اعلم : أن الأعداد كالمقادير تحتاج إلى ما يميزها كحاجتها
وهي تجيء على ضربين : منها ما حقه الإِضافة إلى المعدود وذلك ما كان منه يلحقه التنوين ومنها ما لا يضاف وهو ما كان فيه نون أو بني إسم منه مع اسم فجعلا بمنزلة اسم واحد
أما المضاف فما كان منها من الثلاثة إلا العشرة فأنت تضيفه إلى الجمع الذي بني لأدنى العدد نحو : ثلاثة أثوب وأربعة أفلس وخمسة أكلب وعشرة أجمال
فأفعل وأفعال مما بني لأقل العدد وأقل العدد هو العشرة فما دونها ذلك أن تدخل في المضاف إليه الألف واللام لأنه يكون الأول به معرفة فتقول : ثلاث الأثواب وعشرة الأفلس
ومن ذلك مئة وألف لأن المئة نظير عشرة لأنها عشر عشرات والألف نظير المئة لأنه عشر مئات
قال أبو العباس رحمه الله : ولكنك أضفت إلى المميز : لأن التنوين غير لازم في المئة والألف والنون في عشرين لازمة لأنها تثبت في الوقف وتثبت مع الألف واللام فإذا زدت على العشرة شيئاً جعل مع الأول اسماً واحداً وبنيا على الفتح ويكون في موضع عدد فيه نون وذلك قولك : أحد عشر درهماً وخمسة عشر ديناراً ويدلك على أن عشر قد قامت مقام التنوين قولهم : إثنا عشر درهماً ألا ترى أن عشر قد عاقبت النون فلم تجتمعا فهذا على ذلك إلى تسعة عشر فإذا ضاعفت أدنى العقود وهو عشرة كان له اسم من لفظه ولحقته الواو والنون والياء والنون نحو : عشرون وثلاثون إلى تسعين والذي يبين به هذه العقود لا يكون إلا واحداً نكرة تقولال : عشرون ثوباً وتسعون غلاماً
فإذا بلغت المئة تركت التنوين وأضفت المئة إلى واحد مفسر ووجب ذلك في المئة لأنها تشبه عشرة وعشرين أما شبهها بعشرة فلأنها عشر عشرات فوجب لها من هذه الجهة الإِضافة وأما شبهها بعشرين وتسعين فلأنها العقد الذي يلي تسعين فوجب أن يكون مميزها واحداً فأُضيفت إلى واحد لذلك إلا أنك تدخل عليه الألف واللام إن شئت
لأن الأول يكون به معرفة وكذلك ألفَ حكمهُ حكمُ مئة وتثنيتها فتقول : مئتا درهم وألفا درهم وقدْ جاءَ بعضُ هذا منوناً منصوباً ما بعده في الشعر قال الربيع :
( إذَا عاشَ الفَتى مئتين عاماً ... فقد ذهبَ البشاشةُ والفَتاءُ )
قال سيبويه وثلاث : وأما تسع مئة وثلاث مئة فكان حقه مئتين أو مئات ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر
وقال : اختص هذا إلى تسع مئة ثم ذكر : أنهم قد يختصونَ الشيءَ بما لا يكون لنظائرهِ فذكَر : لدُن وغدوة وما شعرت به شعرة وليت شعري والعَمْرُ والعُمْرُ ولا يقولون إلا لعمرك في اليمين وذكر مع ذلك أنه قد جاء في الشعر الواحد يراد به الجمع وأنشد :
( في حَلقُكُم عَظمٌ وقَد شَجِينَا ... )
يريد في حلوقكم . وقال آخر :
( كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ )
واعلم : أن ( كم ) اسم عدد مبهم فما يفسرها بمنزلة ما يفسر العدد وقد أفردت لها باباً يلي هذا الباب
● [ باب كم ] ●
اعلم : أن ل ( كم ) موضعين : تكون في أحدهما استفهاماً وفي الآخر خبراً فأما إذا كانت استفهاماً فهي فيه بمنزلة : عشرين وما أشبهه من الأعداد التي فيها نون تنصب ما يفسرها تقول : كم درهماً لك كما تقول : أعشرون درهماً لك أثلاثون درهماً لك فينتصب الدرهم بعد ( كم ) كما انتصب بعد عشرين وثلاثين لأن ( كم ) اسم ينتظمُ العدد كلهُ وخص الإستفهام بالنصب ليكون فرقاً بينه وبين الخبر لأن العدد على ضربين : منه ما يضاف إلى المعدود ن ومنه ما لا يضاف كما ذكرنا فجعلت ( كم ) في الإستفهام بمنزلة ما لا يضاف منه وذلك نحو : خمسة عشر وعشرين فخمسة عشر أيضاً بمنزلة اسم منون ألا ترى أنه لا يضاف إلى ما يفسره فإذا قلت : كم درهماً لك فإنما أردت : كم لك من الدراهم كما أنك لما قلت : عشرون درهماً إنما أردت : عشرون من الدراهم ولكنهم حذفوا ( من ) استخفافاً كما قالوا : هذا أول فارس في الناس وإنما يريدون : هذا أول الفرسان
قال الخليل : إن : كم درهماً لك أقوى من قولك : كم لك درهماً وذلك أن قولك : أعشرون لك درهماً أقبح إلا أنها في ( كم ) عربية جيدة وذلك قبيح في عشرين إلا أن الشاعر قد قال :
( على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثونَ للهجرِ حولاً كميلا )
واعلم : أن ( كم ) لا تكون إلا مبتدأة في الإستفهام والخبر ولا يجوز أن تبنيها على فعل وأنها تكون فاعلة في المعنى ومفعولة ومبتدأة وظرفاً كما يكون سائر الأعداد في التقدير لا يجوز أن تقول : رأيت كم رجلاً فتقدم عليها ما يعمل فيها
فأما كونها فاعلة فقولك : كم رجلاً أتاني وأما كونها مفعولة فقولك : كم رجلاً ضربت وأما كونها مبتدأة فقولك : كم دانقاً دراهمك
واعلم : أنه لك ألا تذكر ما تفسر به ( كم ) كما جاز لك ذلك في العدد تقول : كم درهم لك فالتقدير : كم قيراطاً درهم لك ولا تذكر القيراط
وتقول : كم غلمانك والمعنى كم غلاماً غلمانك ولا يجوز إلا الرفع في غلمانك لأنه معرفة
ولا يكون التمييز بالمعرفة فكأنك قلت : أعشرون غلمانك وأما كونها ظرفاً فقولك : كم ليلة سرت كأنك قلت : أعشرين ليلة سرت وكم يوماً أقمت كأنك قلت : أثلاثين يوماً أقمت فكم عدد
والعدد : حكمه حكم المعدود الذي عددته به
فإن كان المعدود زماناً فهو زمان وإن كان حيواناً فهو حيوان
وإن كان غير ذلك فحكمه حكمه
ولا يجوز : كم غلماناً لك كما لا يجوز : أعشرون غلماناً لك
قال : وحكى الأخفش : أن الكوفيين يجيزونه وإذا قلت : كم عبد الله ماكث ( فكم ) ظرف فكأنك قلت : كم يوماً عبد الله ماكث فكم أيام وعبد الله يرتفع بالإبتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت : كم رجلاً ضرب عبد الله وتقول : كم غلمان لك فتجعل ( لك ) صفة لهم والمعنى : كم غلاماً غلمان لك
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قولهم : على كم جذع بيتك مبني فقال : القياس والنصب وهو قول عامة الناس يعني نصب جذع
قال : فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى : ( مِن ) ولكنهم حذفوا ها هنا تخفيفاً على اللسان
وصارت ( على ) عوضاً منها أما ( كم ) التي تكون خبرا فهي في الكثير نظيره رب في التقليل إلا أن كم : التي اسم ورب : حرف وهي في الخبر بمنزلة اسم لعدد غير منون نحو : مئتي درهم فهي مضافة وذلك قولك : كم غلام لك قد ذهب جعلوها في الإستفهام بمنزلة : عشرين وفي الخبر بمنزلة : ثلاثة تجر ما بعدها ولا تعمل ( كم ) في الخبر إلاّ فيما تعمل فيه ( رب ) في اسم نكرة لا يجوز أن تدخل فيه الألف واللام كما فعلت ذلك في مئة الدرهم وما أشبهها ولا تعمل إلا في نكرة نصبت أو خفضت فتقول : كم رجل قد لقيت وكم درهم قد أعطيت
وإن شئت قلت : كم رجال قد لقيت وكم غلمان قد وهبت فيجوز الجمع إذا كانت خبراً ولا يجوز إذا كانت استفهاماً أن تفسر بجميع
وتقول العرب : كم رجل أفضل منك تجعله خبر ( كم ) وحكى ذلك : يونس عن أبي عمرو وكم تفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور كما قلت : عشرون درهماً أو بجمع منكور نحو : ثلاثة أثواب
وهذا جائز في التي تقع في الخبر
فأما التي في الإستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين وناس من العرب يعملونها في الخبر كعملها في الإستفهام فينصبون كأنهم يقدرون التنوين ومعناها منونة وغير منونة سواء
وبعض العرب ينشد :
( كَمْ عمةً لَكَ يَا جَريرُ وخَالةً ... فَدْعَاءُ قَدْ حلَبَتْ عليَّ عِشَارِي )
وهم كثير منهم الفرزدق وهذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه : رفع ونصب وخفض فإذا قلت : كم عمة فعلى معنى : رُبَّ فإن قلت : كم عمةً فعلى وجهين : على ما قال سبيويه في لغة من ينصب في الخبر وعلى الإستفهامِ فإن قلتَ : كم عمةٌ فرفعتَ أوقعتَ ( كم ) على الزمان فقلت : كم يوماً عمة لك وخالة قد حلبت عليّ عشاري أو كم مرة ونحو ذلك
واعلم : أنك إذا قلت : كم عمة فلست تقصد إلى واحدة بعينها
وكذلك إذا نصبت
فإن رفعت لم يكن إلا واحدة لأن التمييز يقع واحدة في موضع الجميع
فإذا رفعت فإنما المعنى : كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز وإذا فصلت بين كم وبين الإسم وبشيء استغنى عليه السكون أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون وانصب لأنه قبيح أن تفصل بين الجار والمجرور قال زهير :
( تَؤُمُّ سَناناً وكَمْ دُونَهُ ... من الأرضِ مُحدوْدِباً غَارُهَا )
وإن شئت رفعت فجعلت : كم مراراً وأنشد سيبويه :
( كَمْ بِجُودٍ مقرفٍ نَالَ العُلى ... وكَرِيمٍ بخلهُ قد وضَعَهْ )
يفصل بين كم وبين مقرف بالظرف وأجاز في مقرف الرفع والنصب أيضاً على ما فسرنا
واعلم : أنك إذا قلت : كم من درهم عندك فلا يجوز أن تقول : عندك عشرون من درهم
وقد أجروا مجرى ( كم ) في الإستفهام فنصبوا قولهم : له كذا وكذا درهماً كأنهم قالوا : له عدد ذا دراهم
قال سيبويه : هو كناية للعدد بمنزلة فلان في الحيوان وهو مبهم وصار ذا من كذا بمنزلة التنوين لأن المجرور بمنزلة التنوين
قال ! وكذلك كأين رجلاً قد رايت قال : زعم ذلك يونس
وكائن قد أتاني رجلاً إلا أن أكثر العرب إنما تتكلم بها مع ( من ) قال الله تعالى : ( وكأين من قرية ) فإن حذفت ( من ) فالكلام عربي جيد
[ مسائل من هذه الأبواب ]
تقول : عندي رطل زيتاً ورطل زيت فمن نصب فعلى التمييز ومن خفض أضاف ومن رفع اتبع وكل هذا جائز في المقادير وكذلك : بيت تبنٍ وجرة زيتٍ فإن قلت : شاة لحمٍ وجبة خزٍ فالإِضافة لأنك لم ترد : مقدار شاة لحماً ومقدار جبة خزاً فإن أردت هذا المعنى جاز النصب وتقول : عندي زق عسل سمناً تضيف الأول وتنصب الثاني تريد مقدار زق عسل سمنا ولا يجوز عندي ملء زق عسلاً سمناً إلا في بدل الغلط خاصة لأنه لا يكون عندك ملء زق عسلاً سمناً إلا في بدل الغلط خاصة لأنه لا يكون عند ملء زق سمناً وملؤه عسلاً لأنه من أيهما امتلأ فقد شغله عن الآخر ومن ذلك قوله جل وعز : ( أو عدل ذلك صياما ) و ( ملء الأرض ذهبا ) ويجوز : ملءُ الأَرضِ ذَهبٌ في غير القرآن
وتقول : عندي رطلان زيتاً والرطلان زيتاً ورطلا زيت ولا يجوز : الرطلا زيت لأنه لا يجمع بين الألف واللام والإِضافة وكان الكسائي يضيفه ويدخل الألف واللام في كل ما كان مفسراً ويجيز أيضاً : الرطل الزيت والرطل الزيت والخمسة الأثواب والخمسة الأثواب فإذا قال : رجل السوء وزن السبعة لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام لإن إضافته صحيحة والبصريون يأبون إدخال الألف واللام في جميع هذا والفراء أيضاً يأباه إلا مع الضارب الرجل والحسن الوجه وقد مضى تفسير هذا
فإذا قلت : ماء فرات وتمر شهرير ورطب بَرْنِيّ قضيبا عوسج ونخلتا برني فكان ليس بمقدار معروف مشهور فكلام العرب الخفض والإختيار فيه الإِضافة أو الإِتباع ولا يجوز فيه التمييز إذ لم يكن مقدار وتقول : كم مثله لك وكم خيراً منه لك وكم غيره مثله لك انتصب ( غير ) بكم وانتصب المثل لأنه صفة له ومثله وغيره نكرة وإن كانا مضافين إلى معرفة وقد ذكر هذا
ولم يجز يونس والخليل : كم غلماناً لك لأنك لا تقول : أعشرون غلماناً لك إلا على وجه : لك مئة بيضاً وعليك راقود خلا فإن أردت هذا المعنى قلت : كم لك غلمانا ويقبح أن تقول : كم غلمانا لك لأن : لك سبب نصب : غلمان ولا يجوز أن يتقدم عليها كما لم يجز : زيد قائماً فيها وقد بينا : أن العامل إذا كان معنى لم يجز أن يتقدم مفعوله عليه
وتقول : كم أتاني لا رجل ولا رجلان وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان فهذا محمول على ( كَمْ ) وموضعُها مِنَ الإِعرابِ لا على ما تعملُ فيهِ كم كأنك قلت : عشرونَ أتوني لا رجلٌ ولا رجلان ولو قلت : كم لا رجل ولا رجلين في الخبر والإستفهام كان غير جائز
وتقول : كم منهم شاهد على فلان إذا جعلت شاهداً خبراً ( لكم ) وكذلك هو في الخبر أيضاً تقول : كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل : مأخوذاً بك في موضع ( لك ) إذا قلت : كم لك لأن ( لك ) لا تعمل فيه ( كم ) ولكنه مبني عليها خبر لها وتقول : كم رجل قد رأيته أفضل من زيد لأنك جعلت ( أفضل ) خبراً عن ( كم ) لأن ( كم ) اسم مبتدأ
فأما ( رُبَّ ) إذا قلت : رُب رجل أفضل منك فلا يكون لها خبرٌ لأنها حرف جر وكم لا تكون إلا اسماً وتقول : كم امرأة قد قامت ولا يجوز أن تقول : كم امرأة قد قمن لأن المعنى : كم من مرة امرأة قد قامت
فإن كانت ( امرأة ) مميزة فقلت : كم امرأة قد قامت جاز أن تقول : قامت وقمن لجعل الفعل مرة على لفظ المفسر ومرة على معنى ( كم ) وقال الله جل وعز : ( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا ) فردوه إلى معنى ( كم ) وقال جل ثناؤه : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا ) فجاء على لفظ المفسر فإدخالك ( من ) وإخراجها واحد لأنك تريد التفسير
وتقول : كم ناقة لك وفصيلَها وفصيلُها نصباً ورفعاً من رفع اتبع ما في لك ومن نصب اتبع الناقة وإنما جاز في فصيلها النصب وهو مضاف إلى الضمير لأن التأويل : وفصيلا لها كما قيل : كل شاة وسخلتها بدرهم فالتأويل وسخلة لها كما قالوا : رُب رجل وأخيه والمعنى : وأخ له فإذا قلت : كم ناقة وفصيلها لك فلا يجوز في الفصيل إلا النصب كأنك قلت : كم ناقة وكم فصيل ناقة لك وتقول : كم رجلاً قد رايت وامرأة على لفظ ( رجل ) ويجوز : ونساءه لأن المعنى : رجل لكل رجل امرأة والفراء يقول : كم رجلاً قد رأيت ونساءه وكم رجل قد رأيت ونسائه ويقول : تأويل ( رجل ) جمع فلا أرد عليه بالتوحيد
قال أبو بكر : ويجوز عندي : كم رجلاً رأيت ونساءهم لأن المعنى : كم رجالاً رأيت ونساء لهم
وتقول : كم زيد قائم وبكم ثوبك مصبوغ تريد : كم مرة أو ساعة زيد قائم وما أشبه ذلك . وبكم درهماً أو ديناراً ثوبك مصبوغ وما أ شبه ذلك
قال الفراء : إذا قلت : عنيد خمسة أثواباً فهو أشبه شيء بقولك : مررت برجل حسن وجهاً
قال أبو بكر : وليس هو عند أصحابنا كذلك لأن وجهاً عندهم منصوب بأنه مشبه بالمفعول لأن حسن يشبه اسم الفاعل . وقد مضى ذكر هذا
والنصب في قولهم : خمسة أثواباً شاذ إنما يجوز مثله في ضرورة شاعر
وقال أحمد بن يحيى رحمه الله كل منصوب على التفسير فقد جعل ما قبله في تأويل الفعل ولذلك قلت : عندي خمسة وزناً وعدداً فجعلت لها مصدراً
فتأويله عندي ما يعد به الدرهم خمسة وكذلك في كل التفسير ترده تقديره إلى أن تقدره الفعل : فإن قال قائل : فأنت تقول : ما أحسنك من الرجال وما أحسنك من رجل فيثبتهما إذاً فيه فرق إذا قلت : ما أحسنك من الرجال فإنما تريد : أنتً حَسَنٌ مِن بينهم ومِن جماعتِهم وإذا قلتَ : مِنْ رجل ففيها مَذاهب
أما مذهب أبي العباس محمد بن يزيد رحمه الله فيقول : فصلوا بين الحال والتمييز وقد مضى ذكر ذلك
وقال غيره : تكون ( من ) هنا لإبتداء الغاية كأنك قلت : ما أحسنك من أول أحوالك يوصف بها الرجل إلى غاية النهاية ومذهب آخر أن تكون ( من ) تبعيضاً للجنس المميز برجل رجل كأنك قلت : ما أحسنك من الرجال إذا ميزوا رجلاً رجلاً فجعلت رجلاً موحداً ليدل على تمييز الرجال بهذا الإِفراد وكذلك : ما أحسنك من رجلين
كأنك قلت : من الرجال إذا ميزوا رجلين رجلين
والقياس على مذهب الكسائي : عندي الخمسة الألف الدرهم فيجعل الخمسة مضافة إلى الالف والألف مضافة إلى الدرهم وذا عندنا لا يجوز وتقول على مذهبهم : عندي الخمسة العشر الألْف الدرهم فتفتح الخمسة والعشر وتنصب الألْف على التفسير وتضيفه إلى الدرهم
وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره
وتقول : عندي عشرون رجلاً صالحاً وعندي عشرون رجلاً صالحون ولا يجوز : صالحين على أن تجعله صفة رجل فإن كان جمعاً على لفظ الواحد جاز فيه وجهان : تقول : عندي عشرون درهماً جياداً وجياد من رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه المفسر وهذا البيت ينشد على وجهين :
( فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبةً ... سُودَاً كَخَافِيَةِ الغُرَابِ الأَسْحمِ )
يروى : سود وتقول : عندي ثلاث نسوة وعجوزين وشابة
ترده مرة على ثلاث ومرة على نسوة وإذا قلت : خمستك أو خمسة أثوابك لم تخرج منه مفسراً لأنه قد أضيف وعلم
ويجيز البغداديون : خمسة دراهمك ودرهمك ينوي في الأول الإِضافة وهذا إنما يجوز عندي مثله في ضرورة الشاعر قالوا : وقد سمع : برئت إليك من خمسة وعشري
النخاسين قالوا : ولا يجوز مع المكنى وتقول : عندي خمسةٌ وزناً تنصب وترفع من نصب فعلى المصدر ومن رفع جعله نعتاً
كأنه قال : خمسة موزونة وإذا قالوا : عندي عشرون وزن سبعة نصبوا ورفعوا مثل ذلك وكذلك إن أدخلوا الألف واللام قالوا : عندي العشرون وزنُ السبعة ووزنَ السبعة النصب والرفع وكان الأخفش يجيز : كم رجلاً عندك وعبيده يعطف ( عبيده ) على المضمر الذي في ( عندكَ ) ويرفعهُ قال : ولو قلت : كَمْ رجلاً وعبيدهُ عندك على التقديمِ والتأخير جاز كأنك قلت : كم رجلاً عندك وعبيده قال الشاعر :
( ألا يَا نُخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقِ ... عَلَيْكِ وَرَحْمَة اللهِ السَّلامُ )
وقال يزيدُ بنُ الحكم الثقفي :
( جَمَعْتَ وَبُخلاً غِيَبةً ونَمِيمَةً ... ثَلاَثَ خِصَال لَسْتَ عَنْها بِمُرْعَوي )
قال : وقد فسروا الآية في كتاب الله جل وعز : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر ) والصابئون كذلك وتقول : كم يسيرك أن لك درهماً
فتنصب الدرهم وتعني : درهماً واحداص ولو قلت : كم يسرك أن لك من ( درهم ) لم يجز لأن ( أن ) لا اسم لها وكذلك لو قلت : كم درهماً يسرك أن لك لم يجز وتصحيح المسألة : كم يسرك أنه لك من درهم تريد : كم من درهم يسرك أنه لك وتقول : كم تزعم أن إلى زيد درهماً قد دفع تنصب درهماً ( بأن ) ودرهم ها هنا واحد وكم مرار ترد : كم مرة تزعم وتقول : كم عندك قائماً رجلاً تنصب ( قائماً ) على الحال وتجعل خبر ( كم ) ( عندك ) وهو قبيح لأنك قد فصلت بين ( كم ) وبين ما عملت فيه وتقول : كم مالك إلا درهمان إذا كنت تستقله وكم عطاؤك إلا خمسون كأنك قلت : كم درهماً مالك إلا درهمان وكم درهماً عطاؤك إلا خمسون فهذا في الإستقلال كقول القائل : هل الأمير إلا عبد الله وهل الدنيا إلا شيء زائل وتقول : كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم خمسة عشرة إلا خمستان وكم رجلاً أصحابك إلا خمسون إذا كنت تستقل عددهم ويكون ما بعد إلا تفسيراً ( لكم ) وترفعه إذا كانت ( كم ) رفعاً وتنصب إذا كانت ( كم ) نصباً وتجره إذا كانت ( كم ) جراً يقول : كم ثلاثة وجدت ستة إلا ثلاثين وبكم درهماً أرضك إلا ألف وكذلك : كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان وكم عشرون خمسة إلا أربع خمسات
هذا على الإستثناء تجعل ما بعد إلا بدلاً من ( كم ) كأنك قلت : هل بشيء أرضك إلا ألف وهل شيئاً وجدت ستة إلا ثلاثين فاعتبر هذا بهذا
قال أبو بكر : قد فرغنا من ذكر المرفوعات والمنصوبات وذكرنا في كل باب من المسائل مقداراً كافياً فيه دربة للمتعلم ودرس للعالم بحسب ما يصلح في هذا الكتاب لأنه كتاب أصول ونحن نفرد كتاباً لتفريع الأصول ومزج بعضها ببعض ونسمية كتاب الفروع ليكون فروع هذه الأصول إن أخر الله في الأجل وأعان وإذا فرغنا من الرفع والنصب فلنذكر الضم والفتح اللذين يضارعانهما إن شاء الله
●[ ذكر الإسم المضموم والمفتوح اللذين يضارعان المعرب ]●
أعلم : أن الضم الذي يضارع الرفع هو الضم الذي يطرد في الأسماء ولا يخص اسماً بعينه كما أن الفعل هو الذي يرفع الأسماء ولا يخص اسماً بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النداء وأما الفتح الذي يشبه النصب فما كان على هذا المنهاج مطرداً في الأسماء ولا يخص اسماً بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النفي ( بلا ) وسنذكر كل واحد منهما في بابه إن شاء الله
● [ باب النداء ] ●
الحروف التي ينادى بها خمسة : يا وأيا وهيا وأي وبالألف وهذه ينبه بها المدعو إلا أن أربعة غير الألف يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخي عنه أو للإِنسان المعروض أو النائم المستثقل وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها ويجوز أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريباً مقبلاً عليك توكيداً وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء إلا في المبهم والنكرة فلا يحسن أن تقول : هذا وأنت تريد : يا هذا ولا رجل وأنت تريد : يا رجل ويجوز حذف : يا من النكرة في الشعر
والندبة يلزمها : يا ووا ( ووا ) يخص بها المندوب
وأصل النداء تنبيه المدعو ليقبل عليك وتعرض فيه الإستغاثة والتعجب والمدح والندبة وسنذكر ذلك في مواضعه والأسماء المناداة تنقسم على ثلاثة أضرب : مفرد ومضاف ومضارع للمضاف بطوله
● [ شرح الإسم المنادى الأول ] ●
وهو الإسم المفرد في النداء الإسم المفرد ينقسم على ضربين : معرفة ونكرة فالمعرفة : هو المضموم في النداء والمعرفة المضمومة في النداء على ضربين : إحداهما : ما كان اسماً علماً قبل النداء نحو : زيد وعمرو فهو على معرفته
وضرب كان نكرة فتعرف بالنداء نحو : يا رجل أقبل صار معرفة بالخطاب وأنه في معنى : يا أيها الرجل
فهذان الضربان هما اللذان يُضَمّان في النداء تقول : يا زيد ويا عمرو ويا بكر ويا جعفر ويا رجل أقبل ويا غلام تعال
فأما : يا زيد فزيد وما أشبهه من المعارف معارف قبل النداء وهو في النداء معرفة كما كان ولو كان تعريفه بالنداء لقدر تنكيره قبل تعريفه ويحيل قول من قال : أنه معرفة النداء فقط إنك قد تنادي بإسمه من لا تعلم له فيه شريكاً كما تقول : يا فرزدق أقبل ولو كنت لا تعرف أحداً له مثل هذا الإسم ولو لم يكن عرف أن هذا اسمه فيما تقدم لما أجابك إذا دعوته به
ومن قال إذا قلت : يا زيد أنه معرفة بالنداء فهذا الكلام من وجه حسن ومن وجه قبيح عندي أما حسنة : فأن يعني : أن أول ما يوضع الإسم ليعرف به الإِنسان أنه ينادي به فيقول له أبوه أو من سماه مبتدأ : يا فلان وإذا كرر ذلك عليه علم أنه اسمه ولولا التكرير أيضاً ما علم فمن قال : أن الإسم معرفة بالنداء أي : أصله أنه به صار يعرف المسمى فحسن وإن كان أراد : أن التعريف الذي كان فيه قد زال وحدث بالنداء تعريف آخر فقد بينا وجه الإِحالة فيه ويلزم قائل هذا القول شناعات أخر عندي
وأما قولك : يا رجل . فهذا كان نكرة لا شك فيه قبل النداء وإنا صار بإختصاصك له وإقبالك عليه في معنى : يا أيها الرجل فرفع وإنما ادعى من قال : أن : يا زيد معرفة بالنداء لا بالتعريف الذي كان له
قيل : أنه وُجِد الألف واللام لا يثبتان مع ( يا ) في التعريف في التثنية ألا ترى أنك تقول يا زيدان أقبلا ولولا يا لقلت : الزيدان إذا أردت التعريف وإنما حذفت الألف واللام استغناء بيا عنهما إذ كانتا آلة للتعريف كما حذفنا من النكرة في النداء أيضاً
ووجدنا ما ينوب عنهما فليس ينادي شيءٌ مما فيه الألف واللام إلا الله عز و جل
قال سيبويه : وذلك من أجل أن هذا الإسم لا تفارقه الألف واللام وكثر من كلام العرب
وأما الإسم النكرة الذي بقي على نكرته فلم يتعرف بتسمية ولا نداء فإذا ناديته فهو منصوب تقول : يا رجلاً أقبل ويا غلاماً تعال وكذلك إن قلت : يا رجلاً عاقلاً تعالى فالنكرة منصوبة وصفتها أو لم تصفها ومعنى هذا أنك لم تدع رجلاً بعينه فمن أجابك فقد أطاعك ألا ترى أنه يقول : من هو وراء حائط ولا يدري من وراؤه من الناس : يا رجلاً أغثني ويا غلاماً كلمني كما يقول : الضرير يا رجلاً خذ بيدي فهو ليس يقصدٌ واحداً بعينهِ بَل من أخذَ بيدهِ فهو بغيتُهُ قال الشاعر :
( فيا رَاكِباً إما عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... نَدامَايَ مِنْ نَجْرَان أنْ لا تَلاقِيا )
وإنما أعربت النكرة ولم تبن لأنها لم تخرج عن بابها إلى غير بابها كما خرجت المعرفة فإن قال قائل : ما علمنا أن قولهم : يا زيد مبني على الضم وليس بمعرب مرفوع قيل : يدل على أنه غير معرب أن موضعه نصب والدليل على ذلك أن المضاف إذا وقع موقع المفرد نصب تقول : يا عبدَ الله وأن الصفة قد تنصب على الموضع تقول : يا زيدٌ الطويلٌ فلو كانت الضمة إعراباً لما جاز أن تنصبه إذا أضفناه ولا أن تنصب وصفه لكنا نقول : أنه مضموم مضارع للمرفوع ويشبهه من أجل أن كل اسم متمكن يقع في هذا الموضع يضم فأشبه من أجل ذلك المرفوع ( بقام ) يعني الفاعل لأن كل اسم متمكن يلي ( قام ) فهو مرفوع فلهذا حسن أن تتبعه النعت فتقول : يا زيدٌ الطويلٌ كما تقول : قام زدٌ الطويلٌ يا زيد وعمرو فتعطف كما تعطف على المرفوع
وينبغي أن تعلم : أن حق كل منادى النصب
من قبل أن قولك : يا فلان ينوب عن قولك : أنادي فلاناً لأن قولك : ( يا ) هو العمل بعينه وأنه فارق سائر الكلام
لأن الكلام لفظ يغني عن العمل وهذا العمل فيه هو اللفظ
فإن قلت : ناديت زيداً بعدَ قولِكَ : يا زيد وهو مثل قولِكَ : ضربت زيداً بعدَ علمِكَ ذلكَ به فتأملْ هذا فإنه منفرد به هذا الباب
وأما السبب الذي أوجب بناء الإسم المفرد فوقوعه موقع غير المتمكن ألا ترى أنه قد وقع موقع المضمرة والمكنيات والأسماء إنما جعلت للغيبة لا تقول : قام زيد وأنت تحذف زيداً عن نفسه إنما تقول : قمت يا هذا فلما وقع زيد وما أشبهه بعد ( يا ) في النداء موقع أنت والكاف وأنتم وهذه مبنيات لمضارعتها الحروف بُني وسنبين أمر المبنيات في مواضعها
وبني على الحركة في النداء لأن أصله التمكن ففرق بينه وبين ما لا أصل له في التمكن فأما تحريكه بالضم دون غيره فإنهم شبهوه بالغايات نحو قبل وبعد إذ كانت تعرب بما يجب لها من الإِعراب إذا أضفتها وهو النصب والخفض دون الرفع وتقول : جئت قبلك ومن قبلك فلما حذف منها الإسم المضاف إليه بني الباقي على الضم وهي الحركة التي لم تكن له قبل البناء فعلم أنها غير إعراب
فقالوا : جئتك من قبل ومن بعد ومن علُ يا هذا فكذلك هذا المنادى لما كان مضافهُ منصوباً ضم مفرده ألا ترى أنك تقول : يا عبد الله فتنصب فإن لم تضف قلت : يا عبد ويا غلام فضممت فكذلك التقدير في كل مفرد وإن كنت لم تفرد عن إضافة فهذا تقديره
واعلم : أن لك أن تصف زيداً وما أشبهه في النداء وتؤكده وتبدل منه وتعطف عليه بحرف العطف وعطف البيان
أما الوصف فقولك : يا زيد الطويلُ والطويلَ فترفع على اللفظ وتنصب على الموضع فإن وصفته بمضاف نصبت الوصف لا غير لأنه لو وقع موقع زيد لم يكن إلا منصوباً تقول : يا زيد ذا الجمة وكذلك إن أكدته تقول : يا زيد نفسُهُ ويا تميم كلكُم ويا قيس كلكُم
فأما يا تميم أجمعون فأنت فيه بالخيار إن شئت رفعت وإن شئت نصبت حكم التأكيد حكم النعت إلا أن الصفة يجوز فيها النصب على إضمار ( أعني ) ولا يجوز في أجمعين ذلك وأما البدل فقولك : يا زيد زيدٌ الطويلَ ويا زيد أخانا لأن تقدير البدل أن يقوم الثاني مقام الأول فيعمل فيه ما عمل في الأول فقولك : يا زيد أخانا كقولك : يا أخانا
واعلم : أن عطف البيان كالنعت سواء لا يلزمك فيه طرح التنوين كما لا يلزمك في النعت طرح الألف والام تقول : يا زيدٌ زيداً فتعطفُ على الموضعِ ويا زيدٌ زيدٌ وأمر البدل وعطف البيان سنذكرهما مع ذكر توابع الأسماء وهذا البيت ينشد على ضروب :
( إني وأسطارْ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ : يا نَصْرُ نَصْرَاً نَصْرَا )
فمن قال : يا نصر نصراً فإنه جعل المنصوبين تبييناً للمضموم وهو الذي يسميه النحويون عطف البيان وسأفرق لك عطف البيان من البدل في موضعه ومجرى العطف للبيانِ مجرى الصفةِ فأجريا على قولك : يا زيد الظريفَ وتقديرهُ : يا رجل زيداً أقبل على قول من نصب الصفة . وينشد :
( يا نَصْرُ نَصْرا ... )
جعلهما تبييناً وأجرى أحدهما على اللفظ والآخر على الموضع كما تقول : يا زيدٌ الظريفٌ العاقلُ ولو نصبت ( العاقل ) على ( أعني ) كان جيداً ومنهم من ينشده :
( يا نَصْرُ نَصْرُ نَصْرا ... )
فجعل الثاني بدلاً من الأول وتنصب الثالث على التبيين فكأنه قال :
( يا نَصْرُ نصرُ نَصْرا ... )
وأما العطف فقولك : يا زيد وعمرو أقبلا ويا هند وزيد أقبلا ولا يجوز عطف الثاني على الموضع لما ذكرناه في باب العطف وهو أن حكم الثاني حكم الأول لأنه منادى مثله وكل مفرد منادى فهو مضموم
وقد قالوا على ذلك : يا زيد والحرث لما دخلتِ الألفُ واللامُ ( ويا ) لا تدخل عليهما فاعلم وإنما يبني الأولُ لأنه منادى مخاطب باسمه وعلة الثاني وما بعده كعلة الأول لا فرقَ بينهما في ذلك ألا ترى أنهم : يقولون : يا عبدَ الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولولا ذلك لم يجز قال جميع ذلك ابن السراج أيضاً فإن عطفت اسماً فيه ألف ولام على مفرد فإن فيه إختلافاً
أما الخليل وسيبويه والمازني : فيختارون الرفع يقولون : يا زيدٌ والحارثُ أقبلا وقرأ الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز : ( يا جبال أوبي معه والطير )
وأما أبو عمرو وعيسى ويونس وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب وهي قراءة العامة
وكان أبو العباس يختار النصب في قولك : يا زيد والرجلُ ويختار الرفع في الحارث إذا قلت : يا زيدٌ والحراثُ لأن الألف واللام في ( الحارث ) دخلت عنده للتفخيم والألف واللام في الرجل دخلتا بدلاً من ( يا ) لأن قولك : النضر والحارث ونصر وحارث بمنزلة ومثل ذلك إختلافهم في الإسم المنادى إذا لحقه التنوين اضطراراً في الشعر فإن الأولين يؤثرون رفعه أيضاً ويقولون : هو بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين فيبقى على لفظه وأبو عمرو بن العلاء وأصحابه يلزمون النصب ويقولون هو بمنزلة قولك : مررت بعثمان يا فتى فإذا لحقه التنوين رجع إلى الخفض
فإن كان المنادى مبهماً فحكمه حكم غيره إلا أنه يوصف بالرجل وما أشبهه من الأجناس وتقول : يا أيها الرجل أقبل فيكون ( أي ) ورجل كاسم واحد ( فأي ) مدعو والرجل نعت له ولا يجوز أن يفارقه نعته لأن ( أياً ) اسم مبهم ولا يستعمل إلا بصلة إلا في الجزاء والإستفهام فلما لم يوصل أُلزم الصفة لتبينه كما كانت تبينه الصلة
و ( ها ) تبينه وكذلك إذا قلت : يا هذا الرجل فإذا قلت : يا أيها الرجل لم يصلح في ( الرجل ) إلا الرفع لأنه المنادى في الحقيقة و ( أي ) مبهم متوصل إليه به
وكذلك : يا هذا الرجل إذا جعلت هذا سبباً إلى نداء الرجل ولك أن تقيم الصفة مقام الموصوف فتقول : يا أيها الطويل ويا هذا القصير كقوله تعالى : ( قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) فإن قدرت الوقف على هذا ولم تجعله وصلة إلى الصفة وكان مستغنياً بإفرادهِ كنت في صفته بالخيار : إن شئت رفعت وإن شئت نصبت كما كان ذلك في نعت زيد فقلت : يا هذا الطويلُ والطويلَ
وأما ( أي ) فلا يجوز في وصفها النصب لأنها لا تستعمل مفردة فإن وصفتَ الصفةَ بمضافٍ فهو مرفوع لأنك إنما تنصب صفة المنادى فقط
قال الشاعر :
( يا أيُّها الجَاهِلُ ذو التَّنَزِّي ... )
فوصف ( الجاهل ) وهو صفة ب ( ذو ) ويجوز النصب على أن تجعله بدلاً من ( أي ) فتقول : يا أيها الجاهل ذا التنزي ولا يجوز أن تقول : هذا أقبل وأنت تناديه تريد : يا هذا كما تقول : زيد أقبل وأنت تريد يا زيد ولا : رجل أقبل لأن هذين نعت لأي فإن جاء في الشعر فهو جائز ولك أن تسقط ( يا ) فتقول : زيد أقبل وإنما قبح إسقاط حرف النداء من هذا ورجل لأنهما يكونان نعتاً لأي فلا يجمع عليها حذف المنعوتِ وحرفُ النداءِ فاعلم
فأما قولهم : اللهُّم اغفر لي فإنَّ الخليل كان يقول : الميم المشددة في آخرهِ بدل من ( يا ) التي للنداء لأنهما حرفان مكان حرفين
قال أبو العباس : الدليل على صحة قول الخليل : أن قولك : اللهم لا يكون إلا في النداء لا تقول : غفر اللهم لزيد ولا : سخط اللهم على زيد كما تقول : سخط الله على زيد وغفر الله لزيد وإنما تقول : اللهم اغفر لنا اللهم اهدنا وقال : فإن قال الفراء : هو نداء معه ( أم ) قيل : له فكيف تقول : اللهم اغفر لنا واللهم أمنا بخير فقد ذكر ( أم ) مرتين قال : ويجب على قوله أن تقول : يا اللهم لأنه : يا الله أمنا ولا يلزم ذلك الخليل : لأنه يقول الميم بدل من يا
وإذا وصفت مفرداً بمضاف لم يكن المضاف إلا منصوباً تقول : يا زيد ذا الجمة فأما : يا زيد الحسن الوجه فإن سيبويه : يجيز الرفع والنصب في الصفة لأن معناه عنده الإنفصال فهو كالمفرد في التقدير لأن حسن الوجه بمنزلة حسن وجههُ فكما أن يجيز : يا زيد الحَسَنُ والحسنَ فكذلك يفعل إذا أضاف لأنه غير الإِضافة يعني به وأنشد :
( يا صَاحِ ياذَا الضَّامِرِ العَنسِ ... )
يريد : يا ذا الضامرة عنسُه وتقول : يا زيدٌ أو عبد الله ويا زيدٌ أو خالدُ وقال سيبويه : أو ولا في العطفِ على المنادى بمنزلة الواو
● [ شرح الإسم المنادى الثاني وهو المضاف ] ●
اعلم : أن كل اسم مضاف منادى فهو منصوب على أصل النداء الذي يجب فيه كما بينا تقول : يا عبدَ الله أقبل ويا غلامَ زيد افعل ويا عبدَ مرة تعال ويا رجل سوء تُبْ المعرفة والنكرة في هذا سواء وقال عز و جل ( يا قومنا أجيبوا داعي الله )
وذكر سيبويه : أن ذلك منصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره
وقال أبو العباس : أن ( يا ) بدل من قولك : أَدعو أو أُريد لا أنك تخبر أنك تفعل ولكن بها علم أنك قد أوقعت فعلاً يا عبد الله وقع دعاؤك بعبد الله فانتصب على أنه مفعول تعدى إليه فعلك فإن أضفت المنادى إلى نفسك فحكم كل اسم تضيفه إلى نفسك أن تحذف إعرابه وتكسر حرف الإِعراب وتأتي بالياء التي هي اسمك فتقول : يا غلامي وزيدي فإذا ناديت قلت : يا غلام أقبل لا تثبت ( ياء ) الإِضافة كما تثبت التنوين في المفرد تشبيهاً به وثبات الياء فيما زعم يونس في المضاف لغة وكان أبو عمرو يقول : ( يا عبادي اتقون )
وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف عليهم نحو : يا ربا تجاوز عنا ويا غلاماه لا تفعل فإذا وقفت قلت : يا غلاماُ وعلى هذا يجوز : يا أَباه ويا أُماه
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قولهم : يا أبه ويا أبةِ لا تفعل ويا أبتاه ويا أُمتاه فزعم الخليل : أن هذه الهاء مثل الهاء في عمة وخالة وزعم : أنه سمع من العرب من يقول : يا أمة لا تفعلي ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة أنك تقول في الوقت : يا أمةْ ويا أبه كما تقول : يا خالة إنما يلزمون هذه في النداء إذا أضفت إلى نفسك خاصة كأنهم جعلوها عوضاً من حذف الياء قال : وحدثنا يونس : أن بعض العرب يقول : يا أم لا تفعلي ولا يجوز ذلك في غيرها من المضاف
وبعض العرب يقول : يا ربُّ أغفر لي ويا قومُ لا تفعلوا فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت : يا غلام غلامي ويا ابن أخي فتثبت الياء لأن الثاني غير منادى فإنما تسقط الياء في الموضع الذي يسقط فيه التنوين وقالوا : يا ابن أُم ويا ابن عم فجعلوا ذلكَ بمنزلة اسمْ واحدٍ لكثرته في كلامهم
قال أبو العباس رحمه الله : سألت أبا عثمان عن قول من قال : يا ابن أم لا تفعل فقال : عندي فيه وجهان : أحدهما أن يكون أراد : يا ابن أمي فقلب الياء ألفاً فقال : يا ابن أما ثم حذف الألف استخفافاً من ( أما ) كما حذف الياء من ( أمي )
ومثل ذلك : يا أبة لا تفعل والوجه الآخر أن يكون : ابن عمل في أُم عمل خمسة عشر فبني لذلك قلت : فلم جاز في الوجه الأول قلب الياء ألفاً فقال : يجوز في النداء والخبر وهو في النداء أجود قلت : وأمّ قال : لأن النداء يقرب من الندبة وهو قياس واحد وذلك قولك : وا أماه قلت : فنجيزه في الخبر في الشعرِ فقالَ : في الشعر وفي الكلام جيدٌ بالغ أقول : هذا غلاما قد جاء فأقلبها لأنَّ الألف أخف من الياء
وقد قال الشاعر :
( وقَدْ زَعَمُوا أنِّي جَزِعْتُ علَيهِمَا ... وهَلْ جَزَعٌ إن قُلْتَ : وا بأباهما )
يريد : وا بأبي هما . وأنشد سيبويه لأبي النجم :
( يا بنتَ عَمَّا لا تلومِي واهْجَعِي ... )
فإن أضفت اسماً مثنى إليك : نحو عبدين وزيدين قلت : يا عبدي ويا زيد ففتحت الياء من قبل أن أصل الإِضافة إلى نفسك الفتح تقول : هذا بني وغلامي يا فتي ثم تسكن إذا شئت استخفافاً فلما التقى ساكنان في عبدي واحتجت إلى الحركة رددت ما كان للياء إليها فإذا صغرت ابناً فقلت بني ثم أضفته إلى نفسك قلت : يا بني أقبل ولم تكن هذه الياء كياء التثنية لأن هذه حرف إعراب كما يتحرك دال عبدٍ تقول : هذا بني كما تقول : هذا عبد فإذا أضفتهما إلى نفسك كسرت حرف الإِعراب إرادة للياء وكان الأصل في : يا بني أن تأتي بياء بعد الياء المشددة فحذفتها واستغنيت بالكسر عنها وتقول : يا زيد عمرو ويا زيد زيد أخينا ويا يزد زيدنا
قال سيبويه وزعم الخليل ويونس : أن هذا كله سواء وهي لغة للعرب جيدة وذلك لأنهم قد علموا : أنهم لو لم يكرروا الإسم كان الأول نصباً لأنه مضاف فلما كرروه تركوه على حاله قال الشاعر :
( يا تيمَ تَيمَ عَدِيٍّ لا أَبَا لَكُمُ ... لا يَلْقَيَنَّكُم في سَوأةٍ عُمَرُ )
وإن شئت قلت : يا تيم تيمَ عدي ويا زيد زيدَ أخينا فكل اسمين لفظهما واحد والآخر منهما مضاف فالجيد الضم في الأول والثاني منهما منصوب لأنه مضاف فإن شئت كان بدلاً من الأول وإن شئت كان عطفاً عليه عطف البيان والوجه الآخر نصب الأول بغير تنوين لأنك أردت بالأول : يا زيد عمرو فأما أقحمت الثاني توكيدا للأول وأما حذفت من الأول المضاف استغناء بإضافة الثاني فكأنه في التقدير : يا زيد عمرو زيد عمرو ويا تيم عدي تيم عدي
واعلم : أن المضاف إذا وصفته بمفرد وبمضاف مثله مل يكن نعته إلا نصباً لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره وذلك نحو قولك : يا عبدَ الله العاقلَ ويا غلامنا الطويلَ والبدل يقوم مقام المبدل منه تقول : يا أخانا زيد أقبل فإن لم ترد البدل وأردت البيان قلت : يا أخانا زيداً أقبل لأن البيان يجري مجرى النعت
● [ شرح الإسم المنادى الثالث ] ●
وهو الإسم المنادى المضارع للمضاف لطوله:
إذا ناديت أسماً موصولاً بشيء هو كالتمام له فحكمه حكم المضاف إذا كان يشبهه في أنه لفظ مضموم إلى لفظ هو تمام الإسم الأول ويكون معرفة ونكرة وذلك قولك : يا خيراً من زيد أقبل
ويا ضارباً رجلاً ويا عشرون رجلاً ويا قائماً في الدار وما أشبهه جميع هذا منصوب أقبلت على واحد فخاطبته وقدرت التعريف وإن أردت التنكير فهو أيضا منصوب وقد كنت عرفتك أن المعارف على ضربين : معرفة بالتسمية ومعرفة بالنداء
وقال الخليل : إذا أردت النكرة فوصفت أو لم تصف فهي منصوبة لأن التنوين لحقها فطالت فجعلت بمنزلة المضاف لما طال نصب ورد إلى الأصل كما تفعل ذلك بقبل وبعد وزعموا : أن بعض العرب يصرف قبلاً فيقول : أبدأ بهذا قبلا فكأنه جعلها نكرة وأما قول الأحوص :
( سَلامُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا ... وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ )
فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف
وكان عيسى بن عمر يقول : يا مطراً يشبهه بيا رجلاً قال سيبويه : ولم نسمع عربياً يقوله وله وجه من القياس إذا نون فطال كالنكرة فالتنوين في جميع هذا الباب كحرف في وسط الإسم وكذلك : لو سميت رجلاً : بثلاثة وثلاثين لقلت : يا ثلاثة وثلاثين أقبل وليس بمنزلة قولك للجماعة : يا ثلاثة وثلاثون لأنك أردت في هذا : يا أيها الثلاثة والثلاثون ولو قلت أيضاً وأنت تنادي الجماعة : يا ثلاثة والثلاثين لجاز الرفع والنصب في الثلاثين كما تقول : يا زيد والحارث والحارثَ ولكنك أردت في الأول : يا من يقال له ثلاثة وثلاثون
وإن نعت الإسم المفرد بابن فلان أو ابن أبي فلان وذكرت اسمه الغالب عليه وأضفته إلى اسم أبيه أو كنيته فإن الإسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد لأنه لا ينفك منه ونصب لطوله تقول : يا زيدَ بن عمرو كأنك قلت : يا زيد عمرو فجعلت زيداً وابناً بمنزلة اسم واحد ولا تنون زيداً كما لم تكن تنونه قبل النداء إذا قلت : رأيت زيد بن عمرو فإن قلت : يا زيد ابن أخينا ضممت الدال من ( زيد ) لأن ابن أخينا نعت غير لازم وكذلك : يا زيد ابن ذي المال ويا رجل ابن عبد الله لأن رجلاً اسم غير غالب فمتى لم يكن المنادى اسماً غالباً والذي يضيف إليه ابنا سما غالباً لم يجز فيه ما ذكرنا من نصب الأول بغير تنوين وإذا قلت : يا رجل ابن عبد الله فكأنك قلت : يا رجل يا ابن عبد الله وعلى هذا ينشد هذا البيت :
( يا حكمَ بنَ المنذرِ بن الجَارُود ... )
ولو قلت : يا حكمُ بنُ المنذر كان جيداً وقياساً مطرداً وكان أبو العباس رحمه الله يقول : إن نصب : يا حسن الوجه لطوله لا لأنه مضاف لأن معناه : حسن وجههُ
قال أبو بكر : والذي عندي أنه نصب من حيث أضيف فما جاز أن يضاف ويخفض ما أضيف إليه وإن كان المعنى على غير ذلك كذلك نصب كما ينصب المضاف لأنه على لفظه
● [ باب ما خص به النداء ] ●
من تغيير بناء الإسم المنادى والزيادة في آخره والحذف فيه
من تغيير بناء الإسم المنادى والزيادة في آخره والحذف فيه