلما فرغ قال: أين أغدو إذا صبحتموني، أي سقيتموني الصبوح. فقيل له: أعن صبوح ترقق! يعني عن الغداء. وترقق: معناه ترقق كلامك وتحسنه؛ ومن ثم قيل للشعر في الغزل: الرقيق.
المثل المضروب
إياك أعنى فاسمعي يا جارة
تفسير هذا المثل
المثل لسيار بن مالك الفزاري قاله لاخت حارثة بن لأم الطائي، وذلك أنه نزل بها، فنظر إلى بعض محاسنها فهويها، واستحيا أن يخبرها بذلك، فجعل يشبب بامرأة غيرها، فلما طال ذلك، وضاق ذرعاً بما يجد، وقف لها فقال:
كانت لنا من غطفان جاره * حلالة ظعانة ســــــــــياره
كأنها من هيئة وشـاره * والحلي حلي التبر والحجـاره
مدفع ميثاء إلى قراره * إياك أعني فاسمعي يا جاره
والحازم العاقل قادر أن يكتم كل شيء يريد كتمانه، إلا الهوى فإن كتمانه ممتنع.
وقال العباس بن الاحنف:
من كان يزعم أن يواري في الهوى * حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للفؤاد بقهره * من أن يرى للسـر فيه نصيب
فإذا بدا سر اللبيب فإنه * لم يبد إلا أنه مغلوب
إني لابغض عاشقاً متستراً * لم تتهمه أعين وقلوب
المثل المضروب
أنجز حر ما وعد
أزمت شجعات بما فيها
تفسير هذا المثل
يقال: أنجز حر الوعد فنجز. وأصله من السرعة، يقال: تناجز القوم في الحرب، إذا تسافكوا دماءهم، كأنهم أسرعوا فيها.
وأول من قاله الحرث بن عمرو آكل المرار الكندي، كان من حديثه أنه قال لصخر بن نهشل بن دارم: هل أدلك على غنيمة على أن لي خمسها، قال: نعم. فدله على ناس من أهل اليمن، فأغار عليهم بقومه، فغنموا وملئوا أيديهم، فلما انصرفوا، قال له الحارث: أنجز حر ما وعد، فأراد صخر أن يفي له بوعده، فأبى قومه،
وفي طريقه ثنية يقال لها شجعات، فوقف صخر عليها وقال: أزمت شجعات بما فيها؛ فذهبت مثلا. فقال عمرو بن ثعلبة بن يربوع: والله لا نعطيه من غنيمتنا شيئاً، ومضى في الثنية، فحمل عليه صخر فقتله، فأجاب الجيش بإعطائه الخمس، فقال نهشل بن حري:
ونحن منعنا الجيش أن يتأوبوا * على شجعات والجياد بنا تـجـري
حنسناهم حتى أقروا بحكمنا * وأدى أنفال الخميس إلى صخر
أزمت، أي ضاقت. وأصل الازم: العض، ومنه: سنة أزوم، أي عضوض.
ومما يجري مع ذلك قولهم: الخلف ثلث النفاق وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من علامات المنافق أن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتمن ".
ولفظ قولهم: أنجز حر ما وعد لفظ الخبر، ومعناه الامر، أي لينجز حر ما وعد.
المثل المضروب
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للقوي يلقى أقوى منه. والاعصار: الريح الشديدة تثير الغبار، حتى يتصعد في السماء، والجمع الاعاصير، وفي القرآن: (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت).
ونحو المثل أن أرطأة بن سهية قال لزمل بن أبير:
إني امرؤ تجد الرجال عداوتي * وجد الركاب من الذباب الازرق
فقال له زمل:
مثلي من الاقوام ليث خادر * ورد وما أنا بالذباب الازرق
فغلبه. ونحوه:
إن كنت جلمود صخر لا أؤبسه * أوقد عليه أحميه فينصدع
المثل المضروب
ألوى بعيد المستمر
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل الذي لا يطاق نكارةً. وأول من تكلم به النعمان بن المنذر، وأخذه طفيل الغنوي، فقال: أخبرنا أبو القاسم، عن العقدي، عن رجاله، قال: لما التقى الجمعان بصفين حتى كثرت القتلى، فجالت الخيل عليها، فتحولوا إلى موضع آخر، فاقتتلوا حتى جالت الخيل على القتلى وحانت الصلاة وهم يقتتلون، فنادى رجل: يأيها الناس، أكفرتم بعد إيمانكم، الصلاة ؛ فجمعوا بين الظهر والعصر ؛ ثم عادوا للقتال وعمرو بن العاص يتمثل قول طفيل:
إذا تخازرت وما بي من خزر * ثم كسرت الـعـين مـن غـير عـور
ألفيتني ألوى بعيد المستمر * أحمل ما حملـت مـن خـير وشـر
كالحية الصماء في أصل الحجر * ذا صولة في المصمئلات الكبر
أبذي إذا بوذيت من كلب ذكر * أكدر شغار يغذى فـي الـسحر
ثم تقدم وقال:
شدوا علي سرتي لا تنقلف * يوماً لهمدان ويوماً للصدف
والربعيون لهم يوم عصف * وفي سدوس نخـوة لا تنحرف
نضربهم بالسيف حتى تنصرف * ولتميم مثلها أو تعتــرف
والالوى: المعوج، وهو مثل للرجل المحجاج الصليب الرأي. الشديد الخصومة، الذي لا تدفعه عن حجة إلا تعلق بأخرى.
ويقولون: هو بعيد الغور؛ إذا كان دقيق الاستنباط. وبعيد النظر، وبعيد مطرح الفكر.
المثل المضروب
إن يبغ عليك قومك لا يبغ القمر
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا للرجل يدعي تلبيساً في الامر المشهور. وأصله أن رجلين تخاطرا على غروب القمر وطلوع الشمس صبيحة ثلاث عشرة؛ أيهما يسبق صاحبه، وكان بحضرتهما قوم مالوا إلى أحدهما، فقال الاخر: تبغون علي، فقيل له: إن يبغ عليك قومك لا يبغ القمر، فصار مثلا؛ أي هو يغيب لوقته لا يحابي أحداً؛ فليس لشكواك معنى.
المثل المضروب
أمكراً وأنت في الحديد
تفسير هذا المثل
يضرب للرجل يحتال وهو أسير ممنوع. والمثل لعبد الملك بن مروان، قاله لعمرو بن سعيد الاشدق، وكان عمرو خلعه، وأراد الامر لنفسه؛ فكتب إليه عبد الملك: رحمتي إياك تصرفني عن الغضب عليك؛ وذلك لتمكن الخدع منك، وخذلان التوفيق لك. نهضت بأسباب، ووهمتك نفسك أن تستفيد بها عزاً، وأنت جدير ألا تدفع بها ذلا، ومن رحل عنه سوء الظن، واستعبدته الاماني، ملك الحين تصريفه، واستترت عنه عواقب أموره؛ وعن قليل يتبين من سلك سبيلك بمثل أسبابك؛ أنه صريع طمع، وأسير خدع، والرحم تعطف على الصفح عنك، ما لم تحل بك عواقب جهلك؛ فانزجر قبل الايقاع بك، وإن فعلت فإنك في كنف وستر. والسلام.
فكتب إليه عمرو: استدراج النعم إياك أفادك البغي، وراحة القدرة أورثتك الغفلة؛ ولو كان ضعف الاسباب يوئس من شريف الطلاب ما انتقل سلطان، ولا ذل عز إنسان؛ وعن قليل تتبين من صريع بغي وأسير عدوان، والسلام.
ثم حمل عمرو إلى عبد الملك أسيراً؛ فقال له: طالما رحلت ثفال الغي، وهجهجت بقعود الباطل؛ أفظننت أن الحق لا يلحق باطلك، والسيف لا يقطع كاهلك، وأمر بقتله وكان مكبلا فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن رأيت ألا تفضحني بأن تخرجني إلى الناس فتقتلني بحضرتهم، وأراد عمرو أن يخالفه، فيخرجه فيمنعه أصحابه؛ ففطن عبد الملك لذلك وقال: يا أبا أمية، أمكراً وأنت في الحديد. ثم أمر فقطعوه، فكان ذلك أول غدر في الاسلام.
المثل المضروب
ابن الأيام
ابن الايام وما يجري في بابه
تفسير هذا المثل
يقال للرجل الجلد المجرب: ابن الايام، وابن الملمة؛ وهو الذي يقوم بها، وابن جلا، وابن أجلى، وابن بيض: المنجلي الامر، المنكشفه. وقال بعضهم: ابن جلا وابن أجلى رجل بعينه: قال الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
يعني ثنايا الجبال؛ ومعناه أنا المشهور.
وابن بيض؛ رجل بعينه أيضاً، وهو الذي يقال فيه: سد ابن بيض الطريق.
وابن أحذار: الحذر، وهو رجل بعينه أيضاً.
وابن أقوال: المقتدر على الكلام.
وابن خلاوة: البرئ من الشيء.
وابن حبة: الخبز؛ ويقال له: جابر بن حبة.
وابن يم: الخليج من خلجان البحر.
وابن النعامة: الطريق؛ وقيل: هو صدر القدم. وقيل: هو الخط في وسط القدم من باطن؛ وقيل: هي القدم نفسها، وأنشد: وابن النعامة يوم ذلك مركبي
وابن المخدش: الكاهل.
وابن آوى: سبع معروف؛ وكذلك ابن عرس.
وابن أنقد: القنفذ.
وابن مخاض وابن اللبون؛ من أولاد الابل، معروفان.
وابن ماء: ما يسكن الماء من الطير؛ وكني به عن الشيب في قول الشاعر:
وكم فر الغراب من ابن ماء
يعني الشباب والشيب.
وابن دأية: الغراب؛ وذلك أنه يقع على دأية البعير؛ والجمع دأيات، وهي عظام الصلب.
وابن تمرة: طائر.
وابن بريح: العذاب والمشقة، وهو الغراب أيضاً، لانه يبرح بالبعير إذا وقع على ظهره.
وابن قترة: ضرب من الافاعي.
وابن وردان، معروف.
وابن ثأداء وابن ثأداء والصحيح ابن ثأداء قال بعض الشعراء:
وما كنا بني ثأداء حتى * شفينا بالأسنة كل وتر
وابن ثأطاء وابن ثأطان: ابن الامة، وابن فرتنى مثله؛ وقيل: هو ابن الفاجرة.
وابن الطريق: ولد الزنا وابن السبيل: الغريب.
وابن درزة: السفلة الساقط؛ قال الشاعر:
أولاد درزة أسلموك وطاروا
وابن غبراء: الفقير، قال طرفة:
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
وابن إحداها: الكريم الاباء والامهات.
وابن مدينتها، وابن بلدتها، وابن بجدتها، وابن بعثطها، وابن سرسورها، وابن سوبانها: العالم بالشيء؛ وبعثط الوادي: سرته.
وابن عذرها: المبدع للشيء.
وابن الانس: الصفي.
وابن البوح، قالوا: ولد الصلب.
وابنا ملاط: العضدان والكتفان.
وابنا دخان: غنى وباهلة.
وابنا عيان؛ أن يخط الناظر في أمر بإصبعه في الارض، ثم يعليه بإصبع أخرى، ويقول: ابني عيان، أسرعا البيان؛ كأنه يقول: أرياني ما أريد عياناً؛ وهو معنى قول ذي الرمة:
عشية ما لي حيلة غير أنني * بلقط الحصى والخط في الدار مولع
وقيل: البوح الذكر، من قولك: ابنك ابن بوحك.
وفي معناه قولهم: ابنك من دمى عقبيك، قالته امرأة الطفيل بن جعفر بن كلاب؛ وهي من بلقين؛ وكانت ولدت له عقيل بن الطفيل، فتبنته كبشة بنت عروة بن جعفر، فعرم على أمه يوماً فضربته، فجاءت كبشة تمنعها وتقول: ابني ابني، فقالت: ابنك من دمى عقبيك، أي من نفست به.
وقيل: البوح النفس. وروى: ولدك من دمى عقبيك. والولد والولد سواء؛ مثل العجم والعجم، والعرب والعرب؛ وفي القرآن: (ماله وولده إلا خساراً)، والولد أيضاً جمع الولد؛ كذا قال ابن دريد.
وابن شمام: هضبتان في أصل جبل.
وابنا سمير، وابنا جمير: الليل والنهار؛ سميا ابني سمير؛ لانه يسمر فيهما، وابني جمير؛ للاجتماع فيهما، يقال: شعر مجمور؛ إذا ضفر وجمع.
وابن جمير: الليلة التي لا يرى فيها القمر. وقيل: السمير: الدهر وقال بعضهم: ابنا سمير: الغداة والعشي. وقيل: ابن جمير: الليل المظلم، وأنشد:
نهارهم ظمآن ضاح ولـيلهم * وإن كان بدراً ظلمة ابن جمير
يقول: إذا طلبوا حقاً عموا عنه ليلا ونهاراً. وقال ابن دريد: ابن جمير وابن سمير: الليل المظلم، وابن ثمير: الليل المقمر؛ ويقولون: حلف بالسمر والقمر؛ السمر: الظلمة؛ لانهم كانوا يسمرون فيها؛ وقوله تعالى: (سامراً تهجرون)؛ أي تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم في سمركم.
وابن مزنة: الهلال؛ قال الشاعر:
كأن ابن مزنته جانحاً * فسيط لدى الافق من خنصر
والفسيط: قلامة الظفر؛ وهو أول من شبه الهلال بها؛ إلا أنه جاء به في غاية التكلف؛ وأخذه ابن المعتز فحسنه فقال:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحه * مثل القلامة قد قصت من الظفر
وابن ذكاء: الصبح.
وابن أوبر: ضرب من الكمأة.
وابن طاب: جنس من الرطب.
وابن الارض: نبت يخرج في رؤس الاكام، له أصل يطول، يؤكل؛ وهو سريع الخروج.
وبنت الارض: بقلة من الرمث؛ واحدتها مثل جمعها.
وبنت الجبل: الصدى؛ وهو الصوت الذي يرجع إليك من الجبل؛ وأنث على معنى الصيحة. وبنت الجبل أيضاً: الحية التي لا تجيب الراقي.
وبنت الشفة: الكلمة؛ يقال: ما كلمني ببنت شفة.
وبنت الفكر: الرأي.
وبنت المطر: دويبة حمراء ترى غب المطر؛ يقال: أشد حمرة من بنت المطر.
وبنت دم: نبت يضرب إلى الحمرة، وتجمع بنات دم وبنت المنية: الحمى.
وبنت الحية: الافعى. ويقال: " العصا من العصية، والافعى بنت حية "
وبنت أدحية: النعامة.
وبنت قضاعة: لعبة من جلود بيض.
وبنات بحنة: السياط؛ وبالمدينة نخلة طويلة السعف؛ يقال لها: بحنة.
وبنات بخر: السحاب.
وبنات مخر: سحائب تنشأ قبل الصيف.
وبنات السحاب: البرد.
وبنات الشمس: لعابها.
وبنات رباط: الخيل.
وبنات صعدة: الحمر الاهلية.
وبنات الطريق: المساكين.
وبنات قين: موضع ينسب إليه يوم من أيامهم.
وبنات نعش: كواكب معروفة.
وبنات مسند: ما يأتي به الدهر من حوادثه، والمسند: الدهر.
وبنات غير: الكذب والباطل، وصحفه ابن الاعرابي فقال: " بنات عين ".
وبنات برح، وبنات طمار، وبنات طبق: الدواهي.
وبنات الليل: الاحلام؛ وهي أيضاً أهواله.
وبنوا لهم: الصابرون عليه.
وبنو الفلاة: المداومون لسلوكها وبنوا الحرب: الصابرون فيها أيضاً، المطيلون مراسها.
وابن فهلل، وابن ثهلل: الضلال.
وابن قل: القليل.
وابن بي: الذليل المجهول؛ وكذلك ابن بيان، وكذلك ابن هي وابن هيان.
وطامر ابن طامر: البرغوث، والطمر: الوثب.
وابن الحارض: الساقط؛ يقال: أحرض الرجل، إذا حاء بولد لا خير فيه.
وابن واحد: المعروف الاب؛ يقال: هو واحد ابن واحد؛ وهو ضد ضل ابن ضل؛ وأكثر هذا الباب أمثال.
ومما يجري مع ذلك المكنى: أبو الحارث: الاسد.
أبو جعدة: الذئب.
أبو الحصين: الثعلب.
وأبو زنة: القرد، وأبو ضوطرى،
وأبو جخادب: سب يسب به الانسان. وقال أبو عمر الجرمي: أبو جخادب كنية الحرباء؛ أو دابة تشبهه؛ والاول قول جماعة أهل اللغة.
وأبو حباحب: كنية النار التي لا ينتفع بها: مثل النار التي تخرج من حوافر الخيل: ويقال لها: نار حباحب أيضاً. وقال خالد بن كلثوم: أبو حباحب كان كنية رجل من بخلاء العرب، وكان يوقد ناراً ضعيفة، ويخفيها مخافة الاضياف، فجعلته العرب كنية لكل نار ضعيفة، لا تثبت ولا تحرق.
وأبو قلمون: ثياب معروفة، وأظنها مولدة، ويستعار للرجل الكثير التلون.
وأبو براقش: طائر يتلون في اليوم ألواناً؛ مأخوذ من البرقشة؛ وهي النقش، والفيروزج أيضاً يتلون في اليوم لونين، ولم يتمثل به العرب، ولكن جاء في أمثال الفرس.
وأبو قبيس: جبل مكة.
وأبو أدراس: الفرج، مأخوذ من الدرس، وهو الحيض.
وأبو أدراص، وأبو ليلى: الرحل المحمق. والدرص: ولد الفأر؛ فكأنهم قالوا: هو أبو فأرة، وإذا قالوا: أبو ليلى فكأنهم قالوا: هو أبو امرأة.
وأبو زيد: الكبر؛ قال الشاعر:
إما ترى شكتي رميح أبي * زيد فقد أحمل السلاح معاً
وأبو مالك وأبو عمرة: الجوع، ويقال في المثل: " أبي أبو عمرة إلا ما أتاه "، يقوله الرجل قد سلم للدهر؛ وقال الشاعر:
إن أبا عمرة حـل حجرتي * وصار بيت العنكبوت برمتي
وأم حلس: كنية الاتان، وهي أم الهنبر أيضاً، والهنبر: الجحش، ويقولون: " أحمق من أم الهنبر "، وعند فزارة أن أم الهنبر الضبع.
وأم الندامة: العجلة.
وأم رمال، وأم خنور، وأم رغم، وأم عمرو، وأم عامر، كل ذلك الضبع، ومن العرب من يجعل أم خنور الداهية، ومنهم من يجعلها النعيم، ومنهم من يجعلها الدنيا.
وأم فروة: النعجة.
وأم الهيثم وأم الحوار: العقاب، قال الشاعر:
وكأنها لما عـدت سروية * مسعورة باللحم أم حوار
سروية، أي عقاب من عقبان السراة.
وأم رياح: طائر.
وأم عجلان: طائر.
وأم حبين: دويبة معروفة.
وأم عوف: الجرادة.
وأم حمارس: دابة لها قوائم كثيرة.
وأم الهدير: الشقشقة.
وأم القردان وأم القراد من الخيل والابل: الوطأة التي من وراء الخف والحافر، دون الثنة.
وأم الرمح: ما يلف عليه إذا جعل لواء، قال الشاعر:
فسلبنا الرمح فيه أمه * من يد العاصي إذا طال الطول
وأم سويد وأم سكين، وأم عزمل، وأم عرم، وأم تسعين؛ كل ذلك الاست.
وأم الرأس، وأم الدماغ: الهامة.
وأم الكبد: بقلة من دق البقل؛ لها زهرة غبراء في برعم مدور؛ وهي شفاء من وجع الكبد، ومن الصفر إذا عض الشر سوف بزعمهم.
وأم كلب: شجيرة جبلية لها نور أصفر في خلقة ورق الخلاف.
وأم غيلان: شجرة من العضاه؛ وهي أكثرها شوكا.
وأم حنين: الخمر، فيما ذكر المنتجع بن نبهان.
وأم ليلى: الخمر إذا كان لونها أسود، ذكر ذلك أبو حنيفة الدينوري.
وأم جابر: إياد؛ وقيل: أبو أسد، وجابر: اسم الخبز.
وأم أوعال: هضبة معروفة.
وأم المثوى؛ وأم المنزل: التي تضيف، يقال: كانت فلانة البارحة أم مثواي، وأم منزلي؛ وفلان أبو مثواي، وأبو منزلي؛ أي بت ضيفه.
وأم العيال، وأم القوم: من يقلدونه أمورهم.
وأم الطفل: المرأة المرضع.
وأم القرى: مكة، ثم أم كل أرض أعظم بلدانها، وأكثرها أهلا؛ كمرو؛ فإنها تسمى أم خراسان.
وأم كنات: الارض.
وأم غياث: السماء.
وأم السماء: المجرة؛ ويقال لها: أم النجوم.
وأم الظباء: الفلاة.
وأم راشد المفازة.
وأم معمر: الليل، حكى ذلك ثعلب. وأم معمر: الدين.
وأم شملة، وأم دفر، وأم العجب.
وأم درزة: الدنيا. وقيل أبو العجب الدهر وذكر المبرد: يقال للأنذال: أولاد درزة وقال الرياشي: أولاد درزة: خياطون خرجوا مع زيد ابن علي بالكوفة.
وأم الهبرزي، وأم ملدم، وأم ملذم؛ بالدال والذال: الحمى؛ قال الشاعر:
فمنهن أم الهبرزي تتبعت * عظامي فمنها ناحل وكسير
وأم ملدم، بالدال هو الاكثر؛ مأخوذ من اللدم؛ وهو ضرب الوجه حتى يحمر، وأما اللذم، فمن قولهم: لذم به؛ إذا لزمه.
وأم جندب: الغشم والظلم؛ يقال: وقعوا في أم جندب، وركبوا أم جندب؛ وأم جندب أيضاً: اسم من أسماء الداهية.
وأم الحرب: الحرب؛ وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله:
والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وأم الدهيم وأم اللهيم: المنية، وأم الربيق: الداهية؛ يقال: " جاء الربيق على أريق " وزعم الاصمعي أنه من قول رجل زعم أنه رأى الغول على جمل أورق، فقال: " جاء أم ربيق على أريق ".
وأم قشعم، وأم خشاف، وأم كلواذ، وأم خشور، وأم ناد وأم خنشفير، وأم الرقوب، وأم قوب، وأم الرقم، وأم أريق، وأم البليل، وأم الربيس، وأم حبو كرى، وأم أدراص؛ كل ذلك الداهية.
ويقال: داهية ربس وربيس؛ ويقال: رمل حبو كرى، إذا كان طويلا ويقال: وقع في أم أدراص مضللة؛ في موضع استحكام الهلكة؛ لان أم أدراص جحرة الفأرة؛ وجحرتها تتنافذ؛ فيقول: وقع في أمر مختلط، لا يعرف أوله من آخره. وقيل: أم قشعم: العنكبوت.
وقالوا: أم المؤمنين، وأم الكتاب.
فهذه الكنى عربية. والكنى المولدة كثيرة، منها: أبو المضاء: الفرس، وأبو اليقظان: الديك، وأبو خداش: السنور.
المثل المضروب
أول الغزو أخرق
تفسير هذا المثل
يضرب مثلا لقلة التجارب، يراد، إنما الحكام بعد المعاودة، والتجربة ردء العقل.
ورأى أعرابي رجلا ينال من سلطان، فقال: إنك غفل لم تسمك التجارب؛ وكأني بالضاحك إليك باك عليك؛ والعقل عقلان: مخلوق ومكتسب؛ فالمخلوق ما يجعله الله لعبده ويكلفه من أجله، والمكتسب ما يناله العبد بالتجربة وليس يفضل رأي الشيخ على رأي الغلام إلا لتجربة الشيخ وغرارة الغلام.
ويقال لمن لا تجربة له: غر بين الغرارة؛ قال الشاعر:
ابحث لتعلم ما قد كنت تجهله * فالعقل فنان مطبوع ومسموع
وقيل لابن هبيرة: أي شيء أول العقل بعد الغريزي المولود، والتالد الموجود، قال: تجربة الامور التثبت فيها، والتقلب في البلاد، والنظر في عجائبها.
قال الشيخ رحمه الله: على أن التجربة لا تنفع إلا العقلاء؛ وأما الجهال فليس لهم فيه منفعة. وقد قيل: إنما تنفع التجارب من كان عاقلا، وقيل:
وقد ينفع المرء اللبيب تجاربه
مُختصر كتاب جمهرة الأمثال لأبو هلال العسكري